روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الثلاثون 30 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الثلاثون 30 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الثلاثون

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء الثلاثون

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الثلاثون

~… هنا القاهرة …~
من يختار الفراق أولًا … أفتح له الأبواب !
كان الجد ” رشدي” بداخله اكثر من توقع للمقابلة ، ساورته الشكوك. وبصيص من التراجع ، ولكن تلك المواجهة محتومة ..أن لم تكن اليوم ستكن غدًا لا محالة.
دفع العمدة باب منزله وأشار للجد بترحاب أن يدخل ، أخذ الجد نفسا عميقا يجدد هواء رئتيه ثم أتكأ على عصاه وتقدم عدة خطوات للداخل.
بغرفة الفتيات…
تجمع الاربعة بنات بغرفتهن وكل واحدة يملأ وجهها الحيرة والقلق … وبعض الحنين لأشياء ماضية تخص العائلة … قالت حميدة بقلق :
_ أنا مش عارفة هطلع واتكلم معاه أزاي ؟! … على اد ما كنت موافقة أننا نتلم زي اي عيلة … بس دلوقتي حاسة أني مش هقدر أنطق بحرف.
قالت سما بتوتر واضح :
_ ومين سمعك ! ، أنا كمان زيك … يمكن أكتر ، خصوصا أني مكنتش مستعدة خالص للمقابلة دي مع جدنا !
تدخلت جميلة بالحديث وكانت متماسكة عنهن بعض الشيء، وقالت بنبرة يشوبها شيء من القلق:
_ بقولكم إيه ؟! …. أظن أبويا هيكون مرتاح أكتر في رقدته لما نصالح جدنا ! ، نحط الفكرة دي في دماغنا عشان تعدي على خير …. وعموما هنشوف هيقولنا إيه …
كانت الوحيدة الصامته الشاردة هي رضوى … تتأرجح بصمت بين الحزن والحيرة والتشتت ، كلما آتاها توقع دفعه بعيدًا توقع آخر أكثر منطقية ! ….
فُتح باب الغرفة وظهر العمدة بوجه هادئ بشوش … وقال بلطف :
_ جدكم برا با بنات …. نفسه يشوفكم أوي … بس عايزكم توعدوني وعد …
تطلعن به الفتيات في ترقب ، حتى أضاف العمدة قائلًا بتنبيه حذر:
_ جدكم جاي وشوفت في عنيه الندم ، شوفت الحزن على فراق أبنه ، باين عليه هدت الحيل ، خصوصا أن ولاده كلهم ماتوا واللي فاضله واحد بس منهم…. يعني هو مش حمل مناهدة ولا كتر عتاب وكلام شديد هيأثر على صحته وهيتعبه… أنسوا اللي فات وهو جاي يصالحكم بجد … اوعدوني ماتعملوش مشكلة وتسهلوا الأمر عليه ؟
هز الفتيات رأسهن بالتدريج في موافقة ، فقالت جميلة بوعد :
_ فاهمين يا خالي …
دلف نعناعة للغرفة وظهر عليه الأنفاس المتسارعة وحبيبات العرق كأنه كان يركض ، وقال لأبيه :
_ عايزك يابا في كلمتين مهمين …
التفت له العمدة وقال :
_ بعدين يا نعناعة … مش فاضي دلوقتي ..
كاد نعناعة أن يتحدث بعصبية حتى ظهر صوت الجد رشدي من خلفهم وهو يقف على عتبة الغرفة …. أفسح العمدة له

 

الطريق …
واصبحت أعين الفتيات لا إراديًا للأسفل … لم يعرفوا أن كان هذا حزن وضيق منه ، أو مجرد توتر فقط.
رقت نظرة الجد وهو يقترب للفتيات خطوة بعد خطوة ، كان قد مر سنوات كثيرة على آخر مرة جمعتهم …. كانوا أطفال حينها ، أما الآن فهن آنسات على قدر من الجمال وخاصةً جميلة … كانت أكثر من تشبه أبيها الراحل “مصطفى ” … أما رضوى أخذت لون عينيه وغمازتيه ، وحميدة بها لمحة منه ولكن يبدو أنها تشبه أمها أكثر …. والغريب أن الفتاة الرابعة التي يطل من عينيها الغموض والذكاء والعمق لم تشبه لا أبيها ولا أمها …. كانت سما ملامحها بعيدة عن أشقائها …كأنها أستثناء بينهن !
قال الجد وفي صوته ظهر الحزن :
_ أبني مصطفى ده كان أغرب ولد في ولادي ، كان يقول نفسي في شيء والاقيه بيحصل ، فاكر مرة قالي فيها أنه نفسه يعيش في الأرياف …وحصل
ومرة تانية قالي نفسه يخلف بنات كتير .. وبرضو حصل…!
الغريبة أنه كان بيتمنى يخلف بنت تشبه أمه بالضبط..! ، كنت استغرب وأقوله هتشبها أزاي ووالدتك توفت وانت حتى لسه ما اتجوزتش ولا مراتك شافت حماتها ! …. بس أظاهر أن أمنيته اتحققت..!
نظر الجد لسما بابتسامة حنونة وقال :
_ سما كلها جدتها … نسخة تانية !
التمعت عين سما بالدموع في صمت ، وبدأت تشعر بالألفة اتجاه هذا الرجل العجوز … فتابع الجد وهو ينظر لجميلة بمشاكسة :
_ البت جميلة نسخة من مصطفى أبني ، شقاوة عينيه ، وملامحه الجميلة … مصطفى الصغير بس على بنت !
طفرت عين جميلة بالدموع ، وتذكرت أبيها الراحل وهو يضحك ويقول لها نفس الشيء …
ونظر لرضوى الباكية مقدمًا وقال :
_ تعالي يام غمازة أنتِ … قربي كده .
ترددت رضوى في القدوم ، ولكن تشجعت أكثر عندما نظرت لخالها وأشار لها برأسه أن تطيع جدها … وقفت رضوى أمام الجد في ارتباك وتوتر …قال الجد مقترحا :
_ أضحكي كده ؟
تعجب رضوى منه ولكنها ابتسمت كي ترضيه، ابتسم الجد رشدي قائلًا :
_ غمازات أبني دي…
ابتسمت رضوى هذه المرة بصدق رغم دموع عينيها ، ثم تابع الجد بلمحة حزن :
_ كأنك أحتفظي بضحكته في ملامحك … كأنه بيضحكلي !
ذهبت ابتسامة رضوى وعادت لسابق عهدها مع الدموع … واقترب من حميدة وتطلع بها مليًا وقال :
_ أنتِ حميدة صح ؟
كانت قد أحبته حميدة ، وتعجب أنها سامحته قبل حتى أن يتحدث ! … ولم تكن تنوي ذلك !
قالت حميدة بابتسامة دافئة :
_ استريح يا جدي ، أنت جاي من سفر .
قال الجد بدمع في عينيه جاهد لكي لا تندفع ، ولكن قد سبق السيف العذل ، وانفرطت حبات متلألأة من عينيه وقال :
_ مش هستريح غير لما تسامحوني .
اندفع الفتيات الاربعة نحوه والتفوا حول جسده كوريقات الزهرة التي تعانق بعضها …. وطفرت دموعهم للحظات … فقالت حميدة بمحبة ومسامحة وهي تجفف دموع عينيه:
_ مسامحينك … ومش عايزين نشوف دموعك تاني .
قال الجد وكأنه استطاع الآن التنفس بعد سنوات من الحزن والضيق :
_ حنية البنات حاجة تانية برضو ، عارفين الأربع حيطان أحفادي … مش بحنيتكم دي … إلا يوسف حبيب جده طبعا … وجاسر وأسر ورعد برضو ..
ابتسم الفتيات لمزاحه …قال العمدة بابتسامة ارتياح :
_ طب يلا بقى يابنات حضرولنا الأكل بسرعة كده … جدكم جاي من سفر …
فر الفتيات متسابقين للخارج والابتسامة على وجوهن … فنظر لهن الجد بسعادة وقال :
_ الحمد لله … كنت خايف من المواجهة دي بقالي سنين وسنين ، بس البركة فيك أنت يا عمدة … الله يكرمك بارب ، أنا عارف أنك ليك تأثير عليهم برضو … وسهلت عليا كتير.
قال العمدة بابتسامة صادقة :
_ دول تربية مصطفى الله يرحمه ووداد أختي ، يعني قلوبهم زي اللبن الحليب …. والكلام في الفايت وجع بايت .. مالوش لزوم.
هز الجد رأسه بالايجاب وبإعجاب من طيبة وحكمة الرجل …ثم قال :
_ هي فين أختك وداد ؟ … عايز اعتذرلها بنفسي ، واسمع منها إنها مسامحاني …
نقرت وداد غلى باب الغرفة فاستدار الرجلان لها ، قالت مبتسمة ويبدو عليها أنها كانت تبكي قبل قليل بعينيها وأنفها المخضبتان بالأحمر …. وقالت وهي تستند على الباب :
_ أنا جيتلك لحد عندك … أنا اللي اقولك حقك عليا ، بسببي اتبنت فرقة بينك وبين أبنك …. بس مصطفى صمم الجوازة تتم .. ومش هخبي عليك … كانت غلاوته في قلبي كبيرة … أخويا فضل رافض ، لحد ما مصطفى جه وعاش في البلد وبعدها

 

اتكتب اكون ليه ….
تقدم لها الجد رشدي ، ثم أخذ رأسها ناحية فمه وقبل رأسها بإعتذار قائلًا :
_ كان عنده حق ، أنا اللي كنت غلطان ، أنتِ بنت أصول وياريتني ما عملت اللي عملته وبعدتكم عني …
بكت وداد تلقائيًا عقب قوله ، فربت على كتفيها شقيقها وقال :
_ أنسي بقى الدموع يا وداد ، اللي كنتي حاملة همه الحمد لله.
وأنتشر في المنزل عبق جميل مألوف من الونس والود ودفء العائلة … كان الفتيات يضعون أطباق شهية على مائدة الطعام أمام الجد ويمزحون معه … وارتفعت الضحكات بينهم …. مع أختفاء الصبي من المشهد !
بعد فترة وقبل أن ينهوا الطعام ، رفض الجد قطعة كبيرة من فخذ بطة سمينة وضعته أمامه حميدة وقالت بمشاكسة :
_ أتغذى يا جدي وسيبك من أكل المطاعم ده ، طب كل الحته دي عشان خاطري …
ابتلع الجد ما في فمه بصعوبة وقال بضحكة :
_ وجيه لو يعرف أني كلت بط مش عارف ممكن يعمل إيه ! ، اللحوم ممنوعة عني اصلًا ، بس بصراحة كسرت القاعدة معاكم خصوصا بقى أن نفسكم في الأكل يجنن …. فكرتيني بيوسف ، بيعشق الأكل زي عينيه …. هيفرح أوي لو كان مكاني .
ابتسكت حميدة بحياء وظهر ذلك بوضوح ، ضيق الجد عينيه بمكر وابتسامة ماكرة وقال :
_ يا مسهل الحال يارب …. دي متيسرة على الآخر ..!
وكزت جميلة ذراع حميدة وهمست لها :
_ لمي كسوفك هتفضحينا ! … جدك شكله لئيم يابت !
يبدو أن الجد انتبه لها وغمز لها بضحكة ، فاتسعت عين جميلة بدهشة …وارتفعت ضحكة الجد أكثر .
******
وقفت سيارة وجيه أمام مبنى المشفى الضخم ، وبالكاد ارتضت الصغيرة أن تجلس على قدمي أمها لفترة الطريق فقط … والغريب أن حالة الهلع والرعشة الشديدة لن تقل ولم تتبدل !
جاهد وجيه أن يخبرها بحقيقة وفاة والدها ، ولكنها كلما تقدم خطوة تراجع كثير …. حالتها لا تحتمل أي حزني أضافي أو ضغط عصبي ولو بسيط … ماذا يفعل ؟!
حتى الطبيبة النفسية” مروة ” عجزت عن وضع حل لتلك الضائقة ، وها هو طوال الطريق يكافح ليتحدث … ولم يستطع !
فتحت ليلى باب السيارة بجانبها ثم خرجت منها بعد لحظات …. هتفت الصغيرة عليه كي يحملها ودق بصوتها البكاء …فرأف بحالها وترجل من السيارة ، ثم أخذها من أمها وحملها بين ذراعيه بيسر…
تألمت ليلى من نفور أبنتها وقالت بعينين ذابلتان وجفن مرتخي من كثرة البكاء والسهر :
_ هي هتفضل خايفة مني كده ؟! … أنا بموت لما بشوفها خايفة تقربلي بالشكل ده !.
طمأنها وجيه وقال وهو يربت على ظهر الصغيرة برفق:
_ كل حاجة بتاخد وقتها وتعدي يا ليلى ، أطمني … أوعدك أنها هتبقى أحسن من الأول كمان ..
كأن قلبها ترطب بعد جفاف طويل … تنهدت ببعض الراحة وقالت برجاء :
_ يارب…
تحركت خطوة لتبدأ الدخول للمشفى ظنا منها أنها ستطمئن على والدها … فأوقفها وجيه قائلًا بعد معركة شرسة مع نفسه

 

ليتحدث :
_ ليلى …. والدك توفى.
لحظة جمود كالثلج مرت عليها ، ثم تلاها شيء كألم الجرح الغائر العميق وتبللت عينيها من الدموع على هيئة صدمة …. حتى أن صوتها انعقد بحالة كالخرس ! ..
استدارت وهي تبرق عينيها بعنف، ثم قالت بصوت متهدج ضعيف :
_ أبويا ؟! … أبويا مات ؟!…
هزت رأسها برفض ثم صرخت بصوتٍ عالي شديد وساءت حالة الصغيرة أكثر وهي تبكي بهلع بين ذراعيه..
دخلت ليلى في نوبة من الأنهيار العصبي والصراخ التي تأبى فيها أي محاولة من الآخرين كي تهدأ ….
وضع وجيه الصغيرة بالسيارة مرةً أخرى، ثم أسرع إلى ليلى التي تصرخ باكية وتنتحب وكأن العالم غادرها برحيل أبيها …
فقال بخوف ضعف بعض من ثباته :
_ أهدي يا ليلى ارجوكِ … أنا آسف ، بس كان لازم تعرفي.
كانت ليلى ساقطة على الأرض تبكي وتصرخ كأنها لا تقوى على النهوض ، وكثير من المارة وحرس المشفى يلتفون حولها بمحاولة في مساعدتها … وعندما يأس وجيه من حالة الصراح التي المت بها واعقلها حالة من البكاء الشديد الذي لم يرها هكذا منذ رآها ….حملها بين ذراعيه كي يسعفها بالدخول للمشفى ونجدتها قبل أن يحدث لها شيء ..
******
في أحدى الفلل ذات المساحة والفخامة الشبيه بالقصور … نفث ممدوح سراج الدخان من أنفه بشرود وهو جالس خلف مكتبه بثبات تام … حتى قال أبنه زايد بغيظ :
_ بقى أحنا نقف قدام حتت بت زي دي ونترجاها ؟!
قال ممدوح بنظرة عصبية لأبنه المتهور دائمًا :
_ ماتنساش الانتخابات يا ذكي ! ، أنا أعدائي كتير … وأخوك فادي بغباوته ممكن يضيع مني حاجة زي دي مستنيها بقالي سنين … وفي صحفيين ما هتصدق وهتحط الف حكاية على الحكاية !
غضب زايد أكتر وصاح :
_ احنا مش محتاجين مناصب عشان تزودنا في حاجة ! ، ليه انزل من نفسي عشان واحدة تافهة ما اقبلش حتى اشغلها في أقل مكان عندي في الشركة ؟! … قولتلك سيبلي الموضوع ده وهعرف أخلصه زي ما انت عايز واحسن !
نهض والده من مكانه وقال مشيرًا لأبنه بيده التي بها السيجارة المشتعلة :
_ عيبك أنك على طول الخط بتستخدم غرورك ! ، مش في كل الأوقات الشدة مطلوبة ياغبي ! ، في وقت لازم تعرف أن الهدوء بيجيب نتيجة أفضل … أحنا دلوقتي علينا الف عين مستنية غلطة عشان توقعنا …. تقدر تقولي استفدت إيه لما اتحديتها واهانتها ؟! ….
ولا شيء ! … خليتها تعند أكتر وتبجح فيك ! ، أنما لو استخدمت طريقتي هتعمل اللي أنت عايزه …وبهـــــدوء.
غضب زايد من نعت والده له بالغبي ، فوقف أمامه متحديًا بعجرفة وغرور وقال:
_ حتى طريقتك مش مضمونة ، كلامها كان تهديد صريح ، بس أنا بقى هعرف أخليها تتنازل وهي راضية كمان … وهخليك تشوفك بنفسك ….
خرج زايد من المكتب بخطوات سريعة ، ويبدو من اتجاه خطواته أنه خرج من الفيلا بأكملها ..
وضع ممدوح السيجارة بفمه مرةً أخرى ونظر له بمكر ….

 

******
أمام باب غرفة ليلى التي انتقلت لها عقب ما حدث ….. تنفس وجيه بعصبية وقال لجد ليلى الذي ظل بالمشفى :
_ كان لازم أعرف اللي حصل قبل ما اقولها ، سوء الفهم ده اتسبب في كارثة بالنسبالها …. بس لازم تعرف وحالًا أن ابوها لسه عايش…
قال جدها صادق بأسف :
_ اتصلت بيك كتير بس مرديتش عليا ، حاولت اوصلك لكن محدش يعرف مكانك …حتى الاستقبال هنا اتصلوا بالبيت عندك وبرضو محدش قدر يوصلك ….
دخل وجيه غرفة ليلى التي غفت بعد حقنها بمهدئ … ونظر لعينيها الباكيتان رغم غفوتها … وهمس :
_ ابوكِ لسه عايش يا ليلى … أنا أسف على اللي حصل ، ياريتني ما قولتلك …
واستقام واقفا بتنهيدة ضائقة ، ويبدو أن كلماته ازعجت تيهتها ، فبدأت تغمغم وتحرك شفتيها بكلمات متقطعة ….
قال الجد صادق :
_ هفضل معاها لحد ما تفوق ، ارجع انت لبيتك يابني ، طمن أهلك عنك ..
التفت وجيه له قائلا بضيق :
_ للأسف مضطر أمشي ، لأني وعدت والدي ارجع النهاردة ، بس طالب منك طلب … اتفضل معايا أنت وريميه ، البنت بتصرخ كل ما بعدت عنها ورافضة تروح لأي حد حتى ليلى نفسها ! … ومقدرش أسيبها في الحالة دي وأمشي .
دخلت ممرضة باستأذان وقالت لوجيه :
_ يا دكتور … البنت مش راضية تسكت خالص وحاولنا معاها ومافيش فايدة وبتنده عليك!
نظر وجيه للجد صادق الذي ملأت الحيرة عينيه …. فقال الجد بموافقة:
_ موافق وأمري لله ..
ابتسم وجيه شاكرا له وقال :
_ اتمنى والدي مايكونش سافر ، لو قابلته هتحب الكلام معاه أوي … اتفضل معايا .
*****
في أثناء المرح المتشارك بين الجد والفتيات دخل الصبي نعناعة ناظرا لهم في غضب … وقال :
_ الدكاترة ركبوا القطر وسافروا ، استنيت مخصوص لما بعدوا كتير عن هنا وجيت ….
شحب وجوه الفتيات من الصدمة ، بينما زم الجد شفتيه بتمتمة وكأنه كان يخاف من هكذا ردة فعل …. فتابع الصبي قائلا :
_ الاساتذة فاكرين أنك هتجوزهم بنات عمتي بالغصب فمشيوا … وأنا قولتلهم مافيش واحد فيهم يحلم بس يخطب واحدة

منم …
انتفضت رضوى من الصدمة قائلة للصبي دون وعي منها :
_ أنت بتقول إيه ؟! … أكيد كداب ولا بتخرف !
نظر لها الصبي وود لو يقول كل ما سمعه ولكن صمت …. فقالت جميلة بذهول وبمحاولة ان تستوعب ما سمعته :
_ ليه ؟! .. هما فاكرينا ايه بالضبط ؟!
قالت حميدة ببكاء ولم تصدق أن يوسف يفعل ذلك :
_ لأ اكيد في حاجة غلط … وهو حد يصدق الواد العبيط ده !
غضب الصبي من قولها فقال ولم يدرك مدى قسوة الاعتراف :
_ آه انا عبيط ، عبيط عشان دافعت عنكم لما سمعت كلامهم بدل المرة اتنين ، عبيط لما لقيت الدكتور رعد اللي افتكرته صاحبي بيقول على رضوى أن اقصى طموحاتها تنضف البيت وتعمل الأكل ! … وأظن اللي يثبت كلامي سفرهم ! .
تجمدت سما في مكانها ولم تستطع حتى التفوه بكلمة ، وأصبح مظهر الفتيات أقرب لأن يكونوا بعزاء ! .
نهض الجد على عصاه وقال بأمر وصرامة :
_ حضروا نفسكم عشان هتيجوا معايا مصر ، ودلوقتي … اللي حصل مش هعديه بالساهل ، بس أنا عارف هربيهم أزاي.
غضب نعناعة وهتف قائلا :
_ يعني ايه يسافروا معاك ؟! … أنت عايز بعد اللي حصل ده يقولوا سيبناهم في البلد جهم ورانا مصر ؟! لا مش هيسافروا .
عنّف العمدة ولده قائلا بانفعال :
_ نعناعة … ده جدهم ، وبعدين من امتى بتعلي صوتك على الكبير يا قليل الرباية !
تفهم الجد عصبية الصبي وقال :
_ أنا مقدر عصبيته ، بس مش هيجوا معايا عشان موضوع الجواز ده لا أبدًا …. هيجوا معايا عشان ده حقهم وميراثهم ، هيجوا لبيت أبوهم وبيت العيلة يعيشوا فيه … ومافيش جواز هيحصل غير لما اعلمهم الأدب واخليهم يترجوني أوافق اجوزهم البنات .

 

قال العمدة :
_ القرار ده اللي تحسمه وداد أختي ، لو مش قابلة مش هجبرها ، وهي وبناتها على روسنا كلنا وأولهم أنا .
قال الجد لوداد بنظرة راجية :
_ وافقي يابنتي … صدقيني كرامتهم محفوظة واللي بعمله لمصلحتهم .
نظرت وداد للحزن الواضح على بناتها ثم قالت بعدما ابتلعت ريقها بقوة :
_ اللي تشوفه ، أنت جدهم ويهمك مصلحتهم زيي وأكتر .
صدم الصبي مما قالته عمته ، وقال بدموع :
_ يعني هتمشوا ياعمتي ! ، ده انا خدت عليكوا ، ده أنا مابقتش أضحك ولا أهزر غير لما قعدتوا معانا ! … هتسيبوني وتمشوا ! …
قالت وداد بألم لدموع الصبي :
_ هتلاقينا كل شوية هنا ما تقلقش ، بس ده اللي كان بيتمناه عمك مصطفى الله يرحمه… سيبني اعمل اللي يريحه وضميري يرتاح .
خرج الصبي من المكان باكيًا ، ودخلت كل فتاة في نوبة من الدموع الصامته ، في شرود وتيهة ، في نبذ وشعور بالهجر .. ولم يتفوهن كلمة توضح رفضهن أو موافقتهن للسفر … كأن كل شيء أصبح ضبابي .
*******
بغرفة العناية المركزة …
قبلت فرحة رأس أخيها التائه في غيبوبة وهي تبكي ، فأقترب منها أمجد وقال بعطف :
_ هتخليني أندم أني ساعدتك تدخليله ! … الدكتور كلامه فيه أمل الحمد لله …
كتمت فرحة فمها وشهقاتها من البكاء، ثم قالت وهي تنظر لشقيقها الصغير الذي كان يملأ أي مكان متواجد فيه بالحركة والضج والضجيج … وقالت :
_ مش قادرة أشوفه كده … صعب عليا أوي .
نظر لها امجد لوهلة ولدموعها ورق قلبه فقال :
_ تعالي نطلع ونتكلم برا أفضل عشان ما نزعجهوش ..
خرج وخرجت فرحه خلفه ، واجهشت بالبكاء بعدها … تركها حتى تهدأ قليلًا وقال :
_ كنت ناوي أخليكي تشوفيه بكرة تاني ، بس بالشكل ده قلة الزيارة أحسن .
مسحت فرحة عينيها وقالت برجاء :
_ غصب عني والله ، بس مش بسهولة عليا أشوفه كده .. منهم لله اللي كانوا السبب .
ابتسم أمجد وهو يرفع سمك النظارة الطبية على ارتفاع أنفه وقال :
_ لا بهزر معاكِ ، اكيد هتشوفيه وهتطمني عليه زي ما تحبي ، بس عشان خاطري من غير دموع ، خصوصا أن النهاردة فيه تحسن .. يبقى نقول الحمد لله وربنا يقومه بالسلامة.
ارتبكت فرحة من نبرته الرقيقة معها ، فنهضت دون أن تعرف الخطوة التالية بعد النهوض … وقف أمجد وقال لها بلطف :
_ أنا عرفت أنك ماروحتيش البيت من وقت الحادثة ، وبقالك كتير اكيد ما نمتيش … ارجعي بيتك ارتاحي وبكرة بأذن الله هتيجي تلاقيني هنا … أنا نبطشية النهاردة.
كادت أن تعترض فابتسم أمجد وأصر قائلا :
_ اسمعي كلامي ، لو في أي حاجة هخلي حد من زمايلك يتصل بيكِ ، طالما مافيش زيارة بليل يبقى مافيش داعي وقوفك هنا ! .
وبعد تصميم منه رضخت فرحة لحديثه ، وبقلبها شيء من السعادة لبقائه بجانبها بهذا التوقيت تحديدًا ….
وفي طريقها لمنزلها …. وعندما ابتعدت قليلا عن المشفى لتجد أي سيارة تقلها للمنزل …. وقفت سيارة فاخرة أمامها فجأة … وطل من نافذتها وجه ذلك المتعجرف …. نظر زايد إليها لبعض الوقت بنظرات غموض ، وقابلته بنظرات غاضبة كأنها تود أن تصفعه أو تبصق بوجهه … خرج من السيارة بحركة رشيقة سينمائية … ثم وقف أمامها ووضع أحد يديه في جيوبه بثقة قائلا :
_ اتأخرتي أوي … استنيتك كتير !
ضيقت فرحة عينيها بدهشة من قوله … وهتفت :
_ وتستناني ليه أن شاء الله ؟!
ابتسم زايد بمكر وقال :
_ نتكلم … ونتصالح.. وعلى فكرة ده عرض حصري ما اديتهوش لحد قبلك … زي ما تقولي كده اقتنعت بكلامك… يمكن بس كنت عصبي لما قابلتك الصبح … لكن ده مش معناه أني قصدت اتنرفز عليكِ ..
ربما لو كانت فتاة سطحية ساذجة لكانت تأثرت بوسامته الخاطفة ، أو مكره المغري لبعض الفتيات التافهات … لكنها ليست بهذا الغباء … فقالت بسخرية :
_ وفر حوراتك لنفسك ، وكلامي مع والدك مش معاك.
رد عليها بابتسامة مستفزة :
_ والدي سابلي حل الموضوع زي ما قولتلك ، وحقيقي أنا مش عايز أي مشاكل ، ومعترف أن أخويا غلطان … قوليلي اعملك ايه تاني عشان تصدقي أني فعلا ناوي خير ؟! …. بتعامليني وكأني أنا اللي ضربت أخوكي !! … موقفك هو نفس موقفي بالضبط لو تفكري!
تذكرت فرحة تحذير أمجد بالمشفى ، وأنهم سبحاولون جاهدين أن يكسبوها لصفهم ، ويجب التعامل بحذر قدر المستطاع … فقالت فرحة وتظاهرت بالهدوء كي توهمه بالاقتناع :
_ طيب خلاص يا أستاذ … أظن ردي كان واضح الصبح ،أخويا بس يقوم بالسلامة وبعدها كل مشكلة وليها حل بأذن الله.
أرسل لها زايد أجمل ابتساماته الساحرة وقال :
_ أنا تواصلت مع دكاترة من برا ، لو لزم الأمر هخليهم يجوا مصر مخصوص عشانه ، أو نسافرلهم أحنا …
قال حديثه الأخير ببعض الخبث التي استشعرته فرحة بقلق … فقالت بريبة وتوجس منه :
_ أنا مايهمنيش غير أنه يبقى كويس ، وعموما كلامنا يكون بحضور والدك ، ولو سمحت ما تحاولش تستناني تاني .. لأنك لو عملتها مش هتكلم معاك ولا هرد عليك … بعد أذنك .
تحركت فرحة مبتعدة عنه ، وظل يراقبها في نظرات ساخرة ثم قال :
_ شوية اهتمام ببلاش عمر ما كنتِ تحلمي بيه حتى ! … مش خسران حاجة… خلينا نشوف من المحترف ومين الهاوي !.

 

********
دلف وجيه وهو يحمل الصغيرة للمنزل الكبير ، وبجواره جد ليلى ، فاستقبلتهما السيدة العجوز مدبرة المنزل وقالت لوجيه :
_ رشدي بيه سافر يا دكتور …
توقع وجيه هذا الخبر وقال :
_ طب حضريلنا العشا بسرعة …
قال الجد صداق معتذرًا :
_ أعفيني أنا معلش … أكلت في المستشفى ومش هقدر أكل تاني.
رفض وجيه ولكن صمم الجد على موقفه ، فتراجع وجيه عن وجبة العشاء وتم الغاءها .. ورحلت السيدة العجوز …
وقال وجيه للجد :
_ هسيبك ترتاح دلوقتي ، وبكرة في حاجات كتيرة عايز اتكلم معاك فيها بخصوص ليلى ….
وافق الجد وصعد وجيه معه بنفسه لأحدى الغرف بالطابق الثاني ليقيم فيها الجد صادق ليلته …. ثم قال له قبل أن يغادر الغرفة :
_ هخلي الداد سعدية تهتم بريميه وتبات جنبها … في الأوضة اللي جانبك …
وقابلته السيدة العجوز ووضع على يديها الصغيرة النائمة وقال :
_ ياريت لو في أي هدوم هنا تنفعلها تغيريلها …
قالت السيدة بتردد وحيرة :
_ هو في هدوم مناسبة ليها ، أي نعم قديمة شوية انما تمشي ، بس …. دي هدوم “أنچي”
تذكر وجيه تلك الصغيرة الراحلة منذ سنوات ، شقيقته الصغرى الذي لا يجرأ أحد على ذكرها منذ أن رحلت …. فقال بتنهيدة :
_ طلعي منهم حاجة تنفع ريميه وبعدين أبقي رجعيهم تاني … أنا بكرة أن شاء الله هجيبلها هدوم ..
انصاعت المرأة للأمر وأخذت الصغيرة وغادرت … ثم توجه وجيه لغرفته … فتح باب الغرفة بإرهاق شديد واضح عليه ، وما يرى ذلك الرداء الخاص بالنوم والمغري جدًا الذي ترتديه جيهان … لا يقول أن هذا الغضب والأنفعال يملأها عينيها وتعابير وجهها !
زفر بعصبية وهو يغلف يغلق الباب خلفه ويخلع معطفه …. وتجنبها لأقصى حد كي يتجنب موجة ثقيلة من الجدال والشجار ….. فنهضت جيهان بعصبية ووقفت أمامه عاقدة ذراعيها حولها … وقالت بعصبية :
_ أظن ليك زوجة أولى بأهتمامك ورعايتك دي ! ، ده الأقربون أولى بالمعروف حتى!
حاول أن يسيطر على أعصابه ورغم شدة أرهاقه ولكنه نجح بذلك … فقال بهدوء :
_ اهتمامي بيكِ مش معروف يا جيهان ده واجب ! ، وبعدين ليلى مكنتش في حالة تسمح ليها انها تلاحظ حتى وجودي ! … الله يكون في عونها على اللي هي فيه …. وارجوكِ أنا مصدع وجاي مش شايف قدامي … سبيني أنام الكام ساعة دول لو سمحتي.
اقتربت منه وتبدل غضبها للمكر وقالت بصوتِ يشبه الهمس :
_ أنا طلبت من الدادة تحضرلنا العشا ساعة وصولك …
نظر لها وفهم ما ترمي اليه وقال مبتعدا بنفور من عدم مراعاتها لإرهاقه الشديد الواضح :
_ مش جعان …
فتح وجيه درج الخزانة وأخذ منه ما يلزمه للنوم ، ثم توجه لحمام الغرفة وبيده منشفة …. صرت جيهان على أسنانها بغضب وارتدت بحركة غاضبة روب ردائها وخرجت وهي تتمتم بعصبية :
_ مش قعدالك هنا اصلا ..
وقفت عند باب الغرفة وطرأ على فكرها شيء ، فعادت ودقت على باب الحمام قائلة :
_ أنا هنام في أوضة تانية …. ها ؟
انتظرت اجابته بابتسامة ماكرة … حتى أتاها صوته الهادئ :
_ طالما ده يريحك … فراحتك عندي أهم ياروحي…
بعد دقيقة سمع وجيه باب الغرفة يغلق بصوتِ مزعج …. وخرج من الحمام بعد دقائق وشعره يتساقط منه الماء …فابتسم قائلا :
_ يارب ادمها نعمة واحفظها من الزوال ….

يتبع…

اترك رد

error: Content is protected !!