روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت الثاني والعشرون

رواية غير قابل للحب الجزء الثاني والعشرون

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الثانية والعشرون

أبسط مظاهر الشفقة خلت منه، كان منعدم الإنسانية، روحه شريرة، قاسية للغاية، تفتقر لأدنى قدرٍ من مشاعر التعاطف والتأثر، أخذتُ أحدق في وجهه بنظراتٍ مصدومة غارقة في الخوف، بدت ملامحه حينها كملامح وجه شيطـــان عنيد يتلذذ بتعذيـــب ضحاياه قبل أن يقضي عليهم بإشارة من إصبعه، فما ألقاه على مسامعي حطم ما تبقى من صمودي، شعرتُ وكأني أُمزق من الداخل، فما تربيت عليه انهدم في لحظة وتحول إلى ركام. ابتلعت ريقي، وتحديته ببقايا شجاعة مذبذبة، وأنا أجاهد للنهوض واقفة على قدمي بعد أن لعبت كؤوس الخمر برأسي، فهتفت متسائلة بحدةٍ:

-ومن أخبرك أني سأسمح لك بالاقتراب مني؟

من موضع وقوفه -والذي يبعد عني مسافة لا بأس بها- تطلع إلي بجمودٍ مستخف، اشتطتُ غيظًا من هذه الصلابة المتجافية الباقي عليها، فأكملت بصوتٍ هادر:

-إنك واهم.

 

 

 

عندما أصبحت في مواجهته بعد نهوضي المهتز، يبدو أن ما تجرعته من مواد مُسكرة قد راح يؤثر بي بقوةٍ، فلم أكن في كامل وعيي أو طاقاتي. استقمت واقفة رغم ما يحل بي، ولمحت -من خلف كتفه- السكين على مسافة ليست ببعيدة عني، مُلاقاة إلى جوار إطار الباب، ففكرت سريعًا في استعادتها دون أن ينتبه لي، فربما أحوذ على فرصة أخرى لإيذائــه جسديًا، بعد أن دمرني معنويًا. تحركت ناحيتها، وأنا أواصل الصراخ الغاضب، مستخدمة يدي في التلويح، كنوعٍ من الإلهاء المتعمد:

-لن تمسني، ولن تضع يدك علي، وإن جمع بيننا عشرات الروابط المقدسة!

للغرابة احتفظ “فيجو” بصمته المريب، كان غير مهتمٍ بالرد على الإطلاق، وهذا ما أغاظني نوعًا ما، فحين يكون الحوار سجالًا بين الطرفين، يعطي الفرصة لإفراغ ما تكبته في صدرك من مشاعر مشحونة؛ لكنه لم يحرك ساكنًا، بل اتخذ موقف المشاهد اللا مكترث بأي شيء في العموم، استأنفت صياحي فيه، وأنا التف بحذرٍ حوله، لأصير قريبة من مكان السكين:

-سأظل أكرهك إلى أن أموت، أتمنى هلاكك في كل لحظة.

أصبحتُ على بُعد عدة خطواتٍ من هدفي المنشود، كنتُ أحسب كل خطوة أسيرها بحسابٍ، لئلا أثير الريبة في نفسه، خاصة أنه سريع الشك، ذكي في تفكيره، انتفضت كليًا بفزعٍ مكشوف عندما هتف “فيجو” من خلفي:

-توقفي عن الصراخ، صوتك المزعج يؤلم رأسي.

في لحظةٍ فارقة استجمعتُ جأشي، وأسرعتُ في خطواتي لأنحني بخفة ملتقطة السكين من على الأرض، ضغطتُ على أسناني، وقلتُ بوعيدٍ، وهذه النظرات المحتقنة تقفز من عيني:

-أنت لم ترَ الألم بعد.

استدرتُ في لمح البصر تجاهه، رافعة يدي القابضة على السكين للأعلى، قاصدة إصابته في كتفه؛ لكنه انتبه لمحاولتي المباغتة لطعنه، تفادى ضربتي في احترافيةٍ، وتراجع خطوة للخلف متسائلًا في دهشةٍ، وحاجباه معقودان:

-ما الذي تفعلينه؟

أبقيتُ أصابعي ملتفة حول مقبض السكين بقوةٍ؛ كأنه التصق بجلدي، وصرخت بغضبٍ اندلع من جديد:

-سأريح الجميع من شرورك يا قاتل أبي!

تركت شعور التردد جانبًا، وأعدت المحاولة باستبسالٍ أزيد؛ لكنه بنفس الأسلوب المراوغ تمكن من الإفلات من تسديدتي التالية، وقوَّس ظهره للخلف ليتحاشى النصل الحاد، احتقن وجهي غضبًا لفشلي، وأخذت أهدر عاليًا في عصبيةٍ:

-سأقتلك مهما حدث.

لم أيأس، للمرة الثالثة قمتُ بنفس ذات المحاولة؛ لكنه بدا مستعدًا لصدي، ونجح في الإمساك برسغي دون أن أدرك كيف فعل هذا، وجدتني في لمحة خاطفة أدور حول نفسي، وأصبحت ملتصقة بصدره، وذراعه تطوق عنقي، بينما بكفه الآخر يقبض على يدي الممسكة بالسكين. صرخت في إحباطٍ أشد، وأنا أشعر بالهزيمة الفادحة تجتاحني:

-ابتعد.

 

 

أخفض رأسه ليبدو صوته قريبًا من أذني، وتكلم في هدوءٍ، كأنه لم يكن في موضع خطرٍ:

-لا تتدللي كثيرًا، فأنا صبري قد بدأ ينفد.

يبدو أن طاقة مقاومتي قد أخذت في الهبوط سريعًا مثلما تجمعت، ومع هذا أخبرته في عنادٍ أحمق:

-لن أتدلل، بل سأكرر محاولتي.

رفعت قدمي عن الأرض، ودعست بكعب حذائي على قدمه بكل ما أوتيت من قوةٍ، فهتف مزعوجًا من الألم المباغت:

-اللعنة.

اشتدت قوته المسيطرة علي، قاضيًا على روح القتال المنتشرة في أوصالي، وراح يضيف في ضيقٍ:

-أنتِ لا تتوقفين أبدًا.

أتى ردي مهددًا كالعادة:

-سأقتلك.

علق ساخرًا مني بعد أن نجح في انتزاع السكين من يدي:

-يا له من تهديد مخيف! لقد ارتعدت فرائصي!

وكأن قلبي قد قفز من موضع استقراره حين غدا في قبضته، ظننتُ أنه على وشك غرزه في صدري، وهو لن يتردد في فعل ذلك مُطلقًا، لقد فعلها سابقًا نصب عيني، وأردى خالي قتيلًا دون أن يهتز له طرف، جحظت عيناي في ارتعابٍ، وتعلقت بالنصل اللامع، فاجأني “فيجو” حين ألقاه للمرة الثانية بعيدًا، لم يحررني، وظل ذراعه يطوقني ويلصقني به، وبأصابع كفه راح يتلمس بشرتي الملتهبة من غضبي السابق، تلويت في عصبية غير مهددة محاولة المناص منه؛ ولكن جاءت بلا جدوى معه، توقفت عن الحركة في ذهولٍ مرتجف حين تابع جملته بما جعل داخلي ينتفض، وخارجي يرتعش:

-من الأفضل أن نوثق زواجنا عمليًا، بدلًا من إضاعة الوقت هباءً.

وقتئذ صرخت في خوفٍ عظيم، متخيلة ما أنا مقبلة عليه معه:

-دعني، توقف.

طوقني بذراعه الآخر، فغدوت أسيرته، حبيسة ضلوعه، أشعر به يضغط علي كأنه يعتصرني، انهمرت الدموع غريزة من عيني خوفًا، وهمس في أذني بأنفاسه الحارة، وبما جعلني أنكمش على نفسي من رهبتي:

-المتعة ستبدأ الآن قطعة السكر.

 

 

كان يقصد ما راود عقلي من مخيلات جامحة، تخلو من عنصر الحياء، للظفر بالشيء الوحيد الذي يظن أنه سينجح في كسري؛ لكنه رغم كل ما سيحدث لن يمتلك قلبي!

…………………………………………………

الانسجام، والانجذاب، وما على هذه الشاكلة من المشاعر الودية الأليفة كان غير موجودٍ بيننا، انحصرت أحاسيس الحب في مجرد عاصفة جسد هوجاء، كان هو المتحكم في فرضها على كل جزء بداخلي بعد أن انتزع عني ثوب العرس، ليجردني مما كان يحجب نظراته الشهوانية عني. قاومت، وواصلت المقاومة، حتى تحولت إلى كتلة من الحجارة الصماء، لا تنفع معها أي وسيلة لتحريك المياه الراكدة من أسفلها، استسلمت ظاهريًا لأفعاله المحكنة؛ لكن معنويًا رفضت ما يبثه من محفزات حسية قوية.

استفزه كثيرًا عزوفي عن مبادلته حرارة ووهج الحب، وكيف من المفترض أن أبدو متشوقة للقرب منه وكل ما في يبغض اقترابه؟ ناهيك عن استحضار ذهني لتجربة الاختطاف القاسية التي عايشتها، فبدا ما أخوضه الآن في أحضان من بات زوجي مشابهًا لما كان يقوم به خاطفي؛ مؤلمًا، منفرًا، باعثًا على الاشمئزاز .. ربما اختلفت الظروف ولكن التجربة واحدة .. قاسية، موجعة، غير جديرة بالمعايشة!

ظهر الاستياء على “فيجو” من جمودي الواضح، وقام من فوقي لينظر إلي من عُلياه مُحذرًا:

-إن بقيتِ هكذا لن يأخذني بكِ شفقة!

طفرت العبرات من طرفي وأنا أخبره بصوتٍ منتحب:

-اقتلني لأستريح.

مال ناحيتي قائلًا بعبثية فهمتها:

-سأقتلك بشيء آخر.

 

 

 

أطبق بجسده على كلي، فشعرت بعظامي تتهشم دون أن يحدث ذلك فعليًا، راح يغرقني بالقبلات الجائعة، النهمة، التي تستثير الحواس، وتؤجج الإحساس، ويداه تقومان بمهمة أخرى. من يتأمل المشهد من بعيد يظن أنه يحتويني، يغمرني بالأشواق المشتعلة، يفيض علي بتيارات المشاعر الملتهبة؛ لكنه كان يسعى بشتى الطرق الخبيرة لاحتلالي، لامتلاكي كليًا. إحساس الألم القاسي تفشى في مواطن أنوثتي المنيعة، كان كمن يدك الحصون لهدمها، لا من يذيب الجليد لنيل ما يخفيه من نعيم خلفها. غضب لتصلبي، وصاح بلهجةٍ منذرة:

-أنتِ من ستنال الألم العظيم في النهاية لا أنا…

أبقيت وجهي للجانب، لا أنظر ناحيته، فتابع بنفس الصوت الصارم المحذر:

-من الأفضل لكِ أن تتجاوبي معي.

كتمت شهقة مقهورة، ولم أمنع دموعي من الانسياب، شعرتُ بقبضته تمسك بفكي لتدير وجهي ناحيته وهو يأمرني:

-انظري إلي!

صرخت فيه بضيقٍ:

-ماذا تريد؟

نظر إلي بغموضٍ، فواصلت الكلام في استهزاءٍ مبطن، وعيناي تتطلعان إليه من وراء سحابة كثيفة من العبرات الساخنة:

-هيا قُم بمهامك أيها الزعيم العظيم، ودعني بعد أن تُطفئ جمرات لهفتك!

وكأني سكبت دلو ماء بارد فوق رأسه، انقلبت سحنته أكثر، وشعت من عينيه نظراتٍ نارية، تريد إحراقي، شعرت بعضلاته تشتد على جسدي، كاد يسحقني أسفله من قوته التي تضاعفت، شعرت بموجة من الرهبة تغمرني، كان على وشك قول شيء ما لولا أن صدح بالخارج نداءً عاليًا، فبدت وكأن النجدة قد جاءت من السماء لإبعاد شروره عني.

…………………………………………………….

 

 

لم تنفتح مشاعري الخجلى كعروسٍ مبتهجة مقبلة على متع الحياة المشوقة، ولم أذوب من فرط التحرق للاقتراب الحميمي معه، كنت قد تحولت إلى قوقعة انغلق طرفيها على بعضهما البعض، لتظل لؤلؤتها الثمينة في أمانٍ إلى أن يأتي من يترفق بها ويستخرجها. لحظة وانزاح “فيجو” من فوقي ليضع سريعًا سرواله عليه، مرة ثانية ارتفع صوت “لوكاس” مرددًا من الخارج في جديةٍ:

-“فيجو”، هل تسمعني؟

انتهزتُ الفرصة لأسحب الغطاء على جسدي، فأتوارى أسفله، تتبعتُ بنظراتي الحائرة “فيجو” وهو يتجه نحو باب الغرفة ليفتحه، دون أن يغطي صدره العاري، تساءل في نبرة استشعرت الضيق العارم فيها:

-ما الأمر “لوكاس”؟ أهذا وقته؟

جاء صوته موضحًا في غموضٍ جاد للغاية:

-نريدك بالخارج فورًا، الأمر لا يحتمل التأجيل.

من طريقته خمنت أن المسألة خطيرة، خاصة أن الوضيـــع “لوكاس” ما كان هو الآخر قد أضاع فرصة إزعاج شقيقتي ومضايقتها بسماجته المعتادة. استدار “فيجو” برأسه ناحيتي، فالتقطت نظراته القاسية بعيني المتوترتين، سمعته يقول في تأففٍ:

-اللعنة.

أخبره “لوكاس” مؤكدًا بعبثيةٍ لاهية:

-صدقني، إن كان يستحق الانتظار لما أزعجتك وأنت تخوض واحدة من معاركك المثيرة.

طريقته في طرح الأمور بهذا الشكل السافر كانت تثير أعصابي، وتزيد من حنقي ناحيته، فكل شيء عنده مرتبط بالرغبة النهمة. تنبهت مرة ثانية لصوت “فيجو” عندما تساءل:

-ماذا تريد؟

أجابه بعد نحنحة سريعة:

-اتصل بي أحد رجالنا وأخبرني أن حرائق متعددة قد نشبت في ثلاثة من النوادي التابعة لنا.

فزع قلبي للأنباء السيئة، وارتجفت مع علو نبرة “فيجو” وهو يسأله بلهجة المحقق:

-ماذا؟ كيف حدث ذلك؟ أليست هذه الأماكن مؤَمَّنة ضد الحرائق؟

 

 

جاء رده مفسرًا:

-نعم؛ لكن يبدو أنها مفتعلة، خاصة أنها اندلعت في نفس التوقيت!

سأله “فيجو” وهو يبتعد عن الباب ليأتي بقميصه:

-هل عرفت من يقف ورائها؟

ظل “لوكاس” واقفًا عند عتبة الباب، منتصبًا بقامته وهو يجيب:

-أمسكنا بأحد المتورطين، وينتمي لجماعة الــروس!

لحظة سكت فيها ثم أوضح:

-“أليكسي” وأعوانه.

لم يكمل “فيجو” غلق باقي أزرار القميص حين علق عليه بتوعدٍ:

-الملاعين، أيظنون أنه ستمضي فعلتهم هكذا دون عقابٍ؟ لا يعرفون مدى غضبي بعد.

أحسست بوجهي يشتعل خجلًا حين وجدت نظرات “لوكاس” مسلطة علي، وزاد الحرج في وهو يكلم ابن عمه، دون أن يخجل من إبعاد عينيه الماكرتين عني:

-لو لم يكن الأمر خطيرًا لما أبلغتك.

حولت ناظري عنه لأحدق في “فيجو” الذي خاطبه وهو يوضع حامل أسلحته حول صدره:

-حسنًا فعلت…

ثم دنا من الباب هاتفًا:

-هيا بنا.

سـأله “لوكاس” في مكرٍ مغلف بالتلميح غير البريء، وهذه النظرة الماجنة تطل من عينيه:

-وماذا عن … زوجتك؟

لم ينظر ناحيتي عندما قال:

-لن تذهب لأي مكان.

 

 

 

سمعته يأمره من الخارج بما أغاظني:

-ضع فقط حراسة أمام الباب.

سأله “لوكاس” مستفهمًا:

-تحسبًا لغدرها أم ماذا؟

أتاه رده حازمًا:

-لا شأن لك!

حمحم “لوكاس” قائلًا:

-حسنًا، لا تغضب.

ثم تصنع الضحك، واختتم كلامه قبل أن يُغلق الباب علي:

-أحب فيك روح القاتل الشرس.

……………………………………………………..

تنهدت بعمقٍ بعد أن صرت وحيدة في هذه الغرفة الواسعة، شعرت بأن القليل من السكينة قد حل بي بعد كم العواصف التي خضتها في الساعات السابقة. حقًا أردتُ الاختلاء بنفسي لأفكر بجدية فيما فعلت، نهضت من على الفراش وأنا ألف جسدي بالملاءة، اتجهت إلى الحمام لأغتسل، كنت بحاجة للشعور بدفقات الماء الدافئ تنساب على جسدي فتخفف من حدة التصلب المستبد بعضلاتي، استرخيت مع استمرار تدفق المياه، شعرت بأني أزحتُ ثقلًا عني، ونفضت الكثير من الهموم بهذه الخلوة اللطيفة.. كذلك استطعت أن أمنح عقلي مساحة للتفكير برويةٍ وبذهنٍ خالٍ من الضغوطات المُربكة.

أدركتُ أنه كان خطئي منذ البداية حين استسلمت للتهديدات المزعومة بإيذاء عائلتي، لم يكن علي التضحية لأجل الآخرين، فخالي نال جزائه بعد أن زج بي في هذه الحرب، وشقيقتي لم تكن لتتواجد هنا لو لم أعلق في هذه الزيجة البشعة، كان علي أن أكون أكثر حزمًا، وصلابة، وتمسكًا بالرفض، لربما اختلفت الأوضــاع الآن. زفرت مليًا، ورددت لنفسي:

-كم أنا حمقاء، ضعيفة!

 

 

 

خرجت من المغطس بعد أن لففت المنشفة حولي، ما زالت آثار الألم تضرب بين الفنية والأخرى في بواطني، كان “فيجو” محقًا، أنا من سأعاني في النهاية. كنت ممتنة أن هذا العذاب لم يستمر كثيرًا، وانقضي بذهابه. تحركت نحو المرآة لأنظر إلى وجهي من خلف آثار البخار المتجمعة على سطح الزجاج، كنت باهتة، مشوهة، لا أشبه نفسي، مسحت بيدي مساحة من الزجاج، فبرزت عيناي، كانتا مليئتان بالحزن، تعيستان، بعيدتان كل البعد عن السعادة والسرور، أغمضتهما لئلا أرى هذا الشحوب الأقرب للموتى المنتشر في ملامحي، واستدرت بعيدًا عن المرآة لأبحث عما أرتديه، فلن أظل ما تبقى من اليوم هكذا.

…………………………………………………

حين جلست على الأريكة في الغرفة، ضممت ركبتي إلى صدري، وللفت ذراعي حولهما، لأنكمش حول نفسي وأحاوطها، وكأني بهذا أطمئن نفسي المرتاعة، تطلعت إلى الأمام في نظرات عشوائية، إلى أن بدأت اتنبه لما حولي، فقد بدا المكان فوضويًا رغم أناقته، خاصة ما أحاط بجانبي الفراش، فثوب عرسي ملقى في الناحية، وإلى جواره ثيابي التحتية، والسكين في الناحية الأخرى بجانب حذائي. ضحكت في مرارةٍ متسائلة:

-أهذه ليلة زفاف؟ العروس تقاتل زوجها بشراسة، والأخير يهرب في النهاية.

تابعت سخريتي وأنا أرجع رأسي للخلف لأريحها على ظهر الأريكة:

-كان ينقصنا بقع الدماء ليبدو المشهد متكاملًا!

حاولت أن أبث الدفء إلى جسدي، فما موجود من ثياب كان لا يكفي لمد هذا الإحساس إلى أوردتي، كنت أرتجف بشكلٍ ملحوظ، لهذا قررت النهوض من جلستي، وأخذ الغطاء الآخر لألفه حولي، لم أرغب في الاستلقاء على السرير، كنت أريد الاستعداد لمواجهة “فيجو” حين يعود، لهذا عدتُ إلى موضع جلوسي، وتدثرت بالغطاء، فبدأ الدفء يتسرب إلى أسفل جلدي، ليتضاعف إحساسي بالاسترخاء.

رُحت من جديد أتأمل باقي الغرفة، كان في أحد الأركان، عند الشرفة الواسعة مائدة مستديرة، مرصوص عليها زجاجة شراب من النوع الفاخر، بالإضافة للفاكهة، وبعض الحلوى. كنت فاقدة للشهية، فلم أرغب في تناول شيء، تثاءبت بعد ذلك في إرهاقٍ، وقاومت شعور النوم قدر استطاعتي، محاولة إلهاء عقلي في التفكير بشقيقتي وأمي، كنت شبه واثقة أنهما بخير، فـ “لوكاس” كان بصحبة “فيجو”، وحتما ما تعرضت له جماعتهما من مصائب سيجبرهما على الالتهاء عنهما. بعد عدة دقائق على ما أذكر غلبني النعاس، ورحتُ في سباتٍ عميق، تخللته بعض الكوابيس المشحونة بمواجهات محتدمة مع “فيجو”، كانت له الغلبة فيها!

………………………………………………

 

 

الدقات المتتالية على باب الغرفة جعلت ذهني يتيقظ ويفيق من غفوته، انتفضت في فزعٍ مع تكرارها، وجاهدت لأجعل عقلي يعمل بكامل طاقاته، كنتُ لا أزال جالسة على الأريكة، أشعر بتيبس فقرات عنقي، وبتنميلٍ في أطرافي، فقدتُ اتزاني عندما أزحتُ الغطاء ونهضت فجأة، ارتطمت بركبتي ارتطامة قوية موجعة، تأوهت بأنينٍ خافت على إثرها. الطرقة التالية المصحوبة بالنداء الأنثوي جعلتني أرفع رأسي تجاه الباب:

-سيدة “ريانا”! هل أنتِ مستيقظة؟

رفرفت برموش عيني بضعة مرات لاستفيق بالكامل، وتكلمت إليها في نبرة متحيرة:

-نعم، من أنتِ؟

قمت واقفة، وأنا أسمعها تحادثني من وراء الباب:

-أنا الخادمة سيدتي، إنهم ينتظرونك بالخارج.

سألتها في استفهام مشبع بالفضول:

-من ينتظرني؟

 

 

 

فركت جبهتي، ونفضت شعري المشعث لأمشطه بأصابعي، لأسمعها تجاوبني في نفس اللهجة الرسمية:

-السائق مع أفراد الحراسة.

أصابتني الحيرة، وسألتها مستوضحة:

-لماذا؟

لم أحصل على الجواب الشافي عندما نطقت:

-جاءت الأوامر بالذهاب من هنا.

نفخت في تبرمٍ منزعج من هذا التسلط الظاهر، وإن كان على يد الخادمة، وقلتُ وأنا أدور بناظري في الغرفة لأثبتها على خزانة الثياب:

-حسنًا، امهليني عدة دقائق.

ردت في تهذيب من مكانها بالخارج:

-في انتظارك سيدتي.

 

 

تساءلت مع نفسي وأنا أتحرك صوب الخزانة:

-كم الوقت الآن؟

فتشت عن ساعة الحائط، فلم أر واحدة، لهذا اتجهت نظراتي نحو الكومود، حيث من المفترض أن يوجد منبه موضوع بجوار الفراش، وجدت ضالتي، وحسبت الزمن الذي استغرقته للنوم، فأدركت أني تجاوزت الساعتين. سحبت شهيقًا عميقًا، لفظته دفعة واحدة، متذكرة فقداني لهاتفي المحمول، فدمدمت في ضيقٍ:

-اللعنة، ليته كان معي.

ضغطت على شفتي قائلة:

-أحتاج للاطمئنان على “صوفيا” و”آن”.

تعلقت أنظاري بالباب مرة ثانية، وخاطبت نفسي في رجاءٍ:

-ربما هما بالخارج تنتظراني أيضًا.

أردت التمسك بهذا الأمل البسيط لئلا أرهق عقلي في التفكير في الأسوأ، رغم حدسي بأن فرصة رؤيتهما ربما تكون محدودة .. محدودة للغاية.

……………………………………………

أحدثت معدتي صوتًا يشبه الزئير قبل أن اقتربت من الباب، تحسستها بيدي، لم أرد الذهاب وأنا جائعة، فأسرعت في خطواتي تجاه المائدة، لأخذ ثمرة التفاح، قطمتها في تعجلٍ، وأخذت ألوك القطع الصغيرة بسرعةٍ لابتلعها دون اشتهاءٍ، مجرد ما يسد رمقي، نظرت مرة أخرى لهيئتي في المرآة بعد أن ارتديت ثوبًا أرجواني اللون لم يظهر سوى ما بعد ركبتي وعنقي البض، أما عن كميه فقد وصلا إلى رسغي، ظهرتُ أنيقة، وإن كان الحزن مرسومًا على قسماتي. عاودت أدراجي تجاه باب الغرفة لأطرق عليه بقبضتي، فقامت الخادمة بفتحه، يا لسخافة الموقف! أنا حبيسة المكان كسجينة ذليلة!

 

 

كنت ممتنة في نفسي أني غير مضطرة لتبرير ما يحدث معي من تصرفات غير لائقة للخدم، فالجميع يعلم مدى تسلط زعيمهم، وربما مجرد التطرق لمناقشة أوامره يعني إنهاء حياة أحدهم لا إنهاء وظيفته. سرتُ في خيلاءٍ حفظًا لماء وجهي، ومن ورائي تبعتني الخادمة كظلي، سألتها حين اقتربت من سيارة الدفع الرباعي التي تنتظرني:

-أين هي والدتي وشقيقتي الصغرى؟

جاء صوتها من خلفي موضحًا:

-لا أعرف سيدتي.

سألتها في شكٍ:

-ألن تأتيا معنا؟ كانتا هنا منذ الصباح.

قالت في نفس الصوت الهادئ:

-ليس لدي فكرة.

غمغمت مع نفسي في استياءٍ مزعوجٍ:

-ومن لديه إذًا؟!!

تقدم ناحيتي أحد أفراد الحراسة، كان ضخم الجثة، طويل القامة، قفز قلبي خوفًا من ملامح وجهه المشوهة بجروحٍ متفرقة، تبدو أنا ناجمة عن اشتباكات عنيفة. ازدرت ريقي، ونظرت إلى يده الممدودة عندما قال في صوتٍ أجش:

-تفضلي من هنا.

اتجهت إلى حيث أشار، نحو باب السيارة الخلفي، وأنا أردد بلا صوتٍ:

-يا للسخرية! لقد كلف نفسه العناء وأحضر لي وحشًا لحراستي!

استقل هذا الحارس المقعد الأمامي بعد أن لوح بيده لآخرين ليتبعوا سيارتي، التوى ثغري في تهكم وأنا أحدث نفسي:

-ألا يثق بي؟!

 

 

استدرت برأسي نحو النافذة، وحملقت في الفراغ متابعة حديث نفسي:

-وأنا مثله، لا أثق به على الإطلاق.

………………………………………………………………

توقعت أن تعود بي السيارة إلى القصر المعزول؛ لكن لدهشتي اتجهت إلى حيث أرقى المناطق بالمدينة، تلك التي لا يسكنها إلا الأكثر ثراءً على الإطلاق، شعرت بتباطؤ السرعة وهي تقترب من إحدى الكتل المعمارية المكونة من أبراج شاهقة، ناطحات سحاب على وجه التحديد، تبدو كأنها صُنعت من الزجاج فقط، لا يمكن لأقدام البشر أن تطأها بسبب فخامتها المهيبة. توقفت السيارة عند مدخل واحدة من هذه الناطحات العملاقة، فأرجعت رأسي للخلف محاولة رؤية نهايتها، فلم أتمكن، انعكس الانبهار على محياي، ونطق لساني بغير صوت:

-يا إلهي، كيف يكون المنظر من الأعلى؟

تنبهت للحارس وهو يخاطبني في رسمية:

-تفضلي، من هنا.

ضممت شفتي معًا، وخرجت من السيارة لأسير على الرخام اللامع بخطواتٍ ثابتة، تجاه الاستقبال، ومن ورائي فريق من الحراسة الخاصة، لمحت من طرف عيني العيون الفضولية المتطلعة إلي، كنت أرتجف من الداخل بالرغم من جدية ملامحي؛ لكني لا أحب أن أكون محط الأنظار أبدًا .. هناك، بالداخل، تم الترحيب بي باحترام شديد، وكأني واحدة من زعماء الدول القادمين في زيارة رسمية. تعجبت من هذا الاهتمام المبالغ فيه، ومشيت مع الموظف الذي راح يشرح لي في عبارات موجزة عن مهامه المنوط بها معي إلى أن وصلت للمصعد، اختتم حديثه قائلًا بلباقة:

-سيدتي، إن احتجتي لأي شيء، فقط ارفعي سماعة الهاتف، واضغطي على الرقم صفر.

ابتسمتُ في لطافةٍ هاتفة:

-شكرًا.

 

 

لم أفهم سبب إحضار “فيجو” لي هنا، في هذا المكان الغريب، وبطبيعة الحال لم أتوقع أن انتقل للإقامة في واحدة من هذه المناطق العامرة بالحركة، نظرًا لظروف عمله المحفوفة بكل ما هو خطير ومهدد. توقف المصعد عن الحركة في المنتصف تقريبًا، كنت أشعر باضطراب أنفاسي، حتمًا إن حاولت النظر من النافذة فقد يطيح الدوار برأسي. حين خطوت في الممر رأيت كيف يبدو كل شيء بالخارج ضئيلًا للغاية، خلال نظراتي الخاطفة عبر الحوائط الزجاجية، الممتد إلى حيث يتواجد باب منزلي. توقفت عندما تسمر الحارس في مكانه ليخبرني:

-ستجدين كل ما تحتاجين إليه متوفرًا بالداخل…

تقدمت للأمام لأتخطى عتبة الباب، فتابع من ورائي:

-وستأتي الخادمة بعد قليل للمكوث معكِ سيدتي.

هززت رأسي في تفهمٍ، وقلتُ باقتضابٍ:

-شكرًا.

توقعت حين مرقت للداخل أن أجد المكان مدججًا بالرجــال والأسلحة، للغرابة كان خاليًا من الأشخاص، وهذا أثار فضولي وحفيظتي. ألقيت نظرة شمولية على البهو الأنيق وأنا أردد في سخريةٍ:

-محبسي الجديد!

تأملته بتدقيقٍ بعد أن انصرف الحارس الضخم، لأجد ما تم وضعه من أثاث حديث يتخذ اللون الأسود، تساءلت في تعجبٍ، ويدي تمسح على جلد الأريكة:

-لماذا يفضل رجـــال العصــــابات اللون الداكن دومًا، هل محظورٌ عليهم استخدام أي لون آخر؟ هل سيتعارض مع طبيعتهم الوحشية؟ أم ينتقص من قدرتهم القتالية؟

تجولت في البهو، واقتربت من الحائط الزجاجي، كان المنظر مهيبًا ومخيفًا في نفس الآن، تشعر حين تتطلع من هذا العلو أنك ملكت الكون بأسره، متحكمًا في زمامه. ارتجفت لمجرد الفكرة، فأنا أبسط من هذا التعقيد، شعرت ببرودة غريبة تجتاحني، وتراجعت بعيدًا عنه، لأستدير ناظرة لهذا البار المقارب للواجهة، يبدو أن اختيار وضعه في هذا الركن لإكمال مشهد الجمال المبهر مع تذوق الأجود من الخمور. وقفت أتأمل قنينات الخمر المرصوصة بعناية على الأرفف، اقتربت من واحدة لأنظر إلى تاريخ صنعها، تفاجأت أنها تعود لعشرات العقود. افترت شفتاي عن دهشة وأنا أتساءل:

-كيف حصل على هذا النوع؟ إنه لم يعد يُصنع!

 

 

 

وضعتها بحرصٍ في مكانها، وأكملت تجولي في المنزل لأكتشف باقي الغرف برويةٍ، فالوقت هنا يسير ببطءٍ ممل، ولا أظن أنه سيمر سريعًا.

…………………………………………………………….

فقدت العد تقريبًا وأنا أجلس على المقعد الوثير أضغط على زر إنارة المصباح قبل أن أطفئه من جديد، لأكرر نفس الحركة الرتيبة، بعد أن مكثت لساعات طويلة بمفردي، معزولة فعليًا عن الجميع. سئمت من الانتظار غير المجدي، وحين رفعت هاتف السماعة لأتصل بالاستقبال، جاء الرد الرسمي بأن ما ينقصني سيتم إرساله فورًا إلي؛ لكن لا معلومات متوفرة لديهم عن “فيجو”.

حاولت أن أقضي على إحساسي بالضجر بتفقد ما تم وضعه في خزانة الثياب، والتي احتلت مساحة غرفة كاملة، كانت مملوءة بما يناسب قياسي، يبدو أن والدتي قد حرصت على إعدادها، فغالبية الموجود يظهر ذوقها الكلاسيكي المعتاد.

اتجهت للسرير، ولم أمسه، وقفت أنظر إليه في ربكةٍ متوترة، فما زالت كلمات “فيجو” ترن في أذني، إن حملت منه طفلًا سيقتله، هذا إن استسلمت إليه وأسلمته نفسي. ابتعدت عنه لأعاود الجلوس على المقعد، أنظر عبر النافذة إلى الإضاءات المتحركة للسيارات من هذا البُعد. انقضى الليل علي وأنا على نفس الوضعية، انتظر، وانتظر، وانتظر، لا شيء أفعله سوى الانتظار إلى أن غفوت في مكاني، أفقت فجــأة على صوت الخادمة حين هزتني برفقٍ لتكلمني بهمسٍ:

-سيدتي، طعام الفطور مُعد.

انتفضت في ارتباكٍ قبل أن أتمالك نفسي، نظرتُ من طرف عيني لوجهها المبتسم القريب مني، طردت النوم من طرفي، وسألتها بكسلٍ:

-كم الساعة الآن؟

أجابتني وهي تعتدل في وقفتها لتبدو أكثر رسمية في التعامل معي:

-إنها الحادية عشر ظهرًا.

 

 

 

تمطيت بذراعي متمتمة:

-يا إلهي، هل نمت كل هذه المدة؟

سرعان ما تنبه عقلي لكيفية عدم شعوري بوجودها، ناهيك عن كيفية تواجدها في غرفة نومي، فسألتها من فوري مستفهمة بلهجة شبه منزعجة:

-كيف دخلتِ إلى هنا؟

أخبرتني وهي مطرقة لرأسها:

-فتح لي فرد الحراسة الباب من الخارج.

رغم أن لا ذنب لديها إلا أني استنكرت تصرفها، ورددت بين جنبات نفسي:

-بالطبع، فأنا مسجونة هنا، في قفص زجاجي واسع.

فركت وجهي بيدي، وسألتها:

-هل جاء “فيجو”؟

كان ردها واضحًا:

-لا خبر لدي.

تقوس ثغري بغير رضا، وانتقلت لسؤالي التالي في تذمرٍ:

-إذًا لا تعلمين إن كانت والدتي و”آن” قد عادتا للخارج؟!

أخبرتني بترددٍ محسوس في صوتها:

-سيدتي، أعتذر منك، أنا…

قاطعتها قبل أن تتم جملتها قائلة بحنقٍ بدأ في الاندلاع بداخلي:

-مفهوم.

 

 

اتجهت إلى غرفة الثياب وعقلي يتساءل:

-تُرى ما الذي حدث لهما؟

سألتني الخادمة لتوقفني عن متابعة طريقي:

-هل أعد لكِ الحمام، سيدتي؟

أومأت برأسي قائلة:

-حسنًا.

ولجت لداخل الحجرة كوسيلة للفرار المؤقت من الحرج الظاهر علي، كزوجة محتجزة، لا تعلم أي شيء عن زوجها، أو عائلتها. أطلقت زفرة طويلة، ولساني يردد:

-يا لهذه المهزلة! متى تنتهي؟!

…………………………………………..

رغبتي لتناول الطعام اختفت مع الأخبار المنقوصة، فاكتفيت بتبديل ثيابي، والاستعداد للخروج، ربما العودة للقصر قد تمنحني الفرصة لمعرفة ما أجهله. تغاضيت عن نظرات الخادمة المتعجبة، وسرت في خطى ثابتة نحو الباب، ما إن فتحته حتى وجدت الحارس الضخم يسد الباب بجسده، سألني بعد أن رمقني في نظرة مليئة بالاستغراب:

-أتريدين شيئًا سيدتي؟

صحت به في صوتٍ آمر:

-تنحى جانبًا، أريد الخروج.

قال بما اعتبرته إهانة لي:

-غير مسموح لكِ.

اتسعت حدقتاي في صدمةٍ، وسألته باستهجانٍ شديد:

-ما الذي تقوله؟ هل تمنعني من الذهاب؟

حمحم قائلًا برسميةٍ بحتة:

-سيدتي، ليس لدي أوامر بتركك تذهبين إلى أي مكان.

اشتطُ غضبًا وغيظًا على الأخير، وهدرت به بتهديدٍ أرعن:

-ابتعد، وإلا سأقتلك.

 

 

بالطبع لم يكن ليرتعب من تهديدي المزعوم؛ لكنه قال بلهجةٍ غير متساهلة:

-من فضلك، عودي للداخل، لا تجعليني اتخذ أسلوبًا جافًا معكِ، ولدي الأوامر بهذا.

ازدت غضبًا على غضب، وصحتُ فيه بحدةٍ:

-من أنت لتخاطبني هكذا؟

تدخلت الخادمة لإيقافي قبل أن أتهور، خاصة وقد امتدت يدي لتضربه في صدره، توسلت إلي:

-سيدتي، تعالي معي.

صممت على التشاجر مع الحارس، وتضاعف انفعالي وأنا أصرخ به بجنونٍ:

-اللعنة عليك وعلى سيدك، من تظن نفسك لتمنعني؟ هيا أخبرني، من أنت؟

وضعت الخادمة يديها على كتفي لتحاول إعادتي للخلف وهي تطلب مني برجاءٍ مهذب:

-اهدئي سيدتي.

اغتظت من تدخلها المزعج، فصرخت بها هي الأخرى وأنا أنفض يديها عني:

-لا تضعي يدك علي.

رفعت كفيها للأعلى مبدية اعتذارها النادم:

-أنا أسفة؛ لكن لا داعي للغضب سيدتي، الأمر لا يستحق.

عدت في خطى عصبية للداخل لأمسك بالمزهرية المصنوعة من الكريستال، وصوتي يرن عاليًا:

-بل إنه يستحق.

أطبقت عليها بأصابعي، ثم اتجهت إلى الحارس لأقذفه بها، تفاداها بإعجوبة، فاستغليت الفرصة لأركله في ركبته وأنا أواصل صراخي:

-هيا ابتعد.

 

 

 

أوقفني بالإمساك بي من ذراعي وهو يقول بلا أدنى شعور بالألم جراء ضرباتي الخرقاء:

-سيدتي، أنا مضطر لإدخالك بالقوة.

حقًا أجاد “فيجو” إحضــار حراسه، فهم محصنون ضد الألم والأذى، قادرون على تحمل الضرب بلا شكوى، وجدته يشدني للداخل في خشونة وأنا أكور قبضتي لأضربه بها في كتفه، وصوت لعناتي يسبقني:

-اللعنة عليك، دعني يا وضيع.

دفعني في قسوة نحو البار طالبًا مني وهو يبرز حامل أسلحته لأرتعد:

-رجاءً، ابقي هنا.

لم أكترث بتهديده المراوغ، وقلتُ في تحدٍ:

-سأجعلك تندم يا حقير.

نظرت إلي الخادمة في قلقٍ، ودنت مني قائلة:

-سيدتي.

أشرت لها لئلا تقترب وصوتي الغاضب يحذرها:

-لا تلمسيني أنتِ الأخرى.

ظلت باقية في مكانها، تراقب ما أفعل؛ لكني لم أتحمل نظراتها السخيفة المليئة بنوعٍ من الإشفاق المبطن، نظرت لها شزرًا، وأنا بالكاد أمنع نفسي من الاشتباك معها، لذا تركتها وابتعدت عنها، ولساني لا يتوقف عن إطلاق اللعنات، ولجت إلى داخل غرفة النوم، لأصفق الباب ورائي، وصراخي الحانق يجلجل في أركان الحجرة:

-اللعنة عليك “فيجو”، سترى حين تعود، لن تظل غائبًا طوال الوقت …………………………………………. !!

يتبع

‫2 تعليقات

اترك رد