روايات

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الرابع والأربعون 44 بقلم مريم محمد غريب

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الرابع والأربعون 44 بقلم مريم محمد غريب

رواية وقبل أن تبصر عيناك البارت الرابع والأربعون

رواية وقبل أن تبصر عيناك الجزء الرابع والأربعون

وقبل أن تبصر عيناك
وقبل أن تبصر عيناك

رواية وقبل أن تبصر عيناك الحلقة الرابعة والأربعون

_ أتوسل إليكِ ! _
قبل بضعة ساعات …
ميزان النهار يميل في زحفٍ متلاحق صوب المغيب، رغم هذا كان نشاطها على أشدّه، و هي تقف وسط مكانها المفضل بالمنزل كله.. في الواقع إنه مكانها المفضل في العالم _ إعتبارًا بأنها محددة الإقامة _ لا تعرف أيّ مكان أجمل منه
روضتها الخلّابة، حديقة الدوّار التي استأثرت بها منذ نعومة أظافرها، عندما كانت موحشة و بقايا أطلال، على مدار سنوات صباها و مراهقتها حوّلتها بأصابعها السحرية إلى جنّة ملؤها الخضرة و الزهور النضرة على مختلف أشكالها، و شذى الرياحين و الياسمين تعبّق الأجواء أينما حللت و ذهبت
كعهدها كانت تراعي صنع يديها و تسقي البتلات الورود الجديدة التي بعثت في طلبها فجاءت إليها صباح اليوم التالي بموجب أوامر “النشار”… أبيها الروحي !
كانت ملكته المتوّجة و به٠ة منزله، و لا زالت “نور”.. هي النور الذي يضيئ عتمة حياته المظلمة من أولها لآخرها.. هي فقط، الشيء النظيف الطاهر بحياته، و لا يعلم كيف بامكانه أن يتنازل عنها بتلك البساطة
لطالما عرف بأن هذا اليوم آتِ.. لكنه عندما حلّ وجد نفسه عاجزًا… مرتعبًا من فكرة رحيلها.. كيف يمكن أن يعطيها بعد أن سارت كل شيء له و لم يصفى غيره و غيرها بهذا البيت ؟ كيف ؟!
-صباح الورد يا ورد !
أشرقت “نور” لدى تغلغل صوت “النشار” بأذنيها، إستدارت و هي لا تزال ممسكة بالمسقاة الصغيرة، تطلعت إليه عبر خصيلات شعرها المموّجة على عينيها تغطي نصف وجهها تقريبًا …
-بابا ! .. نطقت الكلمة الأكثر قربًا لقلبه
ممّا شق عليه مهمته كثيرًا، لكنه قاوم هذه المشاعر شديدة الوطأة كلها و حافظ على ابتسامته العذبة و هو يرد عليها :
-روح بابا و قلبه. شمسي و قمري.. ماشوفتكيش إنهاردة خالص
قلبت “نور” عينيها مؤنبة :
-و لا إمبارح.. بس مش بسببي. إنت إللي شكلك مشغول عني !
تلاشت ابتسامته و هو يقترب منها خجوة ليضع كفه على وجهها، ثم يقول بجدية محافظًا على نبرة اللطف في صوته :
-أنا مافيش حاجة في الدنيا إللي خلقها ربنا دي تشغلني عنك. و لا يومي و حياتي كلها ليها طعم منغيرك.. إنتي حتة من قلبي يا نور …
إبتسمت و لامست براحتها الطريّة ظاهر يده على وجهها، ثم قالت برقة :
-أنا عارفة.. ربنا يخليك ليا يا بابا
تنفس بعمقٍ مغمضًا عينيه، ليتكلم ببطءٍ بعد لحظة :
-حتى و أنا مشغول عنك زي ما بتقولي. الحقيقة.. كنت مشغول بيكي بردو !
-مش فاهمة !! .. تمتمت بغرابةٍ
نظر إليه مرةً أخرى و تحدّى شعور المرارة قائلًا بثبات :
-نور.. أبوكي سالم كلمني إمبارح… في خبر لازم تعرفيه !
-أوكي.. قول يا بابا !
تنحنح مستطردًا بطريقة مباشرة :
-أخوكي رزق. بقى عنده علم بيكي.. خلاص أبوكي قاله إنك هنا عندي. و هو زمانه في الطريق جاي عشان يشوفك
و كان ينتظر و يراقب ردة فعلها و اضطرابها متوجسًا …
في المقابل أعوزها الأمر ثوانٍ لتستوعب ما قاله أبيها الروحي للتو، و لما اقتربت من ذلك، شعرت فجأة بالدم يندفع إلى وجهها، و على النحو أخرق إنفجرت ضاحكة و باكية في آنٍ بينما جسمها كله يرتعش بشدة :
-لأ.. لأ بجد. أنا مش مصدقة يعني.. يعني أخويا رزق عرفني خلاص ؟ و كمان جاي هنا ؟ بجد يا بابا بجد ؟؟؟؟
اومأ لها بابتسامة مهمومة و قال :
-أيوة يا نور بجد.. فرحتي صح ؟
جاوبته بلا تفكيرٍ :
-طبعًا. ده اليوم إللي عشت أستناه.. أنا عمري هايبدأ في اللحظة إللي هاشوفه فيها. و إنت عارف يا بابا
-أيوة عارف.. بس إنتي عارفة ده معناه إيه ؟ ممكن أخوكي يعوز ياخدك من هنا.. إنتي هاتوافقي تمشي معاه يا نور ؟!!
نظرت له ببلاهةٍ الآن و كأن شأنًا كهذا لم يخطر على بالها، أو أنها لم تضع مسألة فراقها القطعي له في الحسبان، كل ما كان يهمها و حتى هذه اللحظة هي حياتها
حياتها الحقيقية و يوم ميلادها الحق، ستكون باللحظة التي تبصر فيها وجه أخوها و تلمسه بيديها، ثم.. فارس الأحلام الذي تنتظره و لطالما تخيّلت نفسها معه كأميرة من أميرات الرسوم المتحركة التي قضت أحلامها مهووسة و متأثرة بكل قصة من قصصهن.. قصصهن اللاتي في الواقع أشبه إلى قصتها
فتاة جميلة مثلها، يتيمة تقريبًا، طيبة القلب، عطوفة على البشر و الحيوانات و الزرع و النباتات.. حتى الجماد
إن الطبيعية نفسها تحب “نور”.. و “نور” تحب الجميع… و الآن تريد أن تحب نفسها و لو لمرة !!!
-بابا ! .. دمدت و هي تمسك بيده بكلتا قبضتيها الصغيرتان
رمقته بتوسلٍ قائلة :
-أنا مش عايزاك تزعل مني. و أكيد أنا مش هاسيبك.. مستحيل أصلًا. بس بردو آ ا …
-خلاص يا نور ! .. قاطعها “النشار” بصوتٍ أجش
أزال قطرة من الدموع علقت بأهدابه على غفلةٍ منها، عبس قليلًا و هو يقول بهدوء :
-أنا كنت عارف إن اليوم ده جاي.. سامحيني يابنتي.. مش قصدي أكسر فرحتك. لكن.. مش بإيدي. إنتي بنتي بجد. أنا إللي ربيتك و كبرتك.. و من يوم ما أمك نشوى ما قابلت رب كريم. مابقاش ليا غيرك في البيت.. أنا لولاكي مابقاش قاعد في الدوّار ده إلا على النوم. ماطيقش أقعد وحداني يا نور
امتلأت عيناها الردماديتان بالدموع و تمزق صوتها و هي تقول بفمٍ ممطوط كالأطفال :
-طيب على فكرة بقى إنت كده هاتخليني مش هامشي في حتة. و لو حد شالني من إيدي و رجلي بردو مش ماشية.. مش هاسيبك يا بابا !!
إبتسم “النشار” متوقعًا منها أن تبتسم مثله، لكنها بقيت كما هي، ليقول بمرونة أكثر :
-لأ يا قلب أبوكي. أنا لا يمكن أبني سعادتي على تعاستك.. إنتي و حتى لو كنتي عايشة هنا ملكة و مش ناقصك حاجة. هاتفضلي محتاجة تعيشي حياتك.. و إنتي هنا كنتي أمانة معايا. أول ما أسلمك لأخوكي هاتبقي أمانته. بس أكيد هاتشوفي الدنيا بشكل تاني.. هاتفرحي و تزعلي و تحبي !
-أحب ! .. رددت الكلمة من بعده و كأن وقعها صار غريبًا عليها عندما قاستها على نفسها
ليؤكد لها الأخير :
-آه طبعًا تحبي.. أومال علي ده إيه ؟ مانتي عارفة إنك على اسمه. و لا هو مش عاجبك ؟!
أحست بوجنتيها تتوّردان، فخبأت وجهها في صدره كما تفعل عادةً و غمغمت بالحقيقة :
-لأ. عاجبني.. بس لسا مش متأكدة أنا هكون إيه بالنسبة له !
قهقه “النشار” ضاحكًا و رد بثقةٍ و هو يشدد ذراعيه حولها :
-هاتكوني إيه !
هو يطول أصلًا بنت جميلة زيك تبصله.. ده مش هايصدق نفسه. و ممكن يموت من الفرحة !!
و طفقت “نور” تشاركه الضحك بمرحٍ كبير …
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
الآن …
شعر و كأن قلبه قد توقف عن الخفقان في تلك اللحظة، ليعود و يستعيد ضرباته بسرعةٍ جنونية.. كافح بضرواة ليتخلّص من الدوّار القابض على رأسه
و لما تأكد بأنه صار مسيطرًا على أعصابه من جديد، رفع يداه و طوقها معانقًا إياها بدوره …
-نور ! .. جرب إسمها بصوت يطفح بالعاطفة
بعد بضعة دقائق
ها هما يجلسان جنبًا إلى جنب، لا يفه أحدهما بكلمة، فقط ينظران إلى بعضهما بعد تصديق، و “رزق”.. كان و كأنه يعب من ملامحها عبًا… يحفظ على إنش من ملامحها التي هي في الحقيقة ملامح أمه
رغم أن دماء أبيه تسري بوضوح في وجهها و يستكيع أن يراه هو أيضًا فيها، لكن هذا لم يزعجه.. لا شيء في هذه اللحظة بقادرٍ على إزعاجه
أخيرًا غزت الابتسامة محياه الحزين لأول مرة منذ رآها، لترد عليه بالمثل، بينما يمد يده نحو وجهها ليداعب خدها بأنامله متمتمًا :
-مش عارف عقلي كان فين ؟ و إزاي كنت هقدر أسيبك و أمشي علطول.. الحمدلله إني فشلت !
عبست غير مدركة قصده
ليبتسم أكثر حتى بانت أسنانه الناصعة، و يقول بلطفٍ :
-ماتشغليش بالك.. ماتفكريش خالص في أي حاجة… المهم إني لاقيتك و إننا مع بعض دلوقتي !
و شعر بتجمع الدموع بمآقيه، لكنه تماسك جيدًا و أطلق تنهيدة حماسية قائلًا :
-بصي بقى. مش عاوزين نضيع وقت.. لو جاهزة إيه رأيك نمشي دلوقتي حالًا ؟
تهللت أساريرها و هي تقول :
-آه طبعًا.. هانروح عند بابا صح ؟ في بيتنا التاني !
إختفت الابتسامة من وجهه في هذه اللحظة، و قال بعد برهة صمت بلهجةٍ جافة :
-لأ يا نور.. مش هانروح لبابا
تفاجأت …
-ليه ؟ طيب هانروح فين يعني ؟!
-هانروح إسكندرية. هانعيش في بيت ماما.. بيت جدنا الباشا توفيق الباري
-و علي هايجي يعيش معنا ؟
-علي ؟! .. علّق “رزق” مستغربًا
-قصدك علي إبن عمنا ؟ و إنتي تعرفي علي منين يا نور ؟؟
أجابت مبتسمة : بابا سالم لما كان بيجي يزورني. من و أنا صغيرة كان بيجبلي صور العيلة كلها.. و دايمًا كان بيقولي إنه هاياخدني من هنا لما أكبر. أنا فضلت هنا كل ده عشانك إنت
-عشاني أنا !!! .. هتف باستنكار
فأكدت قائلة : أيوة عشانك.. بابا سالم قال إنك ماستحملتش خبر موت ماما فجأة. و حالتك النفسية ماكانتش كويسة. و إن وجودي في حياتك كان هايفكرك بيها و إنك كنت ممكن تتعب أكتر. عشان كده سابني هنا. و وعدني لما أكبر هايقولك إني موجودة. و هانرجع نعيش سوا كلنا !
محدقًا في عينيه بقوة، شعر بكل إجابة تلقيها عليه و كأنها صفعة عنيفة، لدرجة أن وجهه أحمرّ بالفعل و قد أخذت أسنانه تصطك من الغضب …
لولا أنه شعر بأنها بدأت تخافه، أجبر نفسه على الهدوء و قال بصوتٍ طبيعي :
-بصي يا نور.. في حاجات كتير إنتي ماتعرفيهاش. و أنا.. أنا مش هاخبي عنك أي حاجة. بس مش لازم أصارحك بالحقيقة كلها دلوقتي.. أنا دلوقتي مش عاوز غير أخدك من هنا و أعوضك عن السنين دي كلها إللي عشتيها بعيدة عني
قالت متمسكة بكلمتها :
-و علي هايجي معانا كمان !
-إيه حكاية علي معاكي مش فاهم !!! .. صاح منفعلًا
لكنها لم تتوتر هذه المرة، بل أجابته بتلقائية :
-أنا مكتوبة على إسمه.. إنت ناسي ؟ زي ما مصطفى إتجوز فاطمة.. و زيك إنت و ليلة !
إستغرق “رزق” لحظة طويلة ليفهم أن “نور” كانت تقصد تلك الشرائع التي وضعها أجدادهم، و بالأخص ذلك القانون الإجباري اللعين …
-محدش يقدر يجبرك على حاجة ! .. غمغم “رزق” بحشرجةٍ ضارية
-أنا و انتي هانمشي أصلًا زي ما قولتلك.. هانعيش لوحدنا. أنا هاحميكي و محدش هايقدر يطولك و لا يمس منك شعرة طول ما أنا عايش …
لكن “نور” إعترفت ببراءة هادئة :
-بس أنا عايزة أتجوز علي.. زي ما كنت مستنياك كنت مستنياه هو كمان !!
إلتزم “رزق” الصمت مطوّلًا و قد أذهلته كلمات شقيقته
متجاوزًا الموقف، قام بردة فعل غير متوقعة …
-طيب قومي معايا يا نور ! .. هتف و هو يقوم واقفًا و يمسكها بذراعها معه
-قومي نمشي و نبقى نشوف الموضوع ده بعدين …
-أنا مش هامشي غير لما يجي علي !!! .. صاحت به الآن و قد أبدت عدائية مفاجئة
كانت قد نزعت ذراعها من قبضته و وقفت قبالته متحدّية …
بقى “رزق” يرمقها مصدومًا، ضم حاجبيه بشدة و غمغم متوسلًا :
-إنتي بتعملي كده ليه ؟ أنا عاذرك آه. عارف إن ظروف حياتك كانت صعبة و إنك لسا مش مستوعبة أي حاجة.. لكن حكاية علي دي مالكيش ليها أي مبرر.. إنتي أصلًا عمرك ما شوفتيه. كل علاقتك بيه و بينا مجرد صور !!!!
أصابته بسهم الحجة غير المتوقع بالمرة و هي ترد بعنادٍ :
-لأ شوفته مرة.. شوفته و إتكلمت معاه و قضينا وقت طويل سوا كمان !
صدمة أخرى صعقته بقساوة شديدة هذه المرة …
-شوفتيه إزاي يعني ؟!! .. بالكاد تمتم و قد عاد النبض الثابت المتمثل في الصداع يضرب بشرايين دماغه
عقدت “نور” ذراعيها مجيبة ببساطة :
-من سنتين.. في عيد ميلادي الـ17. طلبت من بابا سالم أنزل السوق في القاهرة عشان أغير دولابي و أشتري هدوم جديدة و حاجات تانية كتير.. ف بعتلي علي. أخدني و نزلنا سوا.. قضينا بحاله سوا
إزدرد ريقه بصعوبة، ليسألها خيفةٍ :
-و.. هو. كان عارف إنتي مين ؟
فهمت “نور” ما عناه جيدًا، و جاوبته :
-لأ. مايعرفش لسا إني بنت سالم الجزار. و لا إني أختك.. كل إللي يعرفه إني بنت إبراهيم حمزة الجزار… بنت النشار !
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية وقبل أن تبصر عيناك)

اترك رد

error: Content is protected !!