Uncategorized

رواية ندبات الفؤاد الفصل الرابع 4 بقلم زيزي محمد

 رواية ندبات الفؤاد الفصل الرابع 4 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل الرابع 4 بقلم زيزي محمد

رواية ندبات الفؤاد الفصل الرابع 4 بقلم زيزي محمد

استندت شمس على وسادتها تتطلع لمنظر الفراش الفوضوي، وشعرها الأشعث تحاول ترتيبه للخلف، حاولت منع ابتسامتها الحمقاء ولكنها فشلت، حركت بصرها لنقطة ما وسمحت لنفسها بالغوص في عناقهما الدافئ، حيث مازال تاركًا أثاره في نفسها، وأثناء تأملها خرجت تنهيدات عميقة تعبر عن مدى حالميتها وافتتنانها بفارسها ومعذب قلبها ” سليم الشعراوي”.
همهمه خرجت منها وهي تستسلم لتيار ذكرياتهما معًا، منذ بداية انتفاض قلبها الغض له، مرورًا بأيام مراهقتها التي تركت العنان لمشاعرها البريئة تندثر في كنف الحب،.. ابن الجيران… الفظ الغليظ الذي كانت تراقب تصرفاته عن كثب، تظهر أمامه بتخطيط منها كي تخطف نظرة منه تحتفظ بها داخل قلبها الأرعن.
عبست بوجهها حينما تذكرت كلماته الجافة كلما حانت الفرصة لهما بالتحدث، بحكم جيرتهما وصداقة عائلتهما معًا.
وفي ظل صخب ذكرياتها، تلألأت ذكرى جميلة تحتفظ بها في أعماق قلبها، ترفض التخلي عنها، تتذكر دقات قلبها العنيفة حينها، كيف كانت تتطرق تأهبًا لحديثه الصادم والمزلزل لكيانها..
**
وقفت شمس بجانب والدها تطالع سليم ذاك الشاب الذي يرهق قلبها بحبه، فقد قاومت وسامته التي جذبت أنظارها وأنظار فتيات الحي جميعًا، فتى أحلامهن الذي تتوفر به كل الصفات بداية من ملامحه الرجولية الخشنة، وطوله الفارع وتناسق جسده .. ناهيك عن سيارته الفارهه وامتلاكه لمحلات الذهب والمجوهرات..فكانت أحلامهن تافه بقدر عمرهمن الصغير..ولكن هي كانت في عالم آخر، عالم تذوقت به حلاوة الحب لأول مرة.
لم تنكر مراقبتها لحركاته بجنون، أو مثلاً نبرة صوته التي تحفظها عن ظهر قلب، فواقع رنينها يمثل سعادتها كسعادة راقصة بالية تتعلم أولى خطواتها على نغمات هادئة، ترسم بخيالها مشاهدهما الرومانسية اللطيفة والتي كانت تنسجها من عقلها الباطن.
كانت أحيانًا تقاوم وأخرى تستلم، وقعت في حيرة الحب، لاعتقادها أن مشاعر الاعجاب من ناحيتها فقط، بسبب اصطدامها الدائم بمعاملته الجافه معها خصيصًا، وعقب كل لقاء تنخرط في بكاء حار عما أوقعت نفسها به، كانت شبه ضائعة شاردة، تجاهد التحكم بنبضات فؤادها أمامه.
ضغطت شمس فوق يد والدها وهي تجاهد مشاعرها الثائرة بفعل نظراته التي كانت تشملها في هدوء اثار ريبتها، لأول مرة تتجرأ نظراته وتتجول فوق ملامحها بهذا الشكل المخجل، فدائمًا كانت تنتظر منه التجاهل وكأنها لوحه فقدت رونقها.
ارتعشت شفتاها بخجل، وندمت على موافقتها للمجئ إليه كي تقتني هدية لها من إحدى محلاته لأعجابها بذوقه الفريد.
حركت رأسها برفض، وكأنها ترفض الانصياع خلف مشاعرها، فاهتمام والدها بها في تلك اللحظة يستحق التقدير، يكفي سعادته بتفوقها في الثانوية، وتحقيق حلمها بالتحاقها ” بفنون جميلة”، حيث كانت تتطلع لتنيمة موهبة الرسم والتي رزقت بها، وجاهدت توسيع مداركها بها حتى في دراستها.
انتبهت شمس لصوت والدها وهو يقدم لها بضع الخواتم الرقيقة:
– نقي هديتك يا حبيبتي.
طالعت والدها بحب وهي تقول بصوت ناعم ورقيق:
– اختار معايا.
صمتا ثوان، بينما عيونهما كانت تتجول فوق الخواتم في سرعة، افتقدا كلاً منهما التركيز بسبب رنين هاتف والدها، وإخبار أحد العمال بحاجتهم لحضوره الفوري..فقال وهو يغلق الهاتف:
– هروح بسرعة اشوف في إيه في المحل، وأنتي اقعدي هنا مع سليم..
ثم توجه بحديثه لسليم الجالس خلف مكتبه يطالعهما في صمت:
– ساعدها يا سليم لغاية ما أجاي.
وقبل أن تبدي اعتراضًا، غادر والدها وتركها مع ممن كانت تتجنب النظر إليه، كي لا يقرأ الغرام بعينيها، فتعلق بصرها بالخواتم، والرؤية أمامها مشوشه لدرجة أنها افتقدت حاسه السمع، وبالتالي لم تستمع لبضع كلماته، فقالت ببلاهة:
– ها..، بتقول إيه!.
رمقها بابتسامة ساخرة وجذابه في آن واحد، مردفًا بصوت رخيم:
– مبروك.
أسبلت أهدابها، لتقول بخجل اكتسح ملامحها وأكسب وجنتيها حمرة لطيفة:
– الله يبارك فيك.
هبطت ببصرها نحو يده التي كانت تحرك قلمه بعشوائية فوق مكتبه الزجاجي.
– ناويه على كلية إيه.
تحمست بحماقه، قائلة:
– فنون جميلة طبعاً، أنت تعرف انا ذاكرت قد إيه علشان اقدر ادخلها.
قابل حماسها بنظرة جامدة يشوبها الامبالاة:
– كل الكليات زي بعض، مش فارقه كتير.
لِمَ شعرت وكأنه يريد التقليل من سعادتها ونجاحها، وكأنها شخصية تافهه تفرح لأمرًا لا يستحق، وفي ظل صمتها، نهض سليم ثم تقدم منها جالسًا فوق الكرسي المقابل لها.
– قبل ما افتح عم جمال في الكلام اللي هقوله، لازم اتكلم معاكي.
لوهلة شعرت بالتخبط، والآلاما تغزو معدتها من جديته المفرطه في الحديث، وكأنها اقدمت على خطأ هي لا تعلمه، فلم تصدر أي رد فعل، بينما هو ألقى ما في جبعته واحتفظ به طوال ثلاث سنوات.
– عايز اتجوزك.
عقدت حاجبيها لثوان، ثم عبست بملامحها ثوان أخرى، وعقب اضطراب انفعالاتها ابتسمت بخجل وهي تشير نحوها برقة:
– تتجوزني أنا.
هز رأسه مجيبًا:
– اممم، عندك اعتراض!.
أنهى كلامه بنبرة ساخرة لم تعجبها، فقالت بضيق طفيف:
– انت بتكلمني كده ليه، ده جواز على فكرة.
اقترب بجسده منها، قائلاً بخفوت فاجأها بل انتفضت خلايا قلبها عقب تصريحه المدمر لعقلها الذي توقف مشدوهًا للحظات:
– وعلشان هو جواز، باخد رأيك، ماليش في الذواق والكلام الحلو، حبيتك وعجبتيني وعلشان أنا راجل دوغري ماليش في العك والكلام الفارغ اللي بيحصل بين الشباب، عايز اتجوزك.
رمشت بأهدابها عدة مرات وهي تتهكم:
– ده أسوء عرض جواز شوفته في حياتي.
– ده العرض الوحيد اللي ممكن يجيلك مني.
طال صمتها وهي تحدق به، تحاول البحث داخل عينيه الغامضة عن شعاع حبه، فحديثه الجاد الخالي من المشاعر والأحاسيس جعلها تشعر كأنها صفقة ذهب، ربما كان ينقصه دفء حار لتعبير عنه.
كتمت توترها الزائد، وجاهدت إخفاء نظرة الاعجاب به، بينما أصابعها ارتفعت لحجابها تحاول تثبيته، وكأنها تتشبث بيه أثناء حديثها المهزوز اثر نظراته المثبته عليها:
– يعني…آآ…أنا ناويه اكمل تعليمي الاول.
قاطعها وهو يضع ساقًا فوق الأخرى، مردفًا بغموض اثار ريبتها:
– مفيش مشكلة، كملي في بيتي ومعايا.
هتفتت بتلعثم طفيف:
– بس.. أنا… حاسه ان مش…هقدر.
– تقدري إيه.
قالها في جمود وحدة، فصمتت تحاول اختيار افضل الالفاظ لباقه، ولكنه فاجأها حينما قال:
– مش موافقه عليا؟!
واحتدت نظراته عقب حديثه، فاردفت كالحمقاء وهي تحرك رأسها في نفي، تحاول ابعاد تلك الفكرة عن ذهنه.
– لا..طبعًا…
ابتلعت باقي حروفها خجلاً، وتوقف عقلها عن العمل حينما نهض ينحني نحوها في تمهل، تفرست في ملامحه عن قرب، بداية من شعره الأسود الغزير، وعيناه ذات العشب الصافي، فأصبحت دقات قلبها فوضوية، أغلقت عيناها تحارب مشاعرها المنبثقة نحوه، وكأن أنفاسه الساخنه التي كانت تلفح وجهها بمثابة المجراف لثباتها أمامه، ولو انتظر ثانية واحده لاعترفت بحبه كالتي وقع عليها تعويذة سحرية.
– تشربي عصير إيه.
صمتت لثوان عديدة كانت تبحر في عالم خاص مع أحلامها الوردية التي باتت تتجسد أمامها دون أي عناء منها، حتى أن نغمة صوته المميزة تداعب أذنها وكأنها تستمع لترنيمة لا مثيل لها، فتمايلت برأسها يمنيًا قليلاً، وتنهيدات خافتة متتابعه تلاحق بعضها تخرج منها عقب إصراره لنطق حروف اسمها..
– شمس.
فتحت عيناها تطالعه في هيام:
– ها..
ابتسامته الساخرة اخرجتها من عمق أحلامها واستكانتها، فقالت برقة ممزوجة بالخجل:
– بتقول ايه!.
– تشربي عصير إيه!.
– مانجه.
***
خرجت من شرودها وبحر ذكرياتهما معًا على كوب المانجه الموضوع بين يدها، وصوته الساخر يتردد في أذنها:
-اشربي المانجه يا شمس، علشان تفوقي.
تنحنحت باحراج، قائلة بسخرية مماثلة:
– يااه حاسس بيا اوي كده.
انتهى من تبديل ثيابه، ثم استدار نحوها يطالعها بتهكم:
– اممم، يعني أنتي مش طلبتيها وانتي سرحانه!.
وضعت الكوب بجانبها فوق المنضدة بيد، واليد الأخرى تشير نحوها نفسها بعصبية طفيفة:
– مين أنا… لا استحاله، أنت بس أكيد بتتلكك وعايزني ارضى واسامحك.
مد أصابعه يبعد خصلات شعره للخلف، وهو يتابع خطواته نحوها، وعيناه لا تفارق هيئة الفراش من حولها، ونظراته الساخرة يليقها كعادته عليها يذكرها فيما حدث صباحًا، رفعت أنفها بكبرياء وهي تجذب الروب الخاص بها، تخفي جسدها عن عيناه التي تلاحق حركاتها كالصياد الماهر..
– يلا نهايته، سامحتك علشان خاطر ابنك بس..اعمل أيه ما أنت ابو ابني ولازم اسامحك.
أنهت حديثها وهي تغلق باب المرحاض خلفها، ونظراته المتعلقه بالفراش المبعثر، تداعب خجلها حينما ادركت مقصده، عضت فوق شفتيها وهي تقول بغيظ:
– رخم..بس بحبه.
***
جذب “محمد” والد سليم سجادة الصلاة ثم وضعها برفق فوق الكرسي، متمتمًا ببعض الاذكار، بينما كانت ” منال” زوجته تنتظر انتهائه من ورده اليومي الصباحي، وعيناها تتركز على ملامحه الواجمة منذ ليلة أمس، تشعر بالريبة لصمته الطويل عقب صدام سليم مع الورد المُرسل لشمس، حاولت التحدث معه ولكنه اكتفي بالاشارة لها مغلقًا الحديث معها، رضخت لاوامره خوًفا على صحته.
انتبهت منال على صوته المتسائل في هدوء:
– خير يا منال.
اندفعت تسأله بقلق:
– انت كويس يا محمد.
التفت بوجهه يسألها بعبوس:
– أنتي شايفه إن أنا كويس.
زمت شفتيها بضيق وهي تبعد بصرها بعيدًا عنه:
– خلاص اللي حصل حصل، هنعمل إيه يعني، هنرجع الزمن تاني ازاي.
أخرج تنهيدة قوية، محركًا رأسه بالموافقة على حديثها، نادمًا على قرار ساعد به، دون أن يعلم عواقبه ومدى خطورته على ولده سليم:
– صح هنرجع الزمن ازاي.
نهضت منال وهي تنهي الحديث بانزعاج، بعدما بدأ ضميرها في جذبها نحو بقعة تحاول الهرب منها:
– احنا مبنعملش حاجة غلط، ابنك اللي قفل ودماغه زي الجزمة، نعمله إيه يعني، نموت البت يعني.
أشار إليها بالسكوت، مردفًا بضيق ممزوج بالحدة:
– طب بس اسكتي ليسمعك، مش ناقصين مشاكل.
أومأت رأسها بالموافقة، ولم تنبث بكلمة واحده، بل ظلت ترتب الفراش في هدوء، وعقلها يشرد في ماضي حاولت دفنه، ولكن فؤادها يحتفظ بمشاعر تجلد ضميرها حتى اليوم، تغرق في ندم لا رجوع به، تندب عقلها على قرار اتخذته في لحظه متهورة، ولكنها كانت تفكر بعقلانية جادة، كي تنقذ الوضع الذي بدأ في الانهيار اثر تصدعاته التي ظهرت لها فجأة، والضحية لكل ذلك كان ولدها فلذة كبدها ” سليم”.
***
في احدى المناطق الراقية توقف ” منير ” على اعتاب الباب الحديدي، يتابع قدوم والده من داخل عمله، حيث يعمل والده في محل الشعراوي لبيع المجوهرات والذهب، دق قلب “منير” بعنف، بعدما لمح الوجوم يسيطر على وجه والده، فأدرك أن المناقشة ستنتهي في صالح قرار والده، ولكن لن يهدأ، ولن يفقد الأمل في اقناعه بما يتمناه.
خرج ” فتحي ” من المحل ثم قبض فوق يد منير قائلاً بعصبية خافتة:
– أنا قولت إيه، إيه جابك هنا!.
– يابابا علشان خاطري وافق اروح الدروس، عايز..
قاطعه فتحي بحنق، مُصرًا على قراره دون النظر إلى ما يلمع بعيون ولده من حزن وقهر:
– مفيش تعليم يا منير، اسمع الكلام وروح اشتغل.
هز منير رأسه بالموافقة، وبدأ غلاف رقيق من الدموع يحتل مقلتيه:
– طب هشتغل واكمل تعليمي، يابابا هي سنة واحدة وادخل ثانوي.
ابتسم فتحي باستهزاء يتوارى خلفه حزن وضعف لِمَ يتفوه به:
– ثانوي إيه…انا هجيب فلوس منين لده كله، غير مصاريف اخواتك، يابني حس بيا، ومتتعبش قلبي، روح اشتغل وساعدني في مصاريف البيت.
هبطت دموعه الغزيرة فوق صفحات وجهه، بينما كانت عيناه تصر على نظرة الرجاء، كي يحن قلب والده ويتراجع عن ذلك القرار، فخرج صوته ضعيف مهزوز:
– يابابا علشان خاطري، والله ماهتعبك في مصاريف.
وقبل أن يفتح فتحي فمه، تفاجئ بسليم يقف خلف منير، منعقدًا الوجه، عيناه تجول بالاسئلة، فابتلع باقي حديثه، ناقمًا على ولده الذي اختار مقر عمله مكانًا للمجادلة.
– في إيه يا فتحي.
قالها سليم في خشونة وعيناه لم يبعدها عن منير، فكانت نظرته أشبه بعصفور صغير كسرت جناحيه، نظرة حزينة يقطر منها الالم، هو وحده يدرك مدى عواقبها، لقد عاشها بكل تفاصيلها، حيث شعر وكأنه مخمور من شدتها، متخبطًا هنا وهناك فاقدًا آماله وطموحاته، مستسلمًا لظروف بشعة هدمت حياته وقلبتها إلى أخرى راكدة لا حياة بها.
حمحم سليم بقوة، ومد يداه تداعب شعر منير في هدوء:
– بتعيط ليه!.
مسح منير دموعه بسرعة خوفًا على اذيه والده من رب عمله، وقال:
– مفيش ده تراب دخل عيني، سلام يابابا.
غادر منير سريعًا قبل أن ينطق والده، وتركه يصفر وجهه أمام سليم الذي كان يشمله بنظرات كره، لا يعلم سببها..
– مش عايز ابنك يكمل تعليمه ليه!.
تلعثم فتحي بحرج، مجيبًا:
– آآ…يعني..علشان ظروف الدنيا…وال..
قاطعه سليم بغضب طفيف:
– ابنك يكمل تعليمه يا فتحي، وانا متكفل بيه من جنية للالف، لو عندك عيال تانيه أنا متكفل بيهم لغاية ما يخلصوا دراستهم، واياك اسمع انك خليته ميكملش، حسابك هيكون عسير معايا.
هز فتحي رأسه عدة مرات، غير مصدقًا لِمَ يسمعه الآن، هل حلت معضلته بهذه البساطة، دون أن يتلوى يوميًا بسبب عذاب ضميره، يكفي سماعه لبكاء ولده الايام السابقة، فقد كان قلبه ينكوى بمرارة العجز وقلة الحيلة.
راقب فتحي دخول سليم للمحل بكامل هيبته، وقف سليم في منتصف المحل، متحدثًا بصوت مرتفع اثار انتباههم جميعًا له:
-أي حد عنده عيال ومش قادر يصرف على تعليمهم أنا جاهز وهتكفل بيهم، فاهمين ولا لأ.
تناقلت النظرات بينهم جميعًا منها السعادة ومنها الاستفهام، ولكن جميعهم التزم الصمت وتابع عمله في جدية.
****
جلس سليم فوق كرسيه، وشعر بانحسار أنفاسه، فبدا وجهه أحمر للغاية، وعيناه كانت شبة زائغة بسبب تدفق ذكريات ماضيه خلف بعضها، رغم محاولاته للابتعاد عنها، لعلمه بمدى بشاعتها على نفسه، وتأثيرها السلبي على روحه.
مد يداه وفك أزرار قميصه العلوية بسرعة، ثم التقط كوب المياة وتجرعه مرة واحدة، ظنًا منه أنها وسيلة جيدة لاطفاء نيران وجعه، ولكن هيهات بل اشتعلت وكأن ذلك اليوم المشؤوم عاد التو بكل تفاصيله المهلكة.
عاد بجسده يستند على ظهر الكرسي واستسلم لذكرى قسمت أحلامه وطاحت به للاسفل، فهوى في قاع مظلم، دافنًا طموحاته وآماله معه، فاقدًا الحرية لتعبير عن نفسه، خرجت تنهيدة حزينه حينما تذكر ليلة قاسية غيرت مجرى حياته.
***
جلس سليم في احدى طرقات المشفى بتعب وانهاك، مغلقًا عيناه المرهقة، مستسلمًا لهدوء المشفى الحالي، عقله لا يستوعب كم الصدمات التي مر بها، منذ دخول والده في غيبوبة لعدة أيام نتيجة لربكة قوية حدثت في محلات الذهب الخاصة به، وقد اوشك على اعلان افلاسه بسبب قرار عمته المفاجئ بسحب جميع اموالها من ادارة أبيه، وهذا الوضع قد خلخل أسس ادارة ابيه لمحلاته، ففقد ميزانية كبيرة جدًا من رأس ماله، وبالتالي لم يستوعب كم العقبات التي هوى بها، فقد وعيه ودخل المشفى على اثرها.
وها هو يجلس مع والدته في طرقة المشفى ليلاً ونهارًا لاطمئنان على حالة والده، وحقيقةً هو لم يدرك مدى بشاعة الموقف المالي لديهم لصغر سنه، فكانت كل آماله أن يستفيق والده باقصى سرعة ويصبح بحالة جيدة.
لمعت عيونه بدموع حزينة بعدما شعر بكم الآسى الذي تعانيه والدته وهي تنتظر شفاء والده، تنهد بعمق متمنيًا أن تزول تلك الغمه سريعًا دون الدخول في اوجاع كبرى هو لن يكون قادرًا على مواجهتها..
رن جواله، فانتبه له وأجاب على الفور:
– الو.
– انت جنحت يا سليم وجبت ٩٢٪.
تهلهلت اسارير سليم، وردد خلفه بعدم تصديق:
– بجد أنا نجحت.
– اخيرًا يا سليم خلصنا، وهندخل كلية الشرطة.
اتسعت ابتسامته قائلاً:
– الحمد لله، هقفل معاك دلوقتي.
أغلق سليم هاتفه الصغير، والتفت لوالدته يخبرها في سعادة بالغة:
– ماما أنا نجحت وجبت ٩٢.
مسحت والدته دمعه حزينة هبطت من عينيها، والتفت تقول له في لامبالاة جعلته مصدومًا:
– ماشي.
عقد ما بين حاجبيه في عدم فهم لرد والدته الخالي من أي معالم للفرحة:
– هو أنتي مش مبسوطه، كنتي عايزني اجيب مجموع اكبر، بس انتي عارفة أنا نفسي ادخل شرطة والمجموع ده هيدخلني.
– انا ولا مبسوطه ولا زعلانه، أنا مش فايقلك، ولا فاضية للكلام الفارغ ده.
ابتلع ريقه مرددًا بهمس:
– نجاحي، بقا كلام فارغ.
حركت والدته رأسها في تنعت، وبدأت تلقي بكلماتها الموجعه دون انتباه لِمَ يعانيه هو من تخبط اثر ما تلفظه.
– انت في ايه ولا ايه، ابوك تعبان يا سليم، وكمان افلس، يعني مبقاش معانا فلوس، وانت سعيد وفرحان، يا خيبتي في ابني الكبير.
– أنا زعلان علشان خاطر بابا، وانا واثق في ربنا انه هيكون كويس، ولما يقوم بالسلامة هيفرح بيا، علشان قدرت احقق حلمي.
قال سليم حديثه ببسمة امل يتخللها الم، ولكن والدته كانت مُصرة على جذبه نحو بقعة لا يعلم دواخلها سوى أنها عالم يجهله، فقالت:
– كل اللي انت بتقوله مش هيفرق، قد ما يفرق ان ابني الكبير يشوف مصالح ابوه وينقذنا من الوضع اللي احنا فيه.
اشار على نفسه مجيبًا ببلاهة:
– أنا اشوف مصالح بابا.
هتفت والدته بعناد:
– ايوا أنت، مالك في ايه صغير، أنت عندك ١٨ سنة، تقدر تمسك محلات ابوك.
جلس سليم بصدمة، هامسًا:
– همسك محلات بابا اللي على وشك الافلاس.
اقتربت والدته وجلست أمامه، وهي تخبره بجمود لأول مرة يقرأه بعينيها، لطالما كانت مصدر الحنان والامان لديه.
– ابوك مكنش بيحكي ايه اللي بيحصله في شغله، وكلنا اتفاجئنا من خبر افلاسه، بس الحمد لله أنا عندي حته ارض هتجيب سعر كويس، وشوية مجوهرات ودهب هيعملوا مع الارض مبلغ حلو، عمك جمال صاحب ابوك هيساعدك في الادارة وهيفهمك اصول الشغلانه وتقدر…
انتفض سليم كمن لدغته حيه، قائلاً:
– أنا عايز اكون ظابط، بيعهم ونصرف منهم لغاية ما اتخرج انا..
قبضت والدته فوق يده بعنف، قائلة بغضب:
– أنا لسه هستنى لما تتخرج، أنت تنسى حكاية انك تكون ظابط دي، انت من بكرة هتمسك شغل ابوك مش عايزة اشوف وشك في المستشفى.
بكى سليم بقهر، مردفًا بصوت مرتجف:
– انتي ليه بتعملي معايا كده، أنت اتغيرتي اوي يا امي.
منعت نفسها من البكاء بصعوبة، وقالت بصوت مبحوح يشوبه الحزن:
– اللي شوفته من وقت ما ابوك دخل المستشفى خلاني كده، الفلوس مسيرها تخلص، هنمد ايدنا للناس ياسليم نشحت، ولا انزل اخدم في البيوت، طب واخواتك زيدان ويزن اللي لسه في مدارسهم اصرف عليهم منين.
نكس رأسه في صمت، واطلق العنان لدموعه، بينما كان يحاول كتم شهقاته بداخله، ومازالت والدته تردد كلماتها دون انقطاع، دون شعور بما يمر به، هو لا يجيد الاختيار، لا يجيد افضل الحلول، سوى ان الرضوخ لحديث والدته هو الحل الانسب لمشاكلهم، ولكن طموحه وامنيته الوحيدة اليس لها جانب، لا يوجد بصيص من النور أمامه، بل حل الظلام باوجاعه..
– أنا املي فيك كبير، انا عايزة اتسند عليك، لو فاكر ان ابوك بعد ما ربنا يشفيه هيقدر ينزل شغله تاني تبقى غلطان، ابوك وقع الوقعه دي وخبى علينا علشان بس اسم عيلة الشعراوى ميتهزش قدام تجار الدهب، واللي زاد وغطى عمتك باللي عملته معاه، مرحمتش ولا سابته يشوف حل، زي ما تكون كانت مستنيه يحصل فيه كده.
صمتت لحظات تجذب انفاس اخرى كي تستكمل باقي حديثها الذي أجلته لايام، خوفًا من مواجهة صغيرها، ولكن ما باليد حيلة، ستبحث بكل قوتها عن سبيل للحياة أفضل حتى لو كان عن طريق هدم آمال ولدها، ولو كان ذلك يندرج تحت بند الانانية، ليكن، لكن الصعاب التي ستواجهها فيما بعد ستكون اعور واشد مما هو عليه الآن.
مسحت دموعها المنسابه فوق وجهها، وتحلت بالجمود والقسوة الزائفة، كي تنقذ مستقبل عائلتها:
– سليم أنت دلوقتي مكان ابوك، عايزك تفوق لشغله وتهتم به، حط هدف قدامك ترجع اسم ابوك تاني، اخواتك دول اعتبرهم عيالك، هتتخلى عنهم؟!
سألت وتركت الاجابة في ملعبه، فهز رأسه رافضًا فكرة التخلي عنهما، فتشجعت قائلة بحماس:
– يبقى من بكرة، تنزل شغلك ده دلوقتي شغلك مش شغل ابوك..
رفع رأسه وعيناه تنطلق منها الحيرة والعجز، وبصوت خافت ضعيف سألها:
– طيب هقدم في كلية إيه؟
نهضت والدته بعيدًا عنه، وتوجهت صوب غرفة والده، مدت يدها تفتح الباب وقبل أن تدخل فجرت مفاجأتها له:
– أنت مش هتكمل تعليمك، مفيش كليات، الكلية هتشغلك عن شغلك، من بكرة يا سليم تروح المحل الكبير ومش عايزة اشوف وشك، تنام هناك، تركيزك كله يبقا في الشغل وبس.
القت بكلماتها القاسية في حقه، ثم دخلت في هدوء ينافي عاصفته الغاضبة والمتمردة عما تقوله، لِمَ يحدث معه هكذا، لقد رُجت مشاعره في غربال لا يعرف الرأفة بما يعانيه، حتى أن تسربت الحياة من اوردته، ودفن شغفه، وانبثقت حياة مظلمة فُرضت عليه قسرًا.
***
عاد سليم على صوت العامل وهو يضع القهوة أمامه، فتمسك بجموده الظاهري، مازالت اثار تلك اللحظة تحفر في صدره، وكأن الزمن سيمر وهي لن تزول، بل ستبقى تذكره كم كانت والدته قاسية عليه، لقد ظن أن القصة ستنتهى عند هذا الحد، ولكن العقبات كانت تأخذ من روحه تدريجيًا، فاقدًا الأمل بهم، وبه، وحياته بأكملها.
انتبه على صوت مساعده، وهو يقول في هدوء ممزوج بالضيق:
– سمير بيه ابن عمتك بيركن العربية بره وداخل.
رفع سليم عيناه وطالعه في صمت قاتل، متفهمًا نظرات الكره الذي يكنها جميع العمال بالمحل لسمير ووالده، فقال بابتسامة يتخللها التهكم:
– يتفضل، جاي لقضاه.
دخل سمير بابتسامته المستفزة، يبحث عن ابن خاله الذي ينبض له قلبه بالكره الشديد، لطالما كان يبغضه، ناقمًا على وسامته، وذكائه، رغم أن سليم لم يكمل تعليمه، الا انه الاذكى والاقوى والاجدر بقيادة اسم الشعراوي في سوق الذهب والمجوهرات، رغم انتكاسه خاله لعام كامل.
– والله يابن خالي لما بشوفك منور المحل كده، بفرح ليكوا.
رفع سليم فنجان القهوة وارتشف منه القليل، مجيبًا في استفزاز:
– انهي محل بالظبط، المحلات كتير يا سمير.
مط سمير شفتيه ساخرًا:
– وانت من كترهم بتنسى!.
– ربنا يخلي الحج عملنا اللي غيره ميقدرش يعمله، بس إيه اللي فكرك بينا؟!
تسأل سليم في وجوم، فرد سمير ببرود:
– عادي قولت اجاي اسال عليكوا، واطمن على الباشا زيدان..
هز سليم رأسه عدة مرات، ضاحكًا بسخرية:
-الباشا زيدان كويس الحمد لله.
رسم سمير ابتسامة سمجة قائلاً:
– لازم يكون كويس، أصل الواد زيدان ده لما بقا ظابط خلاص محدش عارف يكلمه، بس يستاهل ابن الايه لايقه عليه.
لمعت عيون سليم بوميض غريب، مردفًا بفخر:
– طبعا مش ابن محمد الشعراوي، واخو سليم الشعراوي لازم تكون لايقه عليه.
أومئ سمير رأسه مؤكدًا، قاصدًا كل حرف يتفوه به:
– زيدان يستاهل راجل وجدع، لكن يزن يعني والمصايب بتاعته في المعرض بتاعكوا، سمعته مش ولابد.
أخفض صوته في نهاية حديثه، كناية عن حجم المصيبة التي تحيط بسمعتهم، ولكن رد سليم السريع حاملاً كم من المفاجآت له، فجعلت عروقه تنتفض بغضب، وعيناه تبرز بسهام الكره والحقد.
– أنا شاكر إنك قلقان علينا وعلى شغلنا، بس خليك في حالك كفايا عليك المشاكل اللي انت فيها من ورا تراخيص المحل الجديد اللي مش عارف تطلعها والدهب المسروق والشرطة بقت شاكة فيك الا صحيح هما لسه مش مسكوا دليل قوي؟ لو عايزين تليفون مني أبعتلهم بدل الدليل عشرة.
أنهى حديثه وهو يشير نحو هاتفه، وعيناه تضيء بوميض يشابه نظرات الذئاب المنتصرة حينما تحقق فوزًا جديدًا على أعدائها.
حاول سمير تمالك اعصابه، حينما تسربت منه جميع الردود، وبقى كخصم خاسر في حرب جدالية ينبثق منها حروف نارية.
نهض سمير مردفًا بصوت ثابت جاهد في اخراجه، بعد حدوث زلزله لعقله الغارق في أمر الذهب المسروق.
– أنا همشي وابقى سليملي على باقي العيلة الكريمة.
تحرك خطوتان نحو الباب الرئيسي، ولكن صوت سليم الذي صدح في المكان جعله يقف غاضبًا:
– اخواتي خط أحمر، زيدان ويزن فكر الف مرة قبل ما تجيب سيرتهم على لسانك.
دارت عيون سمير في جميع ارجاء المحل، يراقب نظرات التشفي المنبعثة من جميع العاملين، شعر بارتفاع درجة حرارته، نادمًا على قرار مجيئه لسليم، لقد كان قاصدًا مضايقته، ولكن انقلب الوضع بجره للاذيال خيبته بسبب صفقة مشبوهة، حرضته نفسه البشرية على خوضها.
فور خروج سمير من المحل، جمع سليم متعلقاته، مقررًا مداهمة أخيه الاصغر، وتوعيته عما يفعله، لقد فاض الكيل به، ونفذ صبره.
***
هبطت ليال درجات السلم كعادتها في عجالة، وعيناها ترتكز فوق شاشة هاتفها تتابع نقاش هام مع أحد اولياء الامور، فـ لم تنتبه الا وجسدها يرتطم بصدر سيف الواقف مصدومًا منها ومن أفعالها الهوجاء:
– جرى إيه يا استاذه، فتحي.
صوته القوي أخرجها من عمق شرودها بملامحه التي لاول مرة تقترب منها بهذا الشكل، للحظة اضطربت وصابتها حالة من الخمول المؤقت أمام ملامحه الرجولية الخشنة، فقالت بصوت ناعم:
– انت اللي خبطت فيا.
مازالت المسافة بينهما منعدمة، فتراجع سيف ورد بجفاء:
– أنا ولا انتي مش فارقة، اتفضلي شوفي انتي رايحة فين.
عادت روحها الثقيلة تسيطر عليها، فرفعت حاجبيها باستنكار، وبدأت ملامحها تأخذ وضعًا لوصلة الحي الشعبي في العراك، فتوقع سيف شهقة يستمع لها جميع سكان البناية، تصرف سريعًا ووضع يده فوق فمها يمنعها:
– الروح الشعبية متطلعش على اللي خلفوني يا انسة ليال.
ابعدت يده بعصبية قائلة:
– ايدك متلمسنيش، وبعدين أنت اللي مُصر تخرج اسوء ماعندي، مالك انت بيا، هااا، مالك بيا.
هز كتفيه بلامبالاة، مجيبًا:
– ماليش، احنا مجبناش سيرتك.
– ايوه خليك في حالك، علشان ترتاح يا…، يااسطى.
انهت حديثها وهبطت درجات السلم، ووجهها يسرد ما كانت فيه مع ذلك الفظ المتعجرف.
***
فتحت شمس جميع الادراج في فوفوضية تامه، تبحث هنا وهناك، لم تترك مكانًا الا وبحثت به:
– مالك يا شمس، بتعملي إيه!.
التفت شمس وصدرها يعلو ويهبط في وتيرة سريعة اثر تنفسها السريع:
– بدور على الكارت اللي جاي مع الورد.
– يابنتي تلاقيه مع زيدان ولا يزن.
قالتها منال في لامبالاة، فردت شمس بضيق:
– لا ياماما مش موجود معاهم، هيكون راح فين..
التفتت منال حول نفسها، تستذكر ما حدث:
– يمكن البت الصبح وهي بتكنس، رامته في الزبالة، انس ابنك كان مقطع ورق كتير.
توقفت شمس بارهاق، وبدأت تشعر بضعف يتخلل ثناياها:
– او يمكن يكون لسه مع سليم.
حركت منال رأسها في نفي واصرت قائلة:
– لا سليم استحاله، أنا شايفه يزن بياخدوا منه، وبعدين انتي بتدوري عليه ليه!.
– علشان اشوف مين بعته ليا ياماما، علشان اللي حصل ميتكررش.
يتبع ……
لقراءة الفصل الخامس : اضغط هنا
لقراءة باقى فصول الرواية : اضغط هنا

اترك رد