روايات

رواية غير قابل للحب الفصل العشرون 20 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل العشرون 20 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت العشرون

رواية غير قابل للحب الجزء العشرون

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة العشرون

أينما ذهبت بتفكيري المتصــارع، لا أجد إلا كل ما هو قابض للروح، محطم للنفس، ومدمر للشعــور، فمكانٌ يعج بمعتادي الإجــرام والقــتل بدم بــارد كفيل باستثارة كل هذه الأحاسيس المخيفة بداخلي. البكاء كان مرفوضًا، لم أحبذ الظهور بمظهر الذليلة الضعيفة، على الأقل علي التماسك إلى أن أختلي بنفسي.
معظم الوقت جلستُ بمفردي، وحيدة، تعيسة، شاردة، لا أجد من يدعمني، أو يقف بجواري ليشد من أزري، ورغم الحرقة المندلعة بصدري إلا أني حافظت على جمودي مرغمة، فالقـــادم يحتاج للثبات الذهني والانفعالي، بين الفنية والأخرى كنتُ انشغل بالتفكير في شــأن والدتي وشقيقتي، وحين أسرح عنهما أفكر في الطريقة التي انقض بها على عــدوي اللدود لأتخلص نهائيًا منه، كانت قبضتي تشتد على السكين المخفي في طرحة عرسي، استمد منه قوتي للصمود أمام الموجات العاصفة التي تكاد تطيح بالعاقل.
تأهبت حواسي، وتصلبت في جلستي عندما هتفت إحداهن قائلة فجـــأة:
-أنتِ إذًا من اختاروها لتكوني البديل؟!
استدرت ناحية مصدر الصوت الأنثوي، كانت امرأة توشك على بلوغ الستين من عمرها، ذات شعر رمادي، وعينان حادتان لونهما أزرق، مخيفتان إلى حدٍ ما إن أطلت النظر فيهما. كلماتها الغامضة استرعت انتباهي، فتطلعت إليها وقد ضاقت نظراتي باسترابةٍ، حمحمت متسائلة في وجومٍ طفيف:
-من أنتِ؟
اتخذت مستقرها إلى جواري، واضعة ساقها فوق الأخرى في عنجهية مثيرة للضيق، ثم استطردت بغموض أجفلني:
-لا أظن أنكِ ستصمدين كثيرًا.
تحيرتُ في أمرها للغاية، خاصة مع وجود هالة من الغموض حولها، احتدت نظراتي، وسألتها مباشرة دون أن أرهق عقلي في التفكير:
-هل أعرفك؟
لم تجاوب على سؤالي، وتابعت بنظراتٍ متفرسة:
-وأين هم عائلتك؟
أي وضع مخزٍ وذليل ذاك الذي علقت فيه لأجد الغربــاء يتجرأون على التطفل بوقــاحة على ما يخصني، دون أن أملك ما أصد به سخافتهم. صمتُ مجبرة، فلا حاجة لي لاختلاق المبررات والأعذار الكاذبة لإقناع هذه المرأة الفضولية بأن الأمور معي تسير على ما يرام، واختفاء عائلتي في حفل عرسي بشيء عادي، لا داعي لتضخيمه. انقبض قلبي وتوقفت لحظيًا عن التنفس عندما سألتني في جديةٍ تامة:
-هل تخلصوا منهم أيضًا؟

 

 

برزت عيناي في توجسٍ قلق، بينما واصلت هذه المرأة استرسالها:
-أنا لا أرى سوى نفس الأوجه البائسة مع فارق الزمن.
بلعت ريقي المرير، وسألتها بتحفزٍ:
-من أنتِ؟
ابتسمت قليلًا، وقالت بحزنٍ محسوس في صوتها:
-أتعلمين؟ ابنتي كانت مثلك، جالسة هكذا، لا حول لها ولا قوة.
عمن تتحدث؟ لم أفهم مقصدها، استمرت في إلقاء المزيد من العبارات الغامضة والموحية والباعثة على الشكوك والريبة، مما زاد من وجيب قلبي، ووتر ما بداخلي. رسم الحزن آثاره على تعابيرها وهي تضيف:
-وفي النهاية ضاعت، تخلصوا منها، وكأنها نكرة، لا قيمة لها.
انتقالها في الحديث عن مقتل ابنتها أصابني بالقشريرة وأخافني، خاصة أنها راحت توصف كيف تم إزهــاق روحها بــدم بارد، أخذت أردد بلا صوتٍ، وعيناي لا تفارقان وجهها التعيس/
-يا إلهي!
فجــأة ضحكت المرأة بشكلٍ هيستري جعلني أتوجس خيفة منها، لم تتوقف عن إطلاق الضحكات إلا بصعوبة، وصوتٌ برأسي ما زال يتساءل بتحيرٍ:
-هل هذه المرأة مجنونة؟
راقبتها بعينين فاحصتين، كانت تبدو كمن مصابٍ بمرض نفسي، فتصرفاتها لم تكن طبيعية بالمرة، ولافتة للأنظار، تلفتُ حولي باحثة عمن يفسر لي سبب وجودها؛ لكن لم يقترب أحد، كما لو أن الجميع قد اتفقوا ضمنيًا ألا يتدخلوا، إذًا من هذه المرأة التي تجنبوها؟ نهضت بعد برهةٍ من جواري، وأشارت إلي بإصبعها قائلة باستحقارٍ:
-سعادتك هذه زائفة، وأنتِ ستلحقين بها…
تكدرت من طريقتها المستفزة، وجاهدت لئلا أتشاجر معها، ضحكت من جديد عاليًا قبل أن تختتم حوارها المريب معي:
-قريبًا.
هتفت متسائلة في نفسي، ونظراتي الحيرى تتابعها وهي تسير بتمهلٍ أمامي:
-من هذه؟
سرعان ما تحول ناظري نحو “فيجو” الذي ظهر في محيطي مناديًا في صدمة استشعرتها في نبرته الجافة:
-“سيلفيا”!
التفتت المرأة تتطلع إليه بحاجبٍ مرفوع، قبل أن تدنو منه بتؤدةٍ، لوهلةٍ أحسست بوجود سابق معرفة بينهما، رابط خفي يجمع بينهما، فطريقة تحديق “فيجو” النــارية بها عززت من هذا الشعور. ركزت كامل بصري عليهما، وتابعت في انتباهٍ تام ما يدور، ويدي تزداد انقباضًا على السكين الملفوف في القماش. تكلمت المرأة المسماة بـ “سيلفيا”، وقالت في ابتسامٍ شبه مغتر:
-يبدو من ملامحك المندهشة أنك تفاجأت بوجودي عزيزي “فيجو”.
رأيتها وهي تمد يدها لتداعب وجنته، فاتسعت نظراتي اندهاشًا، لتقول بعدها في صوتٍ هازئ:
-أوه، يبدو أنه لم يكن لديك علم بهذا.
نفض يدها قبل أن تمس ذقنه متسائلًا بحديةٍ:
-من سمح لكِ بالحضور؟
تصنعت الضحك، وقالت في دلالٍ سخيف لا يليق بسنها:
-من تظن؟
مطت شفتها قبل أن ينفجر غضبه عليها، وأخبرته:
-لن أدعك لحيرتك، لقد تمت دعوتي من والدك السيد “مكسيم”.

 

 

…………………………………………………….
إحســاس المرأة لا يكذب أبدًا حين تستشعر وجود خطب ما، حدسي أنبأني بذلك، ورحتُ بالتدريج أتأكد من صحة هواجسي عندما انضم “مكسيم” إلى الاثنين، ووقف في المنتصف بينهما يدخن سيجاره الكوبي، بدا مسرورًا للغاية لرؤيتها، على عكسها كليًا، فقد انتشر الكدر في ملامحها، وبدت مكفهرة الوجه. هتف “فيجو” متسائلًا في استنكار:
-ما الذي تفعله هذه المرأة هنا؟
أجاب “مكسيم” عليه بهدوءٍ شديد:
-دعوتها لأجل الأيــام الخوالي…
ثم التفت برأسه مخاطبًا إياها في إعجابٍ مغيظ:
-لقد فعلتيها “سيلفيا”، لم أظن أنك ستأتين حقًا.
اختفت البسمة من على شفتيها، وردت في تحفظٍ:
-نعم جئت سيد “مكسيم”.
قهقه ضاحكًا بشكلٍ مزعج، وأخبرها متعمدًا استفزازها:
-صراحةً لم أستطع تفويت فرصة التمتع برؤية وجهك ذليلًا بعد أن تزوج ابني مرة ثانية.
أصاب هدفه، وأحرقها بكلامه المسموم، فغامت تعبيراتها وبدت أكثر تعاسةٍ، نفث “مكسيم” في وجهها دخان سيجارته، وسألها:
-ألم تقولي سابقًا أنه لن يجد عروسًا مناسبًا غيرها؟
دفعها من كتفها بخشونةٍ، كما لو كان يريد إهانتها، لتنظر في اتجاهي، فتحرجت لكون ثلاثتهم قد رأوني محدقة بهم بتطفلٍ، لم أبعد نظراتي المرتبكة عنهم، بل رمقتهم بنظرة متسائلة باحثة عن أجوبة ناقصة، خاصة أنهم انتقلوا بحديثهم عني، فبتُ محور الاهتمام. تابع “مكسيم” أمره لهذه المرأة هاتفًا:
-انظري جيدًا، وأمعني النظر.
تعلقت عيناي بوجه “سيلفيا” العابس، وسمعت “مكسيم” يردد:
-إنها جميلة، أترين؟
جاء تعليقها واضحًا وصادمًا في نفس الآن:
-بالفعل، الضحية الجديدة أجمل من سابقتها.
باعدت نظراتها عني لتحدق في وجه “مكسيم”، وخاطبته بتهكمٍ:
-وأرجو أن تحافظوا على نفس النهج إن قررتوا التخلص منها كذلك.
من فوره هتف “مكسيم” مصححًا بلهجةٍ تغيرت للحدة:
-ابنتك من انتحرت، لا تنسي هذا!
وكأن الهدوء المحاوط بهذه المرأة قد تلاشى بغتة، فانقلبت لأخرى مغايرة للساخرة غير المبالية، أصبحت هائجة منفعلة، اشتعل وجهها بالغضب الشديد، وصرخت عاليًا في اهتياجٍ مُدين:
-كذب، لقد قتلتوها، مهما أنكرتم فأنا أعلم الحقيقة، أنتم قتــلة!
صراخها المرتفع أثار الضجة، ولفت الأنظـــار، فلمحت من طرفي استدارة الوجوه ناحيتهم لمتابعة ما يحدث من جــدال على وشك النشوب، ومع ذلك وجدت المعظم بعد أقل من لحظةٍ يحيدون ببصرهم عن المشهد، كأنما قد عاودوا الانشغال بأجواء الحفل، يبدو أن التعليمات مشددة والعواقب وخيمة بشأن تجاوز ما هو مسموح. تساءل “مكسيم” في فجاجةٍ مخاطبًا “سيلفيا”:
-هل أقلعتي عن إدمانك بعد؟
هدرت به في عصبيةٍ وهي تضربه في صدره:
-لعين!
اشتاط غضبًا لردة فعلها، فلكزها في ذراعها طاردًا إياها:
-هيا، انتهت زيارتك هنا.

 

 

ثم فرقع بإصبعيه مستدعيًا رجاله، ليأمرهم بعدها:
-خذوها.
في لمح البصر حاوطها حفنة من الرجـــال، أمسكوا بها من ساعديها، ثم سحبوها في طريقة مهينة بعيدًا عن مائدتي؛ لكن صوتها وصلني واضحًا وهي تهدر:
-يومًا ما ستحرق أكبادكم كما حرقتم قلبي على وحيدتي، يومًا ما، هل سمعتوا ذلك؟
طوَّح “مكسيم” بيده معلقًا عليها بلهجةٍ آمرة:
-اخرسي يا شمطاء، ألقوا بها خارجًا، لا أريدها بالقرب مما يخصني.
أدمعت عيناي تأثرًا بحالها المأساوي، فهي حسبما فهمت أمٌ مكلومة انفطر قلبها على ابنتها، هذه التي أحل محلها كقربــان جديد، نكست رأسي في أسى، ورددت في صوتٍ خفيض مختنق وأنا أضغط بيدي على السكين المخفي:
-أنتم حقًا وحوش، لا أمان معكم مُطلقًا!
……………………………………………………..
ظللت التعاسة على روحي، وترسخت في أعمق أعماقي، لأغدو بالفعل كمن يترقب المـــوت في أي لحظة، أي بشر هؤلاء؟ كيف يتحكمون في مصائر الغير وينهون حيواتهم بلا ندم؟ مضت الجلبة كأنها لم تكن، واستمتع الحاضرون بالحفل ما عداي، كنت أنكوي بنيران حقدي وكراهيتي، أحترق بخوفي ولوعتي، حاولت قدر الإمكان أن أبدو هادئة، إلى أن أصل للحظة الحسم.
لذت بالصمت بالرغم من عودة “فيجو” للجلوس في مقعده، كان الأخير قليل الكلام، وكنت إن تحدث اقتضب معه، وضعتُ بيني وبينه حاجزًا وهميًا، اختبأت خلفه ومعي كل أثقالي وهمومي، ونأيت بنفسي من معركة أخرى جانبية قد تدفعني لحافة الانهيار. تجهمتُ ولويت ثغري تأففًا حين أطل علينا “لوكاس” بسماجته المستفزة، وقف أمامي، ثم التقط بيده بضعة حبات من عنقود العنب الموضوع في صحن الفاكهة، وضعها واحدة تلو الأخرى في فمه متسائلًا:
-هل كانت هذه المجنونة “سيلفيا”؟
أجاب “فيجو” بغير تعبيرٍ:
-إنها هي.
لاكها سريعًا، ثم ضحك مستمتعًا، وعلق في صيغة تساؤلية:
-لا تخبرني، عمي من جاء بها؟
أومأ “فيجو” برأسه دون كلامٍ، فهتف “لوكاس” في انتشاءٍ:
-إنه داهية، يعرف كيف يذبح من يعانده دون نقطة دماء.
قام “فيجو” ناهضًا، واستطرد في جديةٍ:
-سأعود حالًا، ابق هنا بجوارها.
هز رأسه مبتسمًا:
-حسنًا.
كان كمن يشاكسني بحديثه السمج، فقال وهو يجلس مكان زوجي:
-أهلًا بالكنة.
سألته دون تمهيدٍ وقد قدحت عيناي بشرارات الغضب:
-أين شقيقتي؟
قطف المزيد من حبات العنب، ألقاها في جوفه، وأجاب بفمٍ ممتلئ:
-إلى الآن هي بخير.
أنذرته بشدةٍ ويدي تأكلني لأخرج السكين من القماش وأطعنه من فوري:
-إياك أن تمسها!
نظر إلي باستخفافٍ قائلًا:
-كفى تهديدات فارغة، فأنا قادرٌ على فعل ما أريد في أي وقت…
ثم غمز لي بطرف عينه متمًا كلامه:
-ودون استئذان.
كدتُ أتهور؛ لكني تماسكت في اللحظة الأخيرة، لن أنســاق إلى معارك جانبية الآن بسبب أسلوبه المستفز، وهو بارع في استثارة الأعصاب من لا شيء، أنا بحاجة لشحذ كامل قواي ضد “فيجو” أولًا لأتخلص منه، ثم أنتقل بعد ذلك لهذا اللعـــين الآخر. هدرت به في صبرٍ نافد:
-اغرب عن وجهي، لا أريدك بقربي.

 

 

أراح “لوكاس” ظهره للخلف، وعقب في برودٍ سقيم:
-سأفعل حين يعود “فيجو”، وخلال ذلك أريدك أن تسمعيني جيدًا.
رفضت من فوري مهاجمة إياه في كراهيةٍ صريحة:
-لا أريد، ألا تكتفي من إحراق أعصابي؟
رمقني بتعالٍ، وعلق في سخافةٍ شبه مهينة:
-شأنك لا يعنيني، فأنتِ لستِ من طرازي.
سخرت منه في وقاحةٍ:
-وهل لأمثالك طراز؟
قال بمزيدٍ من الهدوء البارد:
-نعم، أنا مهتم بشقيقتك.
انقبضت ملامحي فجــأة من كلامه الصريح، وصررتُ على أسناني أحذره بأنفاس شبه هادرة:
-لن تقترب منها.
قال غير مبالٍ بتحذيري:
-بل سأفعل…
نظراته أوحت بتصميمه العجيب، وواصل مخاطبًا إياي:
-أريد منكِ أن تبذلي ما في وسعك لإقناع هذه القطة الشرسة بالقبول بي، هل سمعتي؟
قبل أن أرفض طلبه نطق مهددًا:
-لن أدعها تبتعد عني سواء بزواجٍ أو بدونه.
أرسل لي قبلة في الهواء، جعلت شعوري بالنفور منه يزداد، حين رأى “فيجو” يقترب منا نهض من مكانه لينصــرف، انزلقت عيناي نحو الأخير، وهتفت في صوتٍ مكتوم، مستشعرة نهجان صدري:
-أي جحيمٍ وقعنا فيه؟!
………………………………………
لفني شعورٌ مقبض حين انتهت أجواء العرس، وبدأ الحضور في الانصراف بالتتابع، بالطبع لم أسلم من التعليقات الفجة والمتجاوزة المشيرة إلى ما يحدث خلف الأبواب المغلقة من تقارب حميمي بين الزوجين يُطلقها الرجـــال كنوعٍ من المزاح والتحفيز حينما مررنا بوسطهم، تأبطت ذراع “فيجو”، وحرصت على عدم إسقاط السكين المخفي في طرحة ثوبي، سرت بتمهلٍ حريص، مستقبلة التهنئات الروتينية والوقحة بابتساماتٍ مجاملة فاترة.
لن أنكر أني كنت ممتنة لكون “فيجو” متحفظًا، لا يميل للمشاعر الرومانسية، فتغاضى عما يسمعه، وتجاهله بهدوءٍ، على عكس “لوكاس” الذي بدا متباهيًا في فجاجته وجراءته وهو يتبعنا. انتفضت خلايا جسدي في رعشة متوترة مزعجة لي، عندما استطرد “مكسيم” قائلًا بمرح لا يتماشى مع وحشيته الكامنة في نفسه الخبيثة:
-انتظر سماع الأخبار الســـارة قريبًا.
علق عليه “لوكاس” وهو يغمز بعينه:
-لا تقلق على الزعيم القــادم يا زعيم، سيأتي لك بفريقٍ.
شاركه الابتسام وأضاف:
-أنا أثق في قدراته.
أخجلني ما يتبادلانه من تلميحاتٍ مفهومة، وخاصة أنها اقترنت بنظراتهما ناحيتي، تجنبت النظر إليهما؛ لكني سمعته يأمر “فيجو”:
-اقضوا ليلتكم هنا، وغدًا نلتقي في القصر.
قال موجزًا في رده:
-سأفعل.
حذره “مكسيم” ضاحكًا:
-لا تفرط في تدليل زوجتك كثيرًا، اجعلها طوع بنانك.

 

 

تلقائيًا اتجهت عيناي الحادتين إلى زوجي، فرأيته ينظر إلي بغموضٍ أجفلني، تكلم “لوكاس” معلقًا بوقــاحة كالعادة ليشتت ناظري عنه:
-“فيجو” لا يحتاج لتوصية، إنه ماهرٌ في تعذيب النساء وإخضاعهن.
حدجته بنظرة مميتة، انتقلت لـ “مكسيم” حين قال:
-أعلم هذا، لكن كأب أُسدي إليه نصائحي.
شدَّ “فيجو” من قبضته التي وضعها على ذراعي، وأمرني:
-هيا بنا.
بدأت بالتحرك، فهتف من ورائنا “لوكاس” بنبرةٍ ذات مغزى:
-امرح يا ابن العم، فاليوم لك، وغدًا لي.
جملته الأخيرة قصد بها الارتباط بشقيقتي، وهذا ما أفزعني، فإن كنت خضعتُ مجبرة لاتفاقٍ تم إبرامه سابقًا، فأنا على يقين تام بأن “آن” على النقيض، لن تقبل به زوجًا تحت أي ظرف، وإن وضعوا رقبتها أسفل المقصـــلة. تفاجأت بـ “فيجو” يقول ساخرًا ليُعيدني من سرحاني السريع:
-وهل أنت تكف عن مضاجعة النساء؟
قال نافيًا، وبنوعٍ من الاستعراض:
-لا؛ لكن الزواج له قدسيته!
هتف به “مكسيم” في صرامةٍ:
-كفى ثرثرة، واتركه يهنأ مع عروسه.
أشــار لي “فيجو” بالذهــاب أولًا، قبل أن يخاطب والده:
-أريدك في شيء أيها الزعيم.
ردد مستغربًا:
-الآن؟
تحركت مبتعدة غير مهتمة بصرفه لي؛ لكنها كانت فرصتي الذهبية للاستعداد قبل أن أقدم على خطوتي المصيرية التالية.
……………………………………………………
كنتُ أدور كالترس في الفراغ وأنا أترقب بأعصابٍ متحفزة اللحظة التي يلج فيها من هذا الباب لأنقض عليه، وأثــأر منه لتواطئه في اغتيــال أبي، طال انتظاري له، فأصابني القلق والضيق، نزعتُ عني حذائي، لأكون على راحتي، وجلست على حافة الفراش أحملق في الفراغ، لماذا استغرق كل ذلك الوقت بالخارج؟ أم تراني استصعب لحظة انتقامي؟ تنفستُ بعمقٍ لأقضي على أي ذرة ندم، وأمعنت النظر في الفرجة الظاهرة من الباب الموارب، شعرت بهبوط عتمة خفيفة، فتأهبت، فذلك معناه قدومه، نهضت من فوري، واتخذت موضعي على مسافة متوسطة، أمسكت بالسكين جيدًا، وأخفيتها وراء ظهري، وتركت الأخرى حرة مستندة على معدتي.
دفع “فيجو” الباب برفقٍ ليفتحه، ثم استدار ناظرًا ناحيتي، وجدني واقفة، فرسم هذا التعبير المبهم على ملامحه، ليرمقني بعدها بنظرة غريبة قابلتها بنظرة مليئة بالتصميم العجيب، قبل أن يغلق الباب التف مخاطبًا “لوكاس” لمرة أخيرة، واستند بيده على الإطار الخشبي، لم أكترث بحوارهما المتجاوز قليلًا، تركته ينشغل به، ورحتُ أسير بخطواتٍ حذرة في اتجاهه، كنت حريصة في مشيي لئلا أفسد مفاجأتي الغادرة بسماعه لوقع خطاي وهي تقترب منه.
أظهرت يدي المخبأة بمجرد أن أوصد الباب، تقلصت المسافة بيننا كثيرًا، كنت تقريبًا خلفه، اضطربت أنفاسي، وارتفع نهجان صدري، ومع ذلك لم أتراجع، شحنت كامل غضبي وخطلته بكل ما اعتراني من انفعالات سابقة، لأطلق لها العنان معًا، فرحتُ أصرخ عاليًا في حنقٍ شديد، ويدي ترتفع بالسكين للأعلى في الهواء:
-اللعنة عليك يا قـــاتل!
في لمح البصر كان قد استدار ليواجهني، رأى ما أنوي فعله، اتخذ حيطته في سرعة وخفة، أمسك بمعصمي قبل أن ينال نصل السكين الحاد منه، أوقف يدي في التو، وجمدها في موضعها في المنتصف، ليمنعني من بلوغ جسده، صرخت في جنونٍ محتجة على فشلي الوشيك، فقابل ذلك بسؤاله المندهش:
-ماذا تظنين نفسك فاعلة؟

 

 

بصوتٍ هادر محمل بكل المقت والبغض أجبته، ويدي تتلوى وتقاتل للتحرر منه:
-أنت من قتلت أبي، سأجعلك تلحق به.
دفعني للخلف صارخًا بي في لهجةٍ آمرة:
-توقفي.
واصلت مقاومته بكل طاقاتي، تركت لعواصف الغضب الأهوج كل المهمة لدفعي، وقلتُ بإصرار محاولة النيل منه:
-سأقتلك، وأريح نفسي والجميع منك.
تقــاتلت معه بشراسةٍ لا أعرف من أين واتتني؛ لكني أظنها نتاج ما شحنته واختبرته في الساعات الماضية، لكمته بيدي الطليقة، وبالأخرى القابضة على السكين حاولت الوصول إلى لحم جسده، أي موضعٍ فقط، حتى أشعر بنشوة النصر، للأسف لم تأتِ النتائج مثلما كنت أرجو، نجح في انتشــال سلاحي الوحيد بغير جهدٍ، وطرحني بعنفٍ أرضًا، لأغوص في ثوبي وطرحتي وأنا أتأوه من الألم القاسي.
بالطبع إن قارنت مواجهتي البائسة غير المتقنة مع بأسه الشديد المحنك فالنتائج ستحسب لصالحه، تطلع “فيجو” بعينين ناريتين إلى السكين، وقال هازئًا من إخفاقي:
-إن كنتي تريدين قتلي، فنصيحة في المرة القادمة لا تصيحي كالنعاج، فهذا مزعج!
سخريته كانت مهينة، فصرخت به وأنا أحاول لملمة شتاتي المبعثر لأقف على قدمي:
-أنت شيطـــان.
قذف “فيجو” بالسكين في اتجاهي، وقــال بوجهٍ قاتم، وهذه النظرة الحانقة تعلو وجهه:
-كرري المحاولة إن أردتي.
لم أصدق ما فعله، لقد منحني فرصة جديدة، وأنا بلا تردد اقتنصتها. انحنيتُ لألتقطه من عند قدمي، رفعته في الهواء مهددة إياه، ففرد ذراعيه، استعدادًا لاستقبال هجومي الجديد، نفخ صدره منتظرًا لحظة انقضاضي الهوجاء عليه، اهتززتُ واضطربت أمام ثقته الطاغية. بحسبة عقلية سريعة أدركت أني لن أنجح، فقوته الذكورية ستردعني قبل أن أبدًا، خطرت لي الفكرة الأخرى، التي لم أتمنى حدوثها، فأبرزت معصمي الآخر نصب عينيه، وهتفت في عنادٍ خطير:
-إن كنت لن تموت، فسأموت أنا.
لامست بالطرف الحــاد جلدي، ضغطت بلا تفكير عليه، قاصدة غرزه فيه؛ لكنه أســرع ناحيتي وانتزعه في غير صعوبةٍ من قبضتي المتشنجة، ليواصل تعنيفي بصوتٍ أجش مرعب لي:
-أأنتِ حمقاء لهذه الدرجة؟
انتفضت متراجعة عنه وأنا أصــرخ في غير وعي:
-ابتعد عني!
ألقى بالسكين وراء ظهره، فارتطم بالباب تقريبًا، وتقدم ناحيتي هاتفًا في نبرة غير مريحة:
-أنتِ زوجتي من الآن فصاعد، موتك وحياتك بيدي وحدي.
لم أعد قادرة على الصمود، تهشم كاملي بفشلي الذريع، فتراخت ساقاي وجثوت على ركبتي ألعنه:
-أيها الحقـــير!
قبض على كتفي في قوةٍ شعرت بها تؤلمني، ليجبرني على الوقوف على قدمي، ثم نظر في عمق عيني محاولًا النفاذ إلى داخل ما يدور في رأسي، كنت مستنزفة القوى حد الانهيار العصبي، فصرخت به وأنا أجهش بالبكاء:
-ماذا فعل لك أبي لتغتــاله؟
قفزت نظرات حيرى إلى عينيه، فكررت سؤالي في هدير منفعل:
-لماذا قتـــلته؟
أجابني بغموضٍ محير وهو يهزني في عنفٍ:
-قلتُ لكِ سابقًا حياتك كانت مقابل روحه.
صحت به في بكاءٍ شديد:
-تكلم؟ أخبرني؟

 

 

قال مراوغًا في الرد:
-أنا لم أجهز عليه بنفسي، ما وصلك منقوص.
قلت في التو:
-أطلعني أنت على الحقيقة.
لم يمنحني أدنى تعقيب، استمر يتطلع إلي بهذه الطريقة الجامدة، فصرخت في يأسٍ وأنا أشعر بتحطم كلي لذاتي:
-أترى؟ الآن تصمت.
توقفت عن البكاء الذليل، وتابعت في نبرة مهاجمة:
-إذًا أنا محقة، أنت لا تجد ما تقوله لأنك ببساطة مخــادع، تجيد تزييف الحقائق وتلفيق الأكاذيب، قتلته كمـا قال أبيك.
تراخت قبضتاه عني، فانتفضت متراجعة خطوة عنه، كأني أنبذ اقترابه، رأيت عضلات وجهه كيف تقلصت بضيقٍ لردة فعلي النافرة، وأكملت بنبرة لائمة:
-وأول ذلك أنك لم تطلعني عن زواجك السابق، واليوم عرفت بهذا.
آتاني تعليقه سخيفًا ومغيظًا:
-أنتِ لم تسألي، كما أن خالك يعلم بهذا.
المزيد من الحقائق الصادمة تنهال على رأسي في يومٍ واحد، ألن أكتفي أبدًا بما عرفته عن خالي الخائن، لأتفاجأ به على علمٍ بكل شيء وتواطئ في خداعي؟ واصلت التراجع للخلف وأنا أهز رأسي في استنكارٍ، رفعت نظراتي الحاقدة ناحيته وهو يسترسل بتهكمٍ مستفز:
-أم هل تظنين أننا ننتظر حتى هذا العمر دون زواجٍ؟ إن اعتقدي هذا فأنتِ ساذجة للغاية.
منحته ردًا حادًا:
-نعم، ربما أنا ساذجة لكني لست مثلك مجرمة.
هتف في نبرة شبه محتقنة:
-احذري من التمادي في إساءتك.
توقفت عن التراجع وسألته في تحدٍ سافر:
-وإلا ماذا؟ ها؟
انزلقت مجيبة عن سؤالي بنفسي بلهجة جمعت بين السخرية والجدية:
-ستقتلني؟ كنت سأوفر عليك العناء وأفعل ذلك؛ لكني تصرفت بشهامة لا أراها لائقة بك.
لا أعرف من أين هبطت علي الشجاعة لأتقدم ناحيته، ربما لأني ضقت ذرعًا بكل هذا الهراء المؤذي، أخبرته وعيناي تتطلعان إليه في غير ضعفٍ:
-أنا لا أخشى الموت، فقط أجبني…

 

 

أصبحت في مواجهته الآن، وسألته بقلبٍ ملتاع:
-لماذا قتلت أبي؟ ماذا فعل لك؟ لقد كان مسالمًا، لا يعبأ بأمـر الزعامة أو الحكم، ترك كل شيء لخالي “رومير”، فلماذا قتلته؟
أحسست بغصة قاسية توخز في قلبي وأنا أتابع:
-والمؤلم أنك كنت صغيرًا، شيطان في جسد طفل.
اندفعت في غمرة غضبي الأعمي تجاهه لأمسك به من ياقتيه، هززته متسائلة في اختناقٍ يهيج بصدري:
-أي بشاعة هذه؟ كيف تفعل ذلك؟
هدر بي في حقيقة صدمتني كليًا:
-لأنه كان عشيق أمي.
ارتطمت جملته بآخر جدار كنت أتمسك به ليهدمه بضربة قاسمة، أحسست بخدرٍ يضرب أطرافي، وهتفت بتلعثم غير مصدقة اعترافه:
-مـ..اذا تقول؟
قال في زفيرٍ سريع وهو يوليني ظهره:
-كما أخبرتك.
تحركت في الاتجاه المعاكس لأقف أمامه رافضة استيعاب الأمر:
-غير صحيح.
من جديد أمسكت به من ياقتيه، وشددت من قبضتي علي القماش لأتشبث أكثر به، كأنما التصق به. ارتفع صوتي المستهجن وأنا أنظر في عينيه:
-أنت كاذب، مضلل، تخدعني.
تلقى هجومي الأهوج بهدوءٍ شديد، مبديًا تحكمه في ردة فعله الباردة على عكسي تمامًا، فاشتطت غضبًا على غضب، هززته في انفعال صارخة به:
-أبي رجلٌ شريف، مخلص لأمي، يحبها بجنون، لم يعرف سواها، لن أصدقك يا لعين!
ثم دفعته للخلف وأنا أضربه بيدي على صدره في قوةٍ، تطلع إلي بنظرة متجافية، قبل أن يتكلم في جمودٍ:
-“صوفيا” حمقاء مثلك، تصدق فقط ما ترغب في تصديقه؛ لكنها الحقيقة.
بح صوتي من كثرة الصراخ فيه:
-مُحــال، أنت كاذب، تريد أن تدمر حتى ذكرياتي السعيدة، تجعلني تعيسة للأبد…
حدجته بهذه النظرة الاحتقارية وأنا أنعته في بغضٍ أشد:
-حقًا لم أرَ أسوأ منك في حياتي.
فــاض به الكيل من اتهاماتي المتلاحقة، فاكتسب وجهه طابعًا قاسيًا شرسًا، لن أنكر أنه أرعبني، في خطوة واحدة اندفع تجاهي، وكان قابضًا على رسغي بكلتا يديه، هزني منهما هزة واحدة نفضتني كليًا، تأوهت من الألم المباغت، ونظرت إليه بعينين تكرهان إياه بشدة. لم يرتد طرفه حين استطرد قائلًا من بين أسنانه المضغوطة بأنفاسٍ شعرت بعدم انتظامها:
-حسنًا، لتعلمي الحقيقة الخفية إذًا ……………………………………………. !!!

يتبع

اترك رد