روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت الرابع والعشرون

رواية غير قابل للحب الجزء الرابع والعشرون

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الرابعة والعشرون

منذ أن عرفته لم يحنث بوعده أبدًا، حين يقطعه، يوفي به، مهما كانت العواقب، نقضه كان مستبعد الحدوث، لهذا كانت توسلاتي بغير جدوى، لم ولن أكون قادرة على نجدة من استغاث بي، فأنا قليلة الحيلة، لن يصغى إلي مهما حاولت ورجوت وتضرعت. رغم إقصاء “فيجو” لي بعيدًا عن هذه الفوضى الدموية، إلا أنه لا تزال صورة جثة الخادمة المُضرجة في دمائها متجسدة في مخيلتي ومستحوذة على كامل تفكيري.
صعدت معه الدرج إلى الأعلى، حيث ما ألِفت من مكان، وتركت القبو القاتم بما فيه من غرف التعذيب، وروائح الموت. فرت الدموع من طرفي تأثرًا، وسألته في صوتٍ محبط حزين:
-لماذا لم تسمعها؟
احتفظ بصمته، فتطلعت إلى جانب وجهه من مسافتي القريبة، وتساءلت في إلحاحٍ، لعلي أشعره بالندم:
-كانت مضطرة لهذا، لما لم تمنحها فرصة ثانية؟ ألا تستحق ذلك؟
قال بهدوءٍ شديد؛ وكأن مقتلها لم يهز شعرة في رأسه:
-هي المسئولة عن اختياراتها.
توقفت عن السير إلى جواره لأستدير، وأصبح في مواجهته، سألته بصوتٍ شبه محتد:
-ماذا لو كنت مكانها؟ هل ستقتلني ببرود؟
في البداية سكت، ثم رأيته يمد ذراعه نحو وجهي ليلمس وجنتي، في حركة لا إرادية أبعدت وجهي عنه؛ لكنه عاندني وأبقى على يده، ليداعب بشرتي في حنوٍ، سدد لي نظرة قوية، وقال بشبح ابتسامة باهتة:
-حلوتي، انسي أمرها…
احتدت نظراتي في استنكارٍ، فتابع بنفس البرود المغيظ، ويده لا تزال تمر على بشرتي:
-ولا داعي للحديث عنها مجددًا، لقد أغلق موضوعها للأبد.
نفضت يده بعيدًا في اشمئزازٍ، وهذه النظرة الناقمة تنبعث من حدقتي، ثم صحت في إصرارٍ مُعاند لرغبته:
-بالنسبة لك، لكن لي آ…
قاطعني قبل أن أنهي جملتي قائلًا بصوتٍ خافت لكنه حازم:
-زوجتي العزيزة، لما لا تتركيني اهتم بكِ اليوم؟

 

 

جاءت نظرتي إليه رافضة قبل أن أنطق ذلك صراحةً:
-لا أريد.
ثم تأوهت من وخزة الألم المباغتة التي ضربت كتفي، تقلصت على نفسي لحين زوال شعور الوجع، فأرخت عضلاتي، وهممتُ بالذهاب؛ لكنه اعترض طريقي بجسده، ليهتف بغموض جعل رعدة قوية تسري في بدني:
-لا تخافي، لن أمسكِ بسوء، بالرغم من تحفظي على ثيابك هذه.
عفويًا انخفضت نظراتي نحو منامتي، كنت أخفي مفاتني خلف الجيبرة، فأشعرني ذلك بالامتنان؛ لكنه ذكرني بأن عينيه تطوفان دومًا على خاصتي بغير حياءٍ، لومته على الفور لأخفي تحرجي:
-أنت من تسبب في ذلك…
تحسست بيدي الطليقة الجبيرة، وسألته:
-كم مكثت في الفراش؟
أجابني بعد زفيرٍ سريع:
-ما يقرب من أسبوع.
صحت في دهشة:
-أسبوع!!
لمحته وقد انتقل إلى جواري، فعقدت حاجبي باستغراب، سرعان ما تبددت حيرتي عندما رأيته يحني جذعه ليحملني بين ذراعيه، شهقت مصدومة من تصرفه، واعترضتُ بشدة:
-دعني.
حملت نظراته إلي –عند هذا القرب الموتر- شيئًا لم أفهمه، أتبعها كلامه المغلف بالرغبة:
-ألم تشتاقي إلي؟
……………………………………………………….
ما هذا التناقض العجيب؟ ألم يكن حاضرًا معي ما حدث قبل دقائق؟ كيف يمكنه ضبط انفعالاته والسيطرة على أعصابه بهذه الطريقة التحكمية المُحكمة ليفكر في أمر يحتاج إلى صفاء ذهن واستعداد نفسي؟ رفضتُ قربه، وحاولت التملص من حملي جبرًا بتحريك ساقي في الهواء كنوعٍ من التذمر، وصوتي يردد بضيقٍ:
-أنا أشعر بالألم، اتركني أذهب.
شدد من ضمه لجسدي ليلصقني به، كأنما يخبرني لمن الغلبة في النهاية، أحسستُ بشيء صلب يلامس جانبي، ففطنت لكونه سلاحه الناري، نظرت إليه بوجهٍ عابس، فتكلم مقوسًا شفتيه عن بسمة صغيرة تعجبتُ منها:
-تدللي، لن أمانع اليوم، فمزاجي يروق بعد كشف الحقائق، والانتقام من الخونة.
حقًا لم أكن لأتحمل لمساته بعد الذي شهدته، توسلته في نفورٍ واضح:
-أرجوك، دعني.
حملق أمامه، وقال في عبثيةٍ:
-نحن متأخران عن جدول ليلة زفافنا.
التطرق لهذه المسألة أيضًا أصابتني بالرهبة، أخبرته بصدقٍ، وقد راحت الدموع تتجمع من جديد في عيني:
-أنا لستُ بخير، أشعر بالغثيان.
للغرابة انعكس القلق على محياه، وسألني في جديةٍ:
-هل استدعي الطبيب؟

 

 

كان من الممكن أن أرفض تجنبًا لكشف كذبي؛ لكن ذلك لن يردعه عن التودد إلي بشكلٍ حميمي، فقلتُ مؤكدة، وأنا لا أعبأ بتبعات قراري:
-نعم، أنا متعبة.
لم يعد يسير ببطءٍ كما كان في البداية، بل أسرع الخطى، واتجه بي عائدًا إلى البهو، أجلسني على الأريكة، ووقف مجاورًا إياي ليخرج هاتفه المحمول حتى يتحدث فيه. بالطبع أبقيتُ رأسي منخفضة، وأسندتُ كف يدي على جبيني لأبدو كمن أصيب بالدوار، فلا يرتاب في أمري، سألني بعد أن مال ناحيتي:
-هل أحضر لكِ شيئًا إلى أن يأتي الطبيب؟
بلعت ريقي في حلقي، وجاوبته بصوتٍ خافت مرتجف نسبيًا:
-لا داعي.
استقام واقفًا، ثم هتف مُحدثًا من خابره:
-د.”مارتي” أريدك فورًا عندي، فزوجتي ليست بخير.
صمت للحظةٍ وعيناه تتطلعان إلي بثباتٍ قبل أن يوجز في تعقيبه:
-انتظرك.
أنهى الاتصــال، وأبقى نظراته علي، فسألته في فضولٍ لأقضي على بوادر الحيرة التي انتابتني حينما تردد اسمه:
-هل هو نفس الطبيب الذي تولى رعاية أمي سابقًا؟
أكد لي شكوكي برده المختصر:
-نعم، إنه هو.
لاحقته بسؤالي التالي قبل أن يفكر في تجاهلي:
-أين هي “صوفيا”؟ أنا لم أرها هنا؟
كان على وشك الرد لولا أن ظهر والده أمامنا فجأة، فنظرت إليه وهو يتودد بلطافةٍ إلي:
-كنتي الغالية…
أحنى رأسه ناحيتي ليقبلني من وجنتي، وتابع وهو يبتسم في محبة لم أجدها لائقة بشخصٍ بشع مثله:
-أنا مسرور لرؤيتك بخير.
رددت بتهذيبٍ فاتر:
-شكرًا لك.
سألني “مكسيم” بنبرة مهتمة وهو يكمل تدخين سيجاره الفاخر:
-كيف تشعرين الآن؟
أجاب “فيجو” عني وهو يضع يده على كتفي غير المصاب:
-إنها تتألم قليلًا، وهاتفت الطبيب “مارتي”.
استحسن تصرفه قائلًا بنوعٍ من التشديد:
-حسنًا فعلت، أعطها كل الاهتمام والرعاية، هي تستحق ذلك، فلولا ما فعلته لكنت خسرتك للأبد.
حولت نظراتي المتسائلة نحو “فيجو” محاولة تفسير ما قاله “مكسيم”؛ لكنه احتفظ بغموضه كالعادة، فانتقلت بعيني إلي الأخير وقلت بابتسامة متكلفة:
-أنا لا أفهم شيئًا.
وجدت “مكسيم” يستقر جالسًا في الأريكة المجاورة لي، ثم استطرد موضحًا:
-صغيرتي “ريانا” كان هناك أحد القناصة المتربصين بزوجك في البناية المقابلة، ووجودك في مرمى نيرانه منعه من إصابته إصابة مباشرة.

 

 

مرة ثانية اتجهت ببصري نحو “فيجو”، وعلقت في نبرة ذات مغزى:
-هذا يعني أني تلقيتها عنه.
ثم سددت له هذه النظرة المغترة؛ لكنه بادلني بنظرة مليئة بالمزيد من الغموض، تخترقني، وتربكني في نفس الآن. لم ينطق “فيجو” بشيء، صمته كان يزعجني إلى حدٍ ما، لنقل أني أُفضل حين نتجادل معًا، لا أن يكون الحوار أحادي الجانب. عدت لانتبه لـ “مكسيم” عندما تابع كلامه:
-بالضبط، بالإضافة لذلك كانت غالبية زجاجات الخمر مسمومة.
افترت شفتاي عن دهشة سريعة قبل أن أهتف في ذهولٍ:
-ماذا؟!!
منحني “مكسيم” المزيد من التفسير بقوله:
-حين قام فريق التنظيف بإزالة الآثار من الشقة، وجدوا قنينة خاصة بالسم مُلقاة في سلة القمامة، ولو كان “فيجو” تجرع كأسًا من شرابه المعتاد لكان الآن في عداد الأموات.
همهمت ساخرة بصوتٍ خفيض للغاية:
-يبدو أن لغضبي فائدة.
لا أعرف إن كان “فيجو” قد قرأ ما يجول في خلدي أم لا؛ لكن لمسته على كتفي أشعرتني بأني مكشوفة ككتابٍ مفتوح أمامه. ادعيتُ الابتسام، وتساءلت:
-وماذا حدث بعد ذلك؟
أطفأ “مكسيم” الجزء المتبقي المشتعل من سيجارته في منفضة السجائر، ونهض من مكانه قائلًا:
-جاء بكِ إلى هنا، وتولى طبيبنا المخلص علاجك، وانشغل “فيجو” بالإمساك بكل المتورطين في محاولة الاغتيال الفاشلة.
في داخلي قلتُ، وأنا أجاهد لنفض الصور البشعة التي راحت تقتحم مخيلتي:
-علمتُ ذلك.
رمشتُ بعيني حين خاطبني مرة أخرى موصيًا إياي بلهجةٍ جمعت بين اللين والحزم:
-أريدك أن تستريحي، ولا ترهقي عقلك الصغير بهذه الأمور، فكل شيء تحت السيطرة طالما ابني الزعيم موجود.
ثم وجه كلامه إلى “فيجو” بما بدا أمرًا:
-ابقَ مع زوجتك، وسأتولى أنا باقي التحقيق.
احتج عليه في تذمرٍ طفيف:
-ولكن…
قاطعه قبل أن يُبدي اعتراضه بإشارة صارمة من يده، فابتلع “فيجو” باقي جملته في جوفه توقيرًا له، وظل واقفًا إلى جواري لحين انصراف والده، عندئذ انطلقت متسائلة في لهفةٍ قلقة:
-لم تجاوبني بعد، أين هي أمي وشقيقتي؟
تنهد سريعًا، وأخبرني:
-لقد عادتا إلى “ميلانو”.
فاق رده كل ما هو متوقع، فانتفض واقفة في التو، وسألته في ذهولٍ:
-ماذا تقول؟ كيف ذلك؟
ترنحت من وقفي المفاجئ، فأمسك بي “فيجو” بقبضته القوية ليمنعني من الاهتزاز، نظرت إليه في تعبٍ، ثم أجبرني على الجلوس وهو يأمرني:
-اجلسي، لا داعي للوقوف وأنتِ تشعرين بالدوار.

 

 

حاولت النهوض من جديد؛ لكن قبضته حالت دون وقوفي، سألته في صبرٍ نافد:
-لا تتركني هكذا، من فضلك أخبرني، كيف عادت الاثنتان إلى هناك والسيد “مكسيم” كان رافضًا لهذا الأمر؟
حاد ببصره بعيدًا عن نظراتي المتابعة له، وقال:
-وجودهما ضروري، فنحن بحاجة لتسوية بعض الأمور المعلقة.
سألته بقلبٍ يدق في جزعٍ:
-أيعني ذلك أنهما في خطر؟
مال ناحيتي، واستطرد في هدوءٍ؛ لكنه نجح في مضاعفة مخاوفي:
-حلوتي كلنا في خطر ما لم نتخذ حذرنا على الدوام.
اعترضت على محاولته إخافتي، وقلتُ:
-هذا ليس برد.
وجدته يمرر يديه أسفل مني ليحملني هاتفًا:
-هيا بنا، أنتِ بحاجة للراحة.
علقت بتذمرٍ:
-أريد أن اطمئن عليهما، من فضلك، أنا لا أطلب الكثير.
لم ينظر تجاهي وهو يخاطبني:
-لاحقًا.
أدركت أن استمرار الضغط عليه لن ينفع بشيء، فتوقفت عن إلحاحي، ولذتُ بالصمت؛ لكن ظل الصخب دائرًا برأسي مسببًا لي المزيد من الصداع المؤلم، كنت بحاجة لإسكاته بالمسكنات القوية، ويا ليت كل شيء مؤلم معنويًا يزول بها مثله!
……………………………………………………………..
-هل بإمكاني منح الغفران لمن لا يستحق؟
ظل هذا السؤال المُحير يراود عقلي بعد أن وضعني “فيجو” على الفراش، وتراجع عني بضعة أمتارٍ لينشغل بالحديث هاتفيًا، لم أسمع غالبية ما يقوله، فقد كانت نبرته إلى حدٍ كبير مقتضبة وخافتة. راقبته من موضعي بنظراتٍ شبه حذرة، كان يوليني ظهره، يتطلع عبر نافذة الشرفة، يقف شامخًا، منتصبًا، هادئًا، لا يبدو عليه الخوف أو الفزع، على عكسي أنا التي أخشي إطباق جفني على بعضهما البعض لأرى شبح جثة الخادمة وهي تتطلع إلي في لحظةٍ بعجزٍ قبل أن تتمدد أمامي ميتة في اللحظة التالية.

 

 

ما زالت مندهشة من قدرته على التعامل مع القتل بهذه الدرجة من الثبات، فأنا بالكاد أحاول استعادة انفلات أعصابي، وتجاوز ما خضته رغم شكي بأنه لن يمضي بسهولة. طال تحديقي الشــارد فيه مستمرًا، إلى أن تنبهت لالتفافه وتطلعه تجاهي، حينئذ تلبكت بشكلٍ ملحوظ. لم يعلق علي، وسألني في جديةٍ:
-هل هناك خطب ما؟
رمشت بعيني قائلة:
-لا.. لا شيء.
لاحظت كيف يتفقد بشكلٍ تلقائي حامل أسلحته قبل أن يضيف:
-أبلغني أفراد التأمين أن الطبيب قد جاء، سيأتي إليكِ فورًا.
هززت رأسي هاتفة في إيجازٍ:
-جيد.
ترددتُ قبل أن أكرر طلبي عليه:
-أريد أن أطمئن على أمي وشقيقتي.
نظر ناحيتي معقبًا وهو يدس يديه في جيبي بنطاله:
-لاحقًا.
جلست مستقيمة على الفراش، وأخبرته بإصرارٍ:
-ولكني لن أشعر بالارتياح إلا بعد رؤيتهما، أو على الأقل سماع صوتهما.
طالعني بهذه النظرة الغامضة قبل أن يقول:
-كلتاهما بخير.
لم أكن مقتنعة برده، فأضاف كنوعٍ من الإيضاح:
-كما أن “لوكاس” معهما، فلا داعي للقلق مُطلقًا.
غمغمت بغير صوتٍ وقد انقلبت سحنتي:
-اللعنة، هذا ما كان ينقص شقيقتي.
على ما يبدو لاحظ ما انتشر على قسماتي من انزعاجٍ، فاستطرد:
-يبدو من ملامح وجهك أنكِ غير راضية.
بررت له سبب مخاوفي، فقلتُ:
-أنت تعلم ابن عمك، وشقيقتي ليست من النوع المتساهل.
أصغى إلي باهتمامٍ، فواصلت كلامي بصيغة متسائلة:
-لماذا أرسلتهما بعيدًا إن كان سيظل لصيقًا بها؟
راوغني حين أجاب، وقد أخرج يديه ليكتف ساعديه أمام صدره:
-قلت لكِ طرأت بعض المستجدات هناك، وأردتُ ذهابه بنفسه لتسويتها.
ظلت ملامحي متجهمة وأنا أخاطب نفسي بخفوتٍ:
-لا أظن أنها ستمر على خير بوجوده، فهو كآلة قتلٍ متنقلة.
يبدو أنه رأى ما ينعكس من أمارات الضيق على كامل تقاسيم وجهي، فقال:
-لم أسمعك.
تحنحنت معقبة بارتباكٍ:
-لم أقل شيئًا.
نظراته ناحيتي عنت أنه لم يصدقني، فأشحت بعيني بعيدًا عن هذه النظرة الفاحصة، التي تبدو كما لو كانت تنفذ إلى أعماقي لتسبر أغواري. طرقات متقطعة على الباب منعته من الإلحاح في حصاره لي بالأسئلة، أعقب ذلك استئذان أحدهم بتهذيبٍ زائد:

 

 

-هل تسمح لي بالدخول سيدي؟
اتجهت بناظري نحو الباب، فرأيتُ ذلك الطبيب –”مارتي”- الذي أشرف منذ مدة على رعاية والدتي، جاء بنفسه اليوم لأجلي، وخمنته أنه كذلك من تولى مسألة متابعتي الطبية. أشـار له “فيجو” برأسه ليدخل قائلًا:
-تفضل.
تقدم تجاه الفراش، وأسند حقيبته الصغيرة على الطرف، ثم رمقني بنظرة شمولية وهو يسألني:
-كيف حالك سيدتي؟
أجاب “فيجو” عني موضحًا بيده:
-أصابها دوار قبل قليل، وتشكو من الألم في كتفها.
أخبره “مارتي” في هدوءٍ:
-هذا متوقع، فالإصابة لم تكن سهلة.
انحنى ناحيتي، وراح يدقق في فحصه لموضع الإصابة بتأنٍ شديد، ثم أكمل حديثه بصوتٍ رزين لكنه في غاية الجدية:
-إن انخفضت فقط هذا القدر لربما اخترقت قلبها، وفارقت الحياة في التو.
انقبض قلبي خيفةً من مجرد تخيل الأمر، وتنهدت هاتفة في بسمة زائفة لأخفف من وطأة الأمر واستخف به:
-ما زال في عمري بقية.
للدهشة الشديدة أتى تعليق “فيجو” صادمًا لي بدرجة لا يمكن تخيلها:
-هذا لحسن حظي، فكيف أحيا بدونها؟
رفعت بصري ناحيته، وتساءلت بفمٍ مفتوح من عِظم الاندهاش:
-ماذا؟
تعابير وجهه كانت هادئة، غير مقروءة، من الصعب تفسيرها، وهذا ما كان يُحيرني، فليس من السهل أن تكشف ما يظهر عما يبطن. تنبهت لكلام “مارتي” وهو يضيف:
-قد تحتاج فيما بعد لعملية تجميل.
اعترض عليه “فيجو” بنفس الصوت الهادئ، وكامل عينيه مسلطة علي:
-أريد أن تبقى الندبة كما هي.
زويت ما بين حاجبي في دهشةٍ، فقال بشبح ابتسامة تشكلت على زاوية فمه:
-لتذكرني بتضحيها العظيمة من أجلي.
لم أعرف إن كان يتحدث بجدية أم يسخر مني، ولو أني اعتقد في الأمر الأخير، لكوننا نعلم جيدًا طبيعة ما دار قبل أن أتعرض لإطلاق النار، انتظرت بفارغ الصبر انصراف الطبيب لأسأله:
-أتصدق هذا الهراء؟
من جديد أرخى ساعديه ووضع كفيه في جيبي بنطاله، فتابعت موضحة بنفس النبرة المتسائلة:
-أني ضحيتُ لأجلك؟
ظل يتطلع إلي في هدوء، فأوضحت:
-لقد كنت أفرغ غضبي العارم فيك، أم أنك نسيت؟
خاطبني بغموضٍ غير كافٍ:
-سنجعل الجميع يعتقدون في تضحيتك.
ضاقت عيناي بمزيدٍ من الحيرة، فاستطرد مضيفًا:
-خاصة السيدات القادمات لرؤيتك.

 

 

سألته في تحير:
-من هؤلاء؟
وقبل أن يجاوبني أبديتُ رفضي للفكرة برمتها:
-لا أريد مقابلة أحد.
حينئذ تبدلت تعابيره للتجهم، وقال في تشددٍ دون أن يحرر كفيه من جيبي بنطاله:
-اسمعيني جيدًا، أنتِ زوجتي، وعليكِ الكثير من المهام الضرورية، منها لقاء زوجات رجالنا المخلصين، وسماع ما يدور بينهن من أحاديث جانبية، ونقلها إلي.
رددت بصراحةٍ ما فهمته من سياق الكلام:
-إذًا قل أنك تريدني أن أصبح جاسوستك.
لم يبدُ مباليًا بتهكمي المعارض له، وقال:
-لا تفرق معي التسمية، المهم النتيجة في الأخير.
حدت بنظراتي متجنبة التحديق فيه، وشردت لحظيًا؛ لكن في داخلي دمدمت بإحباطٍ غريب:
-وأنا ظننتك تهتم بي.
رفعت رأسي ناحيته عندما تكلم من جديد:
-سأذهب الآن، وستأتي إحدى الخادمات لمتابعتك.
علقت في مرارةٍ:
-لا أريد، يكفي قتل واحدة اليوم.
وقف بجوار الباب معلقًا بسخريةٍ:
-إن ماتت سأحضر لكِ غيرها.
ثم غمز لي بطرف عينه، هل من المفترض أن ابتسم على ما بدا له أنها طُرفة؟ عبستُ أكثر بتعابيري، وتابعت ذهابه لاستلقي بعدها بظهري على الوسادة المريحة وأنا أخبر نفسي:
-لا تبدو الأمور مبشرة أبدًا!
………………………………………………………….

 

 

في الليالي التالية، احتجت للمهدئات لأتغلب على الكوابيس المخيفة التي انتابتني كلما غفوت أو رحت في سباتٍ عميق، كلها كانت تحوي جرائم قتل بشعة، إما أن اتخذ موضع المتفرج فيها، أو أتعرض للاغتيال. انتفاضتي الفزعة من النوم كانت مصحوبة بآلام موجعة في كتفي المصاب، خاصة أني اندفع مرة واحدة خلال نهوضي وصوت صراخي يعلو، أحيانًا أجد “فيجو” يهزني برفقٍ لاستفيق، حينئذ أنظر إليه بارتعابٍ فيخبرني ألا أخاف، فانكمش على نفسي خيفة منه، وأرفض لمساته علي، لاحظ مدى رهبتي منه، لهذا كان لا ينهرني لشعوري المبرر ناحيته، وفي أحيانٍ أخرى أكون بمفردي أتصبب عرقًا.
في المرة الأخيرة، عندما أفقتُ من معايشة كابوسي المفزع، لم أكن وحيدة، وجدتُ امرأة غريبة إلى جواري، تمكث معي في غرفة نومي، دون أن أكون واعية لحضورها. نظرتُ إليها باسترابةٍ مستنكرة، وسألتها بأنفاسٍ غير منتظمة:
-من أنتِ؟
أجابت ببسمة مهذبة وهي تخفض رأسها:
-أنا الخادمة الجديدة سيدتي.
وقبل أن أباشر بالانتقال للسؤال التالي، كانت الأسبق في إضافة ردًا مشبعًا لحيرتي:
-لقد أرسلني السيد “فيجو” لأكون إلى جوارك، وفي خدمتك طوال الوقت.
تحكمه الزائد في حريتي، خاصة خلال غيابه طوال هذه الأيام العصيبة، أزعجني بشكلٍ كبير، فأفرغتُ شحنتي العصبية في الخادمة، وصحتُ بها:
-لا أريد أحدًا بداخل غرفة نومي، اذهبي من هنا.
ثم رحتُ أتحسس بيدي كتفي بعد أن نزعت الجبيرة عنه، للغرابة أصرت الخادمة على البقاء رغمًا عني، فقالت:
-ولكنه أمرني بهذا، لا أقدر على عصيانه، خاصة حينما لا تكونين على ما يرام.
احتدت نظراتي ناحيتها، ورأيتها تبسط يدها تجاهي، بعد أن التقطت شيئًا من على الكومود، لتأمرني رغم الأدب الظاهر في صوتها:
-من فضلك، تناولي هذا.
ضاقت عيناي بشكلٍ واضح، وسألتها في تجهمٍ:
-ما هذا؟
أجابت بنفس الوجه الجليدي:
-إنه الدواء الذي وصفه الطبيب لحالتك، سيفيدك كثيرًا، ويهدئ من روعك.
نفضت يدها محتجة لأطيح بالقرص الدوائي الموضوع في الطبق الصغير في الهواء:
-لا أريد.
ثم أمرتها في حدةٍ وأنا أشير بسبابتي:
-هيا اذهبي، أريد البقاء بمفردي.
انحنت لتلتقط القرص بعد أن حددت موضعه، ثم استقامت واقفة، وخاطبتني في لهجةٍ متأدبة:
-أعتذر منكِ؛ لكنها الأوامر، سأظل باقية هنا إلى أن يعود السيد “فيجو”
عندئذ قمتُ من رقدتي، وأزحتُ الغطاء عني لأقف في مواجهتها، دفعتها بقوة في جانب كتفها، وصرخت في حدةٍ:
-ماذا؟ أتحاولين إغضابي؟ اغربي عن وجهي.
لدهشتي تمسكت بجمودها، وأخبرتني بهدوءٍ شديد؛ كأنها تمثال مصنوع من الحجر:
-سيدتي، افعلي بي ما تشائين، أنا لن أبرح مكاني.
استخدمت كلتا قبضتي رغم وخزات الألم المتفرقة المنتشرة في كتفي المصاب لأزيح الخادمة من طريقي وأنا أهينها:
-أيتها اللعينة، السمجة، هيا اذهبي!
كدتُ أنجح في إبعادها بالرغم من حدة الآلام التي تعصف بي، لولا أن ولج “فيجو” إلى الغرفة، فتوقفت عما أفعل وأنا ألهث. نظر إلي متعجبًا، وتساءل:

 

 

-لماذا صوتك مرتفعًا، حلوتي؟
تدليلي في هذا الوقت السخيف كان متناقضًا، في غير محله، ناهيك عن كونه لا يليق مع شخصٍ معروفٍ بإجرامه، حولت غضبي تجاهه، وهدرت في غيظٍ:
-هل هذه مزحة سخيفة منك؟
وجدته يتجاهلني ليأمر الخادمة ببرودٍ صارم:
-اذهبي.
قالت من فورها وهي تخفض رأسها توقيرًا له:
-سمعًا وطاعة سيدي.
بمجرد أن ذهبت بعيدًا واصلت صراخي اللائم به:
-أتضع مراقبة علي في غرفة نومي؟ وفي فراشي؟ أجننت؟
تحرك في اتجاه غرفة تبديل الثياب، نازعًا عنه سترته، وقال:
-اهدئي، الأمر لا يستحق كل هذه الثورة، إنها هنا لمساعدتك.
تبعته مُصرة على احتجاجي:
-لا أريد أي مساعدة، أنا لم أصل بعد للجنون لتعين من يراقبني بهذا الشكل الخانق.
استدار ليطالعني عن قربٍ، وقال بنفس النبرة الهادئة المغيظة:
-عزيزتي، أعصابك مرهقة، و…
قاطعته في انفعالٍ وأنا أكور قبضتي لأضربه في صدره:
-نعم أنا متعبة مما تفعله، من القتل وتعذيب الأبرياء.
تأوهت من الألم لكوني استخدمت الكتف المصاب، فوضعت يدي على موضع الوجع، فسألني مهتمًا:
-هل أنتِ بخير؟
شعرت بيده تلمس ذراعي، وصوته قريبًا من أذني يسألني:
-ألم أقل لكِ أن تنتبهي أكثر؟
انتفضت من لمسته قائلة في نفورٍ:
-ابتعد.
انقلبت ملامحه لردة فعلي، فقلتُ وأنا أتراجع مبتعدة عنه:
-سأذهب للخارج.
استوقفني بالإمساك بي من ذراعي الآخر قائلًا:
-انتظري.
أزحت قبضته عني مرددة في حدةٍ:
-لا تلمسني.

 

 

لم يتقبل ابتعادي، ولف ذراعه حول خصري ليطوقني منه، ثم ألصقني به قائلًا في لهجةٍ آمرة متحكمة:
-اسمعيني جيدًا…
ارتجفت وأنا أسيرته، حاولت الفكاك منه؛ لكني عجزت أمام قوته الطاغية، بدا مستمتعًا بمقاومتي الواهنة، فأكمل مستشعرًا الرعدات التي تسري في كامل بدني من اقترابه الشديد:
-أنا لا أتساهل مع أحدهم كائنًا من كان، ولهذا لا تعاندي أو تختبري صبري كثيرًا، مهمتك هنا هي طاعتي في أي شيء أطلبه، سواء أعجبكِ أم لا.
حلَّ بحلقي جفاف عجيب، وزادت الرجفات الغريبة التي راحت تجتاحني كموجاتٍ متلاحقة، خاصة حين قال وهو يدور بنظراته النهمة على شفتي؛ كأنما يمهد لشيءٍ علم جيدًا درايتي به
-كما أني…
شعرت بأنفاسه تلاطم بشرتي وتلهبها مع صوته الهامس:
-لست ماهرًا في التدليل، ولا أطيقه، وما أرغب فيه أملكه.
أغمضت عيني بقوةٍ وهو لا يزال يتكلم في نفس الرنة الخافتة:
-مثلكِ أنتِ.
همست في ضعفٍ، وأنا بالكاد أجاهد لصد اجتياحه الجارف:
-دعني.
لامست شفتاه منحنى عنقي، فانقبض كل ما في بتوترٍ، اخترق صوته الخافت أذني وهو يخبرني بما لا يدع مجالًا للشك أنه لا سبيل للعودة مُطلقًا عما انتوى فعله:
-ربما الوقت قد حان لتعويض ما فاتني.
……………………………………………………….
لمساته كانت ماهرة، خبيرة، محفزة، بها ما تحتاجه الحواس لتنتفض، وتزأر، وتطالب بالمزيد، تركته يفعل بي ما يريد، فظفر بما ابتغى، ونال مآربه مني، ربما ظن أنه ارتوى بنجاحه في إخضاعي، في إجبار جسدي على الانصياع لطغيانه؛ لكن دموعي الحارقة التي ذرفتها في صمتٍ أفسدت عليه فرحة انتصاره الواهي. قام “فيجو” من السرير على مهلٍ، فسحبتُ الغطاء على جسدي لأغطيه قبل أن اتقلب وأنام على جانبي، شعرت بخطوات أقدامه تقترب من ناحيتي، رفعت بصري للأعلى قليلًا فوجده يضع شيئًا على الكومود الملاصق لفراشي وهو يأمرني:
-لا تنسي تناول هذا الدواء.
فرض أمره الصارم، ولم ينبس بكلمة زائدة، واستدار متجهًا نحو الحمام، حينها أحسست بداخلي بحرقةٍ حانقة، فقد سئمت من تسلطه السافر معي مؤخرًا، وسعيه الدؤوب لتقييدي بشتى الطرق، وكأني نكرة، مُسخرة لأجل أهوائه الشهوانية فقط، يأمرني فأطيعه، يطلبني متى شاء فاستجيب لندائه.
اعتدلت من نومتي لأجمع بيدي ما كان موجودًا من أقراصٍ دوائية مختلفة، دون أن اتفقدها، ثم نهضت من الفراش والغطاء يلتف حول جسدي العاري، لأهرع بعدها تجاه الحمام، حيث سبقني إلى هناك، قذفت ما بيدي في غضبٍ شبه متصاعد في ظهره وأنا أهدر من خلفه:
-اذهب أنت وأدويتك للجحيم.
التفت ليواجهني بنظرة نارية متحفزة، فرفعت سبابتي أهدده ببسالة غريبة، وكأن ما افتقده خلال مرضي قد استعدته أخيرًا:
-لن تجبرني على شيء.
تقلصت عضلات وجهه في انزعاجٍ بائن، وسألني كما لو كان يحذرني بصورة متوارية:
-كيف تجرؤين على عصياني؟
تغاضيت عن إنذاره المبطن، وتابعت بغير احترازٍ:
-من الأفضل لك ألا تنام معي، واقض سهراتك الغرامية مع عاهرات نواديك بدلًا من حرصك السخيف هذا.

 

 

رأيته يطالعني بنظرة متحفزة، فواصلت بنزقٍ كأني أهينه:
-ولا تقلق لن أسعى للإنجاب منك، فمثلك يحتاج للإبادة، لا للتكاثر والزيادة.
تقدم ناحيتي ببطءٍ وهو يرمقني بهذه النظرة النافذة، تلك التي تجعل أسفل ظهري يرتعد، وفرائصي ترتجف، استطرد يكلمني في هدوءٍ يسبق العاصفة:
-أرى أنكِ عدتِ إلى شجاعتكِ القديمة.
قلتُ هازئة منه، وعلى زاوية فمي ابتسامة سخيفة:
-الفضل يعود لك، أنت تخرج أسوأ ما في الفرد.
شهقة أشبه بصرخة انفلتت من بين شفتي عندما جذبني بغتة إليه، ليتلقفني في صدره الصلب، جاعلًا الغطاء ينزاح عني، ويكشف ما حاولت سترته، انخطف قلبي عندما حاوطني بكلتا ذراعيه، وحبسني في أحضانه، ليقول بعدها في صوتٍ خافت ومثير، نشر في مواطني الحسية وخزاتٍ موترة للغاية:
-حسنًا، لنخرج شيئًا آخرًا كامنًا بك.
حاولت دفعه من صدره لإبعاده عني وأنا أقول بيأسٍ:
-ماذا تفعل؟ اتركني.
وكأني فتحتُ على نفسي بابًا من الجحيم، راح يجيد بمهارة ما اعتاد أن يفعله في غير هوادة، لتسري في عروقي ذرات الرغبة واللهفة لشيء أسعى جاهدة لمقاومته بكل صمودٍ، إلى أن تصدعت حصوني، لينجح من جديد في احتلالي كليًا بسهولة ويسر .. ويا ليت الأمر يظل هكذا! من جانبه فقط ……………………………………………. !!

يتبع

اترك رد