روايات

رواية براثن اليزيد الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم ندا حسن

رواية براثن اليزيد الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم ندا حسن

رواية براثن اليزيد البارت الثالث والثلاثون

رواية براثن اليزيد الجزء الثالث والثلاثون

براثن اليزيد
براثن اليزيد

رواية براثن اليزيد الحلقة الثالثة والثلاثون

“دقيت باب بيت السعادة، فُتح دون مفتاح،
نظرت إلى حوائطه وجدتها ملونة بألوان
زاهية تجذبني إليها قائلة: أهلًا بكِ في
بيت السعادة والعوض”
“بعد مرور ثمان سنوات”
فُتح لهم باب المنزل وتقدم الجميع إلى الداخل بهدوء ما عدا شخصٍ واحد، ركض “إياد” إلى داخل منزل جدته “نجية” بعد أن فتحت زوجة عمه الثانية الباب، خرجت “نجية” من المطبخ حيث أنها كانت تشرف على كل ما يحدث بداخله ليُقدم أفضل شيء للزائرين في بيتهم..
أسرعت في سيرها بعد أن وجدته يتقدم منها ركضًا ليأخذها في أحضانه، انحنت على الأرضية تتكئ على قدميها ثم فتحت ذراعيها له وقد فعل كما تريد، ألقى نفسه داخل أحضانها يربت على ظهرها بحنان بيده الصغيرة، عانقته بشدة وهي تبتسم بسعادة غامرة، فقد كان ذلك الطفل هو أول من أخذ قلبها، هو أول قطعة صغيرة تلين الحجر بداخلها ولو أنجب أولادها الثلاثة كل يوم لن تحب أحد مثله..
عاد إلى الخلف وهو ينظر إليها مبتسمًا بسعادة كبيرة لأنه أتى إلى هنا من جديد وتحدث قائلًا بحبٍ كبير يكنه إلى جدته الغالية على قلبه:
-وحشتيني أوي أوي يا تيته
أخذت وجهه بين كفيها وهي تنظر إلى ملامحه الجميلة، شعره الأسود مثل والده، عينيه الساحرة مثل والدته وأنفها أيضًا، شفتيه كما والده وروحه وجماله النقي، نظرت إليه بحب لا مثيل له يتبادلونه سويًا وهتفت قائلة بابتسامة عريضة:
-وأنتَ كمان وحشتني قوي قوي يا قلب تيته
وقفت على قدميها ثم ذهبت إلى البقية والذين وقفوا جميعًا ينظرون إلى ذلك المشهد بحبٍ كبير، تقدمت من ولدها “يزيد” ومالك أكبر قطعة بقلبها بعد ولده الصغير، عانقته بشدة وقد بادلها العناق بعد أن قبل يدها ورأسها، أبتعدت عنه لتتساءل بهدوء:
-عامل ايه يا ضنايا
ربت على يدها مُجيبًا إياها بجدية:
-بخير طول ما أنتِ بخير
ذهبت إلى زوجته التي تقف جواره، نظرت إليها مبتسمة بسعادة لقد أثبتت على مدار تلك السنوات الماضية أنها تحمل طيبة قلب لا يوجد لها مثيل، فتاة بريئة ونقية كما لقبها ولدها، إلى الآن لم تمنعها من رؤية أحفادها ودائمًا كان منزلها مفتوح لهم جميعًا، أخطأت بحقها كثيرًا ولكن منذ ولادة “إياد” و هي تحاول أن تمحي كل ما حدث في الماضي..
سلمت عليها وعانقتها هي الأخرى سائلة عن أحوالها ثم نظرت إلى ابنة ولدها الأخرى “ورد” التي كانت تقف أمام والدتها، صاحبة الأربع أعوام، خصلاتها ذهبية كما والدتها والأعين البنية كما عمتها “يسرى” والأنف الصغير والشفاه الصغيرة كما والدتها، انخفضت إلى مستواها ووضعت وجهها بين كفيها تنظر إليها بحب وحنان ثم أخذت تقبلها بشوق وحنين قائلة:
-تيته موحشتكيش يا ورد ولا ايه
تحركت الصغيرة ثم عانقتها بهدوء وهي تقول ببراءة لا مثيل لها:
-لأ وحشتيني أوي
ذهبت لتسلم على ابنتها “يسرى” وزوجها “سامر”، في جميع الزيارات كانوا يأتون سويًا هم الأربعة وأطفالهم، عانقتها بحرارة وهي مشتاقة إليها بشدة، قد علمت أيضًا أنها فعلت الكثير بحق “يسرى” ابنتها ولأنها كانت الوحيدة التي تقف بصف زوجة ابنها، يا ليتها استمعت إليها منذ البداية..
أخذت طفلها الصغير صاحب الأربع أعوام هو الآخر وعانقته بشدة، لقد كان نسخة مصغرة من والدته، يشبهها في كل شيء..
تقدمت “مروة” و “يسرى” إلى “هند” زوجة فاروق الثانية، ولقد كانت طيبة القلب، حنونة كثيرًا وتحب “نجية” و “فاروق” ، تستقبلهم دائمًا بالترحاب الشديد ولكن مع إصرار “إيمان” بأنها تكون تلك الشرير في رواية أحدهم كانت تخرج عليها كل طقوس الجنون، لم تترك لها “هند” الفرصة هي طيبة وحنونة ولكن ليس مع الجميع تعرف كيف تُجيب على “إيمان” وبالطريقة الصحيحة..
سلمت عليهم بحرارة ورحبت بهم كثيرًا، ألقى عليها كل من “سامر” و “يزيد” التحية ثم دلفوا إلى غرفة الصالون مع والدته والأطفال..
تقدمت “مروة” ذاهبة إلى “إيمان” لتلقي عليها السلام فهي تعلم أن “يزيد” لا يتحدث معها ولا يريد أن يرى وجهها من الأساس لذلك لا تود أن يكون هذا هو اللقاء بينهم دائمًا..
ابتسمت بوجهها بجدية وأردفت قائلة دون أن ترفع يدها إليها:
-ازيك يا إيمان
ابتسمت إليها بسخرية وتهكم واضح ثم تحدثت قائلة وهي تُجيب على سؤالها:
-أحسن منك يا حبيبتي
ابتسمت “مروة” هي الأخرى بسخرية شديدة، هذه المرأة مؤكد أنها مختلة، في جميع الحالات هي المخطئة وتذهب لتتحدث معها في كل المرات التي أتت فيهم إلى هنا وإلى الآن تتعامل معها بوقاحة هكذا؟.. غير أنها تفعل أشياء عن عمد غريبة ربما حتى تجعلها لا تأتي إلى هنا مرة أخرى..
أكملت إيمان بسخرية ناظرة إلى “يسرى”:
-ازيك يا أم هشام عاملة ايه مع أخويا
ابتسمت إليها “يسرى” مبادلة إياها نفس السخرية قائلة وهي تتقدم لتقف جوار “مروة”:
-الحمدلله يا حبيبتي أخوكي مهنيني
أتى من الداخل “إياد” سريعًا يتجه ناحية زوجة عمه الثانية “هند” ليسألها قائلًا بلهفة:
-اومال فين يزيد يا طنط أنا عايز أسلم عليه وألعب معاه
ابتسمت مُجيبة إياه بحب وهدوء وهي تشير إلى الخارج:
-يزيد كان بيلعب بره في الجنينة، تصدق أنه من امبارح لما عرف أنك جاي وهو مالوش سيرة غيرك
أجابها بجدية وهو يبتسم قائلًا مُشيرًا ناحية والدته:
-وأنا كمان كنت مبسوط أوي ومش مصدق أننا جاين من ساعة ما ماما أفرجت عننا وقالت هننزل البلد
نظرت إليه والدته بدهشة بينما ضحكت على كلماته “هند” و “يسرى” تحدثت والدته باستغراب قائلة وهي تشير إلى نفسها:
-أنا عامله فيكم كده بالذمة
أجابها بتأكيد وهو يحرك رأسه قائلًا بجدية شديدة أكتسبها من والده:
-آه، ممكن أخرج أشوف يزيد؟
-ممكن بس تجيبه وتيجوا هنا علشان تكون قصادي
أومأ إليها بهدوء ثم ذهب إلى الخارج، تقدمت هي وشقيقة زوجها إلى غرفة الصالون في الداخل ومن خلفهم “هند” زوجة “فاروق” أما “إيمان” نظرت إليهم بحقد وكره وكأن هم الذين قاموا بكل ما فعلته هي، ترى نفسها المجني عليه وكانت هي الجاني..
لم يشأ “فاروق” يتركها وحدها خصوصًا بعد موت والدتها، وشقيقها قد تزوج من شقيقته وذهب ليعيش في مصر قرب “يزيد” ولم يبقى لها أحد سوى هو، تفعل أشياء يشيب لها الرأس ولكن تُعاقب عليها بمقدار الخطأ، لم تعد كما السابق معه هي فقط تزعجه وتزعج زوجته..
لم تتوقع بأن يحدث لها ذلك في يوم من الأيام لذا كانت الصدمة عليها شديدة وتحاول أن تفعل كل ما بوسعها لتجعل حياتهم ليست مستقرة مثلها..
إلى الآن لم تستطيع أن تفعل لـ “مروة” شيء فهي تأتي هي وأطفالها إلى هنا كل شهر يومان فقط وتذهب، وأيضًا هي لا تريد أن تؤذي أحد بل تريد أن ترهبهم وتفعل ما يحلو لها وكأنها تعود بحقها الذي سلبته عنوة من الأساس..
دلف “فاروق” من الخارج وتقدم إليهم في غرفة الصالون ليعلم بوجودهم من ابنه الصغير “يزيد” صاحب السبع أعوام وابن شقيقة “إياد”..
سلم على شقيقه معانقًا إياه بحرارة يشعره بمدى شوقه إليه، وسلم على شقيقته وزوجها وإلى الآن لا يستطيع أن يمد يده إلى زوجة أخيه ويلمسها، إلى الآن يسألها فقط عن حالها بكامل البعد، يعلم أن الأمور الذي حدثت قد مضى عليها الكثير من السنوات ولكنه كلما رآها تذكر كل شيء وكأنه يحدث الآن..
جلس الجميع دقائق أخرى ثم صعدوا لينالوا بعض الراحة في غرفهم، لقد كان الطريق طويل واشعرهم بـ الإرهاق الشديد..
_______________________
“في المساء”
“أن تشعر بالحب تجاه شخص ويكن من نصيبك بفضل الله، تكمل معه معزوفة حب خاصة بكم هذا من أسمى أنواع السعادة”
تركها تمسك بلجام جواده “ليل” الذي افتقده كثيرًا منذ أن رحل عن هنا، لقد كان صديقه الأقرب مثل “سامر” وهناك علاقة جميلة تجمعهم سويًا، تركه منذ ذلك اليوم لأنه لم يعد يسكن هنا ومع ذلك أوصى شقيقه عليه حتى يهتم به ويرعاه، ولكن كان مختلف كما كل المرات التي رآه بها ربما هو يشعر بمرارة الفراق كما فعل “يزيد” سابقًا..
أصبح لديه شريك في الإسطبل أيضًا وهناك ابن له، فرح “يزيد” عندما علم ذلك الخبر، ولا يستطيع أن ينسى مدى فرحة ابنه “إياد” بالصغير..
لف يده حول خصر زوجته التي كانت تجلس أمامه على ظهر “ليل” تمسك باللجام بيدها بينما يسير الجواد بهدوء في الأراضي كما تلك الليالي البعيدة..
تحدث قائلًا وهو يوزع نظره على الأراضي ويستنشق رائحتها بشغف، وقد لعب الاشتياق دوره معه، اشتياقه لبلدته وأهله:
-المكان هنا زي ماهو مفيش حاجه اتغيرت
نظرت حولها مثله وهي تعلم ما الذي يجول بخاطره وحتى تبعد ذلك عنه ابتسمت بسخرية وتحدثت بخبث وعبث قائلة:
-لأ فيه حاجه اتغيرت
سألها باستغراب وجدية وهي ينظر إليها بعد أن وضع ذقنه على كتفها:
-ايه هي
أردفت بعبث وخبث تحمله كلماتها له داخل طياتها:
-بقى عندك تسعة وتلاتين سنة
عاد إلى الخلف وهو يعلم ما الذي تريد قوله هذه البغيضة وإذا تمادت معه سيخبرها هنا أنه مازال في سن شبابه:
-قصدك ايه بقى يا مدام مروة؟..
أجابته بهدوء وجدية مصتنعة ولكنها لم تخلوا من المكر الذي اكتسبته منه كما أشياء أخرى كثيرة:
-مفيش يا حبيبي أنا أقصد يعني أن التغير في السنين، بتعدي بسرعة أنتَ مثلًا بقى عندك تسعة وتلاتين سنة وأنا عندي تلاتة وتلاتين سنة، أنتَ متخيل
استدارت تنظر إليه بعد أن سألته لتحصل من على إجابة قالها بخبث وعبث:
-لأ هو اللي قدامي ده بتاع خمسة وعشرين سنة كده وحش زي ما هو
ضحكت بصوتِ عالٍ واستدارت تنظر أمامها ثم أكملت حديثها قائلة بجدية:
-لأ بجد حاسه أن السنين جريت كده مش متخيلة أن إياد عنده تمن سنين تصدق أنه أصلًا بيتكلم بعقل راجل كبير ولا ورد أم أربع سنين المفعوصة دي..
تنهد بعمق وأغمض عينيه لثانية ثم فتحهما وأردف قائلًا مُجيبًا على حديثها:
-ماهي السنين كده يا مروة… لازم تجري بينا
صمت لبرهة ثم تساءل باستغراب وجدية:
-صحيح هي ورد فين؟
هتفت مُجيبة إياه بهدوء وابتسامة:
-ورد بتلعب مع هشام ويسرى معاهم وإياد عن مامتك وهيبات معاها… إياد ومامتك الرابط اللي بينهم قوي جدًا تحس كده أنه كل حياتها وهو بيحبها أوي يمكن هو بيجي هنا علشانها هي بس
-بيحبها جدًا فعلًا، وحنين زيك يا مروتي وقلبه رهيف مش بيحب يزعل حد
نظرت إليه باستغراب يتحدث وكأنه لا يعرف ابنه، أنه لم يكن مثلها في يوم ربما طيب القلب ولكن كل شيء به مثل والده:
-هو آه حنين وطيب لكن هو مش زيي خالص، إياد تصرفاته كلها زيك بيحاول يقلدك في كل حاجه حتى الكلام بحسه راجل صغير في نفسه أوي
ابتسم وهو يعلم ذلك جيدًا، ابنه يفعل كل شيء مثله تمامًا حتى في حديثه يحاول أن يكون رجلًا يظهر ذلك، أردف بجدية:
-زي الواد عمر ابن تامر الكلب.. الواد ده عامل نفسه راجل هو كمان وهو عيل بيلبس بامبرز
ضحكت بصوتِ عالٍ بعد أن استمعت كلماته، حقًا هو مثله تمامًا، لقد اشتاقت لهم كثيرًا، منذ أن سافر “تامر” إلى دبي للعمل هناك منذ سنة تقريبًا لم يروا بعضهم إلا عبر شبكات التواصل، اشتاقت إلى شقيقتها وطفلها كثيرًا..
-تصدق وحشوني أوي.. بس هانت أهو إجازاتهم كمان شهرين
أردف بخفوت وهو يقترب منها قائلًا:
-يرجعوا بالسلامة
-يارب
تحدثت بجدية مرة أخرى وهي تعود إلى طريق المنزل لتستطيع أن تنعم بطعم الراحة قليلًا:
-نرجع بقى علشان أرتاح شويه أنا هموت وأنام
أومأ برأسه إليها فهو الآخر مثلها تمامًا يود أن ينام ولا يستيقظ إلا غدًا عند الظهيرة:
-أيوه يلا أنا كمان عايز أرتاح شويه
_______________________
“صباح اليوم التالي”
الجميع يجلس على طاولة الطعام، “فاروق” يترأس الطاولة وعلى جانبيه زوجاته الاثنين وابنه، والدته وجوارها “إياد” وعلى قدميها “ورد” وفي الجهة الأخرى يجلس “يزيد” وزوجته ومعها “يسرى” تحمل طفلها وجوارها زوجها “سامر”..
منذ الأمس والجميع بخير، وأكثر من كان يشعر بالسعادة هي والدتهم، شعورها بالسعادة يكون مضاعف عن الجميع عندما ترى أولادها جميعًا ومعهم أولادهم وبالأخص “يزيد”، لأنها كانت تشعر بالتقصير معه ولأنها شعرت أيضًا أنها هي وولدها الأكبر من جعلوه يعيش التعاسة في بُعد زوجته عنه..
يتناولون المواضيع وهم يأكلون بهدوء والأمور بينهم بخير، “هند” منذ أن علمت ما الذي فعلته “إيمان” بالجميع وهي تحاول أن تكون الأفضل في كل شيء وقد فعلتها سريعًا دون مجهود لأن الجميع كان قد اكتفى من أفعال “إيمان” حتى شقيقها ولكنه مع ذلك لا يستطيع التخلي عنها..
بينما هي كانت تشعر بالقهر بسبب وجودها بينهم مهددة دائمًا، كلما فعلت شيء هددها “فاروق” برميها خارج البيت لتكون وحدها تعذب روحها وتنتقم منها، أحيانًا تشعر أنها السبب بكل ما حدث بسبب كرهها لـ “مروة” وارادتها في أن تكون كل شيء بهذا المنزل ويأتي بخلدها أن الله عاقبها بعدم إنجابها إلى الآن دون وجود سبب ثم تعود مرة أخرى إلى شيطان عقلها وتفعل المزيد والمزيد من المواقف مع الجميع لتجعل حياتهم لا تمر عليهم بسلام ولتأخذ حقها من الجميع وأولهم “فاروق” الذي تزوج عليها بلمح البصر وأتى بتلك البغيضة لتكون معها في منزلها وتشاركها كل شيء بل وتأخذ مكانها عند الجميع وأكثر..
تحدث “فاروق” بعد أن ابتلع الطعام وهو ينظر إلى “يزيد” مقترحًا عليه:
-ما تخليكم هنا الأسبوع ده معانا
أنزل “يزيد” كوب الماء من على فمه ثم أجابه بجدية وهو كان يود ذلك وبشدة:
-للأسف مش هينفع، افتتاح المعرض الجديد بتاع مروة يوم الحد
أردفت والدته قائلة بحزن وهي تطعم ابنته الصغرى:
-يعني زي كل مرة تيجوا الخميس وتمشوا السبت
هتفت “مروة” بهدوء وابتسامة رسمتها على محياها بحب:
-إن شاء الله في الإجازة هنيجي نقعد معاكم شهر
وقف “إياد” على قدميه سريعًا يهتف بذهول وهو لا يصدق ما الذي هتفت به والدته:
-بجد؟
ابتسمت باتساع هي ووالده عندما رأته ذُهل بهذه الطريقة والسعادة تبدو على ملامحه، أومأت إليه بجدية فرفع يده للأعلى وهو يصيح قائلًا:
-يحي العدل.. طول الشهر ده هبات مع تيته وهقعد عند ليل براحتي من غير اعتراض
نظر إليه والده مبتسمًا ثم هتف بجدية وهو يشير إلى الطعام:
-طيب ممكن نهدى دلوقتي لأننا بناكل
جلس مرة أخرى بعدما أعتذر عن تصرفه الغير صحيح على طاولة الطعام، أقتربت منه جدته وقبلت أعلى رأسه وهي تبتسم بسعادة وترى مدى فرحة حفيدها بالمكوث معها، لقد أحبته أكثر من أي شيء وبادلها هو ذلك الحب دون مجهود يذكر وكأن القلوب علقت ببعضها ليكونوا هكذا..
أخذت كوب العصير الذي أمامها على الطاولة ورفعته إلى فم حفيدتها الصغيرة “ورد” ارتشفت منه القليل ثم وضعته مرة أخرى وأكمل الجميع تناوله للطعام، بينما نظرت “إيمان” إليها وقد لاحت ابتسامة ماكرة على محياها الآن، أكملت طعامها بهدوء مثل الجميع وهي تنظر من الحين إلى الآخر إلى والدة زوجها وابنه شقيقه..
نظرت إلى شقيقها وزوجته الذي كلما نظرت إليهم تراهم يبتسمون لبعضهم البعض، رأت أن حياتهم سعيدة للغاية في وجودهم مع بعض وابتعادهم عن هنا، لقد أخذت “مروة” شقيقة زوجها إليها ومن ثم أخذت “يسرى” شقيقها هي لتبعده عنها، لقد كان في مخيلتها أنها ستأتي إليه بعروس تليق به كما كانت تريد وتجعلهم لا يخرجون من هذه البلدة أبدًا..
مرة أخرى نظرت إلى والدة زوجها، ابتسمت بمكر وخبث ثم أخفت تلك الابتسامة وهتفت قائلة بلهفة:
-ايه ده أنتِ شربتي ورد العصير ده أنا حطيت فيه دوا الضغط بتاعك علشان تاخديه
صرخت “مروة” تاركه الملعقة من يدها وهي تتوجه إلى ابنتها بلهفة وخوف أوقع قلبها من مكانه:
-ايه؟..
أجابتها والدة زوجها بخوف هي الأخرى وهي تصرخ يفزع وخوف وقد ارتاب الجميع من حديثها:
-وأنتِ من امتى بتحطي الدوا في العصير أنا باخده بعد الطفح
أخذت “مروة” ابنتها تحتضن إياها وهي تنظر إليها بخوف ولا تدري ما الذي تفعله، نظرت إلى زوجها الواقف جوارها يتفقد ابنته بقلق أعمى عينيه، تحدثت إليه بتخبط وكلمات غير مترابطة:
-يزيد.. دوا ايه، هنعمل ايه، أنا… أنا مش عارفه، ورد
تقدمت “يسرى” سريعًا من “إيمان” تسألها بخوفٍ كبير وقد كانت نبرتها حادة للغاية:
-اسمه ايه الدوا ده
جلست على مقعدها كما كانت واجابتها بلامبالاة حقيقية:
-معرفش
أردف “سامر” سريعًا وهو يتوجه إلى “يزيد” جاعله يحمل الطفلة عن والدتها:
-يزيد محتاجه يتعملها غسيل معدة بسرعة، يلا بينا نروح مستشفى
ذهب خلف “سامر” سريعًا وهو يحمل طفلته وقد كان القلق ينهش قلبه من الداخل وبهذا الموقف لم يستطيع التفكير ووقف مكتف الأيدي، وكأن عقله وقف عن العمل وقلبه وقف عن النبض من أفكار دارت برأسه، ذهبت “مروة” خلفه لتذهب معهم ونظرت إلى “يسرى” قائلة والدموع تنهمر من عينيها:
-خلي بالك من إياد يا يسرى
أومأت إليها وذهب “فاروق” هو الآخر خلفهم ليكون معهم وقبل أن يخرجوا من باب المنزل استمعوا إلى صوت “إيمان” تهتف بسرعة ونبرة تحمل التشفي والسخرية:
-رايحين فين يا جماعة أنا بهزر معاكم، ايه مبتهزروش؟.
استمعت “مروة” إلى هذه الكلمات منها ولم تدري بنفسها إلا وهي تجلس في مكانها على الأرضية أمام باب المنزل، وضعت يدها على قلبها الذي كان يخفق بسرعة البرق وقد تفاعلت عينيها مع هذه الفزعة وأخذت تبكي وتنتحب أمام أعين الجميع..
لم يستوعب “يزيد” ما الذي حدث، أحقًا كانت تمزح أم أنها تقول هذا الحديث لتجعلهم يهملون ابنتهم إلى أن…، أغمض عينيه محتضن ابنته وهو يستمع إلى “سامر” الذي هتف بعصبية وهو يتقدم من شقيقته:
-أنتِ بتقولي ايه؟
ابتسمت بسخرية متحدثة وهي تعتدل لتنظر إلى الجميع ببرود:
-ورحمة أمي بهزر معرفش أنكم هتصدقوا بسرعة كده
تقدم “يزيد” من “مروة” بعدما لفت ابنه انتباهه إليها، نظر إليها ليرى “إياد” يحتضنها ويربت على ظهرها وخصلاتها وهو يراها تبكي هكذا، تقدم منها ثم جلس على الأرضية جوارها ليضع طفلته في أحضانها وحاوطهم بذراعيه قائلًا في أذنها بخفوت:
-عدت.. عدت يا مروة اهدي
الجميع لم يستطيعوا الحديث أمام ما حدث، فقط ينظرون إلى قلب والدة خفق خوفًا على ابنتها، ويقدرون حالتها تلك، جلست “نجية” على مقعدها تضع يدها على قلبها الذي خفق بسرعة كما الجميع وجلست “هند” تحتضن طفلها “يزيد” خوفًا من بطش هذه الأفعى..
أما “فاروق” قد حضرت شياطينه وهو ينظر إليها ليراها مبتسمة بسخرية وهي تشاهد خوف الجميع، تقدم منها ليجلبها ويجعلها تقف على قدميها مبعدها عن مقعدها أمام الطاولة ثم بعد ذلك قام بصفعها وكأنه لم يفعلها بحياته، خرجت الدماء من شفتيها وهي تنظر إليه بصدمة ولم تتوقع ردة الفعل هذه وكأن ما فعلته هين ولكنه أكمل بالصدمة الحقيقة:
-من النهاردة مالكيش قعاد في البيت ده، هوديكي البيت اللي في أول البلد تقعدي فيه لوحدك وتطلعي غلك وكرهك للناس في نفسك
رفعت “مروة” رأسها عن صدر زوجها وتحدثت بخفوت بعد أن أزالت تلك الدموع الخارجة من عينيها بكثرة لأنها لا تود أن تخرج أحد من بيته:
-لأ إحنا اللي هنمشي
وقفت “نجية” على قدميها سريعًا تتقدم من “مروة” جلست جوارهم على الأرضية وتحدثت بقلق شديد وهي تحاول إقناعهم بالبقاء:
-لا.. انتوا لا هي اللي هتمشي، هيقعدها في بيت لوحدها إحنا كل يوم في مشاكل من غيركم يابتي.. خليكم، خليكم يا يزيد
لم تلقى ردًا منهم على حديثها فنظرت إلى “سامر” والذي قد سكب عليه دلو من الماء البارد، قالت بلهفة:
-سامر.. خليكم يا سامر علشان خاطري
لم تلقى منه ردًا هو الأخر فقد كان يشعر بالخجل من الجميع أمام ما تفعله شقيقته، ولكن لحسن حظه أن الجميع متفهم ما الذي يحدث وأنه ليس بيده شيء يفعله معها..
أشارت “مروة” إلى زوجها لكي يساعدها في الوقوف على قدميها فبعد ما حدث لن تستطيع أن تحملها قدميها حقًا، وقفت “مروة” ومعها زوجها ووالدته، أشارت إلى ابنها قائلة بجدية لا تتحمل النقاش:
-يلا علشان تلم حاجاتك معايا
لم يكن يريد الذهاب، لم يجلس مع ابن عمه على راحته، ولم يأخذ راحته في جلوسه مع جدته الذي يأتي لرؤيتها هي أول شخص، لقد كان يود الجلوس أكثر من ذلك، تحدثت بخفوت إلى والدته:
-ماما ورد بخير خلينا نمشي بكره
نظرت إليه بحدة وعصبية وقد كانت تود أن تُجيبه بكلمات لا يتحدث من بعدها ولكن عندما رأى “يزيد” حالتها تحدث هو قائلًا إليه بحزم:
-إياد أطلع أعمل اللي مامتك قالت عليه
ذهب من أمامهم دون أن يتحدث مرة أخرى وذهبت شقيقته الصغرى خلفه بعد أن أشار لها والدها ثم أسند زوجته ليصعد معها إلى الأعلى ليجمعوا أغراضهم ويعودا إلى منزلهم..
نظر “يزيد” إلى “سامر” وأردف قائلًا بجدية شديدة:
-لو هتمشي أنتَ ومراتك حضروا نفسكم يلا
أومأ إليه ثم أخذ زوجته وابنه وصعد خلفهم للأعلى حيث غرفتهم وقد كان يود أن تنشق الأرض إلى نصفين وتبتلعه من أفعال شقيقته الغبية..
ذهبت “نجية” إلى “إيمان” وقفت أمامها ثم تحدثت بحدة وعصبية شديدة وهي تشير إليها بحركات هوجاء تعبر عن مدى غضبها:
-ارتاحتي كده؟.. حتى لو ارتاحتي دلوقتي هيجوا تاني وتالت وعاشر وأنتِ اللي هتبقي مش هنا، لو فاروق رجع عن كلامه أنا اللي هقف قصاده.. ولونه مش هيرجع هو سايبك على ذمته بس علشان أنتِ لوحدك.. هيوديكي تقعدي لوحدك طول العمر أن جالك يوم ولا اتنين في الأسبوع يبقى كرامة.. هيروحلك ليه ومعاه هنا مراته وابنه وأمه
-هتفضلي لوحدك لحد ما تموتي من عمايلك السودة دي، مفكرة ليه ربنا مرادش ليكي الخلفه.. فكري فيها كويس يا إيمان ولون الاسم خسارة فيكي
خرجت من الغرفة وتركتها مذهولة من حديثها، هل تعايرها لأنها لم تنجب؟.. أم تتحدث بالحقيقة وما سيحدث قادمًا؟..
أقترب منها فاروق يهتف بحدة وخشونة بعد أن خرجت زوجته الأخرى بولدها بعد والدته:
-حضري حاجتك علشان هتمشي من هنا
ومن ثم خرج هو الآخر ليتركها وحدها كما سيفعل بعد قليل، هل ستكون وحدها حقًا؟. لما فعلت ذلك؟ لم ترتاح بعد، لم تأخذ كل ما أرادت بعد!.. هل تندم أم تستمر فيما تفعله ولكن إذا استمرت فمن ستكمل ذلك وهي وحدها!.. وبعد هذا الحديث لو تلوت على الأرضية لتبقى لن يجعلها أحد هنا تبقى معهم فهي لعبت على أكثر ما تحبه “نجية” وهم أولاد ابنها “يزيد”..
أفعالها أوت بها إلى التهلكة، لم تفعل لها زوجة شقيق زوجها شيء منذ أن أتت إلى هنا ولكن هي الذي كانت تريد أن تكون كل شيء، أتت على الجميع وأولهم رجل أحبها حتى النخاع وتغاضى عن كل ما تفعله لأجل حبه إليها ولكن لم تعد عن ما برأسها، لم تتعظ بزواجه عليها من أخرى، لم تتعظ بأي عقاب نالته من ربها لتعود إلى الطريق الصحيح، إذًا لتتحمل بعد..
_____________________
عادوا إلى بيتهم بالقاهرة، وعاد “سامر” وزوجته وابنه معهم وذهب إلى بيته بعد أن أعتذر من “يزيد” و “مروة” على ما فعلته بهم شقيقته والذي لم يشعر بالشفقة تجاهها، وقد تفهم “يزيد” وزوجته الأمر وهم على دراية تامة أن “سامر” لا تعجبه تصرفات شقيقته..
طوال الطريق وهو صامت، لم يتحدث وهي لم تفعل أيضًا، الصدمة كانت شديدة على الجميع وإلى الآن لم يتخطوا ما حدث..
في تلك اللحظات شعرت “مروة” بأن روحها تُسلب منها عبر ابنتها، شعرت وكأن قلبها توقف، أعز ما تملكه بحياتها هم طفليها، وعندما شعرت بأنها ربما تفقد أحدًا منهم توقفت الحياة من حولها ولم تعد تشعر بأحد غير تلك الصدمة التي تلقتها من “إيمان” أتمزح؟.. تمزح في حياة أطفالها!.. لقد فعلت ذلك حتى يرحلوا عن المنزل ولأنها إلى الآن لا تريدها ولا تريد وجودها لا هي ولا زوجها ولا أطفالها..
لم تفعل لها شيء سيء إلى اليوم وهي تقابلها بذلك؟.. الجلوس في ذلك المنزل بوجودها يصعب الأمر عليها، كان عليهم الرحيل حتى تضمن سلامة أطفالها..
شعور “يزيد” ازداد عن “مروة” أضعاف من الخوف والعجز، هو الرجل وفي تلك المواقف عليه التصرف بسرعة ليحمي عائلته ولكنه عندما استمع كلماتها وقف عاجز لا يستطيع أن يفعل شيء، كل خلية به وقفت عن العمل إلا المشاهدة، خوفه على ابنته وروحه الذي كانت معها، خوفه من فقدانها، شعور بالقهر وهو يرى نفسه لا يستطيع فعل شيء حتى المكوث مع عائلته التي يراها كل شهر إن حدث!..
وقهره من هذه “إيمان” كم كان يود الفتك بها في هذه اللحظات!.. ولكن لم يكن به عقل ليفعل ذلك وعلى أي حال هي قد أتت بأخر شيء مع الجميع لها.. لتتحمل ما سيحدث وسيدعي الله كثيرًا بأن يكون عقابها أسوأ من ذلك لأنها كانت السبب الأول في مرات كثيرة يعيش بها التعاسة..
دلف “إياد” قبل الجميع إلى داخل المنزل ومن خلفه والدته، كان يحمل حقيبته على ظهره وملامحه عابسه متوجه إلى غرفته، حاولت والدته التحدث معه في السيارة أثناء طريق العودة ولكنه تصنع النوم حتى لا يتحدث مع أحد..
ولج “يزيد” و “ورد” أمامه ثم وضع حقيبتهم جوار باب المنزل من الداخل وأغلقه، ذهب إلى غرفة الصالون ومن ثم إلى الشرفة وأخرج سيجارة من علبة سجائره وأشعلها، أخذ يدخنها بشراهة وهو ينظر إلى الخارج..
ذهبت “مروة” إلى غرفة الصالون خلفه لتراه وجدته هكذا يقف أمامها في الشرفة، جلست على الأريكة ثم نادت بصوتٍ عالٍ على ابنها الصغير ليأتي من الداخل:
-إياد.. تعالى هنا عايزاك
رأته يدلف إلى الغرفة بضيق وحنق شديد مرتسم على ملامحه وكان سببه هو العودة بأمر من والدته التي دائمًا تفعل ذلك ولا تجعله يجلس مع عائلة والدة، وقف أمامها ولم ينظر إلى عينيها، وضع وجهه في الأرض بسبب غضبه وحزنه مما حدث..
وضعت يدها أسفل ذقنه ورفعت رأسه إليها لتجعله ينظر لها، تحدثت متسائلة بهدوء على مسمع والده الذي كان يعطيهم ظهره:
-ممكن أفهم أنتَ مضايق ليه ومش عايز تكلمني؟..
نظر إليها بهدوء هو الآخر بعدما رآها تحدثه هكذا، أنه يحب والدته كثيرًا ولكنه أيضًا يحب جدته ويريد البقاء معها لأنها وحيدة وتجلس وحدها دائمًا، ووالدته لا تسمح له بفعل ذلك إلا إذا كانت معه:
-مفيش حاجه
-لأ فيه.. أنتَ زعلان علشان رجعنا صح؟
لم يُجيب على حديثها فأكملت قائلة بجدية وهي تحاول إقناعه أن الجميع حزن لذلك ولم يكونوا يريدون الرحيل:
-أنتَ شوفت اللي حصل بنفسك وأنتَ كبير وواعي، أنا زعلت شويه بس وكنت عايزة أننا نرجع بيتنا، وعلى فكرة بقى كلنا زعلانين بابا زعلان وأنا كمان زعلانه، أنا بحب أقعد هناك جدًا
دون مقدمات وفجأة صرخ بها “إياد” وهو يبتعد للخلف بعيد عنها قائلًا بصراخ:
-أنتِ كدابة، أنتِ مش بتحبي تروحي هناك ومش بتخليني أروح لوحدي.. أنتِ بتكرهي كل اللي هناك وبتكرهي تيته ومش عايزاني أكون معاها خالص
ألجمت الصدمة لسانها، لم تستطع أن تجيب على حديثه الذي ألمها وبشدة، هي ليست كاذبة ولا تكره أحد، نظرت إليه بصدمة وحزن ولا تدري من أين أتى طفلها بهذه الكلمات القاسية التي يقولها لأول مرة، استمعت إليه يكمل قائلًا:
-أنا مش بحبك.. لأنك دايمًا عايزة تبعديني عن يزيد ابن عمي فاروق وعن تيته.. طنط إيمان قالتلي كده
أغمضت عينيها بضعف بعد أن علمت من أين له هذه الكلمات، يا لها من أفعى هذه “إيمان” حتى ولدها تريده أن يكون هكذا معها؟.. تريده أن يعتقد هذا الحديث الذي لا يوجد له أصل من الأساس!..
وجدت “يزيد” يمسك بذراع طفلها بحدة وعصبية شديدة قد تشكلت في جميع حركاته وتظهر بوضوح على ملامحه، وقد دب الرعب أوصال طفلها بعد أن رأى نظرة والده إليه وهو يمسك به هكذا:
-أنتَ قولت ايه؟. سمعني تاني كده؟.
وقفت سريعًا على قدميها لتذهب ناحيته وهي تحاول جذبه من زوجها الذي حضرت شياطينه بعد الاستماع إلى كلمات طفله:
-يزيد خلاص سيبه هو مش فاهم حاجه
صرخ بها وهو يدفعها بيده بعيد عنه وقد كان يريد التحكم في آخر ذرة عقل به:
-ابعدي علشان متبقاش ليلة سودة على دماغ الكل
نادته برجاء وقلة حيلة وهي تخاف من بطشه على الجميع وهو في هذه الحالة، لقد كانت تعلم أنه سينفجر في أي لحظة وها قد أتى “إياد” ليفعلها:
-يزيد أرجوك
صرخ بها مرة أخرى بغضب وعصبية أكبر من ذي قبل:
-قولت ابعدي
تعلم أن ما يقوله يفعله، أبتعدت للخلف وهي ترى ابنتها تبكي خوفًا من حالة والدها الغريبة عليهم تحتضن قدميها بفزع، انخفضت إلى مستواها وربتت على ظهرها لتحاول تهدئتها، نظرت إلى “يزيد” بترجي لكي يفلت ابنه ولا يكون قاسي معه..
استمعت إليه يقول له بجدية وحدة وهو يمسك معصمه بين يديه يضغط عليه بحدة ليكون ذلك عقابه، ولكن الصغير لم يكن يريد أي عقاب آخر فنظرة والده إليه تجعله يموت خوفًا وقد أدرك مدى الخطأ الذي فعله:
-مامتك دي أول واحدة تحبها في الدنيا دي كلها، تحبها أكتر مني ومن أي حد، تحبها أكتر من تيته، مامتك تكون الأولى والأخيرة في حياتك، إياك يا إياد إياك ثم إياك اسمعك بتعلي صوتك عليها تاني، هعاقبك بجد وهتزعل مني
أومأ إليه برأسه عدة مرات بخوف حقيقي وهو يريد الفرار إلى أحضان والدته ليحتمي بها من عصبية والده:
-حاضر.. حاضر
نظرت “مروة” إلى “يزيد” بكامل الحب والاحترام وهنا حقًا لم تستطع التحدث بعد أن استمعت إلى كلماته..
استمع “إياد” إليه يكمل قائلًا بجدية شديدة وعينيه تنظر إليه بحدة:
-مامتك بتحب كل اللي هناك ومش بتكره حد وهي دايمًا اللي بتتحايل عليا علشان نروح وأنا اللي برفض علشان عندي شغل كتير، الكلام اللي قالته ليك طنط إيمان ده كدب متصدقش كلامها أنتَ شوفت عملت ايه هناك علشان تخلينا نمشي
أومأ إليه مرة أخرى برأسه وتجمعت الدموع داخل عينيه بكثرة ثم أردف بخفوت وهو ينظر إلى الأرضية بخجل:
-أنا آسف.. أنا بحب ماما أوي بس أنا زعلان لأني كنت عايز أقعد مع تيته ويزيد
أجابه بهدوء بعد أن رأى أنه خائف منه ومعترف بخطأه:
-هنقعد معاهم كلنا كتير لكن لما طنط إيمان تمشي لأنها مش بتحب وجودنا وإحنا ماينفعش نقعد عند حد مش عايزنا
أومأ إليه ابنه مرة أخرى فتركه “يزيد” بهدوء، وجده من تلقاء نفسه يتقدم من والدته، وقف أمامها ناظرًا إلى الأرضية بخجل ثم هتف:
-أنا آسف مش هعمل كده تاني، أنا بحبك أوي مكنتش أقصد اللي قولته
رفع نظرة إليها وأكمل بعد أن خرجت دموعه على وجنتيه لأنه علم حجم الخطأ الذي فعله:
-ممكن متزعليش مني
تركت “ورد” ثم أحتضنته إليها وهتفت بهدوء في أذنه:
-مش زعلانه يا حبيبي أنا عارفه أنه مش قصدك
أبعدته عنها ثم وقفت على قدميها وأخذت ابنتها معها قائلة:
-يلا علشان تناموا الوقت أتأخر
ذهبت معهم إلى الداخل وتركته وحده، خرح من الغرفة مرة أخرى وتقدم إلى داخل الشرفة ليخرج سيجارة أخرى غير تلك الذي لم يستطع تكملتها، أنه كان يود الإنفجار منذ أن خرج من ذلك المنزل، يود أن يخرج ذلك الكبت على أحد ليستريح، ولكنه بالرغم من كل شيء يشعر به لا يستطيع أن يجعل أحد أفراد عائلته أن يحزن ولو ثانية واحدة..
___________________
جلست مع أطفالها حتى جعلتهم يخلدون إلى النوم، أعتذر منها “إياد” في ذلك الوقت أكثر من مرة وتحدث قائلًا بأنه لم يكن يقصد ما قاله وأنه لم يصدق حديث زوجة عمه ولكن غضبه وحزنه هم الذين تحكموا به وجعلوه يتحدث معها هكذا، بدورها هي أظهرت له عدم حزنها بل وكأن الأمر لا يُحزن من الأساس..
ولكنها كانت حزينة للغاية، هي تذهب إلى هناك فقط لأجل “يزيد” وأطفالها ولأنها لا تريد أن تكون شخص سيء يحرم جده من رؤية أحفادها، ومع ذلك في كل زيارة تتعرض لموقف سخيف كهذا هي أو أبنائها من قبل “إيمان” وتصمت قائلة لنفسها أنها لا تود أن تخرب كل شيء هم فقط ساعات يقضونها ويذهبون مرة أخرى..
ولكن هي قد تخطت حدودها كثيرًا، لقد وصل الأمر إلى أبنائها، تريد أن جعل ابنها يظن السوء بها ويراها غير عادلة كارهه لعائلة والده!..
تتسائل حقًا ماذا فعلت لها لتكون بكل هذا السوء؟.. إذا خمد عقلها عن التفكير بعائلته تفكر به هو، تراه يريد العودة بكل جوارحه إلى موطنه الأصلي، يريد تربية أبنائه وسط عائلته، تراه يشتاق إلى كل شيء هناك وهي لن تفعل له ذلك مهما حدث..
دلفت إلى غرفة نومهم وأغلقت الباب خلفها بهدوء، رأت باب الشرفة مفتوح وهو ليس بالغرفة، إذًا هو يدخن في الخارج..
أخرجت ملابس بيتية لها من الخزانة ثم بدلتهم بهدوء وهي تفكر به وبماذا ستتحدث معه، ذهبت إلى المرحاض دقائق وعادت وهي تجفف وجهها بالمنشفة..
ولجت إليه الشرفة لتراه كما توقعت يدخن سجائره، وقفت جواره بضع دقائق دون حديث فقط تنظر إلى الخارج وهو يتكئ على سور الشرفة وينظر إلى الخارج مثلها بشرود ويرفع السيجارة من الحين إلى الآخر على فمه..
وضعت يدها على ظهره بهدوء بعد أن أقتربت منه ونظرت له، تحدثت متسائلة بخفوت:
-حنيت؟
نظر إليها هو الآخر ولكن نظرته مرهقة إلى حدٍ كبير، أنها تعلم ما لا يعلمه عن نفسه، لاحظت اشتياقه إلى بلدته وإلى أهله دون أن يتحدث أو يفعل شيء يقول ذلك، تسائل بصوت رجولي أجش بعد أن أبعد السيجارة عن فمه ونفث دخانها:
-أنتِ شايفه ايه؟
أعتدلت بوقفتها واستدارت بجسدها لتنظر له بعد أن أنزلت يدها عنه، أردفت بجدية وهدوء ونبرة واثقة:
-شايفه أنك حنيت ومشتاق للقاعدة وسط أهلك
استدار هو الآخر ليكن مقابلًا لها وجهًا لوجه، ألقى سيجارته على الأرضية ودعسها وهو يقول بجدية ونبرة واثقة من كلماته التي سيقولها:
-وأنا عارف إنك مش هتوافقي نقعد هناك بعد اللي حصل
ضيقت ما بين حاجبيها ورفعت يدها الاثنين أمام صدرها وأردفت متسائلة بخفوت وهي تود معرفة ما الذي يدور داخل رأسها:
-وبعدين
هتف وهو يبتسم بسخرية مرددًا كلمتها رافعًا إحدى حاجبيه وهو يقترب منها:
-وبعدين؟.
أكمل بشغف وحبٍ كبير يكنه إليها وإلى أطفاله الذي يفني عمره لأجلهم، هم بالنسبة له أهم من أي شخص آخر، ثلاث أشخاص بحياته يعنون له كل شيء:
-وبعدين هقتل حنيني واشتياقي… وهفضل معاكم انتوا وبس، انتوا العالم بتاعي وسر سعادتي
أقترب منها أكثر وأخذ يديها الاثنين بين يديه واسترسل حديثه بشغف قائلًا:
-يمكن بحن للبلد ولأمي والبيت، بحن لـ ليل ولحاجات كتير أوي ومش هنكر إني ببقى مبسوط وإحنا كلنا مع بعض، لكن النهاردة لما حسيت أن روحي بتتاخد مني بيني وبين نفسي قولت مش هدخل البيت ده تاني، ولما شوفتك واقعه على الأرض وإياد بيحاول يهديكي لعنت الساعة اللي روحنا فيها هناك
أخذ نفسًا عميق وزفره، ترك يدها اليسرى ليرفع يده اليمنى إلى وجنتها يمررها عليها بحب وحنان قائلًا:
-أنتِ وإياد وورد عالم خاص بيا لوحدي، عيلتي وسندي يمكن أنا اللي مسؤول عنكم بس بحس إني مسنود عليكم، انتوا كنزي في الدنيا دي يا مروة ومستحيل أخسركم أنا أخسر نفسي ومخسرش حد فيكم، ولو على البلد اللي عايزنا يبقى يجلنا إحنا بيتنا مفتوح لأي حد
ابتلعت ما وقف بحلقها، أقتربت منه ثم أحتضنته، لفت يدها حول خصره ووضعت رأسها على صدره، بينما هو وضع يده على خصلاتها يمررها عليها بهدوء ليستمع إلى صوتها الخافت وهي تقول:
-أنا كنت بروح هناك علشانكم، علشانك أنتَ وإياد وربنا يعلم أن مش شايله في قلبي حاجه لحد وكنت بتعامل معاهم وكأن مفيش حاجه حصلت بس هي دايمًا ليها حركات سخيفة بتعملها علشان تزعلني، والله كنت بعديها لأني كنت خايفه أخرب بيتها، وأهو ده اللي حصل في الآخر أنا اللي خرجتها من بيتها لما روحت هناك.. أنا مكنتش عايزة كده أبدًا
أجابها بجدية متأكدًا من حديثه:
-هي اللي خربت بيتها بنفسها، وده اللي كان لازم يحصل من زمان لواحده زيها، أنتِ مالكيش ذنب
أبعدت رأسها عن صدره وأردفت بحزن وهي تنظر إليه:
-إياد شايف إن أنا…
لم يجعلها تكمل حديثها والذي يعرفه جيدًا، تحدث هو بتأكيد وجدية وهو ينظر إلى عينيها:
-إياد ولد واعي ومُدرك كل اللي بيحصل، هو بس كان مضايق لكن هو عارف إنك بتحبي تروحي هناك وعارف إنك بتحبي جدته، الكلام اللي قالته إيمان ممكن يكون عمله تشتت ومع زعله خلاه يقول كده لكن هو عارف كويس مامته بتعمل ايه.. متفكريش في كلامه
-أنتَ مش زعلان مني؟
ابتسم بتهكم وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا باستنكار ودهشة ثم أردف قائلًا بصوت رخيم:
-هو في حد بيزعل من روحه بردو؟
عادت مرة أخرى إلى صدره تسند رأسها عليه بعد أن ابتسمت له باتساع، أردفت قائلة بعد أن تذكرت:
-افتتاح المعرض الجديد بعد بكره، هودي الولاد عند بابا مش هوديهم المدرسة، تخلص شغلك بدري وتجبهم وتيجي ماشي؟
-أكيد يا حبيبتي.. أكيد
____________________
“بعد يوم”
عاد “يزيد” من عمله إلى منزله ليبدل ملابسه سريعًا بـ حلة سوداء أنيقة لتتناسب مع افتتاح معرض زوجته، وذهب من بعدها سريعًا إلى منزل والدها ليأخذ أطفاله حتى يكونوا معها مرة أخرى في نفس المناسبة، ومن بعدها قاد سيارته متوجهًا إليها..
وصل إليها لينطلق الأطفال نحوها كل منهم يريد احتضان والدتهم، وبدورها فعلت لهم ما يريدون ثم تقدم هو منها وقام بلف يده حول خصرها يقربها منه ليقبل وجنتيها بهدوء وهو يهنئها على هذا المظهر الذي خطف أنظاره حقًا..
كان المكان رائعًا بكل ما تحتويه الكلمة من معنى، ذوقها الرفيع كان يلمس كل مكان في هذا المعرض، لوحاتها الرائعة، ذات الألوان الجميلة والمتناسقة، ذات الألوان الهادئة، والزاهية، كل شيء كان يراه هنا يعلم أنها من فعلته، أنها تترك بصمة يدها في كل مكان، بصمة بريئة نقية خالية من كل شيء سوى النقاء والرقة..
المعرض كان ملئ بالحاضرين، رجال ونساء يعرفونه ويعرفونها والجميع كان يبدي إعجابه بما يراه من أعمال السيدة “مروة طوبار” زوجة “يزيد الراجحي” الذي لم يترك يدها أبدًا..
توجهت “مروة” بعد وقتًا إلى منصة صغيرة أمام جمع من الناس لتلقي عليهم كلمة صغيرة تتحدث بها عن أعمالها في الفترة الأخيرة والذي ازدهرت كثيرًا..
وقفت أمام الجميع بفستانها الأسود الذي أبرز جمالها وبياض بشرتها، لقد كان يصل إلى كاحليها، مغلق كليًا من الأعلى ويهبط باتساع بسيط خالي من أي شيء سوى لونه الأسود، وقفت تحمل ابتسامة رائعة تزفها إليهم جميعًا ثم تحدثت بشغف وهي توزع نظرها عليهم وبين الحين والآخر تنظر إلى زوجها وأطفالها:
-مساء الخير، يارب يكون الجميع هنا كويس ومبسوط معانا، أنا مش هطول عليكم.. طبعًا أنا واقفة هنا علشان أجاوب على الأسئلة اللي اتعرضت عليا واللي كلها بتتمثل في سؤال واحد وهو إزاي قدرت أظهر مرة واحدة كده وإزاي ده تاني معرض بيتفتح في نفس السنة والفترة مش بعيدة يعني
صمتت لبرهة ثم أكملت حديثها قائلة مع تلك الابتسامة:
-الحقيقة أن السبب الرئيسي في كل ده مش أنا، السبب هو حبيب وزوج وأخ وصاحب، السبب هو أبو ولادي.. دايمًا بيقولوا وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة ده حقيقي، لكن المرة دي الراجل بجد هو اللي كان عظيم ومكانش ورايا لأ كان جنبي في كل خطوة بخطيها كان جانبي وبيشاركني كل نجاح ليا.. وبيساعدني في كل حاجه حتى تربية الأولاد، وحتى شغل البيت.. والشيء ده مقللش منه كونه راجل بالعكس ده كبر أكتر وبقى كل حاجه في حياتي وحياة أولاده… أنا معايا راجل مش هيتكرر تاني أبدًا
استمعت إلى التصفيق الحار من الجميع ونظرت إليه وهي تود أن تدلف داخل أحضانه لتختبئ من أعين الناظرين إليها، رأته ينظر إليها بحب، بل عشق، لقد كانت نظرته إليها دافئة تحمل كثير من المعاني التي لم ولن تستطيع تفسيرها..
استمعت إلى “يسرى” التي كانت من بين الحضور هي وزوجها، هتفت بصوتٍ عالٍ إلى شقيقها قائلة:
-روح جنبها خلينا ناخد صورة
رفع “ورد” على ذراعه وتقدم بخطوات ثابتة وأمامه ابنه “إياد”، وقف أمامها لينحني قليلًا مقبلًا جبينها بسعادة تبادلة إياها..
وضع “ورد” على ذراعه الأيسر وحاوط “مروة” بذراعه الآخر بينما وقف “إياد” أمامها لتأخذ لهم العدسة صورة بهذه الوضعية وهم يبتسمون والسعادة تكاد تخرج من عينهم هم الأربعة..
كما هو ولكن استدار برأسه ينظر إليها، لتفعل المثل وتستدير برأسها وتبادل كل منهم النظرات العاشقة، وأعينهم مثبته على بعضهم البعض والابتسامة لم تفارق وجوههم لتأخذ العدسة هذه اللقطة هي الأخرى والعشق هنا هو المتحدث..
ثم بعد تدابير القدر في الزواج المُجبر، نرى تشتُت واضح، كذب وخيانة، ومن خداع إلى حب ينتقل إلى عشق ومن ثم ألم وفراق يأتي بروح تُزهق وتخرج للسماء، بعدها فقط يأتي العوض ومن بعده تبتسم السعادة متحدثة عن العشق والهوى الذي احتل مملكة اليزيد محولًا براثه إلى عشقٍ خالص نقي برئ من كل شيء سوى “مروة” و “يزيد” التي أخلفت رياحهم بعدها بـ “إياد” و “ورد”..
______________________
تمت بحمد الله

اترك رد