Uncategorized

رواية وصية والد الفصل العشرون 20 بقلم علي اليوسفي

 رواية وصية والد الفصل العشرون 20 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل العشرون 20 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل العشرون 20 بقلم علي اليوسفي

لا شيء أصعب من خواء الروح، تشعر ببرود يقتحم خلاياك يوازي جليد القطب الشمالي والجنوبي معا ، مع نيران تشتعل داخلك ولا تستطيع تفاديها ، تناقض رهيب تعيشه أجزاؤك .ومن حولك لا يشعرون ، وإن شعروا فلا يأبهون ، وإن اهتموا فلن ينفعوك بشيء. 
ظلّت تمشي كالضائعة بلا هدف ولا سبيل ، في طريق معبدة وعلى جانبيها أشجار نفضية، تنفض أوراقها الصفراء فوق رأس تلك الهائمة في مشهد خلاب ، كأن مياه الأمطار التي بللتها لم تؤدي غرضها بعد ، إنه طريق مدرستهم القديمة ، لم تتقصد المجيء إلى هنا لكن قدميها اجبرتاها ، توقفت قبل أن تصل إلى البوابة الحديدية السوداء ببضعة أمتار ، نظرت حولها بأعين شاردة ولا تعرف كيف وصلت إلى هنا ، اليوم عطلة للمدارس والبوابة مغلقه ، مازالت تذكر كيف كانت تصرّ على القدوم إلى مدرستها مشيا على الأقدام ، وكم كان والدها يخبرها بأن تذهب في الباص المخصص أو أن يبتاع لها سيارة مع سائق خاص ، لكنها دائما ما ترفض وتخبره بأنها تهوى الرياضة الصباحية. 
حركت رأسها لتنظر حولها بضياع، عادت إلى الخلف لتجلس على مقعد خشبي و انهمرت دموعها من جديد لتبلل وجنتها التي لم تجفّ بعد ، علا صدرها وهبط في حركة سريعة ليعلو صوت بكائها ، ضربت على صدرها مكان قلبها بخفة وهي تصرخ توسلا: يكفي أرجوك ، اتوسل إليك توقف عن النبض وارحني. 
مرت ساعة كاملة وهي على تلك الحال ، صامتة دون حديث ، عبراتها المقهورة تحكي عما في داخلها، فيما عقارب الساعة تلتهم الوقت كالعادة ، والحياة تدور عجلتها ولم تتوقف عند حزنها ، كان الطريق خاليا إلا من بعض المارة ، بعض الأرواح المتعبة والاجساد المنهكة التي تنشد الراحة ، سطعت الشمس بعد عاصفة اجتاحت روحها التي اظلمت من مرارة الفقد والأرق والقهر ، لترى الحياة بأعين جديدة هذه المرة، أعين تتوق إلى الحياة وتنكر الموت قبل الموت ، تنفست بعمق لتمسح دموعها وبعض القوة التي لا تعرف أساسها تسللت إلى قلبها المدمى ، لتتابع مسيرها نحو منزلٍ تعلم أنه سيحتويها مهما طالت أحزانها. 
……………………………
توقفت نور بسيارتها أمام أحد المطاعم ، طالعت الواجهة الزجاجية بتردد ، لم تكن تشعر بالجوع وأيضا هذا المطعم ليس بريئا البتة، أحنت رأسها لتسنده على المقود تنفخ بامتعاض ، لم يكن الأمر متعلقا بالمال أبدا ، لكنها درست وتعبت وحلمت بأن تدير شركة أبيها ، لتثبت أنها تستطيع النهوض بها بل والعمل على توسيعها ، حتى أباها نفسه كان يشجعها على المثابرة في الدراسة والتدريب دائما ، لكن حلمها قد يذهب أدراج الرياح مالم تتصرف. 
، ضجيج الأفكار داخل رأسها لم يرحمها ، ومشاعرها اتجاه شقيقتها تحولت إلى جمود غريب ليجبرها على اقتراف حماقة لم تكن تفكر بها سابقا ، وفي ظل غياب الصديقة التي تسمعها لم تجد لها سوى مجد ، طلبت رقمه لتأتيها تلك الرسالة المقيتة التي تخبرها بانشغال صاحب الرقم وأن هاتفه مغلق ، زفرت باختناق لتحمل حقيبتها وتدلف إلى الداخل .
لم تجلس على إحدى الطاولات بل تابعت مسيرها إلى حمامات المطعم، خارج الحمامات وجدت لافتة كُتب عليها بخط واضح: قسم الصيانة، مازالت تعرف الطريق إلى مبتغاها حيث احضرتها إحدى صديقات السوء قبل أن تقطع علاقتها بها، يومها رفضت الانصياع لوسوستها ، لكنها اليوم تشعر بأنها قد تجنّ. 
ازدردت ريقها لتفتح الباب ، ليقابلها درج هبطته لتستقبلها ردهةٌ كبيرة، اضواءها خافتة ومزعجة لكثرة ألوانها ، وأصوات الموسيقى الغربية تصمُّ الآذان ، لم تكن تلك الردهة سوى ملهىً ليلي يتخذ من المطعم المحترم واجهة له ليختفي خلفها ، اتجهت نور إلى البار لتضرب على سطحه الزجاجي وتلفت انتباه الساقي ، الذي طالعها باستغراب وهي تطلب أقوى المشروبات الكحولية لديه، استشفّ من طريقتها في الطلب أنها جديدة في هذا الملهى ، تفحص هيئتها فبدت له فاحشة الثراء ، ابتسم بمكر ليقدم لها أفضل مالديه طمعا بأموالها.
…………………………………………………..
كان مازن قد عاد لتوه من عمله ليجد زوجته كالعادة تتشاجر مع الأطفال ثم تبدأ بالحديث مع نفسها. 
فتح الباب ليجد الولدين كريم وجابر يشاهدان برامج الرسوم المتحركة بصوتٍ عال ، فيما كانت الصالة كأنما قد مر فيها إعصار جامح ، ألعاب متناثرة هنا وهناك وملابس تملأ الزوايا ، وهدى جاثيةٌ على ركبتيها تلملم قطع الألعاب الصغيرة لتضعها في علبة مخصصة ، وتتمتم مع نفسها بطريقة مضحكة ا: ألعاب وغسيل في كل مكان، امضي اليوم واقفة على قدميّ في المستشفى لآتي إلى هنا واقضي ما تبقى من يومي في لملمة الفوضى التي يخلفها هؤلاء العفاريت .
كتف مازن ذراعيه يستمع إلى دمدمة زوجته بتسلية وابتسامة عريضة ، رغم أنها تقوده إلى الجنون في بعض الأحيان ، لكنها حبيبته مهما فعلت، اقترب بحذر منها ليحاوط عينيها من الخلف فيغلقها ، قرب فمه من أذنها ليهمس لها بحميمية لذيذة: احزري من أنا ؟؟
نطقت بعفوية لتصدم زوجها المسكين ، وتفسد أجواء الغزل التي كان يحضرها: عفريت !!!
عاد مازن إلى الخلف بتفاجأ من حديثها، فيما هي تقف لتستدير نحوه و تتابع وصلة التذمر: وانت سيد مازن، لماذا لم تلملم ثيابك المتسخة لتضعها في الغسالة قبل ذهابك إلى عملك؟؟؟ 
حاول تجاوز صدمته الأولى ، ابتسم بتصنع ليقترب منها مجددا ويضع يديه فوق كتفيها ، ثم يهمس بخفوت مثير: حبيبتي ، أعلم أنكِ تتعبين معي ومع الطفلين كثيرا، لذا كنت افكر في الاعتذار عن العمل الإضافي الليلة وقضاء السهرة معك .
غمزها بوقاحة ليضيف: وحدنا، أنا وانت ، فما رأيك ؟؟
طبعا لن تكون هدى لو لم تصيب مازن بسكتة قلبية قريبا، لم تسعفها سيالتها العصبية البطيئة في فهم ما يقصده زوجها فهتفت بحنق: طبعا حضرتك تريد من يقوم على خدمتك ؟ والغسيل المتسخ؟؟ متى سأغسله ؟؟ ثم إن لدي العديد من الأعمال. 
فغر فاهه وهو يطالعها بذهول ، وصوت مجرم داخل ثنايا عقله يزين له أن ينقضّ على عنقها فيخنقها ، رنين الجرس انقذه من تفكيره الإجرامي ، إلا أن هدى على مايبدو مصرة على إفقاده رشده فهتفت به بعصبية: ألا تسمع صوت الجرس ؟ أم يجب أن افتح أنا باعتباري الخادمة هنا ؟؟
ضغط على شفتيه قبل أن يقول لها بغيظ: تعلمين هدى؟ أنا المذنب حقا .
تحرك ليفتح الباب وبالكاد يمسك أعصابه، ليطالعه وجه آماليا التي تصنعت الابتسام بتكلف لتهتف بضعف: كيف حالك مازن؟؟
رغم شعوره بأنها ليست على مايرام لكنه لم يرغب في احراجها، دعاها للدخول ليخرج هو متعللاً ببعض الأعمال العالقة ، حقا انقذته آماليا من ارتكاب جريمة في زوجته الخرقاء !!!
……………………………………………………………….
رغم حضورهم بأجسادهم لكن أرواحهم غائبة، قلّما تشارك الرجلين بضع كلمات ، ليتماشيا مع حديث مجد الذي لم يتوقف عن الثرثرة للحظة، لم يزلْ أدهم تحت صدمة صراخ آماليا به ، لقد أعتقد أن أحلامه في طريقها للتحقق ، ليكتشف أنها وئِدتْ في مهدها. اما أيمن فلم يكن بحال أفضل ، بل الحق يقال مهةمتاى مسىخث كان أسوء حالاً منه، داخله فوضى عارمة لا يستطيع لملمتها ، حاول البقاء بعيدا عن حياة ريما قدر استطاعته ، فلم يبحث عن اسمها على الشبكة العنكبوتية ولم يرغب في معرفة هوية زوجها ، كان يعتقد أن هذا أفضل له، لكنه اكتشف أن هذا لم يزده إلا تعلقا بها ، جزء منه يخبره بأنه مازال عالقا في حبها، وجزء آخر يتمرد بعنف ويحتجّ ، وهو بينهما تائه. 
تذكر مجد بأن هاتفه مغلق منذ الظهيرة ولا بد أن نور قداتصلت به، تفاجأ بعد فتحه للهاتف بعشرات المكالمات الفائتة منها ، قطب جبينه باستغراب آثار ريبة أدهم الذي سأله مباشرة: ما الأمر مجد ؟؟
طالعه مجد بتشتت مجيبا: لا أعلم ، هذه نور قد طلبتني عشرات المرات .
وقف من مكانه مضيفا: سأتصل بها ثم أعود. 
خطا مجد إلى خارج المطعم ، تاركاً أدهم يطالع أيمن الشارد بشك، سكوته هذا لا ينبأ بخير ، ترى هل حدث بينه وبين ريما أمر ما؟؟ أم تراه قد اكتشف هويته ؟؟
طلب مجد رقم نور وانتظر لثوان يسمع الأغنية المخصصة التي وضعتها نور خصيصا له أثناء انتظاره أن تجيب، حتى فتح الخط ولكن هذ ليس صوت نور ، إنه رجل. !!
زوى ما بين حاجبيه متسائلا بريبة: من أنت ؟؟ وأين صاحبة هذا الهاتف ؟؟
تحدث الرجل الآخر مجيباً: يا سيد هل تعرف صاحبة هذا الرقم ؟؟ إن كنتَ تعرفها فأرجوك أن تأتي لتأخذها من مطعم(،،،،،،،)
قطب مجد جبينه وهو يستمع إلى صوت الموسيقى الصاخبة ، يتخلله صوت نور الثقيل لتبدو كمن يستفيق من مخدر بعد عملية صعبه وهي تشتم الرجل صاحب البار ، لم يمهل نفسه للتفكير فقد علم أن الحمقاء قد اقترفت خطأ عظيما. 
………………………………………………………………….
غادر مجد متجها إلى العنوان الذي تتواجد فيه نور، بعد أن أخبر أدهم وأيمن باضطراره الخروج لرؤيتها دون التطرق إلى التفاصيل، تاركاً الشابين معا، لم يرغب أيمن بالمغادرة باكرا فآثر أدهم البقاء معه محاولا معرفة سبب حاله الشارد. 
رفع أيمن يده ليحضر النادل، ثم طلب مشروبا كحوليا قويا، كانت الدهشة من نصيب أدهم الذي سأله باستغراب: إنها المرة الأولى التي أعرف فيها أنك تشرب؟؟
ابتسم أيمن بلا حياة ليردف: هناك الكثير مما لاتعرفه عني أدهم. 
أثارت كلماته ريبة أدهم ، فانتظر حتى رحل النادل الذي احضر قارورة من( الويسكي الأحمر المعتق ) مع قدحين فارغين، تساءل أدهم فيما كان أيمن يفتح القارورة ليسكب منها في الكأسين: ما الذي يدفعك للشرب أيمن ؟؟ 
لم يجبه مباشرة ، بل حمل أحد القدحين ليرفعه أمام أدهم الذي أشار له بالنفي، ابتسم بسخرية ليضعه أمامه قائلا بنبرة ذات مغزى: ستشرب ، اذا أردت أن تنسى فعليك بالشرب. 
قطب جبينه بشك لكلماته فأردف: انسى ماذا؟؟
مازال محافظا على ابتسامته الساخرة مجيبا وهو يرفع الكأس نحو فمه: أتظنّ أنني لم انتبه لشرودك منذ بداية العشاء ؟؟
شرب قليلا من كأسه لتنكمش ملامحه عندما لذعه المشروب ، سرعان مااستعاد ثباته لتعوده على الشرب، ثم قال للآخر الذي يراقبه: النساء دائما سبب تعاستنا .
سكت لثانية ويده تعبث بقاعدة قدحه ، ثم تساءل بنبرة هادئة: تخميني في مكانه أدهم ، صحيح ؟؟
رفع أيمن رأسه ناحية أدهم ليسأله مباشرة: سبب شرودك والحزن الذي يخيم على محياك امرأة ، أليس كذلك ؟؟ 
كلمات أيمن ونبراته لا تبعث على الراحة ، ولم يحبذ أدهم تلك اللعبة التي يلعبها معه ، كتف يديه على الطاولة امامه متسائلا بجدية:وإن كانت إجابتي هي نعم ، بماذا يهمك الأمر ؟؟
قهقه ايمن بخفه ليحرك رأسه إلى الجانبين متمتما: إذا فقد كنتُ محقاً ، فالنساء لا يجلبن سوى الألم لنا ، مهما حاولت وقدمت فلن ينالك منهن سوى العذاب .
تنهد أدهم بألم وقد مسّت كلمات أيمن فؤاده المفطور، تلقائيا هبطت عيناه إلى قدح المشروب الأحمر المسنود أمامه ليتأمله بفراغ ، ولا يعلم لما ساوره بعض القلق مما قد يحصل بين ريما وأيمن في منزل الأخير ، فيما صدح صوت أيمن مضيفاً بشرود ، وهو يحرك السائل بداخل الكأس: إياك والثقة في النساء أدهم ، فإنها المهلكة. 
صدى كلمته الأخيرة صفعه بقوة، ما الذي يرمي إليه أيمن ؟؟ 
لوهلة تسرّب إليه بعض الشك من أمر ما حدث بينه وبين ريما ، سرعان ماحاول قتل هذا الشك قبل أن يتعاظم ، مستحيل أن تفعلها ريما، لكن كلمات أيمن تبعث على الريبة، نفض رأسه للجانبين ليتجسد أمامه طيف آماليا وهي تصرخ فيه اليوم ، صورٌ عديدة متداخلة وأصوات كثيرة ازدحمت داخل رأسه ، ليجد نفسه بلا وعي يمسك الكأس ليتجرعه دفعة واحدة ، انكمشت ملامحه كلها ليغمض عينيه بسبب اللذعة القاتلة للمشروب ، ضرب الكأس على الطاولة وهو يشعر بنفسه الأمّارة بالسوء تطالبه بالمزيد، لا بأس في خرق القواعد لليلة واحدة أدهم ، اشرب المزيد لتغيب في دنيا أخرى. 
ابتسم أيمن بتهكم محركا رأسه للجانبين وهو يرى أدهم يفتح القارورة ليسكب في كأسه ، كأن فيها الإكسير الشافي والنافع للنسيان، إذا كما توقع، فأدهم يتألم من الحب ، ربما الحال ليست على مايرام بينه وبين زوجته. 
…………………………………………………………
لم يعرف مجد إلى أين سيأخذ نور باستثناء منزله، بالتأكيد لن يخاطر في أخذها إلى قصر عائلتها فيحدث بلبلةً نور في غنى عنها ، ولم يستطع أن يأخذها إلى فندقٍ ما ليتركها وحيدة، والمكان الوحيد المتاح أمامه كان منزل عائلته.
رنين جرس الباب المتواصل جعل ريما تجفل في مكانها، شعرت بالقلق لتفتح الباب من فورها ، لتشهق بفزع وهي ترى مجد حاملاً نور التي تبدو كمن غاب عن الوعي ، لتسأله بكلمات متعاقبة: الأمر مجد ؟؟ مابها نور؟؟ ولماذا هي مغمىً عليها؟؟ 
لم يأبه بها مجد ليتابع صعوده إلى غرفته ، تبعته ريما وهي تلقي على اذانه ذات الأسئلة : اجبني مجد الأمر ؟؟ هل قمتما بحادث؟؟ ردّ على اسئلتي مجد ؟؟
كان قد وصل إلى غرفته ليفتحها بمرفقه ، ثم دلف ليضع نور التي استفاقت وبدأت تهذي بكلمات غير مفهومة ، استدار مجد ناحية ريما الواقفة خلفه ليخبرها بأنفاس لاهثة: لو سمحتِ ريما، انتظريني في الخارج قليلا. 
رغم عدم اقتناعها لكنها لم تجد بُدّاً من الانصياع له ، خرجت لتغلق الباب تاركة مجد يعدل من وضعية نور لتنام بأريحية ، كاد يتحرك من جانبها ليخلع حذاءها عندما باغتته نور لتمسك بذراعه وتسحبه إليها ، أجفل من حركتها المفاجئة ، لتصدمه بحديثها تاليا ، خرجت كلماتها بصوت ثقيل يثير قلب العاشق: هذا أنت مجد ؟ أرجوك ابقَ بجانبي. 
اتسعت عيناه من حديثها ، لتضيف وهي تقربه إليها لدرجة خطيرة وتهمس بكلمات غير مترابطة: تعال حبيبي لتنام بجانبي، أنا أحبك مجد.
تسارعت أنفاسه لقربها منه بهذا الشكل المخيف، ازدرد ريقه وهو يشتمّ رائحة عطرها و أنفاسها التي اختلطت برائحة النبيذ ، مشاعر كثيرة سرت في عروقه وصوتٌ مقيتٌ داخله يحرضه على الخطيئة، قرّب وجهه إليها لتنقذه ريما عندما طرقت على الباب لتسأله إن كانت تستطيع محادثته، أغمض عيناه زافرا براحة، ليسند جبينه على جبين نور هامسا بعشق تغلغل بين ثناياه: وأنا أحبك نور، أحبك لدرجة تجبرني أن أحافظ عليك ِ واحميك من نفسك ومني حتى..
قبلها على جبينها ليعيد رأسها إلى الوسادة ، دثرها ليخرج إلى ريما ، التي طالعته بريبة لينفخ بضيق ، كتفت يديها أمام صدرها ليعلم أنها بانتظار التفسير ، تحدث بنبرة متعبة: لا أعلم شيئا ريما، كل مااعرفه أنني اتصلت بها ليجيبني رجل يخبرني أنها في مطعم ما، وعندما ذهبت اكتشفت أن هذا المطعم ليس سوى ملهى ليلي. 
فغرت ريما فاهها من فرط الدهشة ، وماكادت تسأل حتى أضاف مجد بامتعاض: ليس من عادة نور ارتياد هكذا أماكن ، لابد إذا من حدوث أمر جلل دفعها لارتكاب هكذا حماقة. 
شعرت ريما بغضب مجد، خشيت أن تعود إليه حالاته السيئة عندما يوضع تحت ضغطٍ ما لا يتحمله ، تصنعت الابتسام لتضع يدها على كتفه قائلة برزانة: لا بأس مجد ، عندما تستيقظ نور في الصباح اسألها. 
أشار لها موافقا بشرود، لتردف بسؤال: أين أدهم ؟؟
أجابها فيما يهمّ بالتحرك إلى غرفة أخرى ليرتاح: لقد بقي مع أيمن في المطعم ، يبدو أنهما انسجما في الحديث معا.
رغما عنها تتسارع أنفاسها كلما أتى أحدهم على ذكره، بقيت مكانها تضع يدها على صدرها ، تشعر بأن وجودهما معا خطير، لكنها لا تدري السبب، إنه إحساس الأنثى فقط. 
…………………………………….
لم تعرف هدى للآن سبب زيارة آماليا إليها ، فالأخيرة لم تحدثها بشيء ، فقط اكتفت بملاعبة الطفلين طوال مدة مكوثها ، حتى أنها تبرعت لأخذهما إلى السرير…
أنهت هدى أعمالها المنزلية المعتادة ثم اتجهت إلى غرفة الطفلين ، فتحت باب الغرفة لتجد آماليا جاثية على الأرض أمام سرير الصغير جابر ، تطالعه بشرود وتعبث بخصلات شعره البنية ، كتفت يديها لتطالع ظهرها بتفكير. 
شعرت بها آماليا منذ فتحت الباب لكنها ظلت على جلستها ، مرت لحظات عديدة حتى نطقت هي بشرود: للماضي روح لا تموت ، وفي داخل كلا منا ذكرى صامتة ، لكنها موجعة حد الهلاك. 
اسبلت هدى ذراعيها عندما سمعت مقال رفيقتها ، اقتربت حتى جلست على كرسي صغير بجانب الباب، أحنت آماليا رأسها لتهمس بثقل: أريد النوم هنا في الغرفة لو سمحت  ، وارجوك لا تسأليني عن شيء. 
قطبت جبينها بتفكير ، حسنا لن تضغط عليها ، لكن في قرارة نفسها شعرت بأن آماليا ماتزال عالقة في الماضي ، لذا وقفت مجددا لتقترب حتى أضحت خلفها ، وضعت يدها على كتف آماليا قائلة بصوت رخيم: لن اسألك حتى تأتي أنت وتحكي لي ، لكنني أريد أن أقول لك هذه الكلمات. 
سكتت للحظة تعاين رد فعل آماليا التي لم تحرك ساكنا ، لتضيف هدى: دعي الماضي لسبيله آماليا لتنجِ بروحك ، فلا الحاضر سينتظر لتنهي ندبك وحزنك ،ولا المستقبل قد يرأف بك، لزاما عليك
التحلي بالقوة والمضي قدما ، لا تلتفتي للخلف لأنك إن التفتي ، ستقعين بلا شك .
كلماتها مسّت روح آماليا ، ربتت على كتفها لتستدير خارجة تاركة آماليا  تفكر في حديثها بشكل جاد. 
………………………………………………… 
تأخر الوقت دون ظهور أدهم وعودته إلى المنزل ، شعرت ريما ببعض القلق عليه ، لكنها سرعان مانفضت هذا الشعور عنها ، فأدهم ليس صغيرا بالنتيجة. 
تدثرت في فراشها لتغرق في النوم ، حتى استفاقت قرابة الثانية فجرا على صوت حفيف بقربها ، فتحت عينيها لتجد أدهم وقد دخل لتوه ، لكنه لا يبدو طبيعيا البتة ، قطبت جبينها لترفع جسدها وتركز في حركاته ، لم تلحظ بعد كونه ثملا  فهمست تناديه بنبرة ناعسة أوقفته للحظة عن الترنح يمنة ويسرة، التفت نحوها بابتسامة بلهاء ، ثم اقترب حتى جلس بجانبها على السرير. 
جلست ريما قليلا لتطالع وجه أدهم الذي لا يبدو اعتياديا ، همست برقة أثارته: ما بك أدهم ؟؟ 
ساد سكون موحش قبل أن ينطق بما صدمها فعليا: أريدك. 
اتسعت عيناها لتنتبه لتوها إلى أدهم الذي مال عليها يريد تقبيلها ، هذا ليس أدهم اكيد ، إنه ثمل !!!
حاولت مقاومته لكنه كان قد شلّ حركتها بجسده ، صاحت باسمه بصوت أعلى علّه يستفيق لكنه كان كالأصم ، انهالت عبراتها وهي تتوسله: أدهم بالله عليك استفق، اتوسل إليك أدهم لا تقتلني. 
لم يسمع رجاءها بل لقد استلذّ بمقاومتها ليصرّ على تقبيلها ، همس يناديها: أحبك آماليا ، أحبك. 
عرفت الآن أنه يظنها آماليا ، حاولت أن تصرخ لكنها لم ترد أن تحدث فضيحة في المنزل خاصة مع وجود نور في غرفة مجد، حاولت أن تحدثه برجاء فيما يديها تعملان على إبعاده عنها: أدهم أنا ريما ، لستُ آماليا أرجوك اصحَ. 
لم يسمعها ولم يأبه بحديثها، بكت ريما وهي ترى إصرار أدهم على أخذها في لحظة غياب عن الوعي ، حتى اسعفها عقلها بحل قد يبدو ضربٌ من الجنون ، المهم أن يكون نافعاً، صاحت بصوت واضح: أنا أحبك أيمن. 
تردد صدى كلمتها الأخيرة بتتابع أفاقه ، ارتدّ للخلف بعنف عندما أعادت له هذه الكلمة وعيه ، ظلّت يطالعها للحظات فاغراً فاهه، كان تنفسها سريعا ووجهها باكيا بحرقة، قطب جبينه باستغراب ، مرت ثوان حتى سُمع صدى دوُيّ صفعة سقطت على وجنة أحدهما. 
يتبع..
لقراءة الفصل الحادي والعشرون : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
نرشح لك أيضاً رواية أنتِ لي للكاتبة سمية عامر

اترك رد