روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الثامن والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الثامن والعشرون

ما بين الألف وكوز الذرة

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الثامنة والعشرون

يجلس أعلى أحد المقاعد زافرًا بضيق شديد، لا يعجبه أن يجلس هنا وينتظر عجوز كادت سنوات عمره تكمل قرنًا، ذلك الرجل الحقير أجبره على المجئ فقط ليصطحبه، وكأنه السائق الذي اشتراه .
كانت اللعنات تخرج من فم سعيد متتالية ودون تفكير أو تريث، ينظر في الوجوه حوله ساخطًا، ألم يكن ذلك العجوز متولي بقادرٍ على أن يتصل بأي سيارة تأتي لتأخذه؟؟ أمازال البخل متأصلًا بين خلاياه ؟!
نفخ ساخرًا من ذلك الرجل يردد بنقم :
” اه من الذل اللي يخلي الواحد يتعامل مع متولى وغانم ..وصلاح، بس اخلص من كل ده وانا هـ..”
وقبل أن يكمل جملته رآها تسير أمام عيونه، كطيف خرج من خياله يتمثل أمامه ليزيد من جنونه، ألا تكفيه أحلامه كي تظهر له في واقعه ؟؟
تنفس سعيد بقوة وقد بدأ يشعر بتدهور حالته :
” شكلي بدأت اشوف خيالات، مرض نفسي كمان ينضاف لقايمة امراضي”
ختم جملته ساخرًا وهو ينظر أسفل قدمه لينتقض فجأة على صوت رنين هاتفه، أخرجه من جيب بنطاله ليرى اسم ميمو أعلى شاشته، وقبل أن يجيب أبصر نفس الخيال يتحرك في المكان ليتعجب ويسهو عن رنين هاتفه الذي انخفض، ثم على مرة أخرى أجاب بهدوء وملل وعيونه ما تزال تتابع خيالها الذي يتحرك أمامه :
” الو يا ميمو عـ ”
وقبل أن يكمل حتى جملته سمع صراخ ميمو بصوت جعله يبعد الهاتف فزعًا وصراخها يصل له واضحًا تهدده وتتوعده ..
وضع الهاتف أعلى أذنه مجددًا يحاول التحدث وصوت ميمو وصل له مشحونًا بالغضب :
” المرة دي حتى اللي هيعملوا فيك غانم اهون من اللي هتشوفه مني يا سعيد، اطلع برة الزفت ده ”
استاء سعيد من كل ذلك وما كاد يجيبها حتى سمع صوتًا يألفه القلب وتعشقه الأذن، رفع رأسه بسرعة كبيرة صوب الصوت ليجد خياله الحبيب يتحدث مع أحد الأشخاص في المطار ببسمة :
” آسفة ما اخدتش بالي وأنا ماشية ”
هز الرجل رأسه وغادر، وهي تحركت صوب داخل المطار لتتسع عين سعيد ويتأكد أنها حقيقة، إذن الجميع يراها هنا ليس هو وحده .
ودون أن يهتم بميمو اغلق الهاتف تاركًا إياها تسب وتلعن وتتوعد .
وهو …….
يسير في المكان الفسيح لا يعلم من الوجوه احدًا، لا يميز من الأشخاص نفرًا، بل الأحرى أنه لا يميز من الوجوه سواها، فعينه تلك لم تعد ترى إلا هي …
كان يركض بين الطرقات يخشى أن يكون قد تأخر، يأست، يأست منه وقررت الهرب، وهو من كان يمني نفسه باحضانها في نهاية ذلك الجحيم .
توقف سعيد في منتصف المطار يتنفس بصوت مرتفع مستندًا بكفيه أعلى ركبتيه، يحاول أن يهدأ كي لا يفقد رباطة جأشة وينهار في المكان، إلا هي .
رفع رأسه واستقام بجسده يركض بين الأجساد، ويبحث بين الوجوه عنها، يتبع قلبه ليرشده لها، وفجأة توقف يبصرها جالسة على أحد المقاعد في صالة الانتظار شاردة بشكل جعله يتأوه حزنًا عما حدث..
آهٍ على غبائك يا سعيد، أما كان لك أن تفق مبكرًا، أما كان بإمكانك أن تبتعد عن كل ذلك وتنأى بنفسك واختك وروحك بعيدًا عن كل هؤلاء البشر ؟
اقترب منها بخطوات متمهلة وهو يحاول التنفس، نسي سبب مجيئه من الأساس، نسي قلقه وحياته وخوفه من القادم أمام عيونها، وككل مرة نطق اسمها بتلذذ :
” زهرة …”
ارتفع رأسها بحدة شديدة تبحث عن مصدر الصوت الذي تعلمه وتألفه، لترى سعيد يقف أمامها متعرق الوجه، وانفاسه متسارعة، ينظر لها بلهفة شديدة جعلتها تتعجب وهي تقول :
” سعيد ؟؟ بتعمل ايه هنا ؟؟”
اقترب منها بخطوات حثيثة متلهفة يرى دهشتها تعلو وجهها وكأنها تستنكر وجوده لمنعها الرحيل .
بينما سعيد تحرك لها يقف أمامها، ودون أن يتحدث كلمة ركع على ركبتيه أمام مقعدها ينظر لعيونها وقد شعر فجأة بالرعب من فكرة رحيلها، حسنًا هو يعلن استحالة وجودهما معًا، لكن …لكن يكفيه أنها جواره تتنفس نفس الهواء الذي يتنفسه، هي لا يمكنها تركه، ليس الآن .
كانت زهرة تنظر له بصدمة لا تصدق ما يفعل :
” سعيد أنت …”
قاطعها سعيد يبتلع ريقه برجاء :
” متمشيش، ارجوكِ يا زهرة بلاش تسيبيني، أنا…أنا بس … أنا بس عايش عشان عندي أمل كداب غبي أن ممكن في نهاية الطريق الاقيكِ، وهم عايش عشانه، فبلاش حتى الوهم ده تسحبيه مني ”
شعر بقلبه يتلوي رعب من تلك الفكرة، هو يعيش على أمل كاذب أنها ستكون له بعد كل ذلك، ألا يستحق ولو مقدار صغير من السعادة في حياته البائسة تلك !!
” حتى لو مش هتكوني ليا، يكفيني اشوفك يا زهرة، متسبنيش دلوقتي، أنا … أنا بضحي بكل شيء عشان ارجعلك شخص قتلته بايدي، بضحي بحريتي وحياتي عشان ارجعلك سعيد اللي أنتِ …”
صمت لاهبط دمعة من عيونه :
” زهرة ارجوكِ أنا… أنا والله …”
قاطعته زهرة مشفقة عليه من كل ذلك الضغط الذي يظهر أعلى ملامحه، لا تدري حزنه ذلك كله جراء رحيلها أم أنه يعاني الكثير والكثير وجاء لينفجر الآن أمامها .
كان سعيد ينظر لها وهو على وشك انهيار آخر، هنا وسط جمع غفير من الأعين الفضولية، الجميع يراقبهم لتنحني له قائلة بصوت منخفض :
” سعيد قوم ميصحش كده اللي بتعمله، أنا مش مسافرة يا سعيد ده مؤتمر هحضره ”
نظر لها سعيد بشك من بين دموعه التي لم تهبط بعد، لم يبكي لكنه كان على وشك ذلك :
” ده بجد ؟؟”
هز له رأسها وهي تحاول أن تجعله يترك تلك الجلسة :
” أيوة يا سعيد والله، أنا رايحة مؤتمر يومين وراجعة مصر تاني، ارجوك كفاية كده وقوم ”
كانت تتحدث بصرامة كبيرة وقلبها يرتجف حزنًا عليه، لكنها أخذت عهدًا على الثبات، هكذا أخبرتها رفيقتها والتي تعمل طبيبة نفسية.
هذا ما جنته من خلف رأس سعيد، أن تتعالج لدى طبيب نفسي آخر…
نهض سعيد وهو يحاول أن يتمالك نفسه لتنظر له بحنق، وقبل أن تقول كلمة له شعر باهتزاز هاتفه،اخرجه ليجيب ميمو وينفجر في وجهها وينهي غيظه منها، لكن فجأة وجد اسم متولى يلوح أعلى شاشته مما جعله ينظر حوله بشك مجيبًا بصوت متماسك قوي غير ذلك الذي كان يتحدث لزهرة منذ ثواني معدودة ..
” أيوة أنت فين ؟؟ …..أنا في المطار مستنيك ”
فجأة نظر خلفه ليجد رجل يلوح له بالهاتف مبتسمًا مما جعله يزفر قائلًا :
” لحظة يا متولي وجايلك ”
” براحتك يا حبيب قلبي، بس مين القمر اللي معاك دي ؟؟”
وكعادته قال سعيد بصوت مستفز قوي وبنبرة خافتة مخيفة :
” وأنت مالك ؟ قولتلك لحظة وجاي ”
اغلق الهاتف، ثم نظر صوب زهرة التي شعرت بالريبة من طريقته في الحديث أو التحديق وابصرت ذلك الرجل الذي يلوح له بالهاتف :
” سعيد مين ده ؟؟ أنت رجعت تتعامل مع ناس مش كويسة تاني ؟؟”
نظر لها سعيد بهدوء، وضع يده داخل جيوب بنكاله يجيبها بثقة :
” متقلقيش ياقلبي دول مش ناس اساسًا، يلا اتحركي وانا هستنى تدخلي صالة المغادرة ”
نظرت له بحاجب مرفوع قبل أن ترفع حقيبتها تقول ساخرة وقد شعرت باليأس منه ومما يفعل :
” لا شكرًا متتعبش نفسك أنا مش هتوه ”
ومن ثم غادرت بخطوات قوية عصبية جعلت سعيد يزفر بضيق شديد وهو يبعد عيونه عنها بصعوبة ومن ثم نظر لمتولي وتحرك صوبه :
” يارب نخلص من القرف ده كله …”
_____________________
ومن وسط الاحزان ربما تمنحك الايام استراحة نفسية صغيرة فقط كي تأخذ نفسًا عميقًا لتعود مجددًا لحربك وأنت بكامل طاقتك ..
و خطبة صالح كانت هي تلك الاستراحة للجميع، استراحة أحسن صالح استغلالها لإخراج صلاح من ذلك المزاج الكئيب الذي يحلق فوق رأسه، وايضًا لتحريك رائد الذي كان يبدو جامدًا بشكل مريب ..
في منزل رؤوف كان جميع أقارب رانيا مجتمعين ليشهدوا واحدة من عجائب الدنيا، رانيا الفتاة التي كاد الجميع يقسم أنها في حياتها لن ترى ذكرًا بعيدًا عن محيط منزلها ..
نظرت رانيا حولها لذلك الجو الهادئ إلا من بعض التمتمات الصادرة، البعض يتناول الحلوى والآخر يحتسي المشروبات الباردة في جو هادئ لطيف كما أمر محمد، هو لا يحب الصخب وبالطبع لن يحبه في مثل تلك المناسبة، صارم وصعب التحمل، هكذا كان محمد ..
” ايه رانيا اروح اجيب مخدة وبطانية واجي استغل الهدوء ده وانام على جنب ؟!”
نظرت رانيا صوب مروة وقد شعرت بالحنق يملئها وهي ترى الجميع من أفراد عائلتها، يتحدثون ببسمات وكأنهم في عشاء عائلي هادئ وليس فرحة كادت تصبح مستحيلة .
” اعمل ايه ؟؟ ما أنا قولتلك تقولي لعبدالجواد يجيب حتى سماعة واحدة، وأنتِ عاملة نفسك مقموصة وبوظتي خطوبتي ”
شهقت مروة بصوت مرتفع :
” أنا ؟؟ أنا اللي بوظت خطوبتك ؟! يعني مش اخواتك ؟؟”
” اه، لأن أنا وأنتِ وكل العيلة عارفة أنك لو قولتي لعبدالجواد يجيب على الاقل أي حاجة تعمل بهجة في المكان، كان عمل كده ”
زفرت مروة وقد بدأت بالفعل تشعر بالذنب أنها لم تستجب لرجاء رانيا، لكن هي لن تنسى أبدًا كلمات عبدالجواد لها، رفعت عيونها صوبه منبهرة بهيئته التي تألقت في بدلة سوداء كما جميع إخوته وكأنهم جاءوا لحضور عزاء أحد المقربين وليس خطبة شقيقتهم .
في تلك اللحظة رفع عبدالجواد عيونه لها لتشعر مروة بالتوتر الذي جعلها تبعد عيونها بسرعة كبيرة، تسببت في ارتسام بسمة واسعة على فم عبدالجواد..
كان الأربعة رجال مرتصين جوار جدرا يراقبون ما يحصل في انتظار وصول العريس المزعوم، وقد تحدث عبدالله له منذ دقائق واخبرهم أنهم وصل منذ ساعة، لكنه فقط ينتهي من بعض الأمور وعلى وشك الوصول .
زفر جبريل يخفف من شدة رابطة العنق حول رقبته :
” انا زهقت، مش قولنا نص ساعة ونلم الدنيا ؟!”
نظر محمد لساعة يده يقول بهدوء شديد ويضم ذراعيه لصدره :
” باقي سبع دقايق ونلم الليلة نقولهم العريس هرب، وبعدين نروح نضربه عشان هرب وكسر فرحة رانيا ”
ابتسم الجميع لتلك الفكرة عدا عبدالله الذي أخرج هاتفه مبتعدًا عنهم خطوات يتصل بصالح، وهو يرى توتر رانيا وقد بدأت تتململ في جلستها .
” الو يا صالح أنت فين ؟؟”
أمام المنزل كان صالح قد هبط من السيارة وهو يشير للرجال أن يتجهزوا للدخول، يعدل من وضعية ثيابه :
” أنا قدام الباب داخل اهو ”
اغلق الهاتف بعدما ودع عبدالله، ثم أشار بيده للجميع يلحقون به..
وبالفعل تحرك الجميع خلف صالح الذي توقف قبل وصوله للبهو يشير لمحمود ورائد كي ينتهوا من توصيل ما أحضروا، وبالفعل ترك الجميع سماعات الصوت الضخمة ارضًا وقام صلاح بتوصيلها ..
في الداخل حيث الجميع، بدأ محمد يغضب بالفعل من تخلف صالح عن موعده، بعيدًا عن المزاح هو بالطبع لن يعجبه أن يغيب عن يوم كهذا ويكسر قلب شقيقته حتى وإن لم يكن يطيق رؤيته …
وقبل أن يتحرك من مكانه انتفض الجميع على صوت اغاني صاخب يأتي من منطقة الاستقبال في المنزل، جعل أعين الجميع تتسع بتعجب ورانيا تنظر صوب الباب بأعين مصدومة من صالح الذي كان يرتدي بدلة رمادية مع قميص ابيض ويدخل المكان وهو يغني ويرقص بكل سعادة وحماس .
وصالح يهز كتفه ويحرك يديه في الهواء بسعادة كبيرة وهو يردد كلمات الأغنية بسعادة كبيرة، ومعه صلاح الذي كان يشاركه السعادة ويتراقص معه في منتصف البهو تحت أعين الجميع ..
ورائد يصفر لهم ويصفق ..
كان صالح يغني ويرقص وهو يتجاهل رائحة الدخان التي بدأت تصدر من جهة الأربعة رجال، يحرك قدمه بحركات رشيقة جذابة، ثم امسك كتف صلاح وهو يراقصه بسعادة لسعادة صلاح ..
وصلاح ما كانت سعادته سوى لرؤية فرحة صالح، وأعينه الملتمعة وكأنه ولد للتو من جديد .
كان الاثنان يضعان أيديهما على أكتاف بعضها البعض يتراقصان بكل ما في قلبهما من السعادة ..
ومحمود يصفر لهما هو ورائد، بينما سليمان يراقبهما بفخر وسعادة، جواره مرتضى الذي كان يصفق لهما بفرحة .
بينما ذلك المسكين الذي جاء بالاجبار تحت رجاء شقيقته _التي لم تحضر حتى_ يقف في أحد أركان المنزل يحدق في الجميع بحنق شديد وقد شعر بسخافة ما يرى، لكن فجأة انتفض على صوت ميمو التي قالت :
” ايه يا بومة يا عدو الفرحة، افرد أم وشك ده متقفلش الليلة علينا ”
رمقها سعيد بسخرية لاذعة لا يدري حقًا سبب استجابته أطلرجاء نيرمينا بالقدوم لرؤية كل ذلك :
” اعمل ايه يعني ؟؟ اروح ارقص معاهم ؟!”
ابتسمت له ميمو بسعادة مصطنع :
” يعني ياريت والله وانا هقف اسقفلك هنا ”
أطلق سعيد صوتًا ساخرًا من حنجرته، وقبل أن يسخر من كل تلك الخيالات السخيفة في رأسها، شعر بمن يسحب يده ويلقيه بين جمع من الرجال يقفز ويصرخ بسعادة وهو يقف في المنتصف لا يستوعب ما يحدث ..
هو شخص انطوائي لم يحضر يومًا في حياته بأكمله مثل تلك المناسبات، عدا تلك الافراح الفاخمة الهادئة التي كان يحضرها فقط تلبية لدعوة أحد القذرين الذين يعلمهم ..
وعند رانيا كانت تراقب ما يحدث تكتم ضحكة صاخبة كادت تفلت من فمها على حركات صالح الذي خلع سترة بدلته وهو يشارك صلاح حركات عجيبة، والاكثر اضاحكًا هي نظرات إخوتها جميعهم، فقد كان محمد يراقب ما يحدث بأعين متسعة وفم متشنج، وجبريل يكاد يخرج سلاحه ويفرغ رصاصاته في الجميع، أما عبدالجواد لم يكن يهتم بكل ذلك بقدر اهتمامه بمروة التي كانت تراقب كل ذلك بانبهار سعيدة ..
وعبدالله كان يضم ذراعيه لصدره يراقب ما يحدث ببسمة صغيرة، ووالده يصفق للجميع ويصفر بصعوبة شديدة لهم.
نظر له محمد باستنكار :
” ايه يا بابا ؟؟”
نظر له رؤوف حانقًا :
” ايه يا محمد ؟؟ بنبسط، بفرح من نفسي بدل سدة النفس اللي عايش فيها بسببكم يا اخي ”
ومن بعد انتهاء كلماته ركض صوب تجمع الرجال يشاركهم الرقص والسعادة، يقفز بينهم بشكل مناسب لعمره .
وميمو كانت تراقب صلاح بأعين ملتمعة ترى سعادته التي لم تكن تراها في كثير من الأحيان، ترى جانب آخر منه، جانب حيوي مبتهج، نفس الجانب الذي كان يخبرها عنه قديمًا، جانب لا يظهر سوى مع صالح فقط .
كان الأمر مبهرًا نسختان طبق الاصل إلا من اختلافات في الثياب والهيئة الخارجية يتراقصان بسعادة في منتصف البهو، بشكل أجبر جميع الحضور على مشاركتهم ..
وأخيرًا بعد ساعة تقريبًا من الغناء والاحتفال، تحرك صالح صوب رانيا يجلس على مقعد جوارها يتنفس بصوت مرتفع جراء رقصه الطويل مع الجميع وقد انهكه الأمر ليظهر متعرقًا مبعثر الهيئة .
” يعني أنت معرفتش تكمل جميلك وتيجي بشكلك اللي دخلت بيه نتصور الاول صورة وأنت مترتب وبعدين روح بهدل نفسك ؟!”
نظر صالح صوب رانيا ليطلق ضحكات صاخبة على تزمرها منه، رفع يديه يحركها بحركات معتادة داخل خصلاته يعدل منها، ومن ثم نظر لها ببسمة قائلًا :
” كده زي الفل”
” والله هو هو نفس الشكل ”
استدارت صوب صلاح الذي نأى جانبًا مع ميمو وقالت :
” طب ما تستلف مشط من اخوك لو مش عندك ”
استنكر صالح حديثها مشيرًا صوب شعره :
” استلف مشط ؟؟ ده على اساس اني بسرح شعري بفرشة سنان يعني ؟!”
” بسم الله ماشاء الله وهو أنت كنت بتسرح شعرك اساسا؟؟”
اعتدل صالح في جلسته يعدل من وضعية قميصه، ثم ارتدى السترة مرة أخرى لتكتمل هيئته :
” أنا مش هرد عليكِ، الواضح أنك عديمة البصر، وقليلة الخبرة في تسريحات الشعر بتاعة الناس المحترفة”
كتمت رانيا ضحكاتها عليه ترى اقتراب والدها، يلقي على مسامعهم المباركات والتهاني وتبعه الجميع وهم تقبلوها ببسمات، حتى وصل صلاح الذي اقترب منهم، لينهض صالح ويضمه دون كلمة هامسًا له بحب :
” شكرًا يا صلاح، أنا يومي مكانش هيكمل غير بيك، مش عارف اقولك ايه ”
ابتسم صلاح يربت أعلى ظهره بحنان شديد :
” تقولي عقبالك يا صالح، هتقول ايه يعني، دي اكتر كلمة أنا محتاجها الفترة دي ”
ابتسم صالح ينظر خلفه لميمو التي كانت تقف جوار سعيد تتحدث معه بكلمات هامسة، لكن عيونها تحلق حول صلاح وكأنها تخشى أن يفلت من بين يديها :
” قريب يا حبيبي قريب ”
ابتعد عنه صلاح، ثم نظر صوب رانيا يحرك رأسها لها بهدوء مبتسمًا بسمة راقية هادئة :
” مبارك يا رانيا، ربنا يجعلها زيجة العمر يارب ”
نظرت له رانيا، ثم استدارت لصالح وكأنها تجري داخل عقلها مقارنة صغيرة، ومن ثم ابتسمت مجيبة :
” الله يبارك فيك يا دكتور ”
نظر لها صالح مستنكرًا ما تقول :
” ايه ياما أنا اللي دكتور هنا مش هو ”
” أيوة بس هو لايق عليه دكتور اكتر ”
رسم صالح ملامح مستنكرة أعلى وجهه، وقد شعر بالرغبة في الشجار معها شجارًا حامي الوطيس كما الايام الخوالي..
تتنحنح صلاح ليهدأ الأمور بينهما مربتًا أعلى كتف صالح :
” صالح برضو احيانًا بيكون زي الدكاترة والله ”
ابتسم صالح ساخرًا من كلماته :
” الله يكرم اصلك ”
اقترب منهم في تلك اللحظة محمود الذي قال بكلمات متلهفة :
” مساء الخير يا رانيا، مبارك على الخطوبة”
ابتسمت رانيا بسمة صغيرة :
” الله يبار…”
لكن محمود قاطعها إذ أنه من البداية ما جاء ليهنئهما إلا ليعلم ما يريد :
” فين هاجر ؟؟”
أشارت رانيا متعجبة صوب المطبخ الخاص بالمنزل :
” بتجهز الضيافة مع العمال جوا، بس …”
لكنه لم يمنحها الفرصة للحديث إذ تحرك بخطوات مهرولة صوب المطبخ تاركًا رانيا تنظر لاثره، ثم استدارت لصالح ترمقه بحنق وغضب جعله يتعجبها :
” ايه بتبصي عليا كده ليه ؟! هو اللي قليل الذوق ومشي ”
” أنت عمرك دورت عليا بين الكل بلهفة كده؟؟ عمرك سبت الكل عشاني ؟؟”
نظر صالح حوله يراقب الجميع المندمجين في الرقص والغناء والتهاني :
” أنتِ شايفة ده وقت مناسب عشان تكتشفي أنك اتجوزني واحد معندوش أي ذرة رومانسية ؟؟ بعدين ايه اسيب الكل دي، وانا من امتى كنت مع الكل عشان اسيبهم ؟؟”
” حاسة كده اني اتسرعت ”
أخرج صالح صوتًا متهكمًا من حنجرته يستنكر تلك الكلمات وبشدة :
” حاسة أنك ايه يا امي ؟؟ اتسرعتي ؟؟ ده انا مأجر سماعات وشايلها فوق العربية لما كانت هتنزل علينا واحنا جواها وجاي وجبتلكم البهجة معايا يا عيلة نكد، وتقولي اتسرعتي ؟؟ ”
صُدمت رانيا من كلماته وقبل أن توضح له مزحتها قاطعها قائلًا بصوت خافت مريب :
” بت اتعدلي لاحسن والله اخطفك من نص بيتك وبدل ما تبقي خطوبة تبقى فرح، وابقي وريني اهلك دول هيشوفوا وشك فين بعد كده، غير عم رؤوف اللي كل يوم هيشوف صورك في صفحة المفقودين ”
اتسع فم رانيا بعدم تصديق لكل ما ينطق به :
” أنت… أنت… أنت شخص ميئوس منك يا صالح بجد ”
____________________
” اسكندرية جميلة في الليل ها ؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة واسعة، وهي تستنشق أنفاسها براحة شديد، تميل برأسها للخلف، تستشعر نفس الشعور أعلى خيلها، تاركة للهواء حرية تحريكها كما تشاء، فهي أصبحت من الارهاق ما لا يدعها تتحرك كما تريد .
” جميل جدا ”
نظرت له تراه يستند على سور الشرفة التي تتوسط البهو جوارها :
” سيبت صالح لوحده ليه ؟؟ مش هيلبسوا الدبل ؟؟”
” لسه مش دلوقتي، لما الاتنين اللي جوا يخلصوا نقار، بعدين شكل في معركة على وشك البدء مع اخوات رانيا ”
ابتسمت له بسمة صغيرة تهمس :
” طب وأنت سايب معركة اخوك ليه ؟؟ مش هتقف معاه ؟؟”
نظر في عيونها بقوة ثم قال بحنان :
” صالح مش محتاج حد يشاركه معركة زي دي، هو كفيل يفوز بيها لوحده، لكن أنتِ يا مقدس …”
صمت يشرد بملامحها، ثم قال :
” محتاج اكون جنبك في معركتك مع نفسك قبل معاركك مع غيرك ”
اطالت ميمو النظر به، حتى شعرت بضعف يصيب اوصالها، هي تعبت، أُستهلكت من كل تلك المعارك التي تضطر يوميًا لخوضها، ويلها نفسها و ويلها شقيقها وسعيد، تعبت، تعبت ولا تستطيع أن تقول ذلك، كيف تخبرهم أنها أوشكت على الانكسار، أوشكت على السقوط …
مالت ميمو برأسها تدفنها بين ذراعيها المستندين أعلى سور الشرفة تد بصوت خافت مرهق :
” أنا نفسي مش عارفة إذا كنت هخرج من المعارك دي سليمة او لا يا صلاح، ويعز عليا ارهقك معايا واضعفك بمعارك أنت ملكش يد فيها ”
رفع صلاح كتفه ببساطة يحدق في المكان أمامه بهدوء، يستمتع بصوت الرياح الذي يحارب للظهور بين اصوات الاغاني الصاخبة في الداخل :
” أنا ليا أنتِ فيها يا مقدس، وأنا عمري ما اسيب اللي ليا لوحده في معركة، ما بالك لو اللي ليا ده حياة كاملة ؟؟ تفتكري ميستحقش احارب عشانه ؟؟”
نظرت له ميمو ثواني دون رد، قبل أن تهز رأسها له مبتسمة بحب كبير، ثم نظرت ارضًا تحاول اخفاء ملامحها المنهكة:
” بس المعركة طولت اوي، طولت لدرجة اني مش عارفة إذا كنت هخرج منها سليمة أو لا، وخايفة بدل ما تكون الخسارة خسارة نفسي، تبقى خسارة نفسي وروحي يا صلاح، مش هستحمل ”
” أنا مؤمن بشيء مهم اوي يا ميمو في حياتي، وهو أن الشيء اللي بيجي بعد تعب كبير بيكون ليه طعم تاني، فصدقيني بعد كل البهدلة دي هتكوني اطعم شيء في حياتي الماسخة ”
نظرت له ميمو ثواني دون رد قبل أن تنفجر فجأة في موجة ضحك تخللتها كلمات غير مفهومة جزئيًا :
” أنت بتعاملني على اساس اني طبق مكرونة ايه ؟؟”
ابتسم لها صلاح يقول بجدية :
” طبق مكرونة ايه بس، أنتِ بالنسبة ليا عبارة عن طبق حلويات، مستني اخلص من كل المرار اللي في حياتي، عشان اعرف استطعم بيه براحتي ”
هزت رأسها تقول باقتناع شديد :
” بدأت أحس أن مستوى الغزل عندك في انحدار ملحوظ، أنت بتقعد مع صالح كتير ؟؟”
ضحك صلاح ساخرًا من كلماتها :
” صالح ؟؟ والله أنتِ مسكينة، عارفة حتى الغزل المنحدر ده بالنسبة لصالح قمة الرومانسية، ده لو نطق بيه اساسا ”
تعجبت ميمو كلماته ليوضح لها مقصده :
” صالح من النوع اللي متحطيهوش في مواجهة مع الجنس الاخر، معندوش تحكم في لسانه، معندوش موضوع التفكير قبل الكلام، وده من صغره، هو طالع لامي كانت بنفس التسرع وكل شيء ”
ابتسمت له ميمو تغوص في تلك النقطة في بحار حياته :
” والدتك كانت زي صالح كده ؟!”
” نسخة كربون من صالح أو بالأحرى صالح نسخة منها، بس هي مع شوية دلع زيادة بتستغل أنها البنت الوحيدة بين تلات رجالة ”
ابتسمت له تقول بحنين شديد :
” نفس المبدأ اللي كان بيتعامل بيه اخواتي معايا، بيعاملوني كأني ملكة، كان كل واحد فيهم عنده تعامل مختلف ”
نظرت له بأعين ملتمعة بالحب والحنين الشديد :
” تخيل نادر اللي مطفي ده هو نفسه اللي كان مصدر البهجة في حياتي، كان أكثر شخص فرفوش وبيحب الضحك بينا، كان بيتجاهل أي مشاكل ممكن تعكر مزاجه لكن ….”
صمتت تبتلع غصتها، تراقب ملامح صلاح المنتبهه لما تقول :
” لكن جه اللي يكسره مش بس يعكر مزاجه، حول نادر ١٨٠ درجة، لشخص اسود غير الطفل اللي كان كل حياته الوان، ومازن …”
صممت تستشعر قرب انفجار دموعها :
” ومازن لو …يمكن لو كان عاش كان ….كان قدر يلملم انهيارنا، مكانش حصل ده كله، مازن كان شديد وكان مسؤول اوي، مكانش عمره هيسمح لعمي يعمل اللي عمله فيا، حتى …حتى نادر مسمحش بكده، بس عمي استغل هشاشة نادر وقتها وخدعه، و…”
صمتت تبكي بحزن شديد :
” كسره ودمر أخر ذرة إنسانية جواه، خلاه من الشخص الحيوي لنسخة باهتة ساكت طول الوقت، يمكن لو مازن كان عايش دلوقتي كان قدر يضمنا ويحمينا من كل ده، أنا يا صلاح حاسة اني حملت نادر فوق طاقته، هو عاش دور الأب والاخ الكبير، رغم أنه هو الصغير، بس اضطر يعيش دور أكبر منه ..”
صمتت تمسح دموعها التي هبطت دون شعور منها، ثم أخذت نفس عميق تقول :
” وماما …ماما كانت أقوى شخص أنا عرفته في حياتي، وقفت قدام بابا بكل قوته وجبروته ودافعت عني بكل ما تملك”
نظر لها بفضول لتقول بشرود :
” لما كبرت وقربت من جاد عرفت منه إن سبب كل ضرب بابا لماما مكانش الفلوس ابدا، لا ده كان بسبب أنها رافضة جوازي منه، فبابا كان بيضربها لغاية ما يتعب ويمشي، وهي كانت تكدب وتقول عايز فلوس ”
مسحت وجهها، ثم ابتسمت له تقول :
” عائلة بائسة ها ؟؟ مشاكل كتير أنا لو منك مش هفكر حتى اقرب منها، الافضل تبعد لغاية بس ما …”
” مَقدس تتجوزيني ؟؟ ”
نظرت له بصدمة ليس لعرضه الزواج فهو سبق وعرضه عليها كثيرًا وهي وافقت، لكن لعرضه في ذلك الوقت وبهذه الطريقة، لكن صلاح لم يتراجع وقد عزم أمره على إنهاء كل ذلك، والده هنا والجميع هنا فقط ينقصهم نادر ولن يكون عائقًا له ..
” انهاردة، عايز اتجوزك انهاردة قبل ما ابويا يرجع البلد، بعد الخطوبة هنرجع ونكتب كتابنا ….”
______________________
كان يتحدث مع والده بصوت مرتفع بعض الشيء كي يستمع كلٌ منهما للآخر، في تلك الأثناء اقتربت هي منهما تتحدث بصوت خفيض خجل :
” رائد لو سمحت ممكن تليفونك ؟؟ عايزة اتصور مع العروسة وهبعتها لنفسي وامسحها تاني ”
ارتفع حاجب رائد بعدم فهم، ورغم ذلك تحركت يده تلقائيًا يخرج هاتفه من جيب بنطاله، يحاول فهم ما يحدث هنا متسائلًا:
” أمال فين تلفونك يا تسبيح !!”
توترت ملامح تسبيح بشكل أثار ريبة رائد اكثر واكثر :
” هو في البيت، أنا سيبته عشان …مش متعودة افضل شيلاه يعني وكمان كان محتاج يتشحن ”
اومأ لها رائد بملامح هادئة ظاهريًا عكس ما طمرت نفسه من شكوك وهواجس جعلت دماءه تغلي كالمراجل داخل أوردته .
تحركت تسبيح بعدما التقطت منه الهاتف، وهو عاد بالحديث لوالده الذي قال جاذبًا انتباهه :
” حصل ايه يا رائد ؟؟ ”
نظر له رائد بعدم فهم :
” حصل ايه يا حاج مش فاهم ؟!”
” رائد متصيعش على ابوك، مالك أنت وتسبيح ؟؟ نظراتك ليها وتوترها مش طبيعيين، اوعاك تكون مزعل البنت منك يابني دي يتيمة وملهاش غيرك، ومراتك ”
تحدث رائد بصدمة من كلمات والده، هل يظن أنه يومًا قد يجور عليها أو يستغل قوته عليها :
” ايه يا حاج الكلام اللي بتقوله ده ؟! هو أنا صغير يعني ؟! متخافش على تسبيح دي مراتي وفي عيوني وعمري ويشهد ربنا ما اظلمها ولو بكلمة أنا ابنك وأنت عارفني ”
ضرب سليمان الأرض أسفله بعكازه معترضًا على كل تلك الكلمات التي لم تضف له سوى تأكيد قوي على أن هناك ما يحدث بينهما .
” وعشان أنت ابني يا رائد وعارفك بقولك فيه حاجة بينك وبين تسبيح، البنت مالها متوترة منك كده ليه ؟؟”
صمت رائد يحاول أن يظفر بعض الأنفاس التي يكبتها داخل صدره :
” متقلقش يا حاج والله ما مزعلها ولا هعملها يوم بقصد، أنا بس الفترة دي مضغوط في قضية وأمور كتير وانا اللي مقصر معاها وهي يمكن تكون زعلانة مني مش اكتر ”
” يبقى تروح تراضيها، واقف معايا ليه ؟! روح شوف مراتك وانا هروح أقعد مع عمك مرتضى ونسيبهُ ”
وبمجرد إنتهاء تلك الكلمات تركه راحلًا صوب مرتضى، ورائد وقف مكانه يراقب تسبيح عن بعد تلتقط ما تريد من صور، ثم وبعدما انتهت نظرت صوبه معتقدة أنه ما يزال يتحدث مع سليمان، لكنها تفاجئت من تحديقه بها مبتسمًا، رفع رائد إصبعه يشير لها بالاقتراب منه وكذلك فعلت على استحياء والقليل فقط من التوتر، وبمجرد أن أصبحت جواره رفعت له الهاتف تقول ببسمة لطيفة صغيرة :
” شكرا يا رائد ”
أخذ رائد الهاتف من يدها، ثم امسك بها قبل أن تنزلها :
” العفو يا توتا”
نظرت له تسبيح ببسمة واسعة وقد شعرت أنها أخذت تصريح الأمان منه بنطقه للقب التدليل الخاص بها، اقتربت منه ببطء تناظره من خلف نقابها :
” شكرا ليك يا رائد ”
ومجددًا أجابها رائد بنفس البسمة :
” العفو يا توتا، كل ده عشان التليفون، خديه كله لو عايزه”
” لا عشان بسمتك دي وعشان توتا ”
رمقها بعدم فهم لتقترب هي منه أكثر حتى كادت تلتصق به، ورائد حرك عيونه في المكان يتأكد أن لا أحد يتابعهم، متعجبًا تصرفات تسبيح التي ابتسمت له بسمة ظهرت واضحة في عيونها :
” أنت أكثر زوج طيب في الدنيا دي على فكرة، وانا بحبك”
ربت رائد على رأسها بحب وقال بهدوء شديد :
” ايه المزاج الر… ”
وفجأة توقف شاعرًا بتوقف الحياة من حوله والهدوء التام الذي عم المكان بأكمله، ابتلع ريقه يشعر بصفير تبع كلمتها .
امسك يدها وسحبها ببطء لأحد الأركان بعيدًا عن الجميع وقد شعر بضربات قلبه تزداد أكثر وأكثر :
” أنتِ قولتي ايه ؟؟”
وتسبيح أدركت الكلمة التي يرجوها من خلف سؤاله، لذا لم تبخل عنه وهي تردد بكامل الحب :
” قولت أنك اكتر زوج طيب في الدنيا دي على فكرة واني بحبك يا رائد”
تأوه رائد بقوة وشعر بقلبه يتضخم بحب تلك المرأة أمامه، ودون مقدمات مال جاذبًا إياها لاحضانه، متجاوزًا كونهما في مكان عام، مستغلًا اختفائهما وعلو صوت الموسيقى الذي غطى على ما يحدث .
شعرت تسبيح به يشدد العناق عليها وهو يهمس بكل ما يحمل لها من مشاعر :
” وانا يا تسبيح …وانا بحبك اوي …بحبك اوي يا توتا ”
ابتسمت تسبيح بسمة واسعة وهي تستمتع بأحضانه، وهو يتنعم بلحظاتهما، لولا صوت صلاح الذي خرج من الشرفة خلفها يضرب رأس رائد بحنق شديد :
” خف يا عسل مش في البيت احنا، ويلا عشان صالح هيلبس الدبل ”
خرج تتبعه ميمو التي ابتسمت لهما غامزة بمشاكسة، كل ذلك وتسبيح تدفن وجهها ارضًا مخافة أن تقابل أعين ايٍ منهما .
وبمجرد خروجها أطلق رائد سبة جعلت أعين تسبيح تتسع باستنكار وهو استنكر استنكارها :
” ايه مش شايفة الرخامة ؟!”
رفعت حاجبها ولم يظهر حنقها سوى في عيونها، ليزفر بضيق ممسكًا بيدها في قوة شديد يضمها لجانبه :
“لينا كلام بليل، مخلصناش الحوار ده، وكمان فيه حوار تاني محتاجين نتكلم فيه ….”
ورغم شعورها بالتوتر من نبرته في الجملة الأخيرة إلا أنها ابتسمت ببساطة وسارت خلفه لتشهد واخيرًا خطبة صالح ورانيا في جو ملئ بالبهجة والسعادة ….
_____________
” هو ياسين قالك متقابلنيش ؟؟”
كانت نبرته متخوفة أن يكون شقيقها قد حذرها من رؤيته ولذلك تتعمد التهرب منه منذ وطأ بقدمه أرضية المطبخ، شعور موحش ملء قلبه منذ رؤيته نظرات هاجر التي التقطها إليه دون أن تحسن إخفائها.
” لا ابدًا وياسين هيمنعني عنك ليه يا محمود ؟؟ هو أنا يعني عيلة صغيرة وهيخاف عليا منك ؟!”
وكأنها أجابت سؤالها بنفسها مو خلال نظراتها الشاردة في البعيد ومحاولتها لتلاشي التقاء نظراتهما، لكن محمود أصبح شبه متأكدًا أن ما يحدث الآن ليس ذلك الخجل الفطري الذي يصاحب هاجر طوال الوقت معه ..
” هاجر قولي بصراحة، هو ياسين قالك على مقابلتي ليه قبل كده ؟؟”
تركت هاجر السكين الذي كانت تستخدمه لقطع الكعك ونظرت له ثواني دون رد، ليكون ردها بعد ذلك الصمت هي هزات بسيطة من رأسها..
ابتسم محمود وقد تأكدت شكوكه، تنفس بصوت مرتفع يحاول أن يجد كلمات يبرر بها طيشه وغباءه، هو في الحقيقة لا يجد مبررًا لكل ذلك.
” هاجر نتكلم بصراحة ؟؟”
” ياريت يا محمود لاني مش قادرة احدد دلوقتي موقفي من الموضوع ”
صمتت ثواني، ثم قالت بخجل شديد وتردد :
” ياسين ساب الموضوع في أيدي والموافقة أو الرفض يكون مني، وقالي إني عاقلة وكبيرة بالقدر الكافي اللي يسمح ليا اخد قرار زي ده، لكن …”
رفعت عيونها له تقول بملامح أثارت في قلبه مشاعر عدة، هي في تلك اللحظة أشبه بطفل تائهة لا يجد لمنزله سبيلًا :
” أنا… أنا مش عارفة أخد قرار يا محمود، أنا مش عارفة أنت كويس ولا شخص مش واعي بنص حياته زي ما قال ياسين، أنا… أنا مش بحب أندم على قراراتي فما بالك لو كان قرار هيحدد مصير حياتي الجاي ”
هز محمود رأسه يتفهم كل ما تفكر به :
” أنا عارف يا هاجر ومقدر كل ده، وعارف أن ياسين غلط لما ساب القرار ليكِ”
رمقته باستنكار ليكمل هو لحظات الصراحة التي يعيشها :
” خلينا واضحين يا هاجر، أنتِ مش وش إدارة حياة، أنتِ أخرك تديري المخبز بتاعك ”
شعرت هاجر بالغضب لاستهانته بها، ليس لأنها لم تواجه من الحياة سوى القليل وتفتقد لخبرات كثيرة، أنها شخص غير مسؤول ولا يمكنه إدارة حياته .
” على فكرة أنا بعرف كويس اوي ادير حياتي، ومتخلنيش اجرب أول قرار في الإدارة عليك يا محمود، أنت فاكرني ايه بالضبط ؟!”
ابتسم محمود يرى الشراسة المرتسمة أعلى ملامحها :
” فاكرك هاجر اللي زي البسكوت النواعم أقل ضغطة هتكسرها ”
كادت هاجر تعترض وبشدة على ذلك الوصف، هي ليست هشة لتلك الدرجة، هي فقط انسانة لم تحسن الاختلاط بفئات كثيرة، لم تصطدم بالعديد من التجارب، ربما لأنها في بداية عمرها أرادت أن تكون مديرة نفسها وتنشأ مشروعها الخاص دون احتكاك مع مدير وموظفين وحياة أخرى ..
سارع محمود لتوضيح كلماته :
” أنا أبدًا مش بقلل منك، بالعكس دي ميزة مخلياني متمسك بيكِ، هاجر أنا كمان شخص ممكن أظهر البعض غير مسؤول وتافهة، ناس كتير واخدة عني الفكرة دي بسبب تصرفاتي، لكن فيه فرق بين التافه وبين اللي بيعمل نفسه تافه عشان ميوجعش دماغه بحوارات كتير”
نظرت له بفضول وكادت تتساءل عن مقصده ليسمعا صوت موسيقى معروفة ومألوفة لدى الجميع تعلن ببساطة بدء ارتداء الذهب للعروس …
ابتسم محمود يشير لها برأسه :
” الحوار لسه مخلصش يا نواعم، عندنا كلام كتير، بس بعدين عشان صالح هيلبس الدبل، يلا عقبال دبلتك يارب”
نظرت له هاجر بخجل ليبتسم لها متنحيًا جانبًا مشيرًا على الباب لتتحرك أمامه، وهي تحركت بكل بساطة ولهفة شديدة لتكون جوار ابنة شقيقتها .
وبمجرد أن خرجت أبصرت الأربع شباب يقفون كالسور أمام رانيا يشاهدون ما يحدث بأعين متربصة .
بينما صالح استلم العلبة من صلاح الذي ربت على كتفه بحب شديد يخرج هاتفه ليصور ما يحدث بسعادة كبيرة، رغم أن هذه المرة الثانية التي يعقد بها صالح خطبته، إلا أن السعادة المرتسمة أعلى وجه صالح كانت توحي بكل ما يحمل في قلبه من السعادة .
وعند صالح كان يشعر بسعادة غامرة يكاد ينبت له جناحين ويحلق في أرجاء المنزل فرحةً..
كانت بسمة رانيا الواسعة هي ما يرى صالح في تلك اللحظة..
صلاح يقف أمام الأربعة يعطيهم ظهره، حتى إذا حاول أحدهم التدخل وإفساد فرحة شقيقه يكون لهم بالمرصاد .
وعلى العكس كان الأربعة يحدقون في رانيا بحب شديد، تلك البسمات التي توزعها على الجميع والسعادة الملتمعة بعينيها، ساهمت في إزالة أي عبوس على وجوههم وقد ارتسمت بسمات حنونة .
انتهى صالح مما يفعل ونظر لرانيا غامزًا بحب :
” عقبال الفرح يا متشردة ”
أطلقت رانيا ضحكات صاخبة ليبتسم لها صالح هامسًا جوار أذنها بسبب صوت الموسيقى الصاخب :
” أنا كنت خليت صلاح يكتبلي كلمتين حلوين عشان اقولهم ليكِ بعد ما البسك الدبل، والصراحة كده انا نسيتهم، فممكن تعملي نفسك مكسوفة وإني قولتهم عشان صلاح قعد ساعتين يحفظهم ليا ولو عرف اني مقولتش وضيعت وقته على الفاضي هيخلص عليا ”
استدارت له رانيا بصدمة كبيرة لينظر لها بأعين متوسلة، وهي ثواني فقط حتى كان صدى قهقهاتها يصدح في المكان بشكل أثار ريبة إخوتها، وهي لم تستطع أن تتوقف عن الضحك، وصالح يرمقها باستنكار شديد :
” اششش بقولك كلام رومانسي مش نكت ”
ازدادت ضحكات رانيا بقوة ليبتسم صالح وقد حقق مراده في رؤية ضحكاتها، استدار ليبصر صلاح الذي كان يقف جوار الأربعة والخمسة رجال يضمون اذرعتهم لصدرهم رافعين حاجبهم رامقين إياهم باستنكار شديد .
ابتسم صالح يفسر الامر لصلاح :
” هتموت من السعادة يا حبيبي، تسلم ايدك على الكلام”
ابتسم له صلاح بسخرية يتحرك صوبه ضاربًا رأسه بمزاح، ثم ضم صالح له بكامل الحب والسعادة، يربت أعلى ظهره هامسًا :
” نسيت الكلام صح ؟؟”
” صح ”
” كنت عارف، على العموم يا صالح إنك تضحك البنت ده شيء يُحسب ليك، وافضل من ميت جملة محفوظة يا حبيبي، اتصرف معاها كأنك صالح وعيش معاها على طبيعتك، بس مش اوي يعني ”
ابتسم صالح يتنفس بعمق وهو يزيد من ضمه لصلاح يتذكر جملته حينما أخبره أن يعطيه جملة لطيفة تسلب لب رانيا .
” ممكن اديك دفتري كله يا صالح، واحفظك مليون جملة مش واحدة، بس وقتها أنت هتكون كأنك صلاح مش صالح، عبر ليها بطريقتك يا حبيبي، متحسش ابدا أنك قليل أو أنك مش بتفهم في الحاجات دي، خليك على طبيعتك اللي رانيا حبيتك بيها، هي محبتكش في ندوة شعرية يا صالح، قولها اللي يجي معاك ويكون من قلبك ”
ابتعد صالح عن صلاح يقول بحب :
” عقبال ما افرحلك يا صلاح ”
اتسعت بسمة صلاح بشكل خطير جعل صالح يشعر بالريبة قائلًا :
” هو فيه ايه ؟؟”
ربت صلاح أعلى كتفه هامسًا :
” قريب اوي، أقرب مما تتخيل يا حبيبي ”
وعند رانيا كانت تنتقل من احضان هذا لأحضان ذاك، ووالجميع يقبلها بحب شديد وقد شعروا في تلك اللحظة بالتأثر، أصغرهم هي أول من خطت ذلك القفص .
ضمها محمد بحب شديد :
” اتمنالك كل السعادة ياقلبي، يارب حياتك الجاية تكون افضل يا عيوني ؟؟”
كان يتحدث وهو يقبل ما بين عيونها، لتشعر رانيا بسعادتها تكتمل بموافقة ورضى اخوتها، ومن بين احضان محمد قام جبريل بجذبها يرفعها عن الأرض بقوة يشدد ضمها وهي ابتسمت تتنعم بأحضان جبريل والذي كان أكثر إخوتها قسوة وخشونة، لكنه ارقهم قلبًا، ومن ثم عبدالله الذي أمسك كفيها يقبلهما هامسًا :
” إن شاء الله تكون جوازة العمر ياقلبي ”
ابتسم له رانيا لتشعر بمن يجذبها لاحضانه، وقد كان ذلك هو رفيقها الأقرب وصديقها الاعز، عبدالجواد الحبيب الذي كان رفيق الليالي الطويل وشريك الطرق الصعبة :
” مبارك يا روني، يارب تكون بداية سعادة كبيرة ليكِ ياقلبي ”
___________________
في تلك اللحظة كان ميمو منعزلة عن الجميع تتحدث في الهاتف مع نادر، تكتب له وهو يراسلها يخبرها عن أحواله وأحوال نيرمينا ..
أطلقت ضحكات مرتفعة على ما أخبرها من حديث نيرمينا له، سمعت صوت سعيد خلفها زافرًا بحنق شديد وقد على صوت ضجره ليصم الجميع حوله، وكان أولهم ميمو التي استدارت له ترى ملامح عابسة أعلى وجهه :
” أنا زهقت وعايز امشي، يعني هي نيمو تجبرني اجي وهي اساسا مجتش، وتقولي هنبسط، أنا جيت هنا اتنكدت اكتر ”
نظرت ميمو خلفه صوب الجميع المحتفل واقتربت منه تتساءل :
” ليه زعلان كده يا سعيد ؟؟ مش حابب ترقص معاهم وتهيص، بكرة تدخل السجن ومتلاقيش فرحة في حياتك”
رمقها سعيد باستنكار شديد :
” المفروض أنك كده بتواسيني ؟؟ ”
” يعني بحاول ”
تركها سعيد وتحرك صوب الشرفة يجلس ارضًا جوار السور يقول بتعب وإرهاق شديد :
” طب سيبيني وامشي عايز اقعد لوحدي، مش طايق اشوف حد”
نظرت له ميمو متعجبة كلماته :
” حتى انا يا سعودي ؟؟”
رفع سعيد وكهه لها مغتاظًا قائلًا بنبرة حانقة :
” خاصة أنتِ يا ميمو ”
هزت ميمو رأسها متفهمة حاجته للبقاء وحده، لذلك تحركت صوب واستقرت ارضًا تضم قدميها لصدرها تقول متنهدة :
” الجو جميل انهاردة ”
نظر لها سعيد مستنكرًا لتضربه في كتفه ممازحة إياه بشكل خشن :
” متبصش كده يا سعيد، بكرة تتحبس ونخلص منك واوحشك وتتمنى لحظة من اللحظات دي ترجع بعد ما تقضي يومك كله مع المساجين”
سخر منها سعيد يبتعد عنها بغيظ شديد :
” على الاقل ارحم منك ومن قعدتك، آخرها ايه ؟؟ خناقة معاهم ممكن تنتهي بسكينة في بطني وموتي ؟؟ برضو ارحم منك ومن قعدتك ”
زفرت ميمو بصوت مرتفع تقول :
” ماما زينب كان عندها حق لما كانت بتكلمني عنك، كانت دايما تقولي يا ميمو يا بنتي سعيد ابني ده حيوان مش بيفهم ولا يعرف يعمل حاجة، فاكر نفسه فاهم وخطير وهو لا بيفهم ولا نيلة، وآخره سلة الزبالة ”
” امي قالت كده عني ؟؟”
ابتسمت ميمو تقول باستفزاز :
” مش بالضبط أنا ضفت شوية كلمات معبرة اكتر على كلامها ”
” طبعا كلماتك المعبرة دي هي الكلمات الزفرة اللي في الجملة ”
” الله ينور عليك ”
صمت وهي بدورها صمتت تستمتع بالهدوء حولها، وسعيد شرد في النجوم أمامه أمامه وساد الهدوء حولهم إلا من بقايا ضجيج استطاعت تخطي حواجز الستائر الضعيفة وتخطو صوب منطقتهم .
وفجأة قطع كل ذلك صوت سعيد الذي قال ولم ينزع عينه عن النجوم :
” ميمو ..”
” اممم”
” لنفترض أنك بنت عادية زي باقي البنات، كان ممكن في يوم تسامحيني لو مكان زهرة ؟! وتفضلي جنبي وتتتجوزيني في آخر الحكاية ؟؟”
نظرت له ميمو من أعلى لاسفل تحاول البحث فيه عن شيء أثار ريبته لتقول:
” مش شايفة ميزة فيك تخليني اتغاضى عن قذارتك يا سعيد غير عيونك الملونة، وأنا مش بحب اساسا العيون الملونة، فلا.. لو كنت بنت عادية ومكان زهرة مش هسامحك ”
صمت يهز رأسه مقتنعًا بذلك الرد :
” طب ده لو أنتِ بنت عادية، طب لو ميمو الزبالة هتعملي ايه ؟؟”
ابتسمت ميمو بسمة جانبية تقول وهي ترمقه بشر :
” كنت هوريكِ الزبالة بتتعامل ازاي مع الزبالة اللي زيها يا سعيد، مكنتش هكتفي بس اني مسامحكش، ده أنا كنت هطفحك الجذمة واندمك على اليوم اللي عقلك وزك فيه تيجي عليا وتضحك عليا ”
ومجددًا هز رأسه يقول بهدوء :
” طب الحمدلله أنك مش مكان زهرة ولا أنك بنت ”
أطلقت ميمو ضحكات مرتفعة، ومن ثم صفعت رأس سعيد تقول بملامح منقبضة كأنها لم تضحك منذ ثواني :
” متهزرش معايا تاني بقى ”
ضرب سعيد يدها بغضب شديد :
” أنتِ اللي قاعدة معايا، قومي غوري من هنا ”
في تلك اللحظة اقتحم صلاح جلستهما يقول ببسمة مغتاظة وملامح مخيفة :
” اتمنى مكونش بقاطع عليكم الحوار اللطيف ده، بس انا كلمت مأذون اعرفه واتفقت معاه يروحلنا المستشفى بعد كام ساعة كده، فاجهزوا لغاية ما اشوف صالح هيمشي امتى ”
ألقى قنبلته ومن ثم تبعها بنظرات حانقة صوب سعيد الذي تجاهله محدقًا في ميمو بصدمة كبيرة :
” أنتم هتكتبوا الكتاب ؟؟؟”
_____________________
كان يحدق فيها ولا يكاد يصدق ما عاشه منذ ثواني، هل الأمر كان بهذه البساطة التي شعرها أم أن سعادته انسته كل ما مر به حتى وصل لتلك اللحظة !!
ابتسمت رانيا تدفع بطبق الحلوى صوبه مرددة :
” دوق الحلويات اللي عملتها هاجر، دي جميلة اوي ”
ابتسم صالح يتناول قطعة من الحلوى، ثم قال بلا مقدمات :
” ها هنكتب الكتاب امتى ؟؟”
اتسعت عين رانيا بعدم فهم، ونظرت حولها للمنزل الذي لم يخلو يعد من باقي أفراد العائلتين، لكنها أحبت أن تنفرد بصالح قبل عودته للقاهرة بسبب ظروف عمله هذه الأيام ..
” صالح احنا لسه مكملناش مخطوبين ساعة”
” طب ما هو كده فل اوي، يعني أنا شايف نحدد دلوقتي كتب الكتاب ويكون خلال اسبوع، والفرح براحتنا بقى بعد شهر شهرين اللي تحبوه ”
ابتسمت رانيا تميل بعض الشيء كي يصل صوتها المنخفض له :
” ويا ترى عديت العدة للمعركة الجديدة ولا هتدخل أعزل ؟!”
وبمجرد إنتهاء جملتها مال صالح هو الآخر على مسافة مناسبة منها ودس يده في جيبه مخرجًا إياها بمديته يضعها على الطاولة بينهما هامسًا :
” معايا دي …ومعايا أنتِ ”
وبسمة بلهاء أخرى كادت تُرسم أعلى شفتيها :
” وأنا مش هخليك مضطر تحارب يا صالح ”
” يعني ؟؟؟”
اعتدلت في جلستها قائلة بجدية :
” يعني أنا وقت ما تتكلم في الموضوع أنا هقنع بابا يقنع اخواتي متقلقش ”
منحها صالح بسمة عاشقة يهز رأسه لها :
” مش قلقان والله انا بس مشتاق للحظة دي يا رانيا ”
كادت رانيا تجيبه لولا اقتحام عبدالجواد للمكان مرة أخرى وبنفس الشكل، يقف نفس وقفته السابقة يقول بأمر وليس مجرد طلب :
” اخوك برة يلا اطلع قوله اللي طلبته منك عشان ننفذ اتفاقنا ”
عض صالح شفتيه بغيظ وغضب مكبوت جعل رانيا تحدق فيه بتوسل أن يهدأ ويساعده وهو فقط استدار لعبدالجواد مردفًا باشتعال :
” تصدق بالله، أنا لو هتنيل اعمل كده فأنا هعمل عشان تخف عن دماغي مش عشان اتفاق ولا نيلة ”
هز عدبالجوار رأسه مبتسمًا ببرود شديد غير مهتمًا بكل ما تكرم به صالح :
” المهم أنك هتعمل وخلاص، يلا تعالى معايا ”
أشار له صالح ليخرج :
” طب معلش روح اسبقني وانا شوية وجاي”
رمقه عبدالجواد بشك، ليزفر صالح :
” والله جاي وراك، يا اخي عايز اقول كلمة لأختك قبل ما الباقيين يحسوا أننا مش موجودين ”
قال عبدالجواد بسخرية لاذعة مشيرًا للخارج:
” هما اساسا حسوا انكم مش موجودين، بس اخوك عامل عليهم حصار برة وانا هربت منه بحجة اني رايح اعمل مكالمة ”
أشار له صالح مبتسمًا وهو يميل هامسًا لرانيا :
” شايفة الاخوات، مش الاربع تيران اللي معيشني في حلبة مصارعة ”
زجرته رانيا بلطف وتحذير شديد مشيرة بعيونها صوب عبدالجواد الذي لم يتحرك خطوة واحدة تدل على نيته في الخروج من المكان :
” صالح عيب كده ”
زفر صالح بحنق شديد كارهًا لكل ذلك الوضع ينهض من مكانه وقد فاض به الكيل من تلك العائلة بأكملها :
” بلا صالح بلا زفت، فين ابوكِ، فين عم رؤوف ؟؟”
كان يتحدث وهو يتحرك صوب الخارج يبحث بعيونه عن رؤوف وخلفه رانيا التي تعجبت انقلاب حالته، وعبدالجواد الذي لا يفهم ما حدث بالضبط .
وصالح يدور في المنزل بحثًا عن رؤوف حتى ابصره يجلس ويتضاحك مع والده وسليمان في اندماج شديد، اقترب منهم مهرولًا يقول وقبل حتى أن يصل لمكانهم :
” عم رؤوف أنا عايز ميعاد لكتب الكتاب ”
ألتفت اجساد الجميع حوله من إخوة رانيا، وقد بدا كما لو أن صالح ألقى قنبلة، وهذا ما حدث بالفعل إذ امتلئت ملامح الأربعة بالاستهجان والاستنكار الشديد رافضين تحديد أمر مصيري كالزواج بهذه السرعة، لكن صالح لم يكن يضع أي اعتبارات لكل هذا هو فقط أراد ميعادًا يجعله عيدًا وفرحةً مرتقبة لقلبه ..
كانت رانيا تتابع كل ما يحدث بخجل شديد تحاول أن تتلاشى النظر في عين أيٍ من إخوتها الذي اتسعت أعينهم صدمة ورفضًا لما يُقال .
ابتلعت هي ريقها تحاول أن تتسلح بالشجاعة، وقبل أن تنطق بكلمة، شعرت بقوتها تخونها من نظرة محمد الذي حدق بها يحاول أن يستشف موافقتها من عدمها، ورانيا بسرعة شديد استطاعت أن تدعي البلاهة والصدمة مثلهم تحرك يديها في الهواء ضاربة كف بالآخر ولسان حالها يردد ( لم نكد ننتهي من الخطبة حتى يخرج لنا بأمر عقد القرآن)
وصالح لم تكن تعنيه كل تلك الصراعات أو الأحاديث الصامتة، بل قال بكل جدية :
” مش همشي غير لما أخد ميعاد اجيب فيه المأذون ”
_____________________
ساعات طويلة قضاها جوارها يتنعم بانفاسها و يستمتع بملامحها، دون أن يسمح لعينيه أن تحيد عنها لثواني، يستغل اخذها للمخدر اسوء الاستغلال، يضمها بين أحضانه، ويعيش أخيرًا لحظات كانت كالحلم البعيد له .
مد نادر كفيه يربت أعلى خصلاتها بحب، هو هكذا منذ ساعات تقريبًا، ساعات قضاها دون ملل في تأمل ملامحها، بعدما تغلب عليها التعب ودار بينهما حوار طويل انتهى بنومها بفعل المخدر .
تنهد يعود برأسه لساعات قليلة سابقة ..
” يعني أنا فيه …فيه حد اخد كلية من عندي ؟؟ اتخطفت وكنت هتباع أعضاء ؟؟”
كانت تتحدث بملامح شاحبة، بعدما أصرت على نادر أن يخبرها الحقيقة فهي لم تقتنع بجملة أن إحدى كليتيها تضررت فجائت هنا لإجراء عملية، هل يعتقدونها مجرد حمقاء لا تفقه شيئًا؟؟ إن كان ما يقولونه صحيح فلِمَ إذن لم تشعر بالجوع سابقًا أو أي اعراض جانبية قد تصاحب مرضها ؟؟
ونادر يراقبها بهدوء يدري أن الأمر ليس بسيطًا أو هينًا عليها، هي الرقيقة والهشة تعلم فجأة أنها كادت تذهب ضحية إحدى العصابات .
امسك نادر يدها يحاول أن يجبرها على النظر له والهدوء، لكن نيرمينا كانت تنتفض خوفًا ويدها تحسس جانبها الأيمن، لكن فجأة شعرت باصابعها تتحرك بشكل غريب، نظرت صوب نادر الذي كان يمسك يدها يضعها أعلى يده ويحرك اصابعهما معًا يحاول أن يخبرها ما يعجز عنه، ونيرمينا تراقب أصابعه من بين دموعها …
كانت دموعها تهبط بهدوء وصمت تسشعر حركات أصابعه على يدها، ورغم عدم فهما لما يريد إيصاله إلا، أنها ابتسمت من بين دموعها، ونادر ابتسم على بسمتها وقرر أن يتبع اسلوبًا آخر ليوصل لها ما يريد .
وضع كفها أعلى شفتيه، ثم بدأ يحركهما ببطء شديد أعلى كفها بكلمة ما، وهي تنظر له تحاول أن تعلم تلك الكلمة التي ينطقها، لتبدأ في تحريك شفتيها بنفس الشكل الذي تشعر به على كفها، مرة وأخرى حتى نطقتها نيرمينا بصوت مرتفع :
” بحبك …”
ابتسم نادر لها يحرك رأسه لها..
نظرت نيرمينا في عيونه ثواني قبل أن ترفع الغطاء عن قدمها، ثم تحركت ببطء حريصة ألا تزيد من وجع خصرها، ونادر يراقبها بأعين حريصة يأبى عليها الوجع ..
لكن فجأة تناسى كل حرصه وكل شيء يسشتعر بجسدها الذي سكن أحضانه، وهي تضع رأسها أعلى كتفه تهمس بصوت خافت :
” وأنا بحبك ”
قلبه …ويل قلبه من تلك الكلمات التي تجهل تلك الحمقاء تأثيرها عليه، هو في تلك اللحظة على استعداد لنسيان أمر العملية الخاصة بها ويشبعها تقبيلًا وعناقًا، لكنه أشفق عليها، خاصة مع صوت تأوهاتها المتألمة التي بدأت تعلو .
قبلها نادر قبلة رقيقة أعلى خصلات شعرها يعيدها لوسادتها، ثم أشار لها بأصابعه مرتجفة من هول مشاعره أنه سيذهب لينادي الطبيب .
وها هو منذ ذلك الوقت يضمها له رافضًا أن يبتعد، ساعات مرت ولا يدري عددها، هو فقط يستمتع بكل لحظة يقضيها جوراها .
ومن بين كل تلك المشاعر انبثق صوتها هامسًا :
” مختار ”
ابتسم ينظر لها بحب لتقول بصوت منخفض :
” أنا عطشانة…عايزة مايه”
تحرك نادر ببطء مزيحًا جسدها بحنو شديد، ثم تحرك خارج الغرفة مشيرًا لها أنه سيحضر لها ما تريد، وقد قرر أن يطالب المشفى بطعام لها .
دقائق حتى عاد يحمل بين يديه صينية يعلوها طعام وشراب لأجل زوجته، وآه من ذلك اللفظ المحبب لقلبه وعقله ..
لكن وأثناء سيره في ممرات المشفى توقف ليبصر من نهاية الممر عدد كبير من الأشخاص يتقدمهم سعيد وميمو وصلاح وشيخ يرتدي زي يعلمه جيدًا ..
اقترب الجميع منه وهو ما يزال يحدق بهم في عدم فهم ليسمع صوت صلاح يفتح يديه له مبتسمًا :
” والله ابن حلال كنت لسه جاي ليك ”
نظر لهم نادر بعدم فهم وقبل أن يبادر بالسؤال عما يحدث قال سعيد بجدية وعدم اهتمام لما يحدث :
” هروح اشوف نيمو ”
وقبل أن يخطو للغرفة امسك نادر يده يشير له نحو الصينية التي أحضرها لنيرمينا، تعجب سعيد ليتساءل :
” دي لنيرمينا ؟؟”
اومأ له نادر ليأخذها منه سعيد ويدخل الغرفة بكل هدوء، بينما أشار له صلاح بالحديث منفردًا، لكن نادر أبى التحرك وهو ينظر لميمو التي كانت تشعر بالخجل منه ومن نظراته، ولولا يد صلاح لما تحرك :
” تعالى يا نادر عايز اتكلم معاك ”
تحرك معه نادر وهو مايزال يرمق ميمو بتعجب، بينما صالح يراقبه يسير مع شقيقه :
” قلبي كان حاسس أن الواد ده يقربلك، تحسي نفس السم بينقط منكم، قلبي مكانش مستريح ليه من اول مرة زي ما مكانش مستريح ليكِ ”
وسريعًا تناست ميمو خطلها لتقول غامزة بخبث :
” مش مهم تستريح أنت ليا يا غالي، المهم صلاح
يستريح ”
” ما هو عشان التاني زيك، صحيح ما جمع إلا أما وفق ”
نظرت له بطرف عينيها تقول قبل أن تتحرك صوب نادر وصلاح لتساعدها على التواصل بيسر :
” ما هو كله بيقع على اللي شبهه يا صالح، بس مش عارفة ليه الموضوع خلف معاك ورانيا اتدبست فيك ”
أنهت حديثها تترك صالح يقف بحنق وجواره محمود الذي قال مقتنعًا بكلامها :
” أيوة صحيح عشان كده انا وجوجو وقعنا على بعض”
رمقه صالح باستنكار شديد :
” مش فاهم قصدك من الجملة، اوعك تكون قاصد أنك أنت وهاجر زي بعض ؟!”
” أمال أنت شايف ايه ؟؟”
ربت صلاح أعلى كتفه يقول بجدية :
” أنا شايف تفكر في اللي هتبرر بيه هبلك المرة الجاية لهاجر، وهتصارحها ازاي أنك كنت بتشرب نباتات من نعمل ابوك ”
وفجأة انكمشت ملامح محمود بغيظ شديد :
” أنا مش عارف اعمل ايه بجد، الموضوع بقى معقد، كل ده مكانش هيحصل لولا اخوها الفتان ”
ضرب صالح كف بالآخر يتعجب وقاحة رفيقه، بدلًا أن يبحث عن حل لازمته، يبحث عمن يلقي الأمر على عاتقه ..
نظر صوب صلاح ونادر وميمو الذين كانوا يتحدثون بهدوء شديد وبسمة تعلو وجه ميمو والتفهم يزين ملامح نادر، امتص شفتيه بحسرة :
” شايف ياض يا محمود الناس اللي حياتهم متيسرة، مش انا اول ما نطقت اني عايز ميعاد لكتب الكتاب فتحوا عليا ابواب الجحيم وكأني جاي اطالبهم بإقامة حرب عالمية ”
وافقه محمود وشاركه الحسرة :
” ما هي الدنيا كده يا صاحبي، حظوظ، واخوك حظه من السما، معاه واحدة قادرة زي دي وأخوها طيب ومش فتان وشكله هيوافق على طول، ومش محتاج عقود ولا اتفاقيات عشان يتجوز ”
تحدث رائد مغتاظًا من كل ذلك وهو يمسك بيد تسبيح جواره كي يشهد على زواج رفيقه، بينهما مرتضى برتاح مع سليمان على أحد المقاعد الجانبية :
” يا ستار يارب، ربنا يستر والولد يلحق يدخل دنيا، بدل ما يطلع منها على نقالة ”
ابتسم له صالح يشير صوب صلاح الذي انكب فجأة بالعناق على نادر والبسمات تزين أوجه الجميع :
” يا عم وأنا اكره الخير لاخويا، ده أنا لو ينفع كنت زغرطله، بس هو يفرح ويستريح ويتهد هو والست القادرة اللي معاه دي ”
ابتسم رائد يراقب سعادة صلاح الواضحة وهو يعانق والده يسحب الجميع صوب غرفة نيرمينا لعقد قرانه واخيرًا ..
لكن فجأة وقبل أن يصل الجميع لباب الغرفة توقفت ميمو وهي تنظر للجميع قائلة بجدية :
” لحظة قبل ما نكتب الكتاب أو نعمل حاجة، عندي طلب أو بالأحرى شرط…”
نظر رائد لصالح مغتاظًا، ليبتسم الاخير باحراج كبير ويتحرك صوب الجميع الذين التفوا حول ميمو و التي نظرت لهم نظرات غير مفهومة، وصلاح ينتظر أن تفرغ ما بجعبتها ..
وهي حدقت في عيونه بقوة، ليبادلها النظرات بالمثل، وهناك بسمة خبيثة ترتسم أعلى فمه ينتظر، بل يتوقع ما ستقول، وقد صدق حدسه إذ قالت :
” …………..”
___________________________
كل ذلك كان التمهيد للمرحلة القادمة من اللعبة، تمهيد صغير لتلتقطوا الأنفاس استعدادًا للقادم …

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك رد

error: Content is protected !!