روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الحادي عشر 11 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الحادي عشر 11 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت الحادي عشر

رواية غير قابل للحب الجزء الحادي عشر

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الحادية عشر

وقفت أمام سرير والدتي، أتطلع إليها بنظراتٍ شاردة، مترددة، مليئة بالحيرة والخوف، كيف أخبرها بالكذب عما فعله شقيقها من أجل إنقاذ أرواحنا؟ وفي الواقع كنت معها الطعم لإيقاع أقطاب عائلة “سانتوس” من أجل مصالحه الخاصة! نكست رأسي في خزيٍ، وشعوري بالخذلان يزداد عمقًا، أنينها الخافت أجبرني على النظر مجددًا إليها، واللهفة تملأ وجهي، أحنيتُ رأسي نحو وجهها عندما همهمت بكلامٍ غير مفهومٍ، ناديتها في شوقٍ:1

-أمي، أنا هنا.

سمعتُ هسيسها المتألم يستصرخ:

-لا تقتلوا ابنتي، أعيدوها.

حاولت تهدئتها، ومسحت على جبينها المتعرق قليلاً بيدي لأهمس لها في هدوءٍ:

-أنا بخير، اطمئني.

لحظاتٍ ظلت فيها بين اليقظة والهذيان إلى أن استفاقت أخيرًا، حينئذ رأتني قريبة منها، هتفت غير مصدقة وهي ترفرف برموشها:

-“ريانا”!

ابتسمت لها قبل أن أنحني عليها لأحضنها وأنا أردد:

-اشتقتُ إليكِ أمي.

مدت يدها المرتعشة قليلاً لتمسح على وجنتي في رفقٍ، وهتفت متسائلة بعينين دامعتين:

-أنتِ هنا صغيرتي؟

أكدت لها وأنا أقرب يدها من فمي لأطبع قبلة صغيرة عليها:

-نعم.

 

 

 

سألتني وهي تفحصني بنظرة شاملة:

-هل أصابك مكروه؟ هل تعرض إليكِ أحدهم؟1

بالطبع لم تكن كدماتي مخفية لئلا تراها، قلتُ كذبًا متجنبة الإفصاح عن أسوأ الكوابيس التي عايشتها:

-لا تقلقي، أنا بخير.2

ظهرت الاحتجاج على قسماتها وهي تردد:

-لكن…

قاطعتها مؤكدة ببسمة صغيرة:

-صدقيني أنا لا أشكو شيئًا.2

تنهدت “صوفيا” بعمقٍ قبل أن تخبرني في ارتياحٍ:

-الآن أشعر بالتحسن لرؤيتك سالمة.

اكتفيت بالابتسام اللطيف لها، وأبقيتُ على سكوتي لبعض الوقت، حتى قطعت الصمت متسائلة في قلقٍ طفيف:

-أين “رومير”؟ أنا لا أراه؟ هل هو من أنقذك؟2

ها قد جاء الجزء الصعب في مهمتي، إظهار حزني وقهري على رحيل خالي الشجاع، وإتقان دوري ببراعة لتصدق أمي أنه هكذا بالفعل. بلعت ريقي قبل أن أجاوبها بمرارة:

-نعم…

أحنيتُ رأسي على صدري، وحاولت استدعاء عبراتي لأبدو أكثر إقناعًا وأنا أتابع في نهنهة محسوسة في نبرتي:

-وضحى بحياته من أجلنا.2

قطبت جبينها متسائلة بجزعٍ، وقد بهتت ملامحها قليلًا:

-ما الذي تعنيه بكلامك هذا؟2

ترددت وأنا أجاوبها بحزنٍ كان إلى حدٍ كبير صادقًا، فما زالت ذاكرتي نشطة بمشهد اغتيـــاله:

-لقد فارق.. خالي الحياة.

برزت عيناها في اتساعٍ مصدوم، قبل أن تحاول النهوض من رقدتها وهي تهدر بصدرٍ ناهج:

-شقيقي! غير معقول!1

مددت ذراعي لأجعلها باقية في مكانها وأنا أرجوها:

-اهدئي أمي.

صاحت في صوتٍ منفعل كان أقرب للبكاء:

-يا إلهي! كيف حدث ذلك؟2

لم أستطع التعليق عليها، فكذبتي لم تكن مكتملة الأركان لتخرج بصورة مثالية مقنعة تُظهر بطولاته الفذة في إنقاذنا من غدر الأعـــداء، لذا الصمتُ كان الأبلغ في الرد حاليًا، ارتفع صوت نشيجها، وأنا أقف إلى جوارها متلفحة بسكوتي، تركتها تعبر بطريقتها عن شعورها لخسارته، استسلمت أمي أمام الألم الصارخ الذي ضرب بكتفها، فاستقرت في موضعها غير قادرة على الحركة تبكي بحرقة، كنتُ أشاركها البكاء الصامت قهرًا على حالي، فكلمات “رومير” راحت ترن في رأسي، لتذكرني أني كنتُ الطعم الملائم، ولا مانع من الخلاص مني لأجل أهوائه. أزحتُ الوسادة ووضعتها خلف ظهري أمي قائلة:

-ارتاحي حتى تلتئم جروحك.1

ردت علي في ألمٍ، والدمع الغزير يفيض من عينيها:

-وماذا عن جراحي لفراقه الغادر؟1

 

 

 

أخبرتها وأنا أمسح ما بلل خدي من عبرات:

-هو في مكانٍ أفضل.3

أخذت تنوح في ولولةٍ متقطعة:

-كيف تفعل بي ذلك “رومير”؟ كيف تتركني وترحل؟ من سواك سيرعاني؟2

انحنيتُ مجددًا عليها لأحتضنها مرددة في صوتٍ مختنق متألم للغاية:

-أنا معكِ “صوفيا”، لن أتركك أبدًا.1

واصلت بكائها الذي يُقطع نياط القلوب وهي ترثيه:

-أوه، “رومير”، أنا افتقدك منذ الآن.1

في نفس الحنان الدافق بقيتُ أضمها إلي، لأهون عليها مُصابها، وأنا حقًا كنتُ أحتاج لمن يخفف عني ما يعتريني من مشاعر مضطربة مفعمة بخليطٍ من الخوف والارتعاب.1

……………………………………………………….

عند فراق عزيزٍ تهتاج القلوب بفيضِ أحاسيسها تجاهه، وهذا ما رأيتُ “صوفيا” عليه، بكت بحرقة لوفــاة شقيقها، لم تنضب دموعها منذ ما يقرب من الساعتين، آه لو تعلم بحقيقته، لما ذرفت العبرات مثلما تفعل الآن. جلستُ على طرف الفراش، أربتُ على كفها بيدٍ، وبذراعي الآخر ألفه حول كتفيها، لتشعر باحتوائي لها، انتفاضةٌ خفيفة حلت ببدني وقد فتحُ باب الغرفة، ليظهر “فيجو” عند عتبته متسائلاً بصوتٍ هادئٍ، وعيناه تنظران إليّ كصقرٍ يترقب افتراس طريدته:

-كيف الحال؟

ارتجف صوتي نسبيًا عندما نطقت:

-لقد .. أخبرتها بالمأســاة.

 

 

 

لمعت عيناه بوميضٍ غريب كتعبيرٍ عن استحسانه لإكمال المهمة بطاعةٍ عمياء، تقدم ناحية الفراش مركزًا بصره على والدتي وهو يخاطبها:

-تعازينا الحارة سيدة “صوفيا”.2

مسحت أمي الدمع بمنديلها الورقي، ونظرت إليه في انكسارٍ، فتابع في نفس النبرة الهادئة:

-“رومير” كان شجاعًا للدرجة التي أدهشت الجميع.2

انتبهت إليه ورددت في لهفةٍ ملتاعة:

-حقًا؟

أكد عليها بإيماءة خفيفة من رأسه، فسألته بصوتٍ مليء بالشجن:

-هل تألم في موته؟3

وجدته ينظر ناحيتي وهو يجاوبها، كأنما يذكرني بفعلته الشنيعة:

-لا، كان سريعًا، ومؤثرًا.

ما نفع أن أعلق عليه وأنا لن أجرؤ على مواجهته؟ تحاشيتُ النظر ناحيته، وفضلت التطلع نحو والدتي بلا أدنى تعبيرٍ، سمعته يؤكد على “صوفيا” بجديةٍ:

-لا تقلقي بشأن أي شيء، سنتولى مراسم الجنازة، وستكون على أعلى مستوى.1

يبدو أنه نجح في جعل ابتسامة ممتنة تظهر على ثغرها بإبداء دعمه، فقالت:

-أشكرك “فيجو”.

امتدت يده لتمسك بكفها، فلامس ذراعه ذراعي فانتفضتُ، وتراجعت للخلف لأمنعه من لمسي، يبدو أنه شعر بحركتي النافرة فرمقني بنظرةٍ حادة من طرفه، قبل أن يعاود الكلام مع “صوفيا”:

-اهتمي فقط بصحتك…

من جديد حملق في وجهي بثباتٍ، وأضاف بنبرة متحكمة متسلطة:

-أنتما مسئولتان مني الآن.2

ضغط على كلماته الأخيرة عندما اختتم جملته:

-وأنا أعني ما أقول.

أطبقت على شفتي بتعصبٍ مانعة نفسي من التفوه بحماقةٍ؛ لكني رددت مع نفسي بلا صوتٍ وقد تجهمت تعابيري:

-الكاذب اللعين!

غفلت عن باقي حديثه للحظاتٍ وأنا استعيد في مخيلتي مشهد يده المخضبة بالدماء، والنصل الحاد الذي يقطر دمًا، كأنما انفصلتُ ذهنيًا عن الواقع، قبل أن اتنبه لوالدتي وهي تهتف:

-أنت ستعتني بها.

من سيعتني بمن؟ يبدو أني فقدتُ جزءًا هامًا من الحوار، فوزعت نظراتي الحائرة بينهما، لأثبتها في النهاية على والدتي وهي توصيه:

-نحن الآن عائلة واحدة.1

 

 

 

لم يبتسم وهو يؤكد لها:

-بالطبع.

حانت منه نظرة خاطفة ناحيتي لم تستمر سوى لبضعة ثوانٍ قبل أن يشتتها ليحملق في وجه “صوفيا” قائلاً بنوعٍ من التحذير المتشدد:

-لا داعي للحديث عما حدث مع أي شخص، لنُبقي الأمر بيننا.

رأيتُ نظرة الاندهاش تعتلي وجهها، ومع ذلك لم تبدِ اعتراضها، لاذت بالصمت مثلي، فأكمل في هدوءٍ يحمل في طياته المزيد من التحذير:

-وأنتِ تعلمين أنه لصالح الجميع.

وجدتُ “صوفيا” تومئ برأسها مرددة:1

-حسنًا.

تلقائيًا اتجهت ناظري نحو “فيجو” عندما تكلم مرة أخرى:

-سأمر عليكِ لاحقًا، قبل أن ننتقل لمكانٍ آمن.

سألته عندئذ أمي في جزعٍ:

-أهذا كسابقه؟ هل هناك من سيتعرض لنا؟

تحدث من زاوية فمه مؤكدًا بشدةٍ:

-ما حدث لن يتكرر .. أبدًا، ثقي في كلامي!

هتفت من فورها مبتسمة رغم علامات الحزن المنتشرة على تقاسيمها:

-أنا أثق بك.1

انتفضتُ مجددًا عندما امتدت يده بالقرب مني لتربت على كف “صوفيا”، رمقته بهذه النظرة المتسعة في إنكارٍ، ورأيته يحدجني بنظرة غريبة بثت رجفة قوية في قلبي، استعاد “فيجو” يده، وخاطبها في لطافةٍ غير لائقة بشخصه الفتــاك:1

 

 

 

-هيا استريحي قليلًا.

اكتفت أمي بهز رأسها كتعبيرٍ عن استجابتها له، فتحركت من موضعي لأضع الوسـادة خلف ظهرها، لتحصل على المزيد من الراحة، خفقة مباغتة عصفت بالعضلة المحبوسة بين ضلوعي عندما همس بالقرب من أذني:2

-أريدك معي.

أدرت رأسي للجانب كردة فعلٍ عفوية، فوجدته قريبًا مني للغاية، أشعر بأنفاسه الساخنة تلفح بشرتي الباردة، همهم في خفوتٍ آمر جعل بدني يرتج:

-الآن!

لم يكن أمامي سوى الانصيــاع له، انتظرت فقط للحظةٍ ريثما يبتعد عني لأتبعه، خرج”فيجو” من الغرفة، فاضطررت للحاق به، تأكدت من إحكام ضم طرفي الروب الذي أرتديه فوق ثوب المشفى، وجدته يقف أمام إحدى النوافذ بالردهة الواسعة، تقدمت في اتجاهه، ووقفت عند النافذة إلى جواره، كلانا احتفظا بالصمت، لم يستدر ناحيتي، وظل يحدق أمامه، لم أملك الصبر الكافي لانتظار استهلاله، فسألته مباشرةً:

-ماذا تريد؟

أجابني دون أن يلتفت نحوي:

-تواصلي مع شقيقتك.

عند تطرقه لسيرة “آن”، انطلقت غرائزي الدفاعية وثارت، فاندفعت ألكزه في صدره براحة يدي، وأنا أنذره في حدةٍ:

-لا شأن لك بها!

اغتظت من طريقة تحديقه الجامدة بي، فواصلت وكزه في عصبيةٍ وأنا أصرخ به بانفعالٍ انعكس على وجهي:

-وإياك أن تفكر في الاقتراب منها أو…

لم أكمل باقي جملتي للأخير، حيث أمسك برسغي يعتصره بأصابعه القوية، فكتمت تأويهة الألم التي ترغب في الانفلات من بين شفتي، كان يؤذيني حقًا، وأنا أقاوم الوجع قدر استطاعتي، نظرت إليه بتحدٍ وبغير خوف، فخاطبني بعجرفةٍ تسلطية:

-لو أريدها عندي ستكون هنا في التو، لن أناقشك في ذلك، اعلمي ذلك جيدًا.1

شحذتُ كامل قواي لأتمكن من تحرير يدي من قبضته الغليظة، نجحت فقط عندما أرخى أصابعه، فركت موضع الألم بيدي الأخرى، ونطقت متسائلة في صوتٍ مهتز، وأنا لا أرمش:

-أنت لا تريد إيذائها؟

رمقني بنظرة هازئة، ليأمرني بعدها في صرامة:

-هاتفيها، وأطلعيها على ما حدث، مثلما فعلتي مع “صوفيا”.

 

 

 

ارتكزت أنظاره نحو مفاتني التي ظهرت تفاصيلها من أسفل زي المشفى، لتبدو استدارتها واضحة للعين، وقـــال بلا ابتســـام:2

-وهناك ثياب لائقة في الخزانة، ارتديها، وتعالي.

خجلت من نظراته الجريئة، وكلماته الموحية، وكتفت ساعدي أمام صدري لأحجب ما يخصني من مقومات أنثوية مغرية عن عينيه الحادتين، أطرقت رأسي حرجًا، فأكمل وهو يتحرك بعيدًا عني:

-سأنتظرك مع باقي رجالي بالخارج.

شيعته بنظراتي الحاقدة وهو ينصرف مغادرًا الردهة، لأدمدم بصوتٍ خافت يشوبه الحنق:

-ليتك تموت وأستريح أنا!1

……………………………………………………..

من حسن حظي أني وجدتُ في خزانة الملابس، عندما عدتُ للغرفة المخصصة لي بالعيادة، سروالاً جلديًا لونه أسود، وكنزة حريرية تتطابق مع لونه الحالك، كانت الثياب ملائمة لقياسي، بالطبع اندهشت لهذا الأمر؛ لكني تجاوزت عنه. مشطت خصلات شعري بيدي، وسويت ما تناثر منه، ثم جمعته خلف ظهري وتركته طليقًا. خرجت من الغرفة شبه مندفعة لأجد “فيجو” بانتظاري في الرواق، انتفضت لرؤياه غير المتوقعة؛ لكن سرعان ما استعدت هدوئي، وجدته يفرد راحته بهاتفٍ محمول، اكتفى بالنظر الآمر لي، فالتقطت الهاتف من يده، قبض على كفي فارتعشت كليًا، وحملقت في وجهه بعينين متسعتين في توجسٍ، شدني من يدي الأسيرة ناحيته، ليقلص المسافات بيننا، وهتف بلهجةٍ محذرة وهو يغوص بنظراته في عمق عيني:

-كما اتفقنا!

قلتُ في عبوسٍ وأنا أحاول انتشال يدي منه:

-أنا لا أرجع في كلمتي.2

لاحظتُ ابتسامة خفيفة تتشكل على زاوية فمه وهو يعلق:

-إذًا اتقفنا على شيء.

حرر قبضتي، فسحبت يدي للخلف، وأوليته ظهري لأبدأ بعدها في مهاتفة شقيقتي “آن”، لم أكن قد رتبتُ أفكاري بعد، تركت المسألة للحظ، ولما تفرضه الظروف وقتئذ.

طــوال المكالمة ظل “فيجو” يراقبني، كأنما يخشى أن أتفوه بشيء نزق فأفسد مخططه، لم أكن بهذا الغباء لأورط “آن” في مشكلةٍ ما، أردتُ أن تمضي الأمور على خير، وأن تصدق حقًا أن “رومير” راح ضحية الغدر، لا جراء خيانته. نظرة سريعة سددتها نحوه قبل أن أرمش بعيني وأنا أسمع صوت شقيقتي يردد في ذهولٍ مرتاع:

-يا للهول! كل ذلك حدث؟ يا ليتكما بقيتما معي هنا.

 

 

 

همستُ بصوتٍ يحوي كل الرجاء، وبالكاد خرج من جوفي:

-يا ليت حقًا!

تنبهتُ لها وهي تسألني في لوعةٍ:

-وهل أمي بخير؟ كيف تعاملت مع الأمر؟

ضغطت على شفتي للحظةٍ قبل أن أجيبها مع تنهيدة سريعة:

-ليست في حالٍ أفضل؛ لكنها ستتجاوز خسارته.

وجدتُ “آن” تطلب مني فجـــأة بما جعل قلبي يقفز في توترٍ:

-بعد أن تنتهي مراسم الدفن استقلا أول طائرة عائدة إلى “ميلانو”، لا داعي لبقائكما هناك.

تحولت أنظاري نحو “فيجو” من جديد، كأنما أتأكد من سماعه لما طلبته مني شقيقتي، كان يتابع ما يدور بيننا من حوارٍ، وإن كان من جانبي فقط، لكوني لا أضع المكالمة على السماعة الخارجية، كانت كامل نظراته مسلطة علي، حِدتُ ببصري للجانب الآخر، وأخبرتها بأسفٍ حقيقي:

-لا أظن أني سأفعل ذلك…

ثم خفضت من نبرتي مُتمة عبارتي:

-في الوقت الحالي.

هدرت في استهجانٍ:

-لماذا؟ ما المانع؟ لا يوجد داعٍ لتواجد أيًا منكما، يكفي ما عشتماه!

حمحمت قائلة بنوعٍ من التهرب:

-سأخبرك لاحقًا، أنا مضطرية لإنهاء المكالمة.

أوصتني بلوعةٍ شعرتُ بها في صوتها:

-انتبهي لنفسك “ريانا”، وعودي إلى هنا سريعًا من فضلك.

اختطفت نظرة جانبية من طرفي نحو “فيجو” وأنا أرد:

-سأحاول.

ودعتها سريعًا، ثم استدرت ناظرة إليه لأناوله الهاتف، فأخذه مني مع كفي كذلك ليجذبني ناحيته بغتة وأردف متسائلاً:

-أتخططين للذهاب من هنا؟1

ارتجفت من حركته تلك، وارتفع دبيب قلبي حتى كاد يصم أذناي، بذلتُ جهدًا مضنيًا لأبدو ثابتة في حضوره، وسعيتُ لانتزاع يدي من يده القابضة على كفي، لم أفلح في تحريرها، وصحتُ في عصبيةٍ طفيفة:

 

 

 

-أتحاول إخافتي؟

هزني في قوةٍ استشعرتها منه وهو يسألني بلهجته الآمرة:

-أجيبي، هل تنوين الذهاب؟

لم أرغب في الظهور بالضعف أمامه رغم الخوف المستبد بي، وعاندته قائلة في تحدٍ غير مدروس العواقب:

-ليس من شأنك!

هذه المرة استخدم ذراعه الآخر ليطوقني من خصري، دفعني في خشونة ناحيته، لأشهق مصدومة من هذه النزعة التملكية التي يفرضها علي في كل حين، ألصقني بصدره، لأصبح بأكملي تحت حصاره، تلويتُ بجسدي محاولة المناص منه، لكني كنت أحرك جبلاً شامخًا، لا يهتز. ثبت “فيجو” نظراته المليئة بالغموض والشراسة على عيني الخائفتين، وأخبرني في فحيحٍ لطم بأنفاسه وجهي الذي قربه مني:

-أنتِ بأكملك شأني، لا تملكين سوى أنفاسك…1

كادت شفتاه تلمسان خاصتي، فأشحتُ بوجهي للجانب وذهني يتنشط بما خضته من تجربة ما زالت آثارها الشنيعة تنطبع في ذاكرتي، تقلصت عضلات وجهي أكثر مع همسه القائل:

-وحتى هذي أنا أتحكم بها.

وجل قلبي بشدة، وانتفض كل ما في رهبةٍ منه، صرختُ في هيسترية متوقعة أن يفعل مثلما فعل خاطفي في وقتٍ سابق، فكلاهما غادرٌ فاتك:

-لا تلمسني، لا تقترب مني.

أطبقتُ على جفني بقوةٍ لئلا أراه وهو يستمتع بإرعابي، أحسستُ بانقلابٍ معدتي، وبنفس شعور النفور والتقزز، تضاعفت رجفاتي، وسمعتني أصرخ بصوتٍ كان نشيجًا:

-لا أريد، ابتعد عني.

على ما يبدو صراخي المفزوع جعله يتوقف عن التمادي معي، ويتراجع عني، استرخت ذراعاه عن جسدي، فتمكنت من الإفلات منه، وهرولت وأنا أبكي لأعود إلى الغرفة الماكثة بها والدتي، لم أهتم إن كانت ستستجوبني أم لا، المهم ألا أعايش المزيد من هذه الذكريات السيئة.

………………………………………………………..

استغرقت مراسم إعداد الجنــازة وتأمين محيطها يومــان بعد خروج “صوفيا” من هذه العيادة الطبية، وبقاؤنا في منزلٍ آخر آمن غير ذاك الذي تعرضنا فيه للخيانة، لم أرَ “فيجو” طوال مدة مكوثي هناك، لا أعرف سبب غيابه المريب، فعادة يحب إظهار سطوته على الجميع؛ لكن أظن أن لقاءنا الأخير قد ترك انطباعًا سيئًا لديه، لذا لم يحبذ التواجد بقربي، وكان ذلك مريحًا لي إلى حدٍ ما.

انتقلنا بسيارات سوداء حديثة الطراز إلى مكان دفنه، حيث تم دعوة القادة، والرؤسـاء، والزعماء، فكان الحضور كثيفًا، كأنما حضورهم إلزاميًا، لا مجاملة ودية لعائلتنا، وإنما إرضاءً لـ “سانتوس”، فمن الضروري عندهم الحصول على استحسانه. امتلأ المكان عن آخره كذلك بأفراد الحراســة الخاصة، ورجـال الجماعات الخطــرة، بالطبع جيوبهم لم تكن فارغة من الأسلحة النارية، بدا من وجهي نظري وكأنه مهرجانًا لإظهار مدى قوة كل عُصبة على حدا. من وجهة نظري المتواضعة، التوقعات لا تبشر بخير، خاصة مع احتمالية وقوع أي هجوم غــادر من الجماعـــات المضـــادة في هذا المكان المفتوح، حتمًا كان على الجميع أن يكون مستعدًا لأي شيء سيء قد يحدث.

 

 

 

في المقابر، وقفتُ إلى جوار والدتي الجالسة على مقعد صغير في الصف الأمامي، بينما وقف “مكسيم” من الناحية الأخرى لها، واصطف بجواره “فيجو” و”لوكاس”. الجميع ارتدى الملابس الرسمية السوداء والداكنة، كنت أضع قبعة على رأسي، تغطي جزءًا صغيرًا منها، ويتدلى من مقدمتها ما يشبه الوشاح ليخفي عيناي، أخترتُ هذه القبعة تحديدًا لتخفي ما يعتري تقاسيمي من تعبيراتٍ متناقضة. أخذتُ أتطلع إلى التابوت الخشبي باهظ الثمن الذي يحوي جثمان “رومير” بنظراتٍ مطولة، شاردة، ومليئة بالحزن، لن أنكر رغم قســاوة فعلته الأخيرة، كان لطيفًا معي، لطالما عاملني بودٍ، وأحضر لي ولشقيقتي الهدايا الجميلة، آه لو لم يفكر في هذه التصرف الأهوج، لكان الآن بيننا!

كان القس يتلو صلواته الأخيرة عليه، لم أصغِ لمعظم ما قاله، كنت أرتعد من فكرة تعرضنا لهجومٍ مباغت، خفضتُ من نظري عندما سمعت نهنهة والدتي قبل أن تضع المنديل الورقي أسفل جفنيها لتمسح الدموع المبتلة على وجنتيها. وضعت يدي على كتفها، وضغطت بأصابعي برفقٍ عليه وأنا أحادثها بصوتٍ خافت:

-إنه في مكانٍ أفضل.1

كنتُ أعلم أني كاذبة، ألفق مثل تلك الكلمات المواسية لتخفيف حدة الأمر عليها، فكيف لقاتل أن يظفر بالنعيم الأبدي، وهو من أذاق غيــره الويلات؟ رفعت “صوفيا” وجهها الباكي ناحيتي، وكلمتني في حزنٍ عميق:

-أشتاق إليه من الآن.

اكتفيتُ بالربت على كتفها، وانحنيتُ ناحيتها قليلاً لأحتضنها، فاحتواء غيرنا في أحزانه قد يعني الكثير عن الكلام المسترسل. همهمت بالقرب من أذنها:

-ستكون الأمور بخير.

لمسة بدت كصاعقة برقٍ شعرت بها على ظهري، فالتفت برأسي كليًا للناحية الأخرى لأجد “فيجو” قد انتقل من مكانه ليغدو لصيقًا بي، احتل وجهي تعبيرًا مدهوشًا يشوبه أيضًا الاستنكار، همست أســأله وأنا أكز على أسناني:1

-ماذا تفعل؟

أحنى رأسه ناحيتي، ليلامس بذقنه وجنتي، اقشعر بدني من حركته تلك، وزادت رعشتي مع صوته الخفيض الذي نفذ إلى أذني:

-أهون عليكِ أحزانك.3

رمقته بنظرة متسعة حادة، وحمحمت قائلة بصوتٍ غير مرتفع:

-أأنت تمزح؟

حاوطني بذراعه الآخر، وضمني إلى صدره، ثم أراح رأسه على كتفي، فأحسست بثقلها على عظامي الهشة، اغتظتُ بدرجةٍ كبيرة وهو يخبرني بنفس الصوت الهامس:1

-بالطبع، أنا أخبر الجميع بشكلٍ مباشر أنكِ تقعين تحت حمايتي.2

حاولت إبعاده عني، فلم يتزحزح، شدد من احتضاني، كأنما يرفض تركي، نهرته في كدرٍ واضحٍ على تعابير وجهي قبل نبرتي الهامسة:

-إذًا لا داعي لمثل تلك التصرفــات غير اللائقة.

 

 

 

ظل ملقيًا برأسه على كتفي وهو يطلب مني:

-أريدك أن تفقدي الوعي.2

انتفضت في دهشةٍ مصدومة وأنا أردد بغير تصديقٍ:

-ماذا؟

نطق محذرًا وهو يستل نفسه بعيدًا عني ليتطلع إليٍ:

-اسمعي ولا تناقشي، وإلا أنتِ تعرفين.

تجمدتُ في مكاني لهنيهة، والحيرة المطعمة بالاندهاش تُسيطر علي، بدت تعابيري ملائمة لوجهٍ على وشك الإغماء، لم أكن بحاجة للتمثيل، فيكفي وجود “فيجو” في محيطي لتتبدل قسماتي، وأظهر بشكلٍ مقنع للغاية. وقف الأخير ملاصقًا لي، ذراعه ما زال ملامسًا لخصري، ادعيتُ عدم اتزاني، وأخذتُ أسحب أنفاسًا عميقة بصوتٍ مسموع، متعمدة أن ألفت انتباه من حولي، قبل أن أترنح في وقفتي، وأميل بجسدي للجانبين، لاختار بعدها عن عمدٍ الجانب الواقف فيه “فيجو”، لأرتطم بصدره، وتتلقفني ذراعه، أغمضتُ عيناي، وتركتُ أطرافي تتراخى. سمعتُ والدتي تصرخ في فزعٍ:1

-يا إلهي، ابنتي!

شعرت بذراع “فيجو” الأخرى تمر من أسفل ركبتي ليحملني، ألصقني أكثر به، فشعرت بصلابة عضلاته، وبرائحة عطره تزكم أنفي، وصل إلي كذلك صوت “مكسيم” وهو يأمر ابنه:

-خذها “فيجو” من هنا.

كان يتحرك بي بخطواتٍ شبه سريعة، وصوته يأمرني بخفوتٍ:

-ابقي ساكنة، كما أنتِ.

التزمتُ بأوامره رغم امتعاضي من هذا المشهد المُحرج، وإن كان الجميع متفهمًا للأمر، رفعتُ رأسي المائل قليلاً، وأسندته على صدر “فيجو”، فقد آلمني عنقي من إرجاعه للخلف، تجرأت على فتح عيني، ونظرت للأعلى لأجده محدقًا بي وهو يكاد يبتسم في غرورٍ:

-حقًا إنك بارعة في التمثيل.

للمرة الأولى أراه يبتسم، رغم كونها بسمة سريعة مقتضبة؛ لكنها كانت ابتسامة ساحرة، ومثيرة، تجاوزت عنها، وقلتُ بتهكمٍ وقد شتتُ نظراتي عنه:2

-وهذا لا يُضاهي كذبك.

لم يعقب عليّ، واستمر سائرًا بي بعيدًا عن شهود المقابر، إلى أن أوشكنا على الوصول إلى صف السيارات المصفوفة، سألته بدافعٍ من الفضول:

-لماذا طلبت مني ذلك؟

نظر إلي مليًا بغموضٍ أربكني، وأصابني بقليلٍ من الارتباك الحرج، خاصة أنه ما زال يحملني بغير شكوى، وبخطواتٍ شبه متعجلة، كأن لا وزن لي على الإطلاق، تطلع أمامه قبل أن يجاوبني بما زلزل كياني، وجعل قلبي يرتج في خوفٍ:1

-لأن شقيقتك “آن” جاءت ……………………………………… !!!

يتبع

اترك رد

error: Content is protected !!