روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الثاني و الخمسون 52 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الثاني و الخمسون 52 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الثاني و الخمسون

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء الثاني و الخمسون

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الثانية و الخمسون

~… أتيت إليكِ ولن أرحل…~
هناك مرحلة في الحب نلغي فيها عقلنا وتعقلنا .. من المخطئ لا يهم ، من فارق أولًا ليست بالأزمة …
مرحلة تجعلنا مع جميع العثرات ننهض فقط لنتابع الطريق سويًا … وكل ما يحمله القلب من هم أن نبقى معاً.
على رغم صدق تلك المرحلة … ولكنها خطرة عندما نخطأ الاختيار.
مثل الجمر الذي تأججت فيه النيران المتصاعدة وتشابكت بما حولها واندلع حريق هائل لن يستطع احدًا إخماده.
كانت تلك نبذة عن ما يشعر به وهو يتحرك بقدر استطاعته من سرعة ويبدل ملابسه بأخرى.
واستطاع ارتداء معطف كحلي على بنطال وقميص فحمي أبرز نحولة خصره وعرض منكبيه ، ثم التقط هاتفه وارتكز على عكازه الذي أصبح رفيق لا بأس به بالأيام القليلة الفائته.
وبالطابق الأرضي من الفيلا….
كانت زوجة والده تجلس على مقعد مبطن بقماش مخملي أحمر يبدو عليه باهظ الثمن، وتقلّب بين يديها أوراق مجلةً نسائية تعرض أحدث صيحات الموضة وتتأملها باهتمام ودقة علها تجد ما يثير أعجابها من الأزياء.
حتى آتاها ذلك الصوت المزعج لحركة العكاز على رخام السلم فعرفت من القادم.
غمر أنفاسها الملل ونفاد الصبر من وجود ذلك الشاب الذي اقتحم حياتها منذ سنواتٍ وسكن بالمنزل مع والده …
ومنذ ذلك الحين وهي تكره حتى التحدث معه، ولا تنفك أن تستغل أقل الفرص كي تضيقه وتغضبه وتكدر عليه هذه الرفاهية عله يسأم ويرحل …
ولكنه يبدو يكيدها بالبقاء … يثير غضبها بعزلته وتجنبه كل من بالمنزل بذلك الجناح البعيدة بالطابق الأخير.. والأكثر من ذلك والأخطر أيضا أنه أخذ منصب والده في كثير من أعماله وفروع الشركات.
حتى بات اسمه يلتمع بين أمهر وأمكر رجال الأعمال الشباب … وله صيت رنان بين العملاء والزبائن ..
كان كل شيء عنه يعصف أفكارها كلما رأته أمامها …. ولكي تستفزه قالت نوران المشهورة بين عائلتها باسمها المدلل ” ناني” لتوقفه وتعرف لأين الوجهة :

 

_ رايح فين يا زايد …. ؟
كان آخر شيء يريد أن يره الآن هي تلك المخلوقة المتعجرفة التي على نقيض والدته الراحلة في كل شيء ، ورغم ذلك والده ترك أمه على مد ذراعيه فريسة سهلة للحزن والاكتئاب لأجل تلك المرأة التي لا تساوي حتى مساحيق التجميل التي تلطخ بها وجهها ليلًا نهار !
ولكن أجاب بصوتٍ حاد دون أن ينظر لها ولا يعيرها أدنى اهتمام :
_ مابحبش حد يسألني رايح فين …. وأظن أنك عارفة كده !
كانت إجاباته عليها دائمًا مستفزة ، وتسأله وهي تتوقع مدى سخافة الرد … ولكن كأنها تمد أفكارها بمزيد من الكراهية لكي تتابع خططها في طرده من هنا دون أن ينكشف أمرها .. وأن كانت محظوظة ستطرده بلا راجعة من كل شيء يملكه والده…..دون أن يمس اسمها بالأمر.
وتتبعت خطواته التي على رغم عجز قدميه ولكنها سريعة الحركة ….حتى انتشلها من شرودها صوت هاتفها الخاص ، فرفعت الهاتف ونظرت له لدقيقة ثم رفعت نظرتها لباب الفيلا الكبير للتأكد من ابتعاد زايد ….. وبعدما تأكدت أجابت بهدوء :
_ معاك يا ماجد ….
أجاب عليها شقيقها ماجد عبر الهاتف وقال ببشرى :
_ عندي ليكي خبر بمليون جنيه….. لأ بعشرة مليون.
وضحك بمزاح ..فابتسمت ناني بحماس وقالت :
_ قول وفرحني … ولو فعلا زي ما بتقول مش هبخل عليك.
راوغها شقيقها بمزاح لدقائق ثم قال مفاجأة الكبرى :
_ هيثم راجع مصر … ومش بس كده ، أنا اقنعته أنه يشتغل مع جوزك كمان في فرع القاهرة …. أظن ده اللي بقالك سنين بتحلمي بيه.
انتفضت ناني من مكانها وعلى وجهها تعابير الذهول والفرحة ، فقالت بدهشة وغبطة:
_ أنت بتتكلم بجد يا ماجد ! …. معقول اقتنع بسهولة كده !
رد عليها ماجد بشيء من السخرية:
_ سهولة إيه ! ….. أنا بقالي ٤ سنين بزن عليه عشان يرجع ، لولا أن مكتبه اللي في كندا فلس وخسر مكنش هيوافق اصلًا …. وكمان أنا خوفته.
قطبت ناني حاجبيها بتعجب ودهشة وسألته بقلق :
_ خوفته أزاي ومن إيه ؟!
رد ماجد وبصوته ضحك خبيثة قائلًا بتوضيح :
_ أنتي ورثتي من جوزك الأولاني ابو هيثم بعد ما مات …. ولما اتجوزتي دخلتي شراكة مع ممدوح في الشركة …. والشركة بقت شركتين وأكتر، والمشاريع بقت عشرة ….يعني كل ده أنتي ليكي نصه وده مافيهوش خلاف من حد …. بس اللي شايفه أن زايد خد مكانة أكبر من المفروض ياخدها …. ولو سيبناه كده هيتفرعن أكتر ومحدش هيقدر عليه ولا حتى أبوه ! ….. وكل الشغل في ايده وده يقلق …. لو ممدوح جوزك جراله حاجة زايد ممكن يبيع كل شيء ليه بمليون طريقة …. وساعتها أنتي وولادك مش هتطولوا حتى الفيلا اللي عايشين فيها دي …!
كان ماجد يمثل يد الشيطان في بث الشر في النفوس تداعيًا لأغراضه الخاصة، ولمكانته التي حجّمها زايد منذ أن أتى للعمل مع والده … كأنه ادرك ما بنفس ماجد من طمع وشر وأبعده عن كل الصلاحيات في اتمام أي مشروع بجميع الأفرع…..
ولم تكن شقيقة ماجد “نوران” أقل منه جحود وطمع … ولم يكن بداخلها مساحة فارغة لتمدها بالمزيد بكراهية أبن زوجها … الذي من المفترض على رغم كل مكره ودهائه أنه مريض نفسي بالأساس! …. وسجن بمشفى للأمراض النفسية والعصبية طيلة خمس سنوات من عمره الفائت.
قالت وأنفاسها امتلأت غضب وكره :
_ وأنا مش هسيبه يعمل كده فيا وفي ولادي … وكويس أن أخيرًا هيثم وافق يرجع ، كده هبدأ أنفذ خططي صح …
راق ماجد التصميم في صوت شقيقته، وقال سؤاله الذي يواريه حقد هائل:
_ دماغك فيها إيه ؟
قالت ناني بابتسامة ساخرة وسردت :
_ هو مش قعد خمس سنين بحالهم في مصحة نفسية ! …… الموضوع ده محدش يعرفه غيرنا …. وأنا مرضيتش أنشره عشان الخسارة هتبقى على الجميع مش عليه لوحده …. أنما في وجود أبني الوضع هيختلف …. هجننه وأدخله المصحة تاني وأبني هو اللي هيمسك كل حاجة.
أعجب ماجد بذلك الحماس الذي يوافق جميع خططه الخاصة … وقال في ختام حديثه :
_ كلامك ده مش نافع في التليفون ، ده محتاج أشوفك ونتكلم …. هتصل بيكي ونتقابل برا تمام ؟
وافقت نوران على عرضه واغلقت الأتصال بعد ذلك …. التهبت عينيها كرها أشد بكل لحظة تنسج وتُحيك مخططها بعناية ودقة.

 

 

********
استوقف حديث ليلى وهي بمكتب وجيه صوت قرع على الباب .. وبعد دقيقة فُتح وطل وجه وجيه وسيماء وجهه جامدة وجافة كأنه يخفي فيض من الغضب ….. وقال لها :
_ مضطر أمشي دلوقتي يا ليلى من المستشفى … جالي ميعاد فجأة وضروري ولازم اروحه …. تحبي ارجعك البيت ولا تكملي كلامك مع دكتور مروة لحد ما ارجع ؟
لم تفكر ليلى كثيرًا وأجابت :
_ لأ … هستناك لما ترجع.
ووافق على إجابتها ريثما أن جدها هنا أيضا، وبالتأكيد تريد الجلوس معه لبعض الوقت ….غادر واغلق الباب خلفه دون مزيد من الحديث … وتعجبت ليلى من ذهابه ولكنها لم تشغل بالها كثيرا … فربما موعد بمشفى آخرى أو مع أحد الأطباء !
وعادت مروة لها بابتسامة …. وقالت :
_ ريمو وحشتني أوي …. هي لسه بتعيط وهي نايمة ؟
امتلأ الألم بعينان ليلى وأجابت :
_ لسه للأسف …. بنتي مش بتنسى بسهولة ، صحيح جو عيلة وجيه خرجها شوية من حالتها وخوفها من كل حاجة …. بس لسه بشوف في عيونها الخوف لما بتبقى لوحدها … أو لما بتقوم مخضوضة من النوم وبتعيط …. مش عارفة اتعامل معاها أزاي عشان تطمن !
قالت مروة بضيق :
_ نفسية الأطفال مش بسهولة حد يوصلها … عياطها وهي نايمة مع الوقت هيقل لحد ما يختفي ، بس خوفها وعدم احساسها بالأمان ده مش سهل أنه ينتهي …. هتقابله بالعزلة والبُعد وهتتعود على كده … ومش هينفع تتعود على كده.
ثم أضافت مروة بتوضيح :
_ زي ما ليكي برنامج علاج يا ليلى هيكون للبنت كمان …. بس بشكل مختلف شوية ، أنتي عارفة أنك بتتعالجي ، وأني وجودي هنا للسبب ده …. أنما مع ريميه الطريقة دي ما تنفعش !
البنت اتحرمت من الهدوء والحب من والدها ….. بالعكس عاملها بعنف وكان بيهينها على طول !
واصعب احساس بيمر بيه الطفل أنه يحس أن حد من أهله بيكرهه أو رافض وجوده …. وده طبعا اللي زوده حالتها المرضية ، أنا بجد مش قادرة استوعب أزاي أب بنته تمدله ايديها عشان تتسند عليه ويسلمها من الوقوع يقوم هو اللي يوقعها ويوجعها ! …
قالت مروة ذلك بغضب وكأنها غفلت للحظات أن والد الطفلة توفى ورحل عن عالمنا بالفعل .. والعتاب لا قيمة له !
وتمالكت أعصابها بعدما لمحت كسرة عينين ليلى بلمعة دموع حبيسة …. فربتت مروة علي كتفها باعتذار :
_ أنا أسفة يا ليلى …. بس بجد ريميه مكنتش تستحق المعاملة دي أبدًا …. ولكن عمومًا علاجها الأساسي زي ما قولتي … في وجود لمة العيلة حواليها …. طالما بيحبوها بجد هيخروجها من خوفها.
تقبلّت ليلى أسفها وقالت بأسى :
_ أنتي عندك حق …. بنتي شافت قسوة في عمرها ده أنا نفسي مقدرتش اتحملها … لما حسيت أنها بتضحك وبتلعب وبتبقى زي الاطفال العاديين في وجود عيلة وجيه وولاد أخواته وبنات أخوه سيبتها معاهم وأنا مطمنة … بس لما بتبقى لوحدها بحس أنها رجعت تاني زي الأول!
قالت مروة داعمة :
_ طالما بتبقى كويسة حتى لو لبعض الوقت يبقى في أمل كبير …. أطمني وبأذن الله رحلة العلاج ده ماتبقاش طويلة سواء ليكي أو لريمو االي وحشتني .
وأتممت حديثها بابتسامة مطمئنة … فقالت ليلى بمحبة صادقة :
_ بس هنفضل صحاب … أنا مش جيالك اتعالج ، أنا جايالك افضفض واتكلم وأنا واثقة في تفكيرك وأنك هتفهميني … أنا بعتبرك في مكانة أختي الله يرحمها.
اتسعت ابتسامة مروة وقالت بتأييد:
_ احنا صحاب غصب عنك …. وبعدين يعني أنا برضو هبقى افضفض معاكي … هستغلك.
وتشاركا الابتسامات والمزاح لبعض الوقت … ثم عادا للحديث بجدية مرةً أخرى.
*******
غرقت سمر بالفكر .. تائهة ، شاردة، بها من الألم ما يكفيها لتتذكره حتى آخر أنفاسها.
ما كان اختيارها لهذا الرجل نابع عن حب لا تنكر … ولكن لم تختاره لأجل ماله ومكانته الإجتماعية على الإطلاق!
بل توسمت فيه الأمان والطمأنينة وتعويضا عن فقدان أبيها الراحل منذ نعومة أظافرها .. شعرت أنها تحتاج أن تطمئن اكثر من احتياجها للحب .. وقد اعطاها الأمان الزائف بسخاء في بداية ارتباطهما.
فتمسكت به تمسك الغريق لأي شيء يحمله فوق الماء .. لكنه كان وهما هباء لا أمن فيه ولا سلام … بل جعل الغرق والموت اسهل وأسرع.
شعرت أنها بنهاية المطاف رغم عمرها الذي لم يتعدى عن السادسة والعشرون عاما… وأن اختيارها للأنفصال بهذا الوقت وإن كان سينقذها من العذاب فإنه سيجعلها علكة بأفواه الجميع … وبطبيعة الحال لن يصدقون الناس في الرجل شيء … بل سيشيرون بأصابع الاتهام إليها هي فقط ! …. مهما قالت … ومهما دافعت عن نفسها لن يرحمها أحد … ولن تُسلم من الظنون السيئة، ولا رجف الأقوال.
ولكن … يحدث ما يحدث ، يُقال ما يقال ، لن تعود لهذا الجحيم مجددًا … ولن تضحي بنفسها خوفا من الأقاويل … وليذهب كل شيء إلى الجحيم.
انتبهت لدق خفيف على باب الغرفة ونظرت له بصمت … كأنها لا تملك حتى أن تسمح بالدخول لأي مخلوق، وبعد لحظات دلفت جيهان وبين يديها صينية خشبية وعليها اطباق مملؤة بالأطمعة التي تفوح منها الأبخرة والرائحة الشهية ..
ودخلت بابتسامة يبدو أنها رسمتها منذ لحظات … واقتربت منها حتى وضعت الطعام جانبًا على الفراش وقالت لها بلطف :
_ أنا ما فطرتش …. وحضرت فطار يكفينا أحنا الأتنين … يلا بقا افتحي نفسي وكلي معايا.
اعتدلت سمر بالفراش وقالت بعينين حمراوان من أثر البكاء :
_ مش جعانة … أنا أسفة.
لم تسمح لها جيهان بهذا الاعتذار وقالت بتصميم :
_ هتاكلي يعني هتاكلي …. هتفضلي يعني من غير أكل ! …. على الاقل عشان لما يجي المحامي ويسألك تبقي قادرة تردي عليه … أنا اتصلت بوجيه زي ما اتفاقنا وهو كلم المحامي وزمانهم في الطريق…. ممكن بقا تفطري معايا !
نظرت لها سمر بامتنان، ولم تتخيل أن جيهان ستتخذ هذا الموقف السريع وتساعدها …. فقالت بشكر :
_ أنا مش عارفة أقولك إيه …. يمكن مكنتش أعرفك كويس عشان اكلمك وتساعديني بالشكل ده … بس لقيتك في بالي ومترددتش أني اكلمك ! ..

 

ابتسمت لها جيهان وقالت بصدق :
_ يمكن ده من حسن حظي يا سمر … لو تعرفي اللي عملته النهاردة فرق معايا أزاي كنتي هتنتظري مني أني انا اللي اشكرك ….. اللي عملته معاكي رجعلي جزء من نفسي وطبيعتي الحقيقية … أنا عارفة أنك مش هتفهمي كلامي … بس أنا ساعدت نفسي قبل ما أساعدك …. وعشان خاطري بقا افطري معايا ..
لم تشعر سمر بأدنى شهية للطعام ، ولكن مع إصرار جيهان شعرت بالحرج من الاعتذار مجددًا … فبدأت بتذوق قطة خبز صغيرة جدًا ….
وبعد دقائق انتبها سويا إلى قرع على باب الغرفة فقالت جيهان وهي تبتلع ما في فمها :
_ ادخلي يا دادة …
وما كان يصعد للطوابق سوى مدبرة المنزل العجوز التي لازمت جيهان منذ طفولتها … فقالت المرأة العجوز بعدما دخلت الغرفة :
_ دكتور وجيه مستنيكي تحت في الصالون يا چي.
ودائبت العجوز كل تلك السنوات على مناداتها باسمها المدلل “چي” …. حتى الآن … فقالت جيهان وهي تنهض :
_ قوليله نازلة ….
خرجت المرأة واتجهت جيهان ناحية سمر وقالت بلطف :
_ كملي فطارك واستعدي للنزول لحد ما اجيلك تاني واخدك ….
وودعتها موقتً بابتسامة وغادرت الغرفة.
********
كان وجيه يقف مواليًا ظهره وهي تسير اتجاه مدخل الصالون … وقد تحكم بعصبيته طيلة الطريق لهنا…. اقتربت جيهان وسمع وجيه وقع خطواتها بحذائها ذو الكعب العالي.
لم يلتفت لها ، بل دعم أعصابه ببعض الثبات والهدوء أولًا … حتى وقفت جيهان وهي تبتلع ريقها بارتباك وقلق، وقالت بصوتٍ أخفت فيه توترها بالكاد:
_ هو المحامي مجاش معاك ؟!
قال بصوتٍ حاد ولا زال على وقفته وثباته :
_ ربع ساعة بالكتير وهيكون هنا …
وعندما ادركت مدى غضبه من حدة صوته انفعلت وقالت بعصبية :
_ ليه شايفني غلطانة ؟! …. لو كنت مكاني كنت …..
واستدار بحركة مفاجأة وقال لها مقاطعا بنظرة أشد حدة من صوته :
_ لو كنت مكانك كنت عملت اعتبار للطرف التاني وعرفته ولو بمكالمة أنا فين وهعمل إيه … لو كنتي كلمتيني مكنتش هعترض أبدًا وكنت جيتلكم بنفسي وأخدتكم … بس تعرضي نفسك للخطر وأنا حتى معرفش أنتي فين مكنش تصرف عاقل منك !
اشتد أنفعالها وقالت وهي تدرك أن هذه المقارنة خاطئة ولكنها كرهت أن تقف مكتوفة الإيدي أمامه :
_ يعني أنت كنت عملتلي اعتبار يوم ما ليلى اتخطفت وروحت وراها ومعرفتش اللي حصل غير لما رجعت تاني يوم ! …
لم يصدق ما تقوله فتحدث بدهشة قائلا :
_ أنتي بتقارني إيه بإيه ! … ليلى وقتها كنت قررت اتجوزها وأنتي بنفسك اللي روحتلها من ورايا وطلبتيها ليا ! …. ولا كنتي عايزاني اتصل بيكي وأقولك الحقيني ليلى اتخطفت ! … أنتي بتفكري أزاي ؟! …
واستطرد بعصبية :
_لكن كونك ست وليها زوج المفروض في موقف تحسي فيه بأقل خطر عليكي تتصلي بيا وتعرفيني مكانك واللي بيحصل ….
ماتنسيش أنك مسؤولة مني … !
لم تعرف لما راقها عصبيته وخوفه عليها … رغم عصبيتها منذ لحظات ولكن أعجبها نبرة القلق بصوته …. تلك الطريقة يستخدمها مع ليلى أيضا … فاقتربت منه وتسحبت الابتسامة لشفتيها بمكر …. ثم رفعت يديها لياقة معطفه الخريفي وقالت

 

بدلال :
_ خوفت عليا …؟!
ضيق عينيه بدهشة من تحولها المفاجئ هذا … ونرفزه اقتناصها شيء طبيعي أن يحدث وتجاهلت أهم ما في الأمر بطريقة أغضبته…. فأنزل يدها بعصبية وقال :
_ ما تغيريش الموضوع !
نظرت له بغضب عقب ابعاده يديها عنه قصدا وقالت بحدة :
_ أنا مش بغير مواضيع ! …. أنا كنت بحاول أخليك تهدا … وبعدين فيها إيه لما أفرح من خوفك عليا ؟! …. هو مش أنا مراتك زي ما بتقول ! ….
رد عليها بقوة :
_ كلمة أسفة كانت كفاية أني اهدأ …
ثارت بعصبية وقالت بأنفعال :
_ أنا مغلطتش عشان اتأسف! ….. قولي فين الغلط اللي عملته ولا أنا كان لازم اكلمك استأذنك الأول اساعدها ولا لأ ؟!
زفر بحنق من إدارتها للأمور وفق رؤيتها الخاصة فقط … وقال بصوتٍ حاد :
_ قولتلك أني مكنتش هرفض … بس قبل أي شيء كان لازم تكلميني وأعرف أنتي فين …. أفرضي محمود جوزها جه فجأة كان هيحصل إيه ؟! … ولا أنتي فاكرة أنه هيحط مكانتك ونفوذك قصاد سمعته والفضيحة دي اللي هتلازمه العمر كله ! …. كان هيبقى إيه الوضع لو ده حصل ؟ …. وأنا عارفك مكنتيش هتسكتي …. ورد فعله اكيد مكنش هيبقى هادي وساعتها رد فعلي أنا كان هيبقى أشرس … أنتي مكنتيش غلط لما قررتي تساعدي سمر … بس غلطتي أنك نفذتي لوحدك وواجهتي خطر كان محتمل يحصل وهيوقعنا في مشاكل الله اعلم كانت ممكن توصلنا لفين…
وهز رأسه بيأس وقال :
_ عمرك ما هتفهميني يا جيهان …. أنتي لما بتحسي بقوتك وتفتكري أنتي مين بتنسي حتى أن ليكي زوج لازم تحترمي وجوده …!
التمعت عيون جيهان بالدموع وقالت :
_ وليلى اللي بتفهمك مش كده ! …. ليلى اللي لو عملت اكتر من كده بتعديهالها ! …. أنا نفسي تعاملني زي ما بتعاملها ! …. يمكن فعلا اللي غلطت فيه اني مكلمتكش قبل ما أخرج من بيت سمر …. بس أنا مكنتش اقصد !
أنا حسيت أني بشوف نفسي فيها !
اسودت عينان وجيه من الصدمة والغضب لجملتها الأخيرة …. لا يعقل أنها تقول ذلك ! ….
وهتف بشراسة وقد اعماه الغضب من كذبها :
_ بتشوفي نفسك في مين أنتي اتجننتي ولا حصل في دماغك حاجة ؟!
ففهمت لأين وصل تفكيره، وقالت بمرارة موضحة سوء الفهم :
_ بشوف نفسي في حزنها واحساسها بالضياع والوحدة … يمكن سبب حزنها مش هو نفس سبب حزني …. بس الوجع احساسه مابيعرفش اسباب معينة … هو احساس واحد لمليون سبب … فهمت أقصد إيه؟!…
تطلع إليها لدقيقة ثم قال بعدما فهم ما تعنيه بتلك الجملة تحديدًا :
_ في يوم من الأيام هتعرفي أن حالتك دي أنتي اللي وصلتي نفسك ليها يا جيهان… كل كلامك لازم تقارني نفسك بليلى ! …. ليلى أنا سيبتها في المستشفى وجيتلك ومترددتش لحظة ! … أظن لو كان الوضع معكوس كنتي برضو هتزعلي وهتقارني نفسك وتعاتبيني أني سيبتك ومشيت ! …. بس أنتي بتحاسبيني على أحساسي مش معاملتي … واللي اصلًا مش بإيدي !…
لم تعرف لما قلقت من تفسيره … وخشيت أن تكتشف أنها كانت الحقيقة بيوم !
ابتلعت ريقها بصعوبة وقالت مغيرة دفة الحديث :
_ خلينا في الأهم دلوقتي … هتعمل إيه مع دكتور محمود ؟!
تقبل تغير هذا الحديث الممل وأجاب بحسم :
_ أنا اتفقت مع المحامي بالتليفون انه يتصل بمحمود ويديله العنوان على هنا … ده غير أنه هيجيب المأذون معاه عشان نخلص الموضوع من غير مشاكل ….
تعجبت جيهان قليلًا وقالت :
_ ليه خليت المحامي اللي يكلمه ؟!
تنهد بعمق ثم قال موضحاً :
_ ده تهديد رسمي ليه … عشان يبقى جاي وعارف أنه لو ما وافقش على الطلاق هيبقى في اجراءات تانية مش هتعجبه وهتسببله فضايح… مش مجرد تهديد مني … ولازم سمر تعمل كشف طبي النهاردة تثبت فيه أثار الضرب …والاهم إنها تثبت بالدليل أنها لسه عذراء ….
وأضاف بنظرة لها ذات مغزى :
_كنت أفضل ده يحصل الأول ولو كنتي قولتيلي وكلمتيني كنت خدتكم على المستشفى فورا ، والكشف والتقرير كان هيخلص في نص ساعة بالكتير …. بس عموما بعد ما المحامي يجي هنتفق على كل شيء بشكل اوضح … وهنشوف الحل السلمي الأول ولو مانفعش في حلول تانية كتير ماحبش استخدمها الأول.
قالت جيهان بعصبية :
_ حل سلمي بعد اللي عمله فيها !

 

قال وجيه بجدية وصدق :
_ أنتي لو مدركة حجم الكارثة اللي هو فيها هتفكري زيي … أنا فاهمه كويس رغم أني هحاسبه على الضرب اللي اتعرضتله سمر … بس مش قادر ما احسش بالشفقة عليه ! …. احنا لما بنتعرض لمشكلة بنعجز قدامها على الحل وقتها بنفقد جزء من ثقتنا في نفسنا .. تفكيرنا بيتشتت وبصعوبة على ما ناخد قرار … اكيد مش بدافع عنه .. بس االي هو فيه كفيل أنه يكرهه في كل شيء وأولهم نفسه … وده اللي مخليني بلجأ للحل الودي الأول معاه …
على رغم من موافقتها على حديثه ولكنها قالت :
_ كان عارف ومع ذلك اتجوزها … وافق إنه يعيش انسانة في عذاب عشان شكله الاجتماعي ! … أظن ده ما يخلنيش احس بأي شفقة عليه ..
رد وجيه محاولًا كسب مزيد من الطاقة للإجابة عليها وألا ينفعل أكثر من ذلك:
_ وأنا قولتلك هحاسبه … واللي عمله ده ذنبه وهو يتحمله ، وأنا ماليش أكتر من أني ادخل وانهي اللي ما بينهم بهدوء … وزي ما حاسس ببعض الشفقة عليه فأكيد سمر قبله ! … رغم برضو أنها كان عندها خلفية بأخلاقه ووافقت رغم فرق السن مابينهم ! …. سمر ظلمت نفسها زي ما هو ظلمها بالضبط واخطأت الاختيار.
وهنا استأذنت المدبرة العجوز وقالت وقد بدا عليها بعض القلق:
_ في واحد جه برا وبيقول أنه المحامي الخاص بدكتور وجيه … وفي مأذون معاه!
يبدو أن المرأة اعتقدت أن هناك مكروه سيحدث بين جيهان وزوجها وجيه …. فقال وجيه لجيهان :
_ هستخدم مكتب والدك … وقولي لسمر إني عايز اتكلم معاها شوية … لما تجهز ابعتيلي.
واومأت جيهان رأسها بموافقة وتركته يذهب من أمامها …. وغرقت بالحيرة … هي معها حق بدفاعها … وهو أيضا معه حق بحديثه …. أين الخطأ إذن ؟!
*********
وقفت سيارة زايد أمام المشفى ….
وترجل السائق سريعا ليفتح له الباب ويسانده في النزول … ولكن زايد يبدو إنه لا ينتظر صبرا لدقيقة إضافية !
فأستند على الباب حتى استطاع الوقوف متكأ على عكازه وقال للسائق :
_ ارجع أنت …
تساءل السائق بتعجب :
_ طب وحضرتك هترجع أزاي البيت ؟!
رد زايد بنفاد صبر واستعجال :
_ قولتلك ارجع … لما احتاجك هتصل بيك تجيلي …
غادر السائق دون جدال وتوجه زايد خطوة خطوة على عكازه لداخل المشفى ….
وفي أحد الطوابق العلوية خرج من المصعد وكاد أن يتصل على شقيقه ليعرف أين فرحة تحديدًا … حتى رأى فادي شقيقه يركض إليه من الممر كأنه انتظره عاما!…. نظر إليه زايد برجفة قلب ترتعد من وقوع أي مكروه قد حدث بالفعل …. وعندما اقترب منه فادي قال بزفرة حارة :
_ الحمد لله أنك جيت …. أنا كنت واقف محتار مش عارف اعمل إيه … وحسام عمال يتصل بيا وتليفون أخته مقفول !
قال زايد بتلعثم :
_ فرحة حصلها حاجة ؟
رد فادي بقلق :
_ مش عارف … هي في أوضة في الدور اللي فوقينا على طول في أوضة رقم ٣١٠ ، ومعزولة وممنوع حد يدخلها … وكمان ماينفعش حد يدخلها وإلا ممكن يتعدي !
وأشار لكمامة في يده وقال بضيق :
_ قولت للممرضة البس كمامة وادخل اطمن عليها رفضت … الكمامة مش كفاية للأسف.
ظل زايد صامتً للحظة … ثم التقط من يد أخيه الكمامة الطبية وأرتداها سريعا لتكون مبررا أمام الطاقم الطبي ، حتى وأن كان مبررا ضعيفا … ثم قال بعجالة :
_ ارجع أنت البيت وأنا هطمنك بالتليفون …. وهروح لحسام أطمنه …
قال فادي بدهشة :
_ مش هيرضوا يدخلوك ! …. وبعدين أنا قولتلك أن الكمامة مش كفاية !
رد زايد بعصبية زائدة وكأنه يتعارك مع ذباب الهواء :
_ كفاية ولا مش كفاية أنا لازم أطمن عليها بأي طريقة … مستحيل أسيبها لوحدها.
وتطلع به فادي بغرابة ولحظات صمت اعقبت ذلك …. حتى راقبه وهو يدخل للمصعد صاعدًا للأعلى … شك بشيء ولكن ما منعه أن يفرح أن فرحة بحالة سيئة … وما من أحد يعرف إلى أين ستؤول الأمور … ولكن تمنى بصدق أن تتحسن حالتها ليس فقط لأجل شقيقها حسام … بل لأجل شقيقه زايد أيضا…!

 

*******
اتفق وجيه مع المحامي على عدة أشياء، حتى استأذنت جيهان بالدخول للمكتب وقالت لوجيه :
_ سمر برا ومستنياك يا وجيه .
نهض وجيه من مكانه وقال للرجلان :
_ دقايق وراجعلكم.
وبعدما خرج من المكتب وجد سمر تقف بجانب جيهان بالردهة وعلى وجهها الشاحب كالاموات يرتسم الأسى والحزن الشديد …. فتطلع بها بعطف وقال عندما وقف أمامهن :
_ عايز اتكلم معاكي شوية يا سمر … مش هعنل شيء ضد إرادتك … بس الأول عايز أعرف أنتي عايزة إيه بالضبط .
قالت جيهان وهي تشير للصالون :
_ طب هتفضلوا واقفين كده !
وأخذتهما للصالون البعيد حيث الارائك الوثيرة بأفخم الأقمشة ….. وبعدما جلس وجيه وجلست سمر على مسافةّ منه … قالت جيهان وهي تنظر لهما :
_ طب هروح أنا اقول للدادة حاجة وراجعة ..
وذهبت لتترك مساحة الحرية لسمر للحديث …. فقال وجيه لها بلطف :
_ قوليلي عايزة إيه سمر ؟ ….
أجابت بقوة رغم ضعف صوتها :
_ عايزاه يطلقني وبس… ومش عايزة منه أي حاجة ، مش عايزة حاجة تفكرني بيه ولا بالأيام اللي عيشتها معاه .
قال وجيه بتأكيد :
_ ليكي حقوق وهتاخديها … سيبيلي الموضوع ده.
نظرت سمر لوجيه وانهمرت دموع عينيها فقالت بإصرار :
_ لأ مش عايزة منه شيء … ده اتجوزني عشان كان فاكر أني هرضى بالفلوس اللي بيديهالي وهسكت ! …. هو أنا رخيصة أوي كده ؟! أنا كرهته وكرهت فلوسه وكرهت حتى نفسي … مش عايزة منه أي شيء وارجوك يا دكتور ده رجائي وطلبي منك … خليه يطلقني وانا متنازلة عن أي حق ليا.
هز وجيه رأسه موافقا تحت رغبتها هذه .. وقال وهو ينهض :
_ خلاص يا سمر … أوعدك الموضوع ده ينتهي النهاردة … وهنهيه للأبد … مش هسمحله يتعرضلك ولو بكلمة ! … كل شيء جاهز بس هو مش عارف اتأخر كده ليه ؟!
تسلل الخوف إليها من جملته الأخيرة ، فشعر وجيه بذلك وأراد أن يبث بقلبها الطمأنينة ولو قليلًا فقال:
_ متخافيش …. هو اكيد بيحسبها وبيفكر هيخرج من الأزمة دي أزاي …. بس لو فعلا بيفكر صح يسمع كلامي ونخلص كل شيء النهاردة من غير مشاكل … لأنه مش أد اللي هيحصله مني لو رفض يطلقك.
وتابع حديثه قائلًا :
_ اللي حصل ده مش آخر المطاف ، تجربة وعدت بكل ما فيها ، بس طول ما فينا نفس اكيد في بداية جديدة مستنيانا … أنتي لسه صغيرة يا سمر وقدامك لسه بكرة … ومحدش عارف ، يمكن تلاقيكي حد كان مستنيكي ويعوضك عن اللي شوفتيه.
ابتلعت سمر غصة حارقة بحلقها وفهمت لمن يلمح وجيه بحديثه ….. وبعدما قال ذلك عاد مجددًا للمكتب وللمحامي الذي سأم من انتظار الطرف الثاني ليُنهي هذه الزيجة.
********
وقف زايد أمام الغرفة المدون عليها نفس الرقم الذي قاله فادي …ودون تردد فتح الباب ، ولكن تفاجأ بوجود ممرضة مكممة بحماية زائدة عن العادي، وتتعامل بحذر مع فرحة المغمضة عينيها وتائهة بغفوة كالغيبوبة ! ….
وحينما لمحته الممرضة غضبت وهتفت به بعصبية وأشارت له للخروج بأمر:
_ لو سمحت اطلع برا ، ممنوع الدخول هنا !
لم يكترث زايد لأي شيء ، لا لتعنيف الممرضة ولا لصراخها به حتى يخرج …. بينما هي لاحظت عكازه وحالة قدميه ،فلم تريد استخدام العنف معه ليخرج …. فخرجت من الغرفة سريعا بعدما يأست منه وهتفت بالممر على بعض أفراد الأمن بالطوابق.
اقترب زايد بعينان مشتاقتين لرؤيتها، وقال بصوتٍ يكسوه خوف وصل حد الرعب :
_ فرحة …. أنتي سمعاني ؟ ارجوك ردي عليا طمنيني.
وردد اسمها عدة مرات وهو بقرب فراشها ، حتى بدأت تفتح عينيها ببطء شديد ورؤيته أمامها تبدو ضبابية مشوشة كأنها تطوف بين أغصان حلما كانت تريده بشدة … وتمتمت باسمه بحروف متقطعة :
_ زاي..د….
وكررتها مرةً أخرى كأنها تستغيث به وتناشده … فهمس لها بتأكيد، ولو فتحت عينيها أكثر لرأت مدى ظهور مشاعره المتدفقة بالحنان المختبئ ترتسم على وجهه بأعتراف :
_ أنا جانبك … ومش همشي من هنا وغير وأنتي معايا.
أطرفت جفنيها الثقيلان كأنها وعت لكلماته ، ولكن أجبرها دوار رأسها أن تتيه بغفوة أخرى …. ابتلع زايد ريقه بخوف شديد … لن يستطع تحمل هذا الفراق مجددًا .. يكفي والدته وبعدها ظل سنوات يشفى منه … ولم يندمل جرحه للآن …
وأتت الممرضة ومعها فردين من رجال الأمن وعاملوه بعصبية ليخرج …. فخرج من الغرفة وقالت له الممرضة بضيق:
_ لو سمحت طالما اختلطت بيها يبقى لازم تطمن على نفسك … أحنا مش ناقصين حد يتعدي تاني !
وقف زايد ناظرٌا للفراغ شاردا للبعيد … لا يسمع أي شيء ممن حوله … فأخرج هاتفه من جيب معطفه واتصل بسكرتيره الخاص وقال له بحزن شديد صدح بصوته:
_ أنا رجعت المستشفى … هفضل هنا كام يوم …. خلصلي ورق الدخول أنا مش فايق لحاجة.
قال السكرتير ببعض القلق :
_ طب حضرتك بخير ؟ … أنا سايبك امبارح وكنت كويس!
أجاب زايد بعصبية ونفاد صبر :
_ مش وقته …. قولهم أني محتاج رعاية طبية بسبب رجلي … قول أي سبب ، بس أفضل هنا … وبالذات في الدور الخامس، اعمل أي حاجة بس اللي بقهولهولك يتنفذ.
وافق السكرتير وقال :
_ طب أنا جاي لحضرتك وهجيب الملف الطبي بتاعك معايا …. وما تقلقش ساعة بالكتير وكله هيبقى تمام .
انهت الممرضة من حديثها مع الأمن ثم عادت لزايد قائلة :
_ حضرتك قريبها ؟!
صمت زايد للحظات ثم قال بدون تردد :

 

_ خطيبها …
هزت الممرضة رأسها وفهمت سبب تصرفه … فهدأت بعض الشيء وقالت :
_ أنا اسفة على معاملتي معاك بس دي اجراءات أمان عشان العدوى ما تنتشرش في المستشفى وبرا المستشفى كمان …. فياريت تعمل زي ما قولتلك وتطمن على نفسك …. اكيد هي مش هتفرح لما تتعدي انت كمان لا قدر الله …. وكمان عشان تقدر توقف جنبها في الازمة وأنت كويس … بعد أسبوعين أو تلاته بالكتير بأذن الله لو ربنا كتبلها الشفاء هتقدر تدخلها …. ولو حصل حاجة ليك هتتمنع تشوفها عشان سلامتها هي بقا …. فإيه رأيك ؟
هز زايد رأسه موافقا ولكن لم تهدأ رجفة قلبه ولو قليلا …. كيف سيظل كل تلك الأيام دون أن يرها ؟!
ويبدو أن الممرضة فهمت حيرته … فأشارت له بنافذة زجاجية قريبة من فراشها وقالت :
_ تقدر تشوفها من بعيد من ورا الأزاز ده …. هو ده أقصى شيء أقدر اساعدك بيه .. بس ارجوك بلاش دخول دلوقتي.
والتفت زايد للنافذة الذي لم ينتبه لها من فرط قلقه عند وصوله لهنا … وتوجه لها وعندما وقف سلط عينيه على فرحته الغائبة عن الوعي …. سيظل يقرابها من هنا حتى لو من وراء هذا الحاجز …. ولن يغفل له جفن حتى تعود لها عافيتها ….
ثم قال للممرضة دون أن يُحيد نظره عن فرحة، وعينيه تلتهب خوفا ولهفة :
_ أي حاجة هتحتاجها اطلبوها مني … وعلاجها هيكون في حسابي أنا … اعملوا أي حاجة وأنا هدفع اللي تطلبوه كله … بس ما أشوفهاش بتتوجع ولا اسمعها بتقول آه.
طمأنته الممرضة وقالت :
_ متخافش عليها … هي هنا في رعاية كافية لحد ما تقوم بالسلامة بأمر الله… الأعراض لحد دلوقتي مش في مرحلتها الشديدة ….
هدأ روعه قليلًا … قليلا جدًا … ليس لدرجة أن يستكين قلبه … ولكنه هنا … وسيظل حتى تعود كما كانت … وبعدها لن يتركها لحظة حتى لو أرادت الإبتعاد.
*********
ومرت ساعاتٍ بعدها …. وطل الليل بنسمات باردة .
ولم يأتي زوج سمر بعد !
قال المحامي بنفاد صبر وغيظ وهو يحاور وجيه بالمكتب :
_ شكله كده عايزها قواضي ومحاكم وفضايح …. مع أنه ممكن ينهيها من غير شوشرة !
زفر وجيه بعصبية ، ثم نهض وابتعد اتجاه شرفة المكتب واجرى اتصال على هاتف ليلى …. بعدما اتصل بها منذ ساعتين واعتذر للعودة بالوقت الحالي دون أن يفصح لها عن ما يحدث، أكتفى فقط بإخبارها أنه مشغول بالعمل…. فأخبرته بتفهم أن جدها سيصلها للمنزل بنفسه …..
أجابت ليلى على الإتصال سريعا وهي بغرفتهما وقالت بلهفة :

 

 

_ هترجع أمتى ؟
ابتسم سريعا وأجاب :
_ مش عارف بالضبط … بس حبيت اطمن عليكي.
قالت وقد تنسمت شفتيها ابتسامة :
_ أنا بخير …. جدي صادق وصلني لحد البيت واتغدا معانا كمان …. وعلى فكرة ريمو سألت عليك النهاردة كتير.
رق قلبها واتسعت ابتسامته قليلًا وأجاب :
_ وحشتوني أوي …. بأذن الله مش هتأخر كتير …
وانتهى الاتصال سريعا خاصةً عندما أتت جيهان للمكتب بوجها تعابيره قلقة بعض الشيء واعلنت وصول دكتور محمود !
فنظر لها وجيها بثبات وقال :
_ قبل اي شيء … هتكلم معاه الأول لوحدنا … مش هتأخر عليكم … بس محتاج اتكلم معاه الأول.
وافق المحامي لعلمه أن وجيه سيعد كل شيء وسيظل فقط الاجراءات القانونية ….
خرج وجيه من المكتب حتى الردهة ووجد محمود يقف شاحب الوجه وعينيه منتفختان … وهذا ما كان يتوقعه وجيه ، أنه قضى الساعات الفائته في حالة من الحزن الشديد وكشف أمره …. قال له وجيه بهدوء :
_ اتفضل معايا .
وذهب خلفه محمود وهو يتجنب نظرات جيهان الغاضبة له ….
وبعدما جلسا في أحد الزوايا البعيدة المنفردة عن الأعين على مقعدين متقابلين … ابتدأ وجيه حديثه وقال :
_ لو أنت هتسيبها وتطلقها بهدوء اوعدك الموضوع ده مايخرجش برا عننا … لكن لو هترفض الطلاق فأنت كده اللي غاوي مشاكل وفضايح لنفسك …
ابتلع محمود ريقه بصعوبة وقال :
_ مالوش لزوم الجدال والمناقشة …. طالما مصممة تطلق يبقى هطلقها …
تنهد وجيها لخوضه نصف المشكلة بنجاح … ثم قال باقي حديثه :
_ وفي شيء كمان يا محمود …. بخصوص شغلك في المستشفى …. هساعدك تشتغل في مستشفى تانية ، وتنهي عقدك معايا ….. وسمر كمان هخليها تعمل كده … وبكده محدش فيكم هيكون له فرصة أنه يتكلم على التاني ويسوء سمعته … انا متأكد منها بس زيادة احتياط … أنما أنت لو وصلني كلمة قولتها على سمر في أي مكان صدقني هتزعل من رد فعلي …. خصوصا أنك انت اللي ظلمتها مش هي !
قال محمود والقهر يملأ عينيه ولم يستطع النظر ولو بنظرة لوجيه :
_ يمكن فعلا ظلمتها … يمكن كان أغبى قرار خدته في حياتي لما قررت أتجوزها … بس ربنا اعلم باللي جوايا والحالة اللي بمر بيها …. أنا هكتبلها الشقة باسمها وهطلقها … بس خليها تسامحني .
تفاجأ وجيه فعليًا من الرضوخ في كل شيء من جهة محمود …. وقال :
_ سمر مش عايزة منك حاجة … هي طلبت ده واكدت عليه …
تنهد محمود بحزن وعذاب … ثم قال :
_ يمكن ده قرارها دلوقتي …. بس بعدين تغير رأيها ، هطلقها وهمضي استقالتي … في شيء تاني عايزني اعمله يا دكتور وجيه ؟
نظر له وجيه ببعض الشفقة … ولم يثقل عليه الحمل بالتعنيف … فيكفي تهديده الصريح وإجباره على الاستقالة …..فأجاب وجيه وهو ينهض :
_ لأ … بس خليك فاكر اللي قولتهولك … سمر بعتبرها أختي ومش هسمح لحد يضايقها تاني.
نهض محمود ونظر اليه بنظرة تملأها المرارة والحزن :
_ هستفاد إيه ؟! ……. يمكن هددتها بكده فعلا ، بس عشان ماتقولش لحد وتكسرني قدام الناس… كنت بضربها بس من جوايا مخنوق وبموت … ظلمتها بس كان عندي أمل … ولو يرجع بيا الزمن مش هفكر حتى اخطبها ..
وبعد ما تعدى الساعة واصرت فيها سمر أن لا تأخذ شيء منه … تمت اجراءات الأنفصال دون كثير من الحديث … ورحل محمود من المنزل وعن حياتها بالكامل … وغادر أيضا المحامي والمأذون الشرعي …. وقف وجيه متنهدا براحة وقال:
_ كل شيء انتهى بهدوء الحمد لله … مكنتش حابب أبقى السبب في كسرته اكتر من كده … بس مكنش هيبقى قدامي

 

حل تاني.
قالت جيهان معترفة بصدق :
_ بصراحة للحظة حسيت أنه صعبان عليا ، باين عليه الندم والحزن…
هز وجيه رأسه وقال بتأكيد :
_ عشان محطتيش نفسك مكانه للحظة …. هو ظلمها بس ندمان …. ومكنش بيعمل كده بمزاجه … مكنش ينفع استخدم معاه الضغط والتعنيف وهو اصلا موافق على كل شيء بقوله من غير اعتراض ! ….
قالت جيهان برجاء :
_ هفضل هنا معاها النهاردة …. أنا هقلق عليها لو سيبتها لوحدها النهاردة بالذات … وكمان النهاردة يوم ليلى .
قالت ذلك وكأنها تعاتبه وتلومه ! …. فوافق على طلبها حتى تفاجأت جيهان بهاتفها يُعلن اتصال …. وشهقت عندما وجدت عدد الاتصالات الفائته من رقم والد وجيه … فأجابت سريعا :
_ أيوة يا بابا أنا بخير اطمن …
قال الجد رشدي بغيظ عبر الهاتف وقد كان جالسا مع الفتيات بالطابق الأرضي وليلى تلهو مع صغيرتها وتشاكسها :
_ الدادة بتاعتك اتصلت عليا تطمني بس أنا اتصلت عليكي كتير ومش بتردي !
قالت جيهان باعتذار :
_ أنا أسفة والله …. بس كان في مشكلة كده وخلصناها أنا ووجيه الحمد لله.
اغمض وجيه عينيه بغيظ منها ، فلم يريد أن يعرف أحد سبب مجيئه لهنا، وهو من أخبر ليلى ووالده أنه بالعمل بمكان آخر …. ولكن جيهان تحدثت بعفوية ، وتعجبت من رد فعل وجيه الغاضب بصمت ….. فقال الجد بدهشة :
_ وجيه عندك في بيت والدك ؟! …… من أمتى ؟!
أجابت جيهان بتلقائية :
_ من بعد الضهر كده …
صرّ وجيه على أسنانه وأشار لها بالمغادرة وذهب …. وتمنى أن لا تكون ليلى سمعت حديث أبيه بالهاتف … ولكن هيهات !
فقد تجمدت ليلى بمكانها عندما سمعت حوار الجد مع جيهان بالهاتف ! …. تركها وذهب لجيهان بمنزل والدها ! …. الم تكن المشكلة التي تتحدث عنها غير قابلة للتصفية إلا بمنزل والدها وبعيدًا عن هنا !
اشتعل قلبها بالنيران وهي تظن به الظنون …. وحملت صغيرتها وصعدت بعصبية واضحة دون أن ينتبه لها أحدًا …..
وبعدما أنهى الجد الأتصال قال يوسف وهو يجلس بعدما أجرى اتصال هام :
_ خلاص فاضلهم دقايق ويكونوا هنا .
قال الجد بغرابة :
_ هو قي إيه النهاردة ! … وجيه وغايب ومحدش عارف يوصله ، وولاد عمك واخوك في المستشفى لحد دلوقتي ! .
وهنا لم يكمل الجد حديثه ووجد أحفاده الثلاث يدخلون من باب المنزل الكبير…. وزفر جاسر بإرهاق وهو يجلس على أحدى الارائك وقال :
_ المستشفى النهاردة مقلوبة حرفيًا … وعمي وجيه محدش عارف يوصله ولا يلاقيه وبنتصل عليه مش بيرد !
توقفت ليلى بأحدى الدرجات الصاعدة عندما سمعت تلك الكلمات ، واسودت ظنونها أكثر …. وبعد لحظة تابعت صعودها بغضب عنيف يمر بداخلها … وتوجهت لغرفتها مباشرةً.
تأملن الفتيات وجوه الشباب بقلق … ولكن لا واحدة منهن اجترأت أن تبدي اهتمام أو قلق …. فسأل الجد بقلق :
_ ليه مالها المستشفى ؟!
قال رعد وهو يخلع ساعة معصمه منزعجا منها ودفعها على الطاولة وقال :
_ في ٣ حالات ظهروا في المستشفى لفيروس منتشر الأيام دي … وكلنا كشفنا …. وطبعا بغياب عمي وجيه مكنش ينفع نمشي …
نطقت رضوى دون أن تدرك ظهور لهفتها للجميع :
_ وأنت بخير يا رعد ؟
التفتت لها جميع الأعين … بينما عينان رعد اضيقت عليها بنظرة ماكرة وابتسامة أشد مكرا ….وقال :
_ إيه اللهفة القمر دي! … أنا بخير أوي أوي …
وانتظر جاسر سؤال جميلة … بينما نظرت له بابتسامة وقالت لتغيظه :
_ مش هسألك !
قال بثقة وابتسامة خبيثة :
_ بس نفسك تسألي وتطمني على أبو ريان وآدم وأطفال آخرين … ده حق صغنن من حقوقك عليا.
قالت بعدم فهم :
_ مين ريان وآدم دول ؟!
اتسعت ابتسامته بثقة واجاب :
_ ولادنا يا جميلة …. ما هو أنا اللي هتجوزك ودول عيالي .
انخرط الجميع بالضحك …. حتى قالت جميلة بسخرية :
_ أنت مصمم تتجوزني ليه ؟!
قال قبل أن يضحك ضحكة عالية :
_ نفسي أهددك بالطلاق .
انخرط الشباب الأربعة في موجة شديدة من الضحك .

يتبع..

اترك رد

error: Content is protected !!