روايات

رواية غير قابل للحب الفصل التاسع 9 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل التاسع 9 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت التاسع

رواية غير قابل للحب الجزء التاسع

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة التاسعة

بين كل ارتجافة وأخرى، حين يلامس هذا التيار العنيف جسدي المبتل، كنت أفقد جزءًا من إنسانيتي، بهجتي، وحتى رصيدي من الذكريات الحلوة، ليسود مكانها كل ما هو بشع ومخيف. كنت ببساطة أتحول إلى أخرى غير تلك التي كنت عليها قبل أن أخوض معارك لا تخصني. لو كان حاطفي قد اختار الموت لي، لاسترحت نهائيًا؛ لكنه يُصر على تعذيبي وإزهاق روحي بلا هوادة، لمجرد الحصول على تسلية تُرضيه. توقف عن صعقي وكنت أظنه لن يكف، ومع هذا لم يتوقف بدني عن الاهتزاز. جلجل صوت ضحكاته المنتشية في الحجرة من جديد، وأخذ يدفع القفص بقبضتيه وهو يصيح:
-كم هذا ممتع!
استمر يرجه وهو يبصق الكلام في وجهي، وأنا لا أميز ما يردده، ثم أوقف القفص فجــأة، ليمد بيده من بين القضبان، أسمك بوجهي، ورفعه إليه وهو يضغط على فكي بخشونةٍ وقسوة، كدت أشعر به يتحطم تحت أصابعه الغليظة، أجبرني على استعادة قدرًا من وعيي والانتباه له، جذبني من وجهي إليه، فشعرت بجسدي يتمزق، وبفقرات عنقي تفرقع من العنف المفرط، اقترب بوجهه مني، ثم سألني في وقاحةٍ وهو ينظر في عيني الضائعتين:
-ما رأيك أن نجرب شيئًا آخرًا؟
ضحك في تلذذ قبل أن يضيف بأنفاسه الكريهة:
-سيكون الاختيار وفق ذوقي، وأنا أعشق كل ما يحث على الصراخ.
أنهى جملته وهو يضرب برأسي قعر القفص لتجتاحني موجة عاصفة من الصداع المختلط بالألم. بكيت بقهرٍ شديد، وتمنيت الموت بحرقة، لا أريد تجربة المزيد من هذه المعاناة القاسية، نفد ما لدي من طاقة وتحمل. راحت عيناي المغلفتان بسحبٍ من الدموع تطالعان إياه عندما خاطبني:
-لستِ الأولى في تجربة ساديتي…

 

 

 

الســـادية، هذه الكلمة التي تتضمن إن أمعنت التدقيق في معناها شتى أصناف العذاب ودرجاته، وعلى ما يبدو فقد بلغ هذا اللعين الدرجة الأخيرة في مقياسها. أكد ما يجوس في عقلي المشوش بقوله:
-ولكني سأختبر معكِ أقصاها.
تُرى ما الذي قرره لأجلي؟ أخذت أدقق النظر فيما يفعله من بين ضلالاتي، لاستكشف وسيلة تعـــذيبي التالية، كان يعبث بين أدوات معدنية، وسيــاط، وغيرها من الأشياء المستخدمة في تحويل البشر إلى عبيد أذِلاء.
…………………………………………………
بنصف عين، ونظراتٍ مشوشة مليئة بالأطياف، نظرًا لتورم وجهي وعجزي عن فتح عيني الأخرى، بقيت أراقب حركاته العشوائية، وأنا أظن أن الوقت لا يمضي، مع العلم أنه قد انقضت فقط بضعة لحظات؛ لكنها بدت طويلة للغاية، كأنها امتدت لأمــد الدهر. للغرابة، سمعت جلبة عجيبة تداخلت مع صوت ضحكاته المستفزة، وشوشرت عليها، لم ألقِ لها بالاً، كنت متخشبة في موضعي، أعاني تنميلاً فظيعًا في أطرافي، وفقدانًا للإحســاس في غالبية أجزاء جسدي.
فجـــأة وجدت خاطفي يرتد في هزةٍ أغرب للخلف، قبل أن يتجمد لحظيًا في مكانه، ويسقط ما يمسكه في يده، اندفعت بضعة أسئلة مُحيرات على رأسي المتعب، لما توقف عن الدندنة المستفزة هكذا؟ ولماذا توجد فجوة في مؤخرة عنقه؟ ما الذي تسبب بها؟ أتراها كانت موجودة منذ البداية وأنا لم ألمحها إلا الآن عندما استدار وأولاني ظهره؟ رأيته ينطرح على الطاولة المليئة بأدوات التعذيب ولم ينهض من عليها، اندهشت، ولم أكترث، كنت فقط أتابع كالمشاهد ما يدور حولي بشحوب الموتى.
كنتُ قد اكتفيتُ من المتابعة، ومن التفكير، ومن كل شيء، لما لا أرتاح قليلاً؟ استسلمت للسراب المندفع نحو فراغ عقلي بكل ترحــاب، وبدأت في رحلة جديدة من الغرق في الظلام؛ لكن اهتزازة القفص المعدني أفسدت عليّ هذه المتعة التي انتظرها منذ باكر، تكرر الاهتزاز بقوةٍ أقرب، وراحت أصواتٌ غريبة تملأ محيطي، لم أحاول فتح جفناي، تركتهما في حالة سكونٍ، وأنا شبه مستعدة لاستقبال الموت برحــابة صدر. ازدادت الأصوات الصاخبة اقترابًا مني، أتبعها الشعور بأيادٍ تُمسك بجسدي الواهن، وتحملني خارج القفص، لم ألمس الأرض، ولم أفتح عيني لأرى، كل ما أدركته بدا من محض خيالي على ما اعتقد -جراء حالة الهذيــان المستبدة بي- أني استطعت تحريك أطرافي.
شعرت وكأني أدور حول نفسي لتستقر رأسي على شيء صلب، قوي، ودافئ؛ لكن به نبضاتٍ متسارعة تخترق أذني، وتشوش على سكوني، رغم أن الأمر استرعى فضولي إلا أني لم أحاول حتى أدنى محاولة لفتح عيناي والنظر. اكتفيت بالتمتع بدفقات الدفء المتسربة إلى جسدي البارد، وألصقت نفسي بمصدر انبعاثه لأحصل على المزيد، كطفلةٍ نهمة أعطوها حلوى مجانية. بدا وكأن هناك ذراعين تطوقان كامل جسمي، تحاوطاني بصورة تملكية؛ لكنها خالية من الإيذاء أو الإهانة. صوتًا عجيبًا كنت أألفه بشكلٍ غريب نفذ إلى مسامعي:
-أنتِ صرتِ في مأمنٍ من الخطر.
لم أرد، واستمتعت بما خامرته من لذة الشعور بالحرارة الدافئة الذي جرفتني إليها بلهفةٍ بعد أن فقدت الإحساس بها، طفت بعقلي هائمة في غيابات أخرى، بدت لي أخف وطــأة عما لاقيته سابقًا.
………………………………………………………..
كما غفوت فجأة، صحوت بغتة، بعد سكونٍ مريب، متجرد من الكوابيس أو الأحلام، لأجد نفسي راقدة على سريرٍ غريب، في غرفة أغرب، كانت أقرب في الشبه لما يوجد بالعيادات الطبية. بأنينٍ خافت حاولت النهوض والاعتدال، لكني لم أستطع، فكل عضلة في جسدي كانت لا تزال تئن، جاهدت لإرجــاع ظهري للخلف، فلم أتزحزح من موضعي سوى لبضعة سنتيمترات، لهذا توقفت عن المحاولة، وتنهدت في إعياءٍ. بقيت ساكنة للحظاتٍ، ثم حركت رأسي للجانب، لأتأمل ما يحيطني بتدقيق أكبر.
النهار كان ساطعًا، هذا أول ما لاحظته، فالحجرة لم تكن غارقة في الظلام، ولا مُضاءة بواسطة المصابيح. رأيت ضوء الشمس يتسلل عبر النافذة الزجاجية، وستارة خفيفة بيضاء اللون تحجبها عني. مررت ببطءٍ على تفاصيل الغرفة، كانت بلا أثاثٍ كثير، فقط خزانة ثيابٍ صغيرة مجاورة للنافذة، وطاولتان متفاوتان في الحجم: واحدة ملاصقة لي، والأخرى موضوعة عند الزاوية، يتوسطها مزهرية صغيرة الحجم بها وردة وحيدة مثلي.
الغريب أني لم ألحظ الإبرة الطبية الموصولة إلى يدي، تأملتها في شرودٍ، لتتعلق نظراتي بآثار الخدوش المحاوطة برسغي، كانت موجودة لتذكرني بما خضته، وما سأجاهد لنسيانه، تتبعت مسار الخرطوم الممتد إلى أن وصل إلى سائل معلق يغذي وريدي، حركت يدي الأخرى ووضعتها على جبيني لأفركه، فقد هاجمني صداعًا رهيبًا جعلني أطبق على جفني. خفضتُ من يدي لأتحسس وجهي كذلك، كان لا يزال متورمًا بعض الشيء، وشعرت بآثار جروح بالقرب من فمي، يبدو أنها تجلطت بعد أن كانت حية وتنزف بالدماء جراء الصفعات القوية التي تلقيتها.
رجفة بسيطة نالت من بدني، فجعلتني أرتعش، أزحت الملاءة التي تخفي جسدي، كنتُ أرتدي ثوب المشفى الفضفاض، آخر ما أذكره أني كنتُ بلا سترٍ، فقط ثيابي التحتية، وبالطبع لم تكن كافية لحمايتي من نظراته الشهوانية الجائعة. سحبت الملاءة نحو عنقي، فلامست جلد رقبتي، وكانت علامات التحززات موجودة به، ارتجفت مجددًا بقوة أكبر، لا أريد معايشة ذلك الإحساس المخزي من جديد. قاومت الذكرى قدر استطاعتي، وحاولت تصفية ذهني لأشغل تفكيري بأمــر “صوفيا”، فحتى الآن لا أعرف عنها شيئًا.
يُقال أن الأخبار السيئة تصل سريعًا، وطالما أني ما زالت أجهل بشأنها، فربما هي بخير، استغرقت في هذه الأفكار الراجية إلى أن سمعت صوت الباب يُفتح، فاستدرت للجانب لأجد فتاة يظهر على وجهها ابتسامة لطيفة ترتدي زيًا أبيض اللون، تقدمت ناحيتي، وبدت سعيدة لرؤيتي مستيقظة، تفحصني بنظرة شاملة قبل أن تقول في ودٍ:
-مرحبًا بعودتك.
سألتها بصوتٍ متحشرج حاولت تجليته:
-أين أنا؟

 

 

 

أجابتني وهي تتفقد الوصلات الطبية الموصولة بي:
-أنتِ في عيادة الدكتور “مارتي”.
رمقتها بنظرة متحيرة، فابتسمت، وأضافت:
-سيأتي بعد قليل للاطمئنان عليكِ.
لم أعرف هوية ذلك الطبيب، ولم أسعَ لسؤالها عنه، فقط تحير عقلي في سبب تواجدي هنا، ومعرفة كيف تم إنقاذي، فعلى ما يبدو ما رأيته من أطيافٍ تقتحم غرفة التعـــذيب لم تكن هلاوسًا أو حتى أوهامًا خلقها عقلي لإيهامي بأن كل شيءٍ على ما يرام، هناك ما حدث وكنت أغفل عن التفاصيل. حمحمت متسائلة مرة ثانية:
-من جاء بي إلى هنا؟
رأيت الممرضة وهي تلتفت نحو الحامل الطبي الذي يتدلى منه السائل، غرزت به إبرة بها مادة ما، وأجابتني ببسمة مهذبة:
-ليس لدي فكرة، أنا مكلفة برعايتك فقط.
طردت كتلة من الهواء من صدري، وتساءلت في تعبٍ:
-كم من الوقت غفوت؟
أخبرتني وهي تدور حول الفراش:
-يومــان.
برقت عيناي في صدمةٍ قبل أن يردد لساني:
-ماذا؟
راود عقلي العديد من التساؤلات، دارت كلها حول محاولة إخراجي من قعر الجحيم الذي وقعت فيه، لمحتها وهي توشك على الانصراف من باب الغرفة، فاستوقفتها بسؤالي المباغت:
-هل أمي بخير؟ هل هي هنا؟
نظرت لي باسترابةٍ متحيرة، فأوضحت لها بمزيدٍ من التفصيل:
-السيدة “صوفيا”؟ أسمعتِ بهذا الاسم؟
حافظت على ثبات بسمتها وهي تخبرني:
-لا أعرف، سيأتي الطبيب “مارتي” للإجابة عن أسئلتك، فقط ارتاحي.
ربما هذه الممرضة تجهل بما أقصد، لم أضف المزيد، وأشرت بعيني قائلة بابتسامة ممتنة:
-شكرًا لكِ.
تنهدت مجددًا، وأرحت مرفقي على جبيني، وأنا أتساءل:
-تُرى ما الذي حدث لها؟
لاح مشهد غرقها في الدماء في فضاء عقلي، فارتجفت للذكرى وارتعدت، زفرت الهواء متابعة في نبرة متمنية:
-أرجو أن تكون بخير.
شعرتُ بالثقل يحط على جفني، فلم أقاومه، واستسلمت لذلك الشعور الداعي للنوم العميق، لأعود مرة أخرى للفراغ الســاكن الخالي من الأحلام والكوابيس.
………………………………….
-آنستي، هل تسمعيني؟
كنتُ في حالة من الاستقرار الهانئ لولا أن ظلت هذه العبارة تؤرق سلامي، وتنغص صفوي، فاضطررت للتخلي عن جمودي الممتع، والاستفاقة من هذه الإغفاءة الجميلة، لأفتح عيني في إرهــاقٍ. صحوت بكسلٍ، وتطلعت للظل المبهم الذي يعلو رأسي بدهشةٍ ممتزجة بالحيرة. في البداية، لم أستطع تبين ملامحه؛ لكنه ظل يُلح عليّ:
-هل تشعرين بشيء؟
أجبته وأنا أضع إصبعي على جبيني:
-نعم، هناك صداع يضرب في رأسي.
خاطبني في ودٍ:
-لا بأس، سيزول مع الوقت.
بدأت الرؤية تتضح، فأبصرت رجلاً خمسيني العمر يتطلع إلي بنظراتٍ غريبة، كأنها تفتش عن شيء ما بوجهي، مما دفعني لسؤاله:
-هل بي شيء؟
نفى سؤالي باسمًا:
-لا.
من وراء كتف الطبيب رأيتُ أحدهم يقف عند الركن، لم أكن قد تنبهت له من قبل، أو لأن تركيزي كان منصبًا على الوجه المتطلع إليّ عن كثب فغفلت عنه. حين دققت النظر وجدته “فيجو”، الزعيم الوهمي، أخيرًا ظهر مُدعي الإجـــرام على الساحة، يا للسعادة العظيمة! كنت بالطبع أسخر من نفسي، لكونه لم يكن حاضرًا وقت الخطر. انقلبت سِحنة وجهي، وأخذت أحدجه بنظرة لائمة مطولة، أين كان وأنا أعاني أقسى أنواع العذاب؟ أتراه فعل المستحيل لاستعادتي؟ أم أن خالي “رومير” هو من نجح أولاً في الوصول إلى مكاني وانتشالي منه؟
لكن هناك لمحة من الغموض تحاوط به، خاصة أن اسمه تردد في الأصداء، وقد سمعته بوضوح قبل أن ألاقي قدرًا من التعنيف المؤذي، كانا يتحدثان عنه بما بدا وكأنه تحذيرٌ غاضب. عدت إلى واقعي، ونظرت شزرًا لـ “فيجو”، كأنه شخصية نكرة، ثم أشحت بوجهي بعيدًا عن مرمى بصره، ونفخت في ســأم بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا. شعرت بوقع خطوات قدميه تدنو مني، فتلبك بدني، ومع ذلك أظهرت عدم مبالاتي، لن يكون حضوره مؤثرًا كالسابق!
وقف ملاصقًا إلى جنب سريري، سمعته يسألني في صوت جاف لا يخلو من الجدية:
-هل أنتِ بخير؟
التفتُ ناظرة إليه، وهذه النظرة الساخرة تصدح في عيني، أيهزأ بي مثلاً؟ أم أنه يمزح بطريقة سمجة لتخفيف حدة الذكريات المؤسفة؟ وجدت لساني يردد بتهكمٍ:
-منذ أن عرفتك .. لا.
أظنُ أني لمحت شبح ابتسامة على زاوية فمه تبددت على الفور عندما علق:
-إذًا أنتِ صرتِ أفضل.

 

 

 

 

ربما أعجبه لساني السليط، لكني لم أستسغ تبادل الحوار معه بأريحيةٍ، كأن شيئًا لم يكن، لذا سألته بصوت شبه حاد، وبوجهٍ ما زال يشوبه الحنق:
-أين خالي؟ وماذا حدث لأمي؟
جاوبني في هدوءٍ معتادٍ منه:
-حسنًا .. أمك في الغرفة المجاورة، و”رومير” معها.
انتفضت ودق قلبي بقوةٍ بمجرد أن علمت أنها موجودة معي في نفس المكان، حاولت النهوض من رقدتي الطويلة وأنا أهتف في تصميمٍ:
-هنا؟ أريد الذهاب إليها، أريد رؤيتها فورًا.
منعني من التحرك بوضع قبضته على كتفي ليثبتني في موضعي قائلاً بلهجةٍ آمرة تحكمية:
-انتظري، ليس قبل أن يسمح الطبيب بذلك.
صحت فيه محتجة بغضبٍ راح يتجمع في تعابير وجهي:
-أنت لن تتحكم في أمري…
ثم نفضت يده بعيدًا عني كأني أنفر منه، وتابعت بلومٍ أشد وأنا أرمقه بهذه النظرة الاحتقارية:
-حتى لو كنت تملكني، يكفي أن غيرك سرق أملاكك وعجزت عن حمايتها.
غامت ملامحه بلا شكٍ، وتحولت نظراته للقسوة بشكلٍ مخيف، ومع هذا لم أتراجع عن موقفي، أنا من تأذيت، أنا من عانيت، وأنا من سأحمل معي هذه الذكريات الشنيعة حتى القبر. كررت عليه صياحي الهادر فيه:
-ابتعد.
بهدوءٍ مناقص لما يبدو في نظراته نحوي تنحى للجانب، وتركني أنهض، فقمتُ مندفعة بكل عصبيةٍ، تحفزني مشاعري الثائرة؛ لكن غلف رأسي دوارًا قويًا جعلني أترنح في وقفتي، فكاد توازني يختل، شعرت بقبضته تمتد وتمسك بي من مرفقي لتسندني، فانتزعت ذراعي منه بعنفٍ كأن عقربًا لدغني. تعجب من موقفي المضاد ضده، والذي يبدو أكثر كراهية عن ذي قبل، ورغم ذلك لم يتخذ موقفًا معاديًا ناحيتي إلى الآن. وجهت سؤالي للطبيب “مارتي”:
-أين هي أمي؟
تردد في منحي الجواب، فاستدرت أحدق في وجه “فيجو” بغيظٍ متزايد، حول عينيه عني لينظر لـ “مارتي” الواقف خلفي، ضاقت نظرات بوجومٍ، هل يفكر في منعي من رؤيتها؟ إذًا ليتحمل نوبة غضبي التي لا أضمن كيف ستنتهي. رأيته يهز رأسه بإيماءةٍ خفيفة، كأنما يخاطب الطبيب بلا صوتٍ، فنطق الأخير بعد نحنحةٍ سريعة:
-سأرشدك إليها.
ثم تحرك للجانب ليسمح لي بالمرور، لا يتوقع أن أقدم له الشكر، أمسكتُ بالمقبض، وأدرته لأفتح الباب، وأخرج، سمعت صوته يقول من خلفي في صيغة متسائلة:
-ستخرجين هكذا؟
التفت مرة أخرى ناحيته لأجده يشير إلى ثوب المشفى، كنت فاقدة لتركيزي فلم استوعب مقصده، فأوضح بجراءةٍ وبلا ابتسام:
-أرى ردفيك عبره.
تلونت بشرتي الشاحبة بحمرةٍ خجلة، وتجمدت في مكاني بعد أن استدرت كليًا لأخفي عن عينيه المثبتتين علي، اقترب مني الطبيب، وناولني روبًا لأرتديه فوق الزي، فهممت بالتحرك، لأسمع بعدها “فيجو” يأمر “مارتي” بحزمٍ:
-كن إلى جوارها.
هتف دون نقاشٍ لابتسم وأنا أوليهما ظهري نصف ابتسامة في سخرية مريرة:
-كما تأمر أيها الرئيس.
أين كانت هذه النزعة التسلطية وأنا أختبر أنواعًا مختلفة من التعذيب؟ لن أغفر لمن فرط في بسهولةٍ، وجعلني لقمة سائغة لأمثـــال ذلك الخسيس النجس، الذي جعلني أرتاع من كل شيء، وأي شيء، حتى وإن كنتُ أظهر صلابة زائفة أمام من حولي؛ لكن بداخلي حواجز من الخوف والارتعاب. حقًا رجوت أن يكون مصير خاطفي الوضيع نار الجحيم المستعرة!
…………………………………………………………..

 

 

 

 

تبعثرت روحي بعد أن ظننت أني استجمعتها بواحدة من مواجهاتي السابقة مع “فيجو”، بالرغم من كونها ساذجة لا ترتقي لهذا الحد؛ لكني اعتقدت أنها كافية لاستعادة جأشي وثباتي، انهرت مرة ثانية، وحل بي الخوف عندما وقفت خارج الباب الذي يفصلني عن التواجد مع “صوفيا”، في هذه اللحظات كدتُ أموت من الخوف، لا أحد يخبرني شيئًا، وأنا يدور في عقلي كل التوقعات السيئة. لم أترك لأوهامي الفرصة للاستحواذ علي أفكاري، أمسكت بالمقبض وأدرته، لأطل برأسي في بطءٍ حرج نحو الداخل، انقبض قلبي وارتعش وقد رأيتها مُسجـــاة على سريرٍ طبي، يغطي قناع الأكسجين وجهها، وهناك عدة أسلاك طبية تخرج من عند صدرها، هرولت ناحيتها رغم إعيائي أناديها:
-أمــي!
التصقت بجانبها من الفراش، وأمسكت بيدها أضمها في راحتي، قبل أن ألقي نظرة حزيئة مليئة بالحسرة على وجهها الهادئ الساكن تمامًا، أردتُ احتضانها فما استطعت، سالت دموعي ألمًا عليها، وناديتها في صوتٍ شبه باكي خافت:
-“صوفيا”!
توقفتُ لهنيهة لأتماسك قليلاً، وتابعت:
-أنتِ تحبين أن أناديكي هكذا بدلًا من أمي…
ضحكت من بين عبراتي المنسابة، وأضفت:
-لئلا تبدين أكبر عمرًا.
أجهشتُ بالبكاء رغمًا عني، فرؤيتها طريحة الفراش مزقت قلبي، شعرت بيدٍ توضع على ظهري فانتفضت فزعًا، وابتعدت بمقدار خطوة عمن لامسني، وأنا متحفزة للانقضاض عليه، تفاجأت بالطبيب “مارتي” خلفي، ابتسم لي في تهذيبٍ وقال:
-ستكون بخير.
عاودت النظر إلى وجهها فرأيته أكثر شحوبًا، لهذا سألته في عصبيةٍ، وأنا ألوح بيدي:
-لماذا لم تنقل إلى المشفى؟
ضم شفتيه رافضًا منحي الجواب، فاغتظت من سكوته غير المبرر، وهاجمته بكلامي اللاذع:
-لا أعتقد أن المكان مناسبًا أو حتى كافيًا لعلاجها.
رد على مضضٍ، كأنما ينتقي كلماته بميزانٍ معين، فلا يزيد عن المسموح له:
-هذا أفضل لها في الظروف الحالية، العيادة مجهزة بكل ما تحتاجه، كما أني لم أقصر معها، وهي في تحسنٍ.
هتفت في حدةٍ وأنا أشير إليها:
-لا يبدو عليها ذلك.
-أنا…
لم يستطع إكمــال جملته التي بدأها لأني قاطعته في إصرارٍ غاضب:
-إنها أمي، ولا أريد خسارة حياتها.
استدرت فجــأة للجانب لأنظر ناحية الباب عندما ناداني صوتًا مألوفًا:
-“ريــانا”!
وجدتُ “رومير” يلج للغرفة وهو يرسم ابتسامة لطيفة على ثغره، أسرعت ناحيته لأرتمي في حضنه وأنا أناديه:
-خالي!
ضمني إلى صدره، فأرحت رأسي على كتفه، واستشعرت قدرًا من الأمان بوجوده، استكنتُ لبعض الوقت في حضنه، محاولة استعادة إحساسي بالاحتواء، ونسيان ما مررت به. سألني “رومير” في حنوٍ ودود:
-كيف حالك الآن قطعة السكر؟
كم افتقدت لتدليلي في وقتٍ كانت فيه أكبر همومي اللهو بدميتي، والسهر لقرب منتصف الليل أشاهد التلفاز. تنهدت مطولاً، وأجبته بوجهٍ عابس وأنا ابتعد قليلاً عنه لأتمكن من النظر إلى وجهه عن قرب:
-لستُ بخير، أرأيت ماذا حدث لي ولأمي؟
مــد يده ليضعها على وجنتي، داعبها في رفقٍ، وقال:
-لقد انتهى، ومضى.
ابتسمتُ للطفه معي، وزاد إحساسي بالطمأنينة وهو يؤكد لي:
-كل شيء سيكون على ما يرام.
أخذني في حضنه مرة أخرى، وظل يكرر هذه الجملة لبضعة مرات، فظننت أنها فرصة جيدة لأطلب منه الذهاب بعيدًا عن هذا المكان، والرحيل للأبد. بادرت من فوري بالكلام، وقُلت وأنا أمرغ رأسي على كتفه:
-لننقلها من هنا.
بدا صوته ثقيلاً منزعجًا وهو يخبرني:
-“ريانا”، أنتِ لا تعلمين الوضع بالخارج، هنا هي في أمان.
أبعدت رأسي عنه، ونظرت إليه بحاجبين معقودين وأنا أصر على رأيي:
-ستهلك إن ظلت بلا علاجٍ جيد.

 

 

 

 

داعب مرة ثانية طرف ذقني بإصبعيه، وقال في بسمة صغيرة:
-لا تقلقي، الطبيب “مارتي” خبيرٌ ومحنك.
حافظ على ثبات ابتسامته وهو يؤكد بثقة:
-يعرف كيفية التعامل مع حالات التعرُض للأعيرة النارية.
أطبقت على شفتي في امتعاضٍ، وتكلمت بعد لحظة بعدم اقتناعٍ:
-فهمت.
وضع “رومير” ذراعه حول كتفي، وسحبني نحو سريرها لننظر إليها عن قربٍ، ظل يثرثر في لغوٍ فارغ عن علاقته قديمًا بها، حينما كانا صغارًا، فانتهزت الفرصة مرة ثانية لأطلب منه:
-خالي، ما رأيك بعد أن تتعافى والدتي أن ابتعد بها عن هنا؟
اسودت نظراته، وأزاح ذراعه عني كنوعٍ من الاعتراض المبطن، ليرمقني بنظراتٍ غير مفهومة، قد قست إلى حدٍ ما. لم أتراجع، وواصلت الكلام بوضوحٍ أكبر:
-أريد العودة إلى “ميلانـــو”.
نهرني في حدةٍ، وقد تجمع الغضب في عينيه:
-كفى تصرفات طفولية، أنتِ فتاةٌ ناضجة، ولا تنسي مسئولياتك.
غلت الدماء في عروقي من وصفه المستفز لمطلبي، وصحتُ في غيظٍ مليء بالحنق وقد ابتعدت خطوة عنه:
-طفولية؟ هل تسمي التعرض للموت والاختطاف بأمور صبيانية؟ اعذرني خالي “رومير”، أنا وأمي من تأذينا، وأنت تقف أمامي بخير.
ضحك في سخريةٍ قبل أن يعلق بما بدا سخيفًا لي:
-كنتُ محظوظًا بعض الشيء.
اهتاجت نفسي من استهانته بالأمر، لذا وبخته في غير احترازٍ:
-لا أظن أني أمزح لتضحك باستخفاف!
قست تعابيره، فأكملت على نفس المنوال الحانق:
-أم أنك متورط في الاختراق الذي حدث؟
انتفض عرق في جبينه، وساد به توترٍ عجيب، حتى أنه حدجني بنظرة غريبة غامضة، ثم صاح محذرًا وهو يرفع سبابته أمام وجهي:
-انتبهي لما ينطق به لسانك!
أدركتُ أني أصبتُ هدفًا ما، فتابعت قائلة بشجاعةٍ غريبة:
-لقد سمعت “ريمون” يردد ذلك…
على ذكر اسم هذا الروســي تلبك “رومير” كثيرًا، وأصابه المزيد من الارتبـــاك، لدرجة تجعل الشكوك تُثار على الفور. أضفت قائلة لمجرد استثارة غيظه:
-ويبدو أنه محق.
لم أعلم أني نجحت في إخراجه عن شعوره بطيش كلامي فاندفع ناحيتي ليطبق على عنقي بكفه، خنقني منه، فشهقت وأنا أسعل، احتوت نظراته الموجهة إلى عمق عيني على شرٍ شديد وهو يدمدم مُهددًا من بين أسنانه:
-احذري يا صغيرة، ولا تدعِ أحد يسمع ذلك، وإلا قتلتك!
حط على رأسي كل الذهول، فحملقت فيه بحدقتين متسعتين، تفاجــأت من نواياه الخبيثة، ونجحت في تخليص نفسي من قبضته، لأسعل بضعة مراتٍ قبل أن ألومه في صدمةٍ كبيرة:
-لماذا؟ هل أنت فعلت هذا حقًا؟
لم ينكر الأمر، وأكد عليه في هسيسٍ شبه منفعل:
-إنها مصالح عُليا، لا تعلمين عنها شيئًا.
صحتُ غاضبة من تهوره الأرعن الذي كان يودي بحياتي وحياة أمي:
-أي مصالح تلك التي تضحي فيها بشقيقتك وابنتها؟
زجرني بازدراءٍ صريح:
-أتظنين أنك مهمة ليكترث أي أحد بأمرك؟
تجهمت كامل قسمات وجهي، فأكمل بحقدٍ وهو يشير بإصبعه نحوي:
-إنكِ نكرة، لا شيء، وأمك التافهة لا أحد يعبأ بها.
أدمعت عيناي تأثرًا للحقيقة المُرة، إنه بالفعل فرط في كلينا، وضعنا في المواجهة من أجل أهوائه، حدجني بالمزيد من النظرات الحقودة وهو يتابع بتباهٍ:
-فقط احتجت لوسيلة إلهاء لأتمكن من إيقاع “مكسيم” ورَجليه، وكنتِ أنتِ الطعم المناسب لإتمام الأمر، كادت الساحة تخلو لي؛ لكن الروس الأغبيـــاء أفسدوا الأمر برمته!
كفكفت دمعي المنساب، وسألته من جديد وصدري ينهج:
-إذًا أنت من قُمت بالخيانة؟
أومأ برأسه مرددًا بعنادٍ خطير:
-نعم، ولن أكف طالما آ…
ابتلع باقي كلامه في جوفه عندما فُتح الباب على مصراعيه ليظهر “فيجو” عند عتبته، تجمدت في مكاني، وقلبت نظراتي الدامعة بينه وبين خالي، أيعقل أن يكون قد سمع ما دار بيننا من حوارٍ؟ لو عرف ذلك فالنهاية كارثية بكل الطرق! عاودت النظر نحو “رومير”، لأجد وجهه قد صار شاحبًا، حتى أنه فاق شحوب والدتي. حاول أن يبدو هادئًا، متزنًا، وسعى للتغطية على ما فــاه به قبل ثوانٍ لينطق في مرحٍ زائف:
-لقد وصلت في الوقت المناسب، كنت أحدث “ريانا” عن شجاعتك في استعادتها من أيادي هؤلاء الفتاكين.
تفاجأت بحقيقة أخرى لم أكن أعلم عنها شيئًا، لآخر لحظة توهمت أن “رومير” كما دبر أمر اختطافي، تولى مسألة إعادتي؛ لكن أن يكون “فيجو” هو المسئول عن ذلك، بدا غريبًا ومُحيرًا في نفس الآن، خاصة لعدم علم أحدهم بمكان احتجازي، أو ربما لمحدودية تفكيري لم أتفقه بعد لكيفية بلوغي، تركت ما يُحيرني جانبًا، وتابعت بترقب ما قد يحدث من مواجهة مخيفة.
تقدم “فيجو” بخطى ثابتة، وعيناه مرتكزة على خالي، لا تحيدا عنه، لم يلقِ التحية، ولم ينطق بشيء، رأيتُ خالي يرتد خطوة للخلف كأنما يخشـــاه، ويقول في نفس الصوت المرح، كأنه لم يعترف بخيانته مُطلقًا:
-على الجميع أن يحذر غضبك “فيجو”، أنت لا ترحم، و…

 

 

 

 

انفلتت مني صرخة غادرة عندما رأيت “فيجو” يستل في خفة خنجره من حامل أسلحته الملاصق دومًا لصدره، ليمرر نصله في لمح البصر على جلد عنق خالي قاصدًا نحـــره، صرخت قائلة لمرة ثانية وقد تفجرت الدماء من رقبته:
-يا إلهي!
انحشرت أنفاس “رومير”، وتقطعت، كما جحظت عيناه على اتساعهما في رعبٍ حقيقي، وضع يده على موضع الجرح العميق، محاولاً في عجزٍ يائس إيقاف نزَّ الدماء النازفة؛ لكنه لم يقدر، غرقت يده، وثيابه، وبدا وشيكًا من الموت. دنا منه “فيجو” أمسك به من كتفه ليثبته، وقـــال وهو يطعنه طعنة مباشرة في قلبه:
-لا مكـان لخائنٍ بيننا …………………………………………… !!!

يتبع

اترك رد

error: Content is protected !!