روايات

رواية الأربعيني الأعزب الفصل التاسع 9 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب الفصل التاسع 9 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب البارت التاسع

رواية الأربعيني الأعزب الجزء التاسع

الأربعيني الأعزب
الأربعيني الأعزب

رواية الأربعيني الأعزب الحلقة التاسعة

تسللت على أطراف أصابعها حتى وصلت للطابق السفلي، ومن ثم راقبته حتى ولج لغرفة مكتبه، فلحقته على الفور وقبل أن يصل لمقعده دخلت ثم أغلقت الباب من خلفها فأصدر صوتاً مزعجاً للغاية، استدار “عاصي” على الفور، فوجدها تحكم اغلاق الباب ثم دنت لتجلس على المقعد القريب منه مشيرة له بالجلوس:
_تقدر تقعد لان في حاجة مهمة عايزة أناقشها معاك..
عقد حاجبيه بذهولٍ:
_والحاجة المهمة دي مينفعش نتكلم فيها بعدين!
رسمت الحزن باجتيازٍ على معالمها، ثم قالت بجدية:
_معنديش وقت.. أنت شايف بنفسك ازاي الملزق ده بيطاردني في كل حتة.
تلك الكلمة باتت لا تليق سوى بهذا الأحمق ولكنها لا تفشل بإضحكه، فتحرك تجاه مقعد مكتبه الرئيسي، فجلس وهو يتساءل ساخراً وعينيه مسلطة على باب الغرفة:
_وموضوعك المهم ده مينفعش الا والباب مقفول!
أومأت برأسها عدة مرات وهي تؤكد له قائلة:
_أكيد لإنه مهم ويخصني فمش عايزة حد يسمعني غيرك.
حك جبهته باستهزاءٍ على طريقتها المضحكة وعلى الرغم من ذلك الا أنه تماسك وهو يباشر سؤاله بثباتٍ:
_أوكي، تقدري تتكلمي.
ابتلعت ريقها بتوترٍ، ثم أجلت أحبالها الصوتية المنقطعة قبل أن تستجمع قواها للنطق:
_زي ما شوفت وسمعت بودنك “قاسم” مش ناوي يسبني، حتى لو هربت لأبعد مكان على الكرة الأرضية هيجبني برضو.
ولوت فمها بتهكمٍ وهي تستكمل:
_ الملزق ده مش قادر يستوعب أني بكرهه، فاكر إنه لما هيتجوزني غصب عني هعشق قسوته وهتقبل حبه المريض ده زي ما بيحصل في الروايات..
وطرقت المكتب بيدها لتجعله يلمس غضبها:
_بس حلمه الحقير ده مستحيل يتحقق.
ثم استكانت بجلستها، لتهدأ من روعها قليلاً قبل أن تستطرد:
_ وبعد تفكيراً عميق لقيت حل هيخرجني من المشكلة دي.
سيطر على انفعالات وجهه، ليحارب تلك الابتسامة التي تداعب شفتيه، فحينما يستمع إليها يفقد القدرة على التركيز بأي شيء سوى الاستماع لحديثها المجنون، فيفشل بالتحكم بذاته، وكأنه لا يود فعل أي شيء سوى الضحك على حديثها وتصرفاتها، وها هو الآن مجبر على العودة من شروده القصير حينما وجدها تتطلع له بنظراتها المغتاظة، فتنحنح وهو يتساءل بخشونةٍ:
_سامعك كملي.. حل أيه؟
ارتسمت بسمة غرور على وجهها وهي تجيبه بثقةٍ من حلها الأمثل الذي توصلت إليه بعد تفكير:
_أني أتجوز.. وساعتها بقى مش هيقدر يتجوزني غصب لإني هكون على عصمة راجل تاني.
تطلع لها لثوانٍ قبل أن ينفجر ضاحكاً والاخرى تحدجه بنظراتٍ قاتلة، فاحتبس ضحكاته وهو يخبرها بجديةٍ زائفة:
_أنا أسف بس حقيقي الموضوع مضحك أوي.
ثم هدأ قليلاً قبل أن يشرح لها بطريقةٍ كوميدية:
_يعني إنتي مش راضية تتجوزي ابن عمك، فتقومي تتجوزي أي حد والسلام لمجرد إنك تبقي على ذمة حد تاني، طب ليه تدوري على كبش فدى وأنتي بالنهاية هتتجوزي أي شخص!
ابتسمت وهي تجيبه بصوتٍ ناعم رققت طبقاته:
_ومين قال بأني هتجوز أي حد!
أشار لها باستسلامٍ ومازال الضحك يملأ وجهه:
_شكلك حاطة عينك على حد، أحب أعرف مين اللي هينال الشرف العظيم ده.
بابتسامة واسعة أجابته:
_عاصي سويلم.
انكمشت تعابير وجهه في صدمةٍ، وكأن الفرحة التهمها غراب أسود، فردد بدهشةٍ:
_بتهزري!
قالت بجديةٍ تامة:
_وهو الموضوع ده فيه هزار، أنا بتكلم جد.
احتل الغضب معالمه، ربما كان مندهشاً ببدء الأمر، فلم يتوقع أن تكن جريئة لتلك الدرجة، نهض “عاصي” عن مقعده بعدما دفعه بعيداً عنه بعصبيةٍ لحقت نبرته الذكورية المتمردة:
_أنتي إتجاوزتي كل حدودك “لوجين” ، أنا لما قررت أساعدك كان بإرادتي ورغبة مني إني أعمل كده، بس مش لدرجة إن الموضوع يوصل لجواز.
بدت متحكمة بانفعالتها وهي تمط شفتيها في حركةٍ سمجة لمواجهةٍ القادم:
_كلامي لسه مخلصش، اقعد بس وإسمعني للأخر وبعد كده قرر براحتك.
إنصاع إليها وجلس على مضضٍ يستمع الى ما ستقول، فقالت بابتسامةٍ ماكرة:
_الموضوع بيصب في مصلحتنا مع بعض.
تطلع لها بعدم فهم، فاستطردت بتوضيحٍ:
_أنا هتخلص من “قاسم” وأنت هتتخلص من زن “إيمان” بأنك تتجوز.
ابتسم ساخراً، فاستكملت الاخيرة حديثها بخبثٍ:
_متنكرش إنك معجب بيا وبذكائي الخارق.
ولوت خصلة من خصلات شعرها حول أصبع يدها بترقبٍ لملامحه التي تنطق بالرفض لتتحفز طيف مكانها وهي الاخيرة تنتظر جوابه، فوجدته يغلق عينيه،كأنه يقاوم انفعالا ما بداخله قبل أن يعاود فتحهما :
_أنا مش وحشة للدرجادي، أنت لو لفيت الدنيا دي كلها مش هتلاقي زوجة تسمحلك تحتفظ بذكرياتك اللي جمعتك بحبيبتك ومراتك الله يرحمها، أنا بقى هسمحلك بده.
ضحك حتى برزت أسنانه البيضاء، فلمعت عيناها ببريق إعجاب إحتل خلاياها بأكملها، فكان يحتل جلسته كملك متوج على عرش خاص به، شعره مصفف بعنايةٍ، وعينيه تحاكي أقصوصة حملت الدفء والخلود بين طياتها، وأنفه يحكي بشموخه قصص بطلها غروره، راقبت نظراتها حركة شفتيه التي نطقت بحروف بطيئة:
_بحاول أستوعب اللي بسمعه، في العادة الراجل هو اللي بيعرض الجواز على الست، لكن أنتي دايمًا ماشية عكس التيار!
استندت بيدها على سطح مكتبه ثم مالت برأسها عليها لتشير له بغمزةٍ من عينيها:
_مش شايف أن دي حاجة لذيذة وممتعة، الخروج عن المعتاد هو شيء جنوني ومختلف وأنا بعشق الإختلاف.
انحنى بجسده للأمام تجاه سطح مكتبه ليسألها بصوته الرخيم المصاحب لجدية لا تحتمل نقاشاً ساخر:
_وليه أنا بالتحديد يا “لوجين”؟
كيف تخبره بأن قلبها هو من يقربها منه، حتى خطواتها تنجذب نحوه أينما كان، وكأنه ملاذها الذي افتقدته بوجود أفراد عائلتها، رفعت”لوجين” وجهها تجاهه وهي تهمس بصوتٍ مغوٍ:
_مش عارفة، يمكن لأنك أوسم راجل قابلته في حياتي، أو يمكن لانك ساعدتني من غير ما حتى تعرفني وسمحت ليا إني أعيش في بيتك وأتعرف على عيلتك، والأهم من ده كله أنك خلصتني من”قاسم” الملزق ده!
وبعد صمتٍ تام التزمت بها لدقائق معدودة عادت لتهمس بصوتٍ اخترقته المشاعر الصادقة وبوحٍ نابع من الصميم:
_ويمكن لإني معجبة بيك وخايفة الأمور تنقلب بيا لشيء خطير أفقد السيطرة عليها..
هام بعينيها وكأنهم بحراً يغمسه بمعسول عينيها الصافي، ولأول مرة يشعر بعجزه التام عن الحديث، إن كانت فتاة أخرى من تتحدث عن ذلك الأمر المحظور ربما كان سيثور ويغضب، ولكن الغريب إنه يتقبل كل ما تقصه عليه بابتسامةٍ وصدر رحب، أما هي فدقائق صمته تلك مرت عليها كالسنوات الثقيلة، لذا قطعت مهلتها بالانتظار حينما قالت:
_هسيبك تفكر بعرضي كويس،بس هتقولي رأيك بكره.
ونهضت عن مقعدها لتشير له بابتسامةٍ مشرقة:
_تصبح على خير.
غادرت من أمامه كنسمةٍ عابرة، اختطفت قلبه ودعته حائراً في إتخاذ أي قرار قد يوصله لبرٍ آمن، فاستند بجسده الثقيل على المقعد وهو يردد بحيرةٍ:
_أيه اللي لسه هيحصلك يا عاصي؟
وأغلق عينيه وهو يبتسم حينما تذكر حديثها، يروق له أحياناً إختلافها وتصرفاتها المجنونة، من سيصدق بأن فتاة تطلب يد الشاب بنفسها وتخبره بأنها مستعدة لتحمل ذكريات حبه السابق بما يخوضه من مساحةٍ خاصة بشريكة ماضيه، تلك الفتاة إستحوذت على إهتمامه وجعلت عاصي سويلم حائراً لأول مرة في إتخاذ قراره!
*********
إزدادت شكوك “غيث” بأن هناك خطب ما يسيطر على زوجته، وخاصة حينما وضعت الطعام وجلست تعبث بملعقتها بطبقها الفارغ، فشق رداء الصمت حينما قال بهدوءٍ يحتضنها حتى تفيض بما تخفيه:
_بتحاولي تداري عليا أيه يا عائشة، أنتي من ساعة ما رجعنا من المستشفى وإنتي مش طبيعية.
لعقت شفتيها بارتباكٍ ملحوظ، فخمن من توترها المبالغ به زيارة والدته الشبه منطقية بوقتٍ هكذا، لذا سألها بشكلٍ مباشر:
_ماما جيت لإيمان المستشفى؟
ازدردت ريقها بتوترٍ، فارتجفت شفتيها بتمتمة أقرب للهذيان:
_لا…آآ..أقصد أه جيت شافتها ومشت على طول.
ألف كلمة وكلمة تزحم عينيها، ولكن الخوف كان يكتسحها فيجعلها لا ترغب بالحديث، تود فقط الاستسلام لهذا الأمان المؤقت المكمن بوجوده لجوارها، زفر زفرة قصيرة وهو يشيح بوجهه ليستقيم بجسده واقفاً مع قوله:
_وأكيد سمت بدنك بالكلام كعادتها.
بالرغم من هدوء نبرته الا أنها كانت تقطر غضباً جعلها ترتجف خوفاً من أن تزداد الأمور سوءاً بينه وبين والدته مجدداً، فنهضت عن مقعدها لتقف على بعد مسافةٍ آمنة منه، في محاولةٍ منها لردع ما ستقوله، ولكنها لم تستطيع واستسلمت لزلة لسانها:
_”غيث” أنا عايزة أعمل التحليل ده، يمكن وقتها الكراهية اللي جواها تنتهي.
تمتم بها مصعوقاً من بين أسنانه بانفعالٍ مكتوم:
_أنتي بتقولي أيه؟!
ناظرته بعينين خائفتين، فضغطت بكفيها على يديه لتخبره نظراتها برجاءٍ وتوسل بأنها لا تحتمل مواجهة غضبه في ذلك الوقت بالتحديدٍ:
_عشان خاطري يا “غيث” ، أنا تعبت من كل المشاكل دي، وجايز ده يكون الحل الوحيد حتى لو كان مهين.
أزاح كفها عنه ببعض العنف، ليحتكر نظراتها المتوسلة بعينيه النافذتين مردفاً بحزمٍ:
_متتكلميش عن الموضوع ده تاني لإنك بكده هتكوني بتهدي كل اللي بينا يا عائشة.
مجرد سماعها لتهديده الصريح بانتهاء علاقتهما، حاوطها الرعب ليهدم قلعتها التي تحاول الدفاع عنها باستماتةٍ، فتمسكت به وهي تردد بدموعٍ حارقة:
_لو حاولت تبعد عني تاني يا غيث أنا هموت نفسي، أنا مش هقدر أعيش نفس التجربة القاسية دي تاني.
قبض قلبه بعنفٍ فعاد ليكور يديه أمام وجهها مجدداً ليهمس أمام عينيها بصرامةٍ دافئة:
_أنتي ليه مصممة توجعيني بكلامك، قولتلك ألف مرة متتكلميش عن الموت والبعد تاني، سامعة!
منحته نظرة مشتتة، وكأنها طفلة صغيرة فقدت ضوئها الشارد وسط عتمة الليل الكحيل، فكان هو ضوءها وحياة كاملة بالنسبة إليها، أخفت وجهها بين أحضانه، فتقبل تهربها بترحابٍ حينما طوفها بذراعيه المفتولة ليقربها منه، فرفع يديه ليمررها على خصلات شعرها مرة تلو الأخرى وهو يهمس لها بصوته الرجولي الرخيم:
_محدش هيقدر يفرقني عنك حتى لو كان الحد ده والدتي.
وبندمٍ أتبعه كالظل استطرد:
_اللي عملته قبل كده مستحيل هقرره تاني.
شعرت بقوةٍ تمدها بالطاقة التي نفذت بلقائها، وكأنها باتت على يقين بأن معشوقها قد عاد إليها ليعشقها مثل سابق بل وطيب جرح فؤادها الغائر.
*******
كان من المهين إليه أن يعود لمنزله ووجهه يمتلئ بالكدمات التي تترك أثرها عالقاً، وكأنها تذكار تعمد عاصي تركه ليمنحه فرصة طويلة بحسم أموره، ولكن كانت نتائجه عكسية بالنسبة إلى “قاسم خلدون” الذي إختبر الجبن والتقهقهر لأول مرة، شعر وإنه يحمل وصمة عار بعودته منكسراً هكذا وسط رجاله وأفراد عائلته، لذا ظل لساعاتٍ مطولة بغرفة مكتبه، حتى وصل أحد رجاله بعد أن تلاقى رسالة منذ ما يقرب النصف ساعة بضرورةٍ لقائه، فوقف مقابله وهو يردد بوقارٍ لهيبته التي دعست بالأرض:
_تحت أمرك يا باشا.
تحركت يديه المتصلبة مع حركة جسده المرتخي على مقعده، ليفتح درج خزانته المقابلة أمامه، ثم سحب سلاح أسود اللون مقبض لمهامه الشنيع، ثم ألقاه تجاهه، ليتحرك لسانه الثقيل ناطقاً بأوامره الصارمة:
_بكره الصبح عايز أسمع خبر “عاصي سويلم”.
سحب الرجل السلاح ثم دثه بحزام بنطاله، ليجيبه ببرودٍ، وكأنه تلقى عمل بأحد الفنادق :
_إعتبره حصل يا باشا.
سحب من نفس الخزانة مبلغ طائل من المال، ثم دفعه بيديه تجاهه وهو ينفث تبغه الخاص:
_لو صدقت هتأخد أضعافهم.
غمز له بوجهه الأجرامي:
_هيحصل، وبكره هنشيع جنازة محترمة للمرحوم.
*******
بغرفة “لوجين”.
ظلت مستيقظة طوال الليل، تفكر في رده على عرضها، تبتسم تارة حينما تتذكر هيامه بها وتتردد تارة أخرى خوفاً من أن يرفض عرضها، فقبضت أشعة الشمس ظلام الليل الدامس، ومازال عقلها مزحوم بالتفكيرٍ به، فما أن سطع النهار بشمس يومها الجديد حتى هرعت لخزانتها لتجذب الأقرب ليدها، وأسرعت بالهبوط للأسفل، فوجدت إحدى الخادمات تضع الطعام على المائدة، فسألتها بابتسامةٍ مشرقة:
_هو فين عاصي؟
أجابتها وهي تسكب كوب من العصير إليها:
_خرج من الصبح وقالي أبلغك تستنيه لما يرجع.
وتركتها وعادت للمطبخ مرة أخرى، فجلست على المقعد باهمالٍ وهي تهمس بضيقٍ:
_راح فين على الصبح كده، هو مش كان في إتفاق بينا ولا أيه؟
ثم عبست بطبقها وهي تتحدث مع ذاتها بصوتٍ شبه مسموع:
_متزعليش نفسك اليوم هيعدي بسرعة وأكيد هيرجع وهيبلغني بقراره..
وحملت كوب العصير ثم صعدت مجدداً لغرفتها لتجلس أمام شرفتها تترقب لحظة عودته.
*******
بالمشفى..
شعر بسعادة الكون بأكمله حينما حمل الصغير بين يديه، فطبع قبلة صغيرة على جبينه ثم قال بحنانٍ:
_ربنا يحفظهولك يا حبيبتي..
وأخرج من جيب جاكيته ظرف أبيض وضع به مبلغ من المال، ثم وضعه بين الغطاء الثقيل الذي يحيط بجسده الهاش، ليعيده لاحضان أمه التي همست بحرجٍ:
_ليه كل ده يا “عاصي”.. كتير أوي!
أجابها ونظراته مازالت متعلقة بالصغير:
_مفيش حاجة تكتر عليه.
ثم تطلع إليها ليمرر يديه على كتفيها وهو بقول بحنانٍ:
_أنتي خسرتي أخوكي من اللحظة اللي خسر فيها نفسه وحياته، بس خلاص يا إيمان مش هسمحلك تعاني بسببي تاني.
كانت تائهة بحديثه الغامض، فوجدته يطبع قبلة عميقه على جبينها وهو يهمس لها بحنانٍ:
_مش هعمل غير اللي يرضيكي ويخليكي سعيدة..
ابتسمت والدمع يتلألأ بعينيها لعدم تصديق ما يحدث أمامها، فاحتضنه بقوةٍ، وهي تهمس في صدمةٍ:
_أنت بتقول أيه، فهمني تقصد أيه بكلامك ده؟
على الرغم من تليمحاته الباطنة الا أنها تكذبها، فحاولت معرفة ما يقصده بشكلٍ صريح، فوجدته ينتصب بوقفته وهو يغلق زرار جاكيته ليودعها قائلاً:
_أنا لازم أمشي دلوقتي بس أوعدك إن قريب هفرحك باللي هيسعد قلبك.
قالت بصوتٍ متقطع من أثر بكائها:
_هستنى الوقت ده بفارغ الصبر..
منحها ابتسامة مشرقة قبل أن يغادر لوجهته، ليترك الأمل ينير وجهها المتعب، ليعود لدمويته من جديدٍ.
**********
صعد “عاصي” لسيارته التي صمم على قيادتها بنفسه تلك المرة، فلم يعلم إلى أي وجهة يسلكها، وربما شعر في ذلك الوقت بحاجته للحديث، فلم يجد أفضل من رفيق دربه، إتجه إليه متناسياً الموعد المنسق بينهما، كل ما همه بتلك اللحظة أن يتحدث إليه فيما يقلقه، وبالفعل صعد إليه وفضل الانتظار بالخارج لحين أن ينتهي من كشوفاته، حتى أنه شدد على الممرضة بالا تخبره بأنه بالخارج، وبعد ما يقرب الساعتين من الانتظار أخيرًا أتاه وقت رآه مناسب للبوح عما يضيق صدره، فطرق عدة مرات على بابه قبل أن يدلف، فوجد “عمر” منشغل بحاسوبه، حتى أنه لم يتمكن من معرفة المريض الواقف على مسافة قريبة منه، فقال دون النظر إليه ويديه تشير على الفراش الطبي الصغير:
_استريح على الشازلونج وأنا شوية وهكون معاك..
لم يشاكسه بحديثه الصارم تلك المرة، بل فضل التمدد على الشازلونج، وكأنه يجلس على مقعد يحتمه على قول الحقيقة ولا شيء سواها، وكأنه يواجه نفسه بمرآة تشع بالصدق فقط، ترك “عمر” مكتبه ثم نهض ليجلس على المقعد القريب منه، فاندهش حينما وجده، فردد بذهولٍ:
_إنت بتعمل أيه هنا يا “عاصي”، تعالى نقعد في المكتب.
تجاهل حديثه عن اختياره لمكان جلوسه، ثم قال وعينيه شاردة بتأمل الضوء الهادئ الذي منحه نوعاً من السكينة:
_مش عارف بالظبط أنا أيه اللي حصلي، بس الأكيد إني حاسس إن في حاجة غريبة بتحصل معايا!
والتقط نفساً مطولاً قبل أن يضيف:
_حاسس بحيرة معرفش سببها ، أحيانًا بسأل نفسي هو أيه اللي إتغير؟ أنا لسه زي ما أنا ولسه قلبي بيعشق”هند” بس ازاي وأنا بفكر في”لوجين” في نفس الوقت، أنا معترف أن في رغبة جوايا بتطالبني دايمًا إني أقرب منها، رغبة بتدفعني إن عيني تفضل متعلقة بيها، وفي نفس الوقت خايف إني أواجه مشاعر أنا طول عمري خايف أعيشها، وحاسس إني بحارب في صراع قوي بين حنين الماضي المرتبط بهند وبين المجنونة اللي قيدتني وخلتني زي الغبي اللي مش عارف يأخد أي قرار.
تألم لأجله “عمر”، فلأول مرة يهتز الجبل الذي صمد لسنواتٍ شامخاً، محتفظاً بوجعه وبما يضرب قلبه بمفرده، وها هو الآن يبوح أخيرًا بما يشعر به، فسأله بحذرٍ:
_أنت بتحبها يا “عاصي”؟
أجابه بعد فترة طويلة من الصمت وكأنه يبحث عن اجابة تحسم الأمر، فقال بضيقٍ :
_مش عارف إذا كانت الفترة الجاية كافية إنها تخليني أحبها ولا لا، بس وجودها جنبي بيسعدني وبيرسم البهجة في حياتي.
ابتسم”عمر” لما يستمع إليه، ثم تساءل باستغرابٍ:
_طيب ومستني أيه؟ أنت بنفسك جاوبت على سؤالك، اتجوزها وعيش حياتك يا “عاصي”.
انكمشت تعابير وجهه وهو يرد عليه بحزنٍ:
_الموضوع مش بالبساطة دي يا “عمر”، قرار الجواز أمر سهل ولكن اللي جاي هو الأصعب .
إحتار في فهم ما يعنيه فقال باستياءٍ:
_مش قادر أفهمك” عاصي”، ولا أفهم قصدك ؟
نفث عما بداخله من هواء يزحم رئتيه ثم قال بوضوحٍ:
_لأني متأكد إني مش هقدر أنسى “هند” بعد الجواز، ومش هقدر أديها الحب اللي بتتمناه أي زوجة من زوجها، وبالنهاية هكون ظالم وغير منصف بحقها..
تطلع له”عمر” بهدوءٍ ثم قال بابتسامةٍ رزينة:
_أنا شايف عكس كده، أنا صديقك وقادر أفهمك كويس، خليك متأكد إن هيجي اليوم اللي هينبض قلبك بحبها… وإنها هتكون الخلاص لك من اللي أنت بتعيشه يا “عاصي”، اتمسك بيها وخليها تمسك أيدك وتطلعك من كل ده..
حديثه أينع في نفسه الراحة والأمان، حمسه لخوض تلك الخطوة الهامة في حياته، فتركه وتوجه للعودة للقصر وهو على يقين بأنه على صواب، وحينما توقفت سيارته أمام قصره وجدها تهرع لشرفتها لتراقبه بابتسامةٍ مبهجة، حتى أنها رفعت يدها لتشير إليه عدة مرات، أغلق”عاصي” باب سيارته وهو يراقبها بنظرةٍ خبيثة، ثم كاد بالتوجه للداخل، ولكن سرعان ما تخشبت قدميه المتصلبة حينما دوى صوت طلق ناري المكان بأكمله، لتستقر إحدى طلقاته المصاحبة للموت في صدره، انعقد حاجبيها وهي تتابع توقف حركته بذهولٍ، إنقلب لصدماتٍ لا حصر لها حينما وجدت قدميه تتنحى حتى استقامت بالأرض ليسقط من بعدها “عاصي” بإهمالٍ، تاركاً بضعة قطرات من الدماء تحتل الأرض وقيمصه الأبيض بات متسخاً بدمائه، انكمشت تعابيرها في صدمةٍ بدأت باستيعابها تدريجيًا، ليتحرر صوتها المكبوت صارخاً:
_عـــاصــــي!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الأربعيني الأعزب)

اترك رد

error: Content is protected !!