روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الرابع عشر 14 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الرابع عشر 14 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت الرابع عشر

رواية غير قابل للحب الجزء الرابع عشر

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الرابعة عشر

يمكن للغير طلب الغفران منك في أي شيء، إلا أن ينال السوء من الأقرب إليك، حينئذ تُلغى فكرة المسامحة من قواميس ذهنك، وتعمل على رد الصاع صاعين، مع كلمات شقيقتي الأخيرة، تحولت تعابيري شبه المسترخية إلى عبوسٍ تام، وباتت نظراتي أشبه بسماءٍ حالكة السواد رغم زرقة حدقتاي، بقيت يدي على طرف ذقنها، وضغطت عليه قليلًا لأستحوذ على كامل انتباهها، أعدتُ تكرار سؤالي بصيغة أخرى، وقلبي لم يتوقف عن نبضه المتلاحق:
-كيف ذلك؟ ما الذي أخبرك به هذا الحقـــير؟
بكت في ألمٍ، لم تكن بحاجة لإخفاء مشاعرها الكدرة عني، اعترفت لي بصوتٍ متقطع، وصدرها ينهج تقريبًا:
-لقد قال أنه .. لن يمضي أكثر من عام و…
توقفت عن الكلام جراء انخراطها في نوبة بكاءٍ أعنف، مسحتُ على فخذيها، وربت على كفها بعد أن احتضنته بين راحتي لأهدئ قليلًا من روعها، بالكاد تماسكت لتتم جملتها:
-وسأكون له.
رغمًا عني اشتدت قبضتي على يدها، وصرخت في عصبيةٍ:
-هل جن هذا؟
أجهشت بالمزيد من البكاء العاجز، وندمت على ردة فعلي، حاولت أن أحجم من انفعالاتي، لئلا أزيد الطين بلة، تركت يدها، ووضعت قبضتي على كتفها، ثم أخبرتها في حزمٍ:
-لا تصدقيه، إنه مخبول!
خرج صوتها متوسلًا مستجديًا عواطفي الجياشة:
-“ريانا” .. أنا في مأزق.
استقمتُ واقفة، وقلتُ بتصميمٍ وأنا أشدها من ذراعها برفقٍ لتنهض:
-صدقيني، لن يحدث أبدًا.
كانت أضعف من الصمود أمام هذا الوضــيع، سيسحقها كفراشة هزيلة في أول فرصة تسنح له، ما لم أخرجها من هنا، قبل فوات الأوان. نظرت في عينيها بعزمٍ، وتكلمت بلهجةٍ مليئة بالإصرار على تنفيذ وعدي أيًا كانت توابعه:
-اسمعيني جيدًا، أنتِ لن تكوني هنا، ولن يقترب منكِ.
رمت نفسها في أحضاني، وبكت على كتفي وهي تعترف لي بصدقٍ:
-أنا خائفة للغاية.
كنتُ كالعاجزة حقًا، وأنا أشاهدها على حافة الانهيار، لم أملك سوى كلماتي لطمأنتها، كانت سلاحي المتاح لمواجهة ما يستبد بها من ارتياعٍ وهلع. أبعدتها عني مسافة بسيطة، ونظرتُ مرة ثانية في عينيها المحتقنتين، وأكدت بقلبٍ شبه ممزق، من أجل إعطائها الحافز المناسب للصمود ريثما أوفق أوضاعي:
-لا تخافي، أعدك أني سأبذل المستحيل لأبعدك قريبًا عن ذلك المكان.
مسحت “آن” بظهر كفها الدموع السائلة على صدغيها، وخاطبتني في لهجةٍ لائمة:
-نحن اتفقنا ألا نتزوج من رجــال عصابات، واليوم أنتِ تستعدين للارتباط بزعيمهم.

 

 

ربما كانت وسيلتها لتفريغ شحنتها المكبوتة بداخلها عن طريقي تحميلي الذنب، تقبلتُ عتابها، وعلقت في حيطةٍ:
-ليس بإرادتي، أنتِ تعلمين هذا جيدًا، إن كنتُ أملك الخيار لفررت من هنا.
حدجتني بنظرة مستاءة قبل أن تبتعد عني وتقول:
-إذًا لا تقطعي وعدًا أنتِ لن توفي به.
لحقت بها، ووضعت يدي على ذراعها، أجبرتها على الاستدارة والنظر ناحيتي لأهتف بكلامٍ نابع من فؤادي:
-إن كان هذا يخصك، سأفعل أي شيء وكل شيء لحمايتك.
رأيتُ اليأس مرسومًا على وجهها الناعم، وحز ذلك في قلبي كالوخزات، خاصة عندما أضافت في رجاءٍ أكبر:
-“ريانا”، لا تتخلي عني.
ضممتها إلي، ونطقت بغصةٍ مؤلمة قد علقت في حلقي:
-لن أفعل.
ابتسمت من بين دموعها، فأزلت الباقي براحة كفي، ثم سألتها في جديةٍ:
-هل معكِ جواز سفرك؟
أجابتني وهي تشير بيدها:
-أظنُ أني وضعته في حقيبتي.
ضاقت نظراتي نسبيًا حين شددتُ عليها:
-تأكدي من وجوده بها.
ارتابت قسماتها وهي تسألني:
-لماذا؟
لم أجبها، فألحت في اضطرابٍ:
-هل تشكين في أمرٍ ما؟
انتقيتُ كلماتي حين جاوبتها:
-لا؛ ولكن للحيطة.
هزت رأسها في طاعة قائلة:
-سأتفقده.
حاولت تهوين ما تمر به، فطلبتُ منها في رقةٍ، وأناملي تمسح على صدغها:
-ابتسمي غاليتي، لا أريد لوجهك البشوش أن يعبس.
جاءني ردها قابضًا للقلب، ومنطقيًا بالنسبة للظروف الراهنة:
-حين أعود لموطني سأعود لما كنت عليه.
لم أملك أداة سحرية للإطلاع على المستقبل لأرى إن كنتُ سأنجح أم لا؛ لكني لم أحاول إضعاف آمالها، فرددتُ مؤكدة لمرة جديدة بابتسامةٍ خفيفة:
-سيحدث، لا تقلقي.
…………………………………………….

 

 

منذ أن انتقلنا للعيش في هذا القصر الضخم، كنتُ أبيت بمفردي في هذه الغرفة المتسعة، أما والدتي و”آن” فكانتا تمكثان معًا في غرفة أخرى مجاورة لي. معظم يومنا كنا نقضيه في غرفتي، ما بين مطالعة المجلات، مشاهدة أخبار الموضة على المواقع المختلفة، التخطيط لمراسم إكمال الزفاف، مناقشة تعديلات ثوب عرسي، أو الحديث عن ذكريات طفولتنا التي باتت كأشباحٍ من الماضي نذكرها وسط هذا الظلام القاضي على كل ما هو سار.
تحركت مع “آن” نحو غرفتها، وفي أعماقي أرجو ألا تتعقد الأحداث أكثر، فما مررت به جعلني إلى حدٍ كبير غير متفائلة، وإن كنتُ أخفي ذلك عمن حولي. قاومت هواجسي التي راحت تطن في رأسي كالذباب، ووقفتُ خلف شقيقتي المنهكمة في البحث عن جواز سفرها. انعكس الخوف الممزوج بالاضطراب على تقاسيمها بشكلٍ مرعب حين لم تجده في مكانه المعتاد بداخل جيب حقيبة السفر الخاصة بها، أفرغت كامل محتوياتها، ونثرتها على السرير والأرضية، غير عابئة بالفوضى التي أحدثتها، المهم أن تجد ضالتها. وسط هذه الفوضى كررت البحث مرارًا وتكرارًا، ومع ذلك تعذر عليها إيجاده. بدأت حركاتها تميل للعصبية ونفاد الصبر، حملقت في بذعرٍ، وهتفت بأنفاسٍ شبه لاهثة:
-لقد كان هنا.
اتسعت عيناي في صدمةٍ، فتابعت شقيقتي بارتعابٍ متزايد وهي تشير إلى داخل حقيبتها:
-أنا متأكدة أني وضعته هنا، في هذا الجيب.
سرعان ما داهمتني الشكوك المخيفة، تركتها جانبًا تجنبًا لما قد يحدث إن بوحت بما يراودني، وقلتُ وأنا لا أصدق ما أتفوه به:
-ربما بدلتي مكانه، ولا تتذكرين.
صرخت في احتجاجٍ:
-لا يُعقل، مستحيل.
معها كل الحق لتستريب من اختفائه الغامض وتزداد توجسًا، آنئذ بدت وكأنها على وشك فقدان أعصابها، اضطررتُ للحفاظ على ثباتي الانفعالي حتى لا أزيد من توترها، بدأت أفتش بنفسي وسط كومة الثياب المتراكمة، وأنا أخبرها بغيرِ اقتناعٍ:
-ربما علق هنا أو هنا.
بسطت أمام نظراتي حافظتها القماشية، تلك التي تضع بها أشيائها الهامة من أوراقٍ، ومتعلقاتٍ دقيقة تخشى ضياعها. فتحت سحابها، وهدرت بصوتٍ صارخ:
-انظري في حافظتي، باقي الأوراق موجودة…
أمسكتُ بالحافظة، ورحتُ أدقق النظر في محتوياتها، وهي إلى جواري تتابع الكلام بنفس الانفعال المبرر:
-وأنا أضعهم معًا لئلا أضيعهم.
بقيتُ أعيد تقليب كل الأوراق مرة واثنين، ولم أجد جوازها، وضعت “آن” يدها أعلى رأسها، وظلت تردد في حسرةٍ:
-حتى تذكرة الذهاب غير موجودة.
صدقت في قولها، فأنا لم أعثر عليها بين الأوراق، سألتني في جديةٍ، وهذه التكشيرة تعلو سحنتها:
-هل تظنين أن أحدهم قد فتش في أغراضي وسرقها؟
علقتُ في تهكمٍ:
-أظن فقط؟ بل أنا متأكدة!!!
انهارت “آن” جالسة على حافة السرير وهي تدفن وجهها بين راحتيها، لتصيح بعدها بيأسٍ شديد:
-اللعنة، أنا عالقة هنا، كيف سأغادر؟
أزحتُ الثياب بعيدًا، وتركتُ فوقهم الحافظة الوردية، ذات رسوم طائر الفلامنجو، لأجلس بجوارها، ثم لففت ذراعي حول كتفيها، واستطردت قائلة بتعقلٍ:
-حسنًا لنهدأ ونفكر معًا.
مالت برأسها على كتفي، وبدأت تنتحب وهي ترد:
-لا أستطيع، لقد توقف عقلي عن التفكير.
تنهدتُ بعمقٍ، وأردفتُ رغم عدم تأكدي:
-سأجد حلًا.
سألتني وهي تكفكف عبراتها المنسابة:
-تُرى من تجرأ وفعل ذلك؟

 

 

كانت لدي إجابة بعينها، ومع ذلك لم أنطق بها؛ لكن طيف وجهه تجسد في مخيلتي، ليؤكد على شكوكي الكبيرة ناحيته، فكل شيء متوقع منه وأنا حبيسة هذا المكان. انتشلتني “آن” من لحظة شرودي بسؤالها الجدي:
-هل الخدم يعملون لصالح هؤلاء القتـــلة؟
أعطيتها جوابًا محايدًا، لأخفف من وطأة الأمر عليها:
-لا نعلم بعد، لكننا على وشك كشف الحقيقة.
انتصبت فجأة، واقترحت:
-لما لا نسأل “صوفيا”؟ ربما كانت لديها فكرة عنه.
أومأت برأسي مبدية موافقتي:
-حسنًا، لنقم بذلك.
نهضت من فورها بعزمٍ، وقالت وهي تدوس فوق ثيابها الملاقاة أرضًا:
-هي في الحديقة، لنذهب إليها.
لم أعلق على فوضويتها، لا وقت لهذه السخافة، تبعتها في خطواتٍ سريعة لألحق بها، وأنا أرجو ألا تقع المزيد من المفاجأت الصادمة.
…………………………………………….
سرتُ على عجلٍ في اتجاه الحديقة المنمقة، حيث ذهبت شقيقتي، لتقابل والدتنا الجالسة بها. كانت “صوفيا” تُطالع إحدى المجلات المتخصصة في إقامة ديكور حفلات الزفاف، لتنتقي المناسب وفق ذوقها الرفيع، لم يبدُ عليها أدنى علامات القلق، كانت الوحيدة المستمتعة بكل ما يدور. اندهشت لحالة الارتباك والضيق الظاهرة علينا رغم تفاوت درجات تأثيرها، لذا سألتنا في اهتمامٍ، وهي تغلق المجلة وتضعها جانبًا على الأرجوحة المسترخية عليها:
-ما الأمر يا جميلات؟
أجابت “آن” على سؤالها بآخر:
-هل رأيتي جواز سفري؟
أجابت دون تفكير ببسمتها الهادئة:
-نعم.
تحمست شقيقتي أكثر، وسألتها في لهفةٍ، والآمال معقودة على وجوده معها:
-أين هو؟
سكتت للحظاتٍ، كأنما تسعى لتنشيط ذاكرتها بما غفلت عنه وسط شواغلها المتواترة، ووراء صمتها تراكمت المخاوف، تبادلت مع “آن” نظراتٍ مهمومة، وعبارات مهموسة، إلى أن تكلمت “صوفيا” أخيرًا، ببسمة عادية:
-أوه، تذكرت، طلبه مني “مكسيم”، فأعطيته له.
هنا صرخت “آن” في لومٍ، وعيناها تستدعيان الدموع الحارقة للبكاء مجددًا:
-لماذا يا أمي؟ لماذا فعلتي ذلك؟
اندهشت “صوفيا” من ردة فعلها المبالغ فيها من وجهة نظرها، وبررت تصرفها:
-لقد أراد أن يحجز لها مقعدًا في درجة رجال الأعمال حين تعود بعد الزفاف، فكان بحاجة لبعض المعلومات، لذا أحضرته له.
ثم وجهت سؤالها لشخصي دون أن يرتاب في صدرها شيء ناحية هؤلاء القوم:
-هل هناك مشكلة؟
سحبت “آن” نفسًا تلو الآخر لتثبط من نوبة البكاء التي تهددها، دنت مني، وهمست في أذني، والقلق منتشر في كامل ملامحها:
-إننا في مأزق.
قلتُ بصوتٍ خافت ملطفة قليلًا، رغم صعوبة الموقف:
-سأحاول استعادته، اهدأي.
سحبتني من ذراعي بعيدًا عن والدتنا، نظرت إلي بعينين تحترقان غضبًا، ودمدمت في كدرٍ شديد، وبنفس الصوت المنخفض:
-أخبرتك منذ البداية، أني سأعلق هنا.
تجاوزتُ عن تشاؤمها، وأكدتُ لها:
-تفائلي.
استرابت “صوفيا” من حديثنا الجانبي، وتساءلت في تحيرٍ:
-ما المشكلة؟
التفتُ ناظرة إليها، وابتسمتُ نافية:
-لا شيء أمي، لا شيء، سنذهب.
تأبطتُ في ذراع “آن”، وابتعدت عن محيط الحديقة، لنلج معًا داخل بهو القصر، سألتني شقيقتي في رعبٍ معكوسٍ على كامل قسماتها:
-ماذا سنفعل الآن؟
قلتُ بلا ترتيب، لإخراس شكوكها البازغة بداخلها:
-سأفكر في بديل.
تخلت عن ذراعي، وهرولت نحو الدرج هاتفة في غير تصديق:
-أخبرتك أنه لا حل…
توقفت عن صعود الدرج، لتنظر إلي من موضعها، كانت عيناها تسبحان في بحرٍ من الدموع، لم تخفها، وتركت لها العنان لتغزو بشرتها، نهجت أنفاسها، وقالت بتصميمٍ صريح، وبما جعل قلبي يهوي فزعًا:
-إن حدث وتزوجته سأقتل نفسي قبل أن يمسني!
……………………………………………….

 

 

طــوال الأمسية بقيتُ بالغرفة، واعتذرت عن المشاركة في تناول الطعام، كيف أواجه شقيقتي ورأسي تطوف بها الأفكار السوداوية غير المبشرة بالخير؟ لن تنجو مثلي، وستخسر حريتها، وتعلق للأبد مع قـــاتل يضاهي في شراسته ابن عمه، إن لم تنفذ تهديدها وتتخلص من حيتها. أحسستُ بالثقل يجثم على صدري، بقلبي يهترئ بين ضلوعي، لم أخجل من ذرف العبرات لعجزي وقلة حيلتي. تطلعت للأفق الممتد بعينين لا تشاهدان إلا كتل الظلام وسط الدموع الغارقة فيهما، شعرتُ بالهواء يخرج حارقًا من صدري وأنا ألفظه في الهواء الطلق.
أملت جسدي للأمام، واستندت بمرفقي على حافة سور الشرفة، لأواصل تطلعي الحزين بلا صوتٍ، رغم أن رأسي كانت تصرخ جراء ازدحامها بالأفكار المتصارعة، فلم أعد قادرة على استباط الجيد منها وسط تلك التداخلات المرهقة.
وبين هذه الهموم، أحسستُ بلمسةٍ رقيقة وحنون على ظهري، فارتعشتُ لتأثيرها الذي جرفني إلى شيءٍ من الدفء بتُ أفتقده مؤخرًا، تكررت هذه اللمسة في موضع قريب، فدب في فؤادي خفقة غريبة استنكرتها، لم التفت، وبقيتُ كما أنا، مستسلمة للتيارات العاصفة التي تغمرني، معتقدة أن والدتي هي من تقف خلفي، صمتها المعتاد كان كتمهيدٍ غير منطوق لرغبتها في الثرثرة عما يوترني؛ لكني لم أكن في مزاجٍ رائق للدردشة الفضولية من قِبلها، لهذا قلت معتذرة في صوتٍ متحشرج قليلًا:
-أريد البقاء بمفردي “صوفيا”…
لم أنظر لجانبي، وتابعت بعد نحنحة سريعة لاستمتع بعزلتي الاختيارية:
-سأسمع اقتراحاتك بشأن المراسم غدًا؛ لكن الآن أنا…
شهقة غادرة انفلتت من شفتي حين حاوط خصري ذراعًا قوية، جعلت أمواج الدف تجتاحني، نظرت في صدمةٍ للجانب لأجد وجه “فيجو” قريبًا مني .. للغاية .. كأنه على وشك أن ينحني لتقبيلي. همس بالقرب من بشرتي، فلفحتني أنفاسه المعبأة برائحة الخمر، وهو يضغط على ظهري ليضمني إليه:
-أنتِ معي، وهذا أفضل.
وضعت كلتا يدي على صدره لأمنعه من هذا الاقتراب الخطير، وهتفت محتجة بإنكارٍ على وجوده الصادم:
-ما الذي تفعله هنا؟ كيف دخلت؟
قال ساخرًا، وهو يشملني بنظرة تعكس وميضًا غريبًا ناحيتي:
-هل محظورٌ علي التواجد في بيتي؟
منحته ردًا منطقيًا لئلا يتهور:
-على الأقل ليس قبل العرس، هذا نذير شؤم.
ضحك في وداعةٍ استغربتها، قبل أن يطالعني بهذه النظرة العميقة قائلًا:
-إنها حماقة، واعلمي…
أظن أنه أسرف في الشرب هذه الليلة، فعلى ما يبدو قد لعبت الخمر برأسه، وإلا لما تصرف بهذه الجرأة معي، زاد من رعشة أطرافي عندما قال وهو يلامس بشفتيه خدي:
-إن أردتُ امتلاكك الآن، وهنا .. سأفعل.
توسلته في نفورٍ، وقد ارتعدت كليًا:
-أرجوك .. لا تفعل.
ارتجف صوتي أكثر وأنا أناشده:
-ليس الآن.
لا أعرف ما الذي أصابه ليتوقف عن تودده الحميمي معي، أخفض ذراعه الذي كان يطوقني به قبل ثوانٍ، ثم مد يده الأخرى في جيب سرواله ليخرج منها علبة من القطيفة، فتحها لأنظر إلى ما بها بعينين ضيقتين، وجدتُ بها خاتمًا من الألماظ، بريقه يلمع تحت ضوء النجوم البعيد، وينعكس في حدقتيه، ألقى بالعلبة في غير مبالاة على أرضية الشرفة، وأخبرني على مهلٍ:
-جئتُ لإعطائك خاتم الخطبة، فأنتِ لم ترتدي واحدًا بعد.
لم يلبسني الخاتم، بل أمسك برسغي، ووضعه في راحتي آمرًا إياي:
-ضعيه في إصبعك.
نظرت إلى ما يقبع في كفي من ثروة باهظة، وعلقت ساخرة:
-وهل هذا يهم؟ إنها زيجة صورية، لأجل مصالح الجميع، ألستُ أنا الطعم المناسب؟ ألم يكن هذا كلامك؟
غامت تعابيره بشكلٍ ملحوظ، مما استرعى انتباهي، حدجني بنظرة قاسية، وهتف في عبوسٍ وهو يستعد لمغادرة الشرفة:
-لكن لا أحب أن يكون المشهد ناقصًا.
قبل أن يختفي عن أنظاري هدر بنفس اللهجة الآمرة:
-لا تخلعيه.
لم أنظر ناحيته؛ لكني سمعتُ خطواته وهي تبتعد، فعدتُ لأجمد نظراتي التعيسة على قطعة الألماظ، ظللت أتأملها لبرهةٍ، الغريب أن دقاتي لم تهدأ، ظلت على اضطرابها حتى بعد رحيله، استنكرتُ تأثري بحضوره الذي يطغى بقوة على ما دونه، حتى همومي وأحزاني، تلاشت مع ظهوره، وكأنه يملك مقدرة عجيبة على إذهاب عقلك، والاستحواذ على إدراكك. التقطت الخاتم بإصبعي، ثم همست لنفسي في أسى، وأنا أضعه في عقلتي:
-إنه كطوقٍ من نار، يذكرني بموضعي في هذا الجحيم.
………………………………………………….

 

 

للألم تبعات، تستطيع النفس تحملها، وتحمل ما فوقها، من أجل التضحية لأجل من نحب .. لأن التضحية هنا هي ضريبة كل محبة عظيمة، لذا لتُبذل حين لا يكون هناك مفرًا من بذلها، هذا ما عاهدتُ نفسي عليه، أن أفعل ما يفوق التوقعات والمسموح لأبعد شقيقتي عن هذا المستنقع المملوء بك ما هو شرير وخبيث، حتى لا تنفذ تهديدها وتزهــق روحها. جمعتُ جأشي، وسرتُ بخطى ثابتة نحو غرفة المكتب الخاصة بالسيد “مكسيم”، ساعدتني مدبرة المكان على الوصول إليها، وذلك لاتساع القصر وتشعب أروقته، كان مُضيفي لديه علم مسبق بقدومي، لهذا منحني عدة دقائق من وقته الثمين لمقابلتي.
تنفستُ بعمقٍ، وطردت الهواء من رئتي، لأرفع يدي المتكورة، وأطرق بها على الباب. سمعت صوته يأتي من الداخل سامحًا لي بالدخول، فأمسكتُ بالمقبض، وولجت إلى حجرته، ووجهي يعلوه ابتسامة لطيفة. دورتُ بنظراتٍ سريعة على محتوياته من الأثاث، كان كل شيء مغطى باللون البني، وفي غاية الوجاهة والثراء. نهض “مكسيم” من خلف مكتبه الضخم ما إن رأني اقترب منه، استقبلني بحفاوةٍ وترحيب ودودين:
-كنتي الجميلة، مرحبًا بك في مكتبي، لقد سررتُ لرؤيتك.
قلتُ بتهذيبٍ، وأنا أرمش بعيني لأبدو خجلى من لباقته:
-أشكرك عمي.
تحرك في تمهلٍ ليقف قبالتي، رمقني بهذه النظرة الطويلة النافذة لداخلي، مما أصابني بالتوتر، أخفيتُ رعشتي حين سألني دون استهلالٍ أو مراوغة:
-تُرى ما سبب هذه الزيارة؟
بالطبع لم يكن من السذاجة ليصدق أني قادمة لتوطيد الروابط والعلاقات الأسرية، بل لغرضٍ ما، وأحاول التحايل عليه، لهذا لم يطل في التمهيد، ودخل في لب الموضوع مباشرةً. ابتسمتُ في رقةٍ، ونظرت إليه بحذرٍ وأنا أخبره:
-إنها شقيقتي “آن” ..
سألني مستفهمًا:
-هل بها شيء؟
رددتُ نافية في التو:
-لا إنها بخير.
علق باقتضابٍ:
-جيد.
تابعتُ بثباتٍ، لأبدو مقنعة، غير مذبذبة، وعيناي تتطلعان إليه في توجسٍ:
-لقد التحقت بفصل دراسي زائد لتعوض ما فاتها، والتقييمات على وشك البدء، لذا هي بحاجة للسفر مبكرًا لتتمكن من الحضور.
نظر إلي مليًا، لم ينطق بشيء في البداية، كان كمن يدرس ما أقوله، لحظاتٍ مرت علي بطيئة، إلى أن تكلم أخيرًا:
-على حسب معرفتي، فإنها في فترة العطلة، لا دراسة قبل الخريف.
حمحمت موضحة ببسمة لا تزال هادئة:
-هذا صحيح، لكنها تريد استثمار ذلك الوقت في تحسين مستواها الأكاديمي.
أولاني ظهره، واتجه خطوتين ليعود إلى مكتبه، لم يجلس عليه، بل فتح علبة صدفية مزخرفة، مخصصة لوضع سيجاره الكوبي الفاخر بداخلها، التقط واحدة، وأمسك بفاتحةٍ تُستخدم لقطع طرفها، استعان بولاعته ليشعل طرفها، سحب أكثر من نفسٍ ليتذوق طعم التبغ في لعابه، التفت إلي من جديد، وبوجهٍ بارد التعبيرات علق:
-لا أظنها بحاجة لهذا الهراء.
اعترضت عليه بأدبٍ، ودون أن أرفع نبرتي، لئلا أفسد فرصتي في إبعادها من هنا:
-هذا ليس صحيح، إنها تحقق نتائج طيبة، ولها مستقبل رائع إن ظلت على هذا المنوال، وآ…
قاطعني بإشارة من يده الممسكة بالسيجار ليحسم الأمر دون أن نبدأ في النقاش حتى:
-ستتزوج “لوكاس” ……………………………………. !!

يتبع

اترك رد