روايات

رواية أزهار بلا مأوى الفصل الرابع 4 بقلم نورا سعد

رواية أزهار بلا مأوى الفصل الرابع 4 بقلم نورا سعد

رواية أزهار بلا مأوى البارت الرابع

رواية أزهار بلا مأوى الجزء الرابع

رواية أزهار بلا مأوى الحلقة الرابعة

– عشان الدار اللي كان فيها؛ كانوا بيتاجروا بالأطفال بطرُق مختلفة.
ـ نعم؟؟ يعني إيه؟
هتفا بها الاثنتين غير مُصدقات ما سمعا للتو، ولكن السيدة استرسلت حديثها متجاهلةً تمامًا صدمتهما قائلة:
ـ كانوا بيتجاروا بالأطفال بأكتر من شكل، يعني مثلًا طفل ياخدوا منه أعضاءه، طفل يخلوه يشتغل في حاجات مش تمام، وكانت الأُسر اللي بتتبنى منهم الأطفال بتستخدم الأطفال دي لحاجات غير آدمية.
ـ زي إيه؟!
سألت “سلمى” باهتمام بالغ، نكست السيدة “سهام” رأسها للأسفل وأجابتهم بأسى وحزنٍ دفين:
ـ الدارك ويب مثلًا!
تنهدت بعمقٍ كأن حزن العالم يجلس فوق صدرها ويعيق تنفسها، استرسلت القول بينما كانتًا صامتتين غير قادرتين على استيعاب كل هذا:
ـ كان فيه منهم أُسر بتاخد الأطفال دي وتعرضهم على الدارك ويب لأي غرض، الحاجات دي عرفناها مؤخرًا طبعًا، وللأسف لحد دلوقتي منعرفش كان الأطفال دي بتتعرض لإيه بالظبط بعد ما بيترفع صورهم ومقاطع فيديوهات ليهم على المواقع دي! لإن خبايا الدارك ويب محدش يعرفها، بس الفكرة هي إن حالة “ياسين” كانت مختلفة شوية.
صمتت ثم رفعت رأسها لهم وواصلت:

 

ـ يوم ما الشرطة جالها أذن بالهجوم على الدار؛ وقتها عثروا على قبو قديم جدًا في بدروم الدار، ولما هجموا على القبو ده لقوا فيه “ياسين” وهو متخدر وأمعائه مفتوحة وجمبه دكتور ماسك في إيده عضو منه! كان… كان استخلص منه الكُلية!
عجزوا بالمعنى الحرفي عن الرد، عقلهم المحدود لا يستوعب أن ما تحكيه حدث لطفل هم يتعاملون معه بالفعل! طفل لا يتعدى الاثنى عشر عام! ومر بكل تلك القسوة، ولا ننسى أن ما روته عليهم “سهام” ما هو إلا جزء صغير ظاهر من الحقيقة فقط! إذن كيف تكون الحقيقة كاملة إذن؟ دارك ويب! فماذا يستعملون هؤلاء الأطفال في موقع بـ ـشع مثل ذلك؟ المئات من الحلقات المفقودة والتي لم تكن غير مع “ياسين” فقط، ذلك الطفل الذي قابل كل تلك القسوة بمفرده! هل هي قالت أنه يخاف من البشر ويفتقد الأمان؟ هل من المفترض أن بعد كل ما مر بهِ يعطي الأمان لمخلوق على وجهة الأرض؟ بالتأكيد إذا فعل ذلك فسيكون مختل عقليًا بكل تأكيد!
انتهى ذلك الأجتماع بوضع أهداف جديدة تخص الأطفال، وكانت خطط الفتاتين تغيّرت كليًا، فكل منهم سوف يستخدم اسلوب مختلف مع الأطفال، ولكن “ليلى” فكانت وضعت “ياسين” هدف صريح لها؛ فمُهمتها منذ اليوم هو معرفة الحلقات المجهولة في حكاية ذلك الطفل؛ فهي ربطت بين ما حدث له وبين رفضه التام لانضمامه لأسرة، بالتأكيد يوجد حلقة مفقودة وهي من ستقوم بالعثور عليها!
༺༻
مرت أيام عديدة على أبطالنا، كانت الأيام تمُر عليهم بسلام؛ فالفتيات مواصلات عملهم في الدار، كل يوم يمُر عليهم وسط الأطفال يتقربن منهم أكثر من ذي قبل.
كانت “ليلى”و” سلمى” تجتمعان اليوم في غرفة كبيرة من غُرف الأولاد، بعدما قامت الفتاتان بمساعدة الأولاد بوضع الأفرِشة بجوار بعضهم لكي يستطيعوا أن يجلسوا مع الأطفال في مكانٍ واحد، جلستا الفتاتان أعلى الفراش وارتص حولهما الأطفال بصورة دائرية، كانا يتحدثان معهم ببساطة، وبين حين والأخر كانوا يطرحون على الأطفال أسئلة تجعلهم يعبرون عن ما يقبع داخل صدورهم، وأثناء جلستهم هذا جاءت المُربية التي تعتني بهم والتي تُدعى “نادية” وقالت موجه حديثها للطفل “سمير”
ـ صاحبك “علي” برا وعايزك يا “سمير” أخرجله هو في الجنينة.

 

فور سماع اسم صديقه ابتهجت أسارير الطفل بسعادة، نهض سريعًا وهو يحُك في أنفه بعنف م هَمَّ بالفرار من ذلك التجمع، كان الجميع يتابع حركته في هدوء، لحظت “سلمى” استعجاله لمقابلة ذلك الطفل؛ كما لحظت أيضًا سيلان أنفه السريع والذي متسمر معه خلال تلك الفترة التي تقابلت فيها معه، ولكنها تجاهلت كل ذلك وفور اختفاءه من أمامهم سألت “سلمى” موجهه سؤالها للأطفال قائلة:
ـ هو مين اللي جاله ده؟ وليه فرح أوي كده لما عرف أنه برا!
وفور انتهاءها من طرح سؤالها هَمَّ طفلًا من الأطفال وأجاب عليها قائلًا:
ـ ده “علي” صاحبه، بيجيله كل فترة كده يسلم عليه ويمشي.
ـ يمشي يروح فين وبيجي منين أصلًا؟
هكذا سألت “ليلى” بتعجب، رد عليها طفلًا أخر مردفًا:
ـ يروح مكانه اللي عايش فيه.
عقدت “ليلى” حاجبيها بعدم فهم، وقبل أن تستفسر من جديد قال “ياسين” مُفسرًا عن ما قاله صديقه:
ـ هو الولد ده من ولاد الشوارع من من الملجأ هنا، بس “سمير” اتعرف عليه وأداله عنوانه عشان يجي يلعب معاه ويسلم عليه كل فترة.
تعجبت “ليلى” من ما سمعته؛ فسألته من جديد:

 

ـ يعني إيه من ولاد الشوارع يا “ياسين”؟
ابتسم” ياسين”بسخرية وبنبرة متهجمه رد عليها قائلًا:
ـ متعرفيش يعني إيه ولاد شوارع! هو أنتِ جاية منين؟!
وسريعًا تدخلت “سلمى” وأنقذت الموقف بذكاء حينما قالت:
ـ لا طبعًا هي مش قصدها اللي أنت فهمته، هي قصدها ليه الولاد دي متجيش تعيش معاكم هنا مادام ليكم تعامل معاهم، يعني طفل زي صاحب “سمير” ده، ليه ميجيش يعيش معاكم هنا؟
كانت “سلمى” تظن أنها هكذا تنقذ صديقتها، ولكنها لا تعلم أنها أثبتت وبجدارة أنها لا تفقه شيء أمام هؤلاء الأطفال! فور انتهاءها من حديثها سمعت قهقهات الأولاد الكبيرة الذين يجلسون حولهم، تبادلت النظر هي وصديقتها بجهل وهي تشعر حالها أنها زادت الطين بلّه! وقبل أن تتحدث بشيء سمعت طفل يسخر منها قائلًا:
ـ أنتِ كده فعلًا أثبتي أنكم متعرفوش حاجة عننا.
ثم ارتفعت قهقهات الأطفال من جديد، ولكي يزيحوا الفتيات عنهم الحرج انسجموا معهم في الضحك، وبعدما أنتهوا من الضحك ومن كلمات الأطفال الساخرة تكلم “ياسين” وبدأ في توضيح ما كانوا يسألون فيه وأردف:
ـ الولاد اللي عايشين في الشارع دول مينفعش يجوا يعيشوا معانا يا مَس لأن دول في ناس مشغلاهم حاليًا، مَس”سهام”كانت قالتلي قبل كده أن الولاد دي هي اللي اختارت تعيش في الشارع، وبيكون صعب أنهم يسيطروا على كل الولاد اللي في الشارع دي لأنهم بيتعرضوا لحاجات كتير صعبة.
ابتسمت “ليلى” بفخر على ذلك الولد، رغم صغر سنه ولكنه يمتلك عقل شاب ناضج! نظرت له والابتسامة مازالت على محياها وسألته برفق:
ـ وأنت عرفت كل ده منين بقى؟!
رفع كتفيه بهدوء للأعلى وأجاب:
ـ من مَس”سهام”لما طلبت منها أنا و”سمير” أن “علي” يجي يعيش معانا قبل كده.
اومأت له متفهمه ثم غيّرت الموضوع، كان “مالك” يجلس بجانب “سلمى” ولكنه مازال منقطع عن الحديث، أعتدلت “سلمى” في جلستها ثم صفقت بحماس وقالت:

 

ـ بصوا بقى هنلعب لعبة، واللي هيخسر هيتعاقب أتفقنا؟
ـ إيه العقاب؟
هكذا سأل طفل من الأطفال ببراءة يخاف أن يكون العقاب قاسٍ أو يكون صعبًا عليه، اقتربت”سلمى” منه ببطئٍ ثم قالت بنبرة بمشاكسة قضت بها على خوف ذلك المسكين الصغير:
ـ لا لا ده هيكون مفاجأة للي هيخسر، يلا بينا.
تحمس الأولاد كثيرًا، بدأت في شرح اللعبة لهم والتي كانت تسخدم فيها يدها، شرحتها لهم وشرعوا في اللعب سويًا، كانت ضحكاتهم تملأ المكان، ومن يخسر يُعاقب بطريقة مُضحكة ومرحة: فمنهم من نالت يده من أسنان “سلمى” ومنهم من قامت”ليلى” بزغزغته”حتى أمتلئت صوت ضحكاته في المكان، ظلوا يلعبون بمرح حتى خسر “مالك” في تلك المرة، نظرت له “سلمى” بشر طفولي ثم قالت له وهي تُشمر أكمامها الوهمية:
ـ بس جيت في ملعبي يا معلم.
انتهت من جملتها ثم أنقضت عليه بطريقة مضحكة، كانت “تزغزغه” بيدها في موضع بطنه وأسفل رقبته، كان الولد يقاومها بكل استطاعته، كلما اقتربت منه كلما ارستمت على وجهه علامات الذعر والرفض! كانت”سلمى”منغمسه في اللعب معه كما تظن، لا تشعر برعشة جسده التي تملكت منه فور اقترابها منه! كان يدفعها بيده لكي تبعد عنه، كانت تظن أنه يبعدها عنه لأنه يريدها أن تتركه كما يفعل جميع الأطفال عندما تمسكهم وتبدأ في اللعب معهم بهذه الطريقة، لا تفهم أنه حقًا مذعور منها! ولأن جسده صغير؛ فكان وجهه مخفي عن عيون أصدقاءه بفضل جسدها الكبير بالنسبة له، لم تدرك “سلمى” أن الطفل يعاني حقًا، لم تنتبه غير على يده الصغيرة التي دفعت وجهها عنه بعنف، وصوت صراخه الذي دوى في المكان! تفاجأت من رد فعله، ابتعدت عنه سريعًا وهي تنظر له بتعجب، فور ابتعادها عنه انكمش على حاله وهو ينظر لها بذعر، كان جسده يتنفض بطريقة ملحوظة، أنطلق سريعًا “ياسين” صوبه وبدأ في تهدئته دون الاقتراب منه، كان جميعهم ينظرون لهول الموقف بفم يكاد يلامس الأرض!

 

خرجوا جميعهم من تلك الصدمة على صوت “ليلى” التي قالت موجهة حديثها للطفل:
ـ أنت اتكلمت يا “مالك”؟؟
هُنا وأخيرًا خرجت”سلمى” من صدمتها، اقتربت منه بهدوء وهي تسأله بهتمام:
ـ هو أنا وجعتك؟ أنا كنت بل..
ـ أبعدي عني.
هكذا صرخ عندما اقتربت يدها منه، ابتعد عنها سريعًا وانكمش على حاله أكثر، أشارت لها “ليلى” أن تنسحب الآن، وبالفعل انسحبت من الغرفة بأكملها بهدوء وبقت فقط “ليلى”، نظرت للأطفال الذين يتابعون الموقف منذ بدايته ثم هتفت قائلة:
ـ حبايبي ممكن تروحوا تلعبوا في الجنينة شوية؟
و بالفعل أنفض المكان من الأطفال في أقل وقت، ولم يتبقَ سوى “ياسين” الذي كان يجلس بجانب “مالك” وينظر له بحزن ودموعه على وشك الهبوط، اقتربت منهم “ليلى” بهدوء ثم سألت “مالك” قائلة:
ـ مالك يا “مالِك”؟ حصل إيه أحكيلي؟
لم ينطق، نظر لها وأتحلّ بالصمت من جديد، ولكن من تكلم هو “ياسين” عندما طلب منها قائلًا:
ـ هو ممكن تسبيه دلوقت يهدى؟
تنهدت “ليلى” بتعب ثم خضعت لطلبه، نهضت من مكانها ثم نظرت لهم بحزن وتحركت خطوات بعيدًا عنه، لكنها قبل أن تغادر كليًا نظرت له من جديد وقالت موجهة حديثها”لمالك” قبل أن تغادر:
ـ حاضر، بس هنتكلم يا “مالِك” هستناك نتكلم.
نهت جملتها ثم غادرت الغرفة، بينما “ياسين” فظل صامت حتى لاحظ أن صديقه هدء من نوبة الهلع التي تملكته ثم قال فرحًا مُتجاهلًا كل شيء حدث:
ـ أنا مبسوط أنك أتكلمت تاني يا “مالك”.
ابتسم له صديقه، نظر له ثم اعتدل في جلسته وقال له:
ـ وأنا كمان مبسوط، هما مين دول يا ” ياسين”؟

 

جلس “ياسين” أمامه ثم قال ببساطة:
ـ دول يا سيدي جُم عشانك.
ـ عشاني أنا!
هكذا سأل بتعجب، أومأ له الأخر ثم أردف قائلًا:
ـ آه، مَس “سهام” جابتهم بعد اللي أنت عملته، وقالولنا أنهم هنا عشان لو أي حد حاسس أن عنده مشكلة يجي يتكلم معانا وأن دورهم أنهم يحلوا المشكلة دي.
سمعه ثم صمت، بينما “ياسين” فلم يصمت، نظر له بتمعُن ثم سأله:
ـ أنت حصلك إيه لما مَس “سلمى” كانت بتلعب معاك يا “مالك”؟
وعند تذكره بما حدث من دقائق ترورقت مقلتيه بالدموع، ودّ أن يكبتها ولكنه فشل، زحفت دموعه على وجنتيه ثم نظر لصديقه وقال له بوجهِ شاحب وصوت يكاد يصل لمسامعه:
ـ حسيت أن جسمي كله اتكهرب يا “ياسين” حسيت أن نفَسّي بيتخنق، جسمه كله اترعش غصب عني، مكنتش فاهم في إيه بس حسيت أني مش عايز حد يقربلي، محستش بنفسي غير وأنا بصرخ، مكنتش عارف أدافع عن نفسي غير بصوتي فضغطت على نفسي وصرخت! حاسس أن كل ذكرى وحشة حاولت أحبسها في الفترة اللي فاتت طلعت في الموقف ده! أنا تعبت يا “ياسين” تعبت.
ترورقت عين الآخر بالدموع وهو يستمع لمعاناة صديقه، تلك المعاناة الذي يعرفها هو وحده، لا يعلم كيف يساعده، ولكنه يعلم جيدًا أنه حزين على حال صديقه، اقترب منه وأخذه في أحضانه بحذر شديد، كان الأخر يحتمي فيه وكأن حضنه يبعد عنه شرور العالم، وكيف على طفلين مثلهما أن يحتميا في بعضهما وهما أضعف من بعضهما بهذه البساطة؟ وليتنا في نقاء هؤلاء الأطفال؛ لأصبح العالم يعيش بسلام في جميع قاراته!
༺༻
ولكن في حديقة الدار كانت “ليلى” تتجول حول الأزهار وتفكر فيما حدث في الساعات الماضية، وأثناء أنغماسها في أفكارها ظهر أمامها “ياسين” كان يركض نحوها وكأنه يريد أن يلحقها، وضعت خصلات شعرها المتطايرة خلف أذنها وسألتها بتعجب وهي تقف له:

 

ـ في إيه يا “ياسين”؟
وقف أمامها وهو يلهث بعنف ثم أجابها قائلًا:
ـ كنت عايز أتكلم معاكِ.
ابتسمت له ثم قالت سريعًا:
ـ يا سلام، دا ليا الشرف، تحب نتكلم في إيه؟
نهت جملتها وهي تسير جانبه ببطئٍ، نظر لها وسار بجانبها هو الآخر وقال:
ـ هو أنتوا هتفضلوا هنا لحد أمتى؟
ابتسمت له بهدوء ثم سألته:
ـ عايزنا نمشي؟
ـ لا، بس في ناس هنا عايزة مساعدة، وعايزكم تساعدوهم.
وقفت أمامه وعقدت حاجبيها بتعجب ثم سألته من جديد:
ـ زي مين؟
ـ زي صحابي مثلًا!
ابتسمت و ربتت على خصلات شعره بعشوائية وهي تقول له بمشاكسة:
ـ طب وأنت؟ مش عايز تساعد نفسك؟
عقد ملامحه بتعجب من كلماتها، أشار لحاله ببساطة ثم هتف:
ـ بس أنا مش عايز مساعدة!
نظرت له ثم صمتت، أشارت له على النجيلة التي أسفلهم وجلست عليها، نظر لها ثم عمل المثل وجلس أمامها، ضمت رجليها على بعضهم وجلست بأرياحية أمامه ثم هتفت قائلة:
ـ كل واحد مبيكنش عارف هو محتاج مساعدة ولا لاء، المهم سيبك من الكلام ده، أنا عايزة أتكلم معاك في حاجة تانية.
ـ إيه هي؟

 

ـ الدار القديمة يا “ياسين” ممكن تكلمني عنها؟
صمت ولم يتحدث، عُلمت أن حديثه في ذلك الموضوع ليس سهلًا كما تظن، لذلك أقتربت منه ومسكت كف يده وأردفت له قائلة:
ـ أنا الماچستير بتاعي يا “ياسين” هعمله عن دور الأيتام دي واللي بيحصل فيها؛ فأنا حسيت أن ربنا بعتك ليا عشان تقولي كان بيحصل إيه معاكم، أنت أكتر واحد هتقدر تساعدني يا “ياسين”
نجحت في بث روح المسؤلية في نفس ذلك الضعيف الهَش، بهذا الشكل سيشعر أن حديثه مهم بالنسبة لها، ليس لأنه مجبر أن يحكي لها مأساته؛ بل لأنه يساعدها هي بالأصل، تحمس لتلك الفكرة، ابتسم لها ثم قال:
ـ وأنا موافق أني اسعادك، عايزة تعرفي إيه؟
تهللت أساريرها، خرجت من جيب بنطالها مذكرة صغيرة وقلم ثم نظرت له بحماس وقالت له:
ـ أنا عرفت أنك كنت في دار تانية قبل دي، وأن الدار دي مكنتش كويسة وعشان كده جيت هنا، عايزة أعرف منك ليه الدار دي مكنتش كويسة يا “ياسين”؟ كانوا بيعملوا إيه معاك أنت وصحابك؟
نظر لها ثم زفر بعمق وبدأ في سرد أول جزء من قصته المأسوية قائلًا:
ـ كانوا بيعملوا حاجات كتير، هما مكنوش بشر أصلًا! البشر بيحسوا وعندهم رحمة في قلبهم، بس دول مكنوش كده، دول كل اللي يهمهم الفلوس ومصلحتهم وبس.
ـ أزاي؟
ـ يعني مثلًا… مثلًا الهدوم، كان لكل ولد فينا طقمين بس بنبدل فيهم، مكنش لينا هدوم! والأكل هي مرة وحدة بس بناكل فيها.
ـ مش يمكن الدار مكنش معاها فلوس؟

 

هكذا سألته لكي تنغمس معه في تفاصيل حكايته أكثر، عند سماعه لتبريرها غضب، وضح غضبه على تعابير وجهه وأيضًا وهو يصيح معترضًا:
ـ كان معاهم فلوس، ده مكنش حد معاهم فلوس قدهم! كان كل كام شهر بيحصل عندنا زي حفلة كده، حفلة بيجي فيها ناس غنية جدًا ونضيفة عشان تتفرج علينا!
كانت تستمع له بهتمام شديد، وهو لاحظ ذلك الأهتمام وقبل أن يسترسل سألته هي:
ـ كانوا بيعملوا إيه مش فاهمة؟ يعني كانوا بيخلوكم تعملوا حاجات عشان يتبرعوا؟
ابتسم بحزن وأيدها قائلًا:
ـ بالظبط، عشان بتفرجوا علينا أزاي أحنا لبسنا مقطع ومش لاقين الأكل؛ عشان يعني يتبرعوا بفلوس كتير وكده.
ـ طب ما الناس اللي بتتبرع دي لو جت تاني هتلاقيكم بنفس الحال وهيعرفوا أنهم بيسرقوا فلوس التبرعات!
ابتسم ساخرًا ثم بدأ في توضيح الصورة لها وأردف:
ـ ما هما كانوا جايبين لينا لبس للطوارئ، يوم ما جمعية خيرية من اللي اتبرعت ليهم قبل كده بتجيلهم تاني بيخرجوا لبس الطوارئ ده.
فهمت “ليلى” ما يقصده، وبحزنٍ سألته وكأنها تبحث معه على حل:
ـ طب ليه محدش جرب يكلم حد من الناس دي ويفضحهم؟
سمع سؤالها وترورقت عيناه بالدموع، نظر للسماء ثم هتف قائلًا بقلبٍ يتمزق كلما تذكر ما حدث:
ـ ما هو ده اللي عملته فعلًا، وده يخلينا ندخل في أبشع جزء في الحكاية.
“منذ وقتًا في دار لا يصلح أن يطلق عليها دار أيتام.”

 

كان الأطفال يقفون في صفوف لاسقبال تلك الجمعية الخيرية، كان حال الأطفال مُرثى لهم كثيرًا، ظاهر على وجههم چليًا التعب والأرهاق، الأطفال نُحاف بسبب سوء التغذية وما يتعرضون له هنا، كان هؤلاء الأطفال يرتدون ملابس نظيفة على غير العادة لأن الزيارة هذه المرة متكررة من نفس الجهة، بعد وقت من انتظار الأطفال وصلوا أعضاء الجمعية الخيرية، رحبوا بهم الأطفال من تحيات وتصقيف حار مصطنع!
كانت سيدة من أعضاء تلك الجمعية تتقدم من كل طفل وتصافحه وتتحدث معه بضع ثوانٍ ثم تنتقل لطفلٍ أخر، كانت سيدة كبيرة في السن، الشيب نال من خصلاتها وملامحها معًا، وعندما جاء الدور على “ياسين لكي تتحدث معه أستغل انشغال السيدة “تبارك” مديرة الدار عنهم وقرر أن يفصح عن ما يحدث لهم في تلك الدار، وعندما سألته السيدة عن حاله ترورقت عيناه بالدموع ثم قال لها بصوتٍ يكاد يصل لأذنها هي فقط:
ـ أحنا مش كويسين، تعالوا خدونا من هنا.
وعكس نبرته الضعيفة التي خرجت منه لتكاد تسمعها تلك السيدة فقط؛ صاحت هي بصوت عالٍ متسأله:
ـ ليه يا حبيبي بتقول كده؟ في إيه؟
صوتها جعل السيدة “تبارك” تنتبه لِما يحدث، تابعت ما يحدث دون أن تدخل وسمعت ذلك الطفل وهو يقول للسيدة:
ـ أحنا هنا بنتعذب، تعالوا خدونا.
ـ أنت بتقول إيه يا “ياسين”؟؟
هكذا سألته السيدة” تبارك ” بعيون تطلق شرار، شحب وجه الطفل وكأن الدماء هربت من وجهه، نكس رأسه ف الأرض وكأنه يطلب من الأرض أن تبتلعه، صمت ولم ينطق، ولكن السيدة التابعة للجمعية الخيرية هي من تكلمت وسألتها مُستفسرة بتعجب:
ـ هو الولد ده قصده إيه؟
وبهدوء وعقل كانت تُجيب عليها قائلة:

 

ـ معرفش يا فندم، بس أكيد التلفزيون أثر عليه، أصله كان بيتفرج على فلم عودي يا بلية واتأثر بيه أوي.
ختمت كلماتها وهي تضحك بصوتٍ عالي، تابعتها السيدة بنظراتها ثم مالت على “ياسين” وسألته من جديد بقلق:
ـ قولي يا حبيبي كنت تقصد إيه؟
كان بداخله يسبها ويسب نفسه لأنها قرر أن يترك لسانه يقول ما يشاء، لم يرد عليها كل ما فعله أنه أشاح بوجهه بعيدًا عنها، وعندما لاحظت”تبارك” أن السيدة تريد أن تسمع من الطفل أنه كان لا يقصد شيء نظرت “لياسين” نظرة ذات مغزى وهي تقول له:
ـ مش أنت يا حبيبي كنت بتتفرج امبارح على الفيلم؟ ده حتى الصبح لقيته بيقولي أحنا مش بنلف في الشوارع زيهم ليه يا مَس، الولد حضرتك مش فاهم، هو بس اتأثر شوية بالفيلم وأنتِ عارفه نهاية الفيلم كانت حزينة للأولاد اللي في الفيلم؛ فهو اتأثر، صح يا “ياسين؟”
كانت تقصد المشهد الذي مات فيهِ الطفل من أثر المخدر الذي كان يتعاطاه، وذلك المشهد الذي قُتلت فيه السيدة الشريرة التي تُربي الأطفال، نظرت” لياسين” لكي يهم ويرد عليها، وبالفعل استجاب لها وهتف بحنق:
– صح.
ابتسمت السيدة ثم ربتت على شعر الولد وتركت الغرفة بأكملها، بينما السيدة “تبارك” نظرت لياسين بشر وتوعد ثم قالت له:
ـ حسابك معايا تقيل، تقيل أوي يا “ياسين”

 

بعد جملتها هذا علم أن اليوم لم يمر عليه بسلام، وأن عقابه سيكون أشد عقاب! وبالفعل، وكما توقع، بعدما انتهت السيدة من الزيارة جاءت تركض نحو ياسين بشر يتطاير من مقلتيها وصاحت بملئ صوتها:
ـ “ياسين”
كان صوتها يدوي في المكان بأكمله، جاء لها الولد وقدمه ترتعش من الخوف، وفور رؤيتها كانت تنهال عليه بالضرب بواسطة الحزام الجلدي الذي يلتف حول كف يدها، كان صوت استغاثته يرنّ في المكان، ولكن من سيرحمه من تحت يدها؟
“عودة مرة أخرى للحاضر”
كان يحكي ودموعه تسابق كلماته، انتهى من قص حكايته وهو يكشف عن الجروح التي آثارها مازالت باقية في جسده، دمعت عين”ليلى” رغمًا عنها، وقبل أن تستفسر عن شيء سمعته يهتف قائلًا:
ـ كل اللي حكيته ده جزء صغير أوي من اللي حصلنا، ده كان يدوب بداية المعاناة يا مَس.
ختم كلماته ثم أنخرط في البكاء، شدته سريعًا لأحضانها وهي تعتذر له نيابةً عن قساوة العالم، كيف على طفل أن يعاني من كل تلك الأشياء وهو على مشارف بداية حياته! كيف عليه أن يحتمل كل تلك الأشياء وهو في ذلك السن؟ مهلًا… كل ما سمعته هذا ويقول لها أن ذلك نقطة في بحر كبير من ذكرياته! إذن ما سمعته هو البداية فقط؟ إذن كيف تكون باقي الحكاية؟؟!
༺༻
ولكن عند سلمى بعدما غادرت غرفة الأطفال ذهبت تجلس في مكتبها تفكر في سبب ما حدث منذ قليل، وأثناء جلوسها بمفردها لمحت “مالك” يسير أمام مكتبها، نهضت سريعًا وصاحت عليه وهي تلحقه:
ـ “مالك”
استدار لها سريعًا مستفهمًا؛ فسترسلت هي قائلة:
ـ ممكن نتكلم؟

 

أومأ لها ثم واصل سيره وهي بجانبه، ابتسمت له ثم قالت:
ـ أنا مبسوطة أنك أتكلمت تاني يا “مالك” حتى لو مش فاهمة أنت حصلك إيه أو ليه خوفت وأحنا بنلعب سوا، بس أنا مبسوطة، ونفسي نبقى صحاب.
ختمت كلماتها وهي تقف أمامه وتبتسم له، قابل ابتسامتها ببتسامة مماثلة لها، وبعد فترة قصيرة من الصمت قال لها:
ـ موافق.
ابتسمت له وصافحته بودٍ وهي تقول داخل نفسها أن أول خطوة تمت بنجاح! ودعته وقالت له أنها لديها عمل ولابد أن تذهب لأنهاءه، وبالفعل تركته وأتجهت لمكتب السيدة “سهام” طرقت على باب مكتبها حتى أذنت لها بالدخول، بعد التحية جلست أمامها “سلمى” وقالت لها ببتسامة تُزين ثغرها:
ـ “مالك” أتكلم النهاردة.
تهللت ملامح وجه السيدة، نهضت من كرسيها وهي تهتف غير مصدقة:
ـ بجد! طب ده تقدم هايل.
قالتها وهي تتجِه نحو “سلمى” وتجلس على المقعد المقابل لها، بينما “سلمى” فنظرت لها بأسف وقالت لها:
ـ هو للأسف كلامه ده جيه بطريقة غريبة.
عقدت ملامحها بتعجب؛ فسترسلت وقصّت لها ما حدث بالتفصيل، ختمت حديثها بطرحها بسؤالها قائلة:
ـ أنا محتاجة أفهم “مالك” إيه حكايته؟ أحكيلي حكايته من يوم ما جيه الملجأ هنا.
تفهمت السيدة لطلبها، وبالفعل خضعت لطلبها وبدأت في سرد حكاية “مالك” لها:
ـ “مالك” جالنا هنا وهو 6 سنين تقريبًا، كان مخطوف من أهله تقريبًا، ولما الخاطف اتمسك من خلال الناس “مالك” اتحول للقسم التابع للمنطقة، بس للأسف محدش عرف يوصل لأهله، وفي الحالات اللي زي دي الأطفال ببتحول لدور الأيتام اللي هو أحنا، ووقتها “مالك” جالنا، قعد فترة عندنا عادي، بس بعد كده…

 

صمتت ولم تواصل؛ فنظرت لها “سلمى” والفضول يتراقص في مقلتيها لكي تسترسل حديثها وبالفعل لبّت لها طلبها واستطرد قائلة:
ـ من سنتين ونص تقريبًا جت أسرة وقدمت طلب بضم “مالك” ليهم، والطلب أتوافق عليه، ومالك راح عاش معاهم.
صمتت وهي تمسح بعض قطرات العرق التي تكونت على جبينها، بينما “سلمى” فنظرت لها وسألتها بعدم فهم:
ـ وبعدين؟
ـ مالك رجع تاني لينا بعد سنتين تقريبًا.
هكذا قالت وهي تشعر أنها على وشك الأختناق، اقتربت منها “سلمى” وسألتها:
ـ رجع ليه؟ مش فاهمة.
نهضت السيدة من مكانها وظلت تتجول في الغرفة بتوتر ثم هتفت قائلة:
ـ معرفش، محدش يعرف حصل إيه، كل اللي نعرفه أن الأسرة دي جت ومعاها “مالك” وقالولنا أن الولد بقى بيعمل حاجات غريبة، بقى دايمًا بيصرخ، كل ما حد يقرب منه جسمه كله بيترعش، وأن دايمًا بقى قاعد لوحده، وأنهم مش عارفين يتعاملوا معاه، وأنهم مش قادرين يتحملوا الوضع.
تعجبت من ما سمعته، نهضت هي الأخر وترجلت نحوها وسألت:
ـ أزاي يعني؟ و”مالك” كان كده قبل ما يروح عندهم؟
استدارت لها سريعًا وهي تنفي ما قالته وهتفت:
ـ عمره ما كان كده، “مالك” دايمًا بيلعب ويضحك مع الكل، بس من يوم ما رجع وهو اتغير بشكل غريب، والحاجات اللي قالوا عليها أنها بقت بتحصله لاحظناها فعلًا، مكنش فاهمين معناها وحاولنا نتكلم معاه ومقالش حاجة.
ـ طب إيه سبب الأنتحار؟

 

نظرت لها بجهل ثم رفعت كتفيها للأعلى وقالت:
ـ معرفش، كل اللي فهمته أو اللي عرفت أربطه أنه عمل كده لما ضغطت عليه أنه يقبل ينضم لأسرة كانت عايزة تضمه ليها وهو كان رافض رفض قاطع.
ـ وبعدين؟
جلست السيدة من جديد على اقرب مقعد ثم هتفت:
ـ اكتشفنا أنه حاول ينتحر.
جلست “سلمى” هى الأخرى وهي تحاول ربط كل ما وقع على مسامعها ببعضه، بالتأكيد يوجد حلقة مفقودة، ولكن ما هي وأين لا تعلم، الأمر يحتاج لتفكير وربط خيوط وأحداث ببعضها، نظرت لها ثم قالت ببتسامة:
ـ الموضوع وراه لغز، هحاول أحله، شكرًا أنك بتحاولي تساعديني.
ابتسمت لها السيدة في المقابل وهي تقول لها:
ـ المهم تعرفي تساعدي “مالك” وتخرجيه من اللي هو فيه ده.
ابتسمت لها ثم نهضت وودعتها، كانت تشعر أن رأسها على وشك أن تنفجر منها، اليوم كان مرهق عليها ومليء بالأحداث، خرّجت هاتفها من جيب بنطالها لتهاتف “ليلى” ولكن قطع ما كانت تفعله ما رأته من تلك النافذة الصغيرة، اقتربت منها بهدوء وهي تحاول أن تختلس النظر لكي ترى جيدًا ماذا يحدث بالداخل ومَن ذلك الطفل، ولكنها صُعقت عندما وضحت لها الرؤية! إنه “سمير ” كان يمسك في يده وعاء بلاستيكي لا يتضح لها محتواه، كان يقربه من أنفه ويستنشقه بشكل مُريب، كان كل حين وأخر يرفع رأسه للأعلى لكي يلتقط أنفاسه ثم يعود يستنشق محتويات ذلك الوعاء، ولكنها لم يستمر جهلها بما يحدث طويلًا؛ فرائحة ذلك الشيء كانت قوية، أقوى من ذلك الطفل الذي أنفرد بحاله في تلك الغرفة ويضع بجانبة مُعطر لكي يخفي بها رائحة الغراء “مادة الكُلّة” الذي يستنشقها!

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)

اترك رد