روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الثاني 2 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الثاني 2 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت الثاني

رواية غير قابل للحب الجزء الثاني

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الثانية

تنفستُ بعمقٍ لأثبط من تلك الدماء المستثارة التي غزت عروقي، لا أعرف السبب الذي دفعني للشعور بالرهبة رغم حنقي، ولكن طريقة هؤلاء الغرباء بثت في نفسي الرعب؛ وإن كنت أحاول التماسك. أليس من المفترض أن يكون هذا عرسًا؟ لماذا إذًا أجد أنا –تحديدًا- تلك النوعية من المضايقات السخيفة؟ حولت الأمر تلقائيًا لشعور منزعج على أن يكون إحساسًا بالخوف، حاولت نفض ما يعتريني حاليًا من ضيقٍ وخوف قبل أن أتابع سيري للداخل. لن أنكر أني احتجت لبعض الوقت لأصل لوجهتي دون مساعدة، بالطبع فأنا لا أملك كتيب إرشادات لأعرف الطريق للمكان المقام به الحفل داخل ذلك القصر الكبير.
تتبعت صوت الصخب المرتفع للوصول إلى منطقة الحدائق، وهناك تم إعادة تنسيقهم بتصميم راقٍ محولاً بقعة كبيرة لما يشبه تقسيم الكنيسة بالداخل، من حيث طريقة صف مقاعد الضيوف، والممر الفاصل بينهم لتتمكن العروس من السير عليه، حتى تصل في النهاية للمذبح المصنوع من الأقمشة، ليقوم القس بتلاوة عهود الزواج على العروسين .. أما البقعة الأخرى فاحتوت على طاولات مزينة بالشراشف البيضاء، التصقت ببعضها البعض كحرف U ، لتتيح الفرصة لجميع الحضور من رؤية بعضهم البعض دون عناء، فيما عدا بضعة طاولات احتلت الواجهة، والتي تم تخصيصها للعروسين وعائلتيهما وكبار القادة والزعماء.
اشرأبيتُ بعنقي حين وصلت لمنطقة المقاعد، متجولة بنظرات حائرة على الرؤوس الظاهرة من أعلاها، حاولت البحث عن والدتي بين الحضور، لم أحدد مكانها بعد، ولا أعلم في أي صفٍ استقرت، لكن الأكيد أنها ستكون بالمقدمة، لكونها شقيقة زعيم المنظمة الحالي. رجفة موترة تفشت في جسدي بقوةٍ، ولا أظنُ أني كنت قادرة على إخفائها، عندما سمعت هسيسًا ذكوريًا في أذني يقول:
-مرحبًا بقاتلة “ماركوس”.
التفتُ على الفور لجانبي لأجد ذلك الحقير -والذي استفزني قبل دقائق بإشارته المهددة لي- يكاد يلتصق بي. انتفضت مبتعدة عنه، وابتسامته المخيفة ما زالت مرسومة على فمه؛ وكأنه حقًا يقصد ترهيبي. تراجعت بحذرٍ للخلف، دون أن أبعد نظراتي المرتاعة عنه، ظل يبتسم لي بخبث شيطاني. لم أسترح لنظراته الجريئة الدائرة على مفاتني المخفية، متفحصًا بوقاحة فظة مدى جودتها خلف القماش الحريري. شهقة خافتة انفلتت من بين شفتي، حين ارتطمت بصدرٍ قوي استوقفني فجــأة، استدرت كالملسوعة -وفي ربكة متوترة- للجانب الآخر، لأجد المدعو “فيجو” يرمقني بنظرة خاوية من أي مشاعر. جف حلقي تمامًا، أنا الآن محاصرة بين اثنين مرعبين، شعرت بمدى تعاظم الخوف بداخلي، وتضاءل أي إحساس بالغضب قد استبد بي قبل قليل أمام قساوة النظرات المسلطة على شخصي. تركزت عيناي على “فيجو” حين استطرد بهدوءٍ قاتل يحذر الحقير الآخر:
-“لوكاس”! لا تُخيف ضيفتنا.
رد عليه الأخير ببرود أصابني بالقشعريرة:
-أنا أتسلى فقط مع قاتلة أبي..
أدرت رأسي في اتجاهه، والحيرة تسيطر على عقلي المشوش، عن أي قاتل يتحدث؟ أنا لم أقدم مطلقًا على الإساءة لأحدهم؟ إذًا لماذا يتهمني بقتل أبيه؟ اتسعت حدقتاي في خوفٍ أكبر وقد تابع باقي حديثه الموجه لي، بكلمات ذات دلالات موحية:
-لم أفعل ما يسيء .. بعد.
أنذره “فيجو” مجددًا بلهجته الصارمة:
-لا تدعني أكرر كلامي مرتين!
تأهب في وقفته ليهتف محتجًا بنوعٍ من التحدي، وقد قست نظراته:
-وماذا ستفعل “فيجو”؟ هيا، أرني!
من نظراتي السريعة الموزعة على كليهما، تبينت مدى التشابه بين الاثنين؛ في ملامح الوجه، في لون العينين الداكن، في بشرتهما البرونزية، في اشتراكهما في الطول الفاره، وأيضًا في الجسد الرياضي المتخم بالعضلات الغليظة، ناهيك عن الوحشية التي تنطلق من تعابير وجهيهما، الفارق الملاحظ بينهما في استطالة المدعو “لوكاس” لشعره، إذًا من الأكيد وجود صلة قرابة تجمعهما! احتدم الجدال بينهما، وأنا محاصرة كالفأر المذعور في المنتصف. حسنًا لا مجال لإظهار الضعف في عالمٍ يعج بالقتلة ومعتادي الإجرام، لذا حاولت استجماع شجاعة هاربة لأرد، وأنا أشير بسبابتي في وجهي كليهما:
-إن لم تكُفا عن إزعاجي فسأشكوكما لخالي، وحتمًا لن يعجبكما رده.
أطلق “لوكاس” ضحكة عالية هازئة بي؛ وكأن تهديدي السخيف لم يهز شعرة في رأسه. بدا مستمتعًا بالأمر، ومتحفزًا بشكلٍ أجفل بدني. ازداد خوفي، وشعرت ببرودة قارصة تسري في عروقي، عندما نطق بصوت قادم من أعماق الجحيم، وهو يتقدم نحوي، ليقلص المسافات بيننا:
-ليأتي، وسأحرص على نحر عنقه قبل أن يدرك كيف تم ذلك.
برزت عيناي في فزعٍ حقيقي، وما عزز هذا الشعور المميت بداخلي بقوة مجيء خالي في تلك اللحظة، وهو يهتف مرحبًا بي، بودٍ يناقض ما يسود الآن:
-أنتِ هنا قطعة السكر؟
غلف دوار موتر رأسي، ظننت أني سأفقد الوعي من تخيلي لقتله في التو، على يد ذلك الحقير تنفيذًا لتهديده الجريء. ما منع حدوث ذلك احتضان “رومير” لي، بالكاد استطعت التنفس بانتظامٍ، مع ما اختبره الآن من تهديدات علنية بسفك الدماء. لف ذراع خالي خصري، ودعم ذلك ثبات قدماي على الأرض التي اهتزت من أسفلي، شعرت بتقلصاتٍ عنيفة تصيب معدتي وهو يسألني مباشرة:
-أرى أنكِ تقابلت مع قطبي عائلة “سانتوس”..
هربت الدماء من وجهي، وأُجزم أن بشرتي قد باتت شاحبة في أعين المحدقين بي، لم أجد ما أنطق به، على الأغلب فرت الكلمات من طرف لساني، يا ليتني أهرب مثلها! تابع “رومير” حديثه متسائلاً في اهتمام:
-كيف الحال يا شباب؟
غمزة متسلية بالكاد رأيتها من “لوكاس” وهو يرد:
-كنا نتحدث عنك سيد “رومير”.
تجمدت عيناي تلقائيًا على وجهه القاتل، ورأيت تلك الابتسامة المستفزة تغزو تعابيره، أبعدت نظراتي المرتاعة لأركزها على وجه خالي الذي تساءل في فضولٍ:
-حقًا؟ عن أي شيء؟
لم أرغب في سماع الحقائق الصادمة أو حتى الأكاذيب المنافقة، اعتذرت لأتحجج بصوتٍ متذبذب:
-معذرة خالي، أين تجلس أمي؟
أشــار بيده نحو الجانب الأيمن من الحديقة وهو يجيبني:
-إنها بالأمام بجوار آ….
قاطعته بتلعثمٍ، وأنا انسحب من ذراعه المطوق لي، لأفر من الحصار المُطبق على أنفاسي، وبالكاد يبقيني واعية:
-شكرًا، سأجدها بنفسي.
جاهدت لأبدو هادئة خلال سيري، على الأقل لأخفي ما أشعر به من مشاعر خائفة؛ لكني أشك في هذا، كانت خطواتي أقرب للركض بمجرد ابتعادي مسافة مترين عن ثلاثتهم، وبالطبع سيلاحظون فراري البائس المليء بمشاعر الجُبن، كفرار الحمل الوديع من بين براثن الذئاب المتعطشة للدماء.

 

 

………………………………………….
خبا شعوري بالخوف تدريجيًا خلال طقوس الزفاف، ركزت كامل انتباهي على العروسين، وعلى القس الذي بدأ في تلاوة عهود الزواج، محاولة بجهدٍ كبير تشتيت تفكيري عن كلمات “لوكاس” التي ما زالت ترن في أذني. نظرات خاطفة حاولت البحث بها عن كليهما، ولم ألمحهما بين الحضور، تنفست الصعداء، وبدأ الارتياح يسري في عروقي. عُدت للتحديق بالعروس، وحين أمعنت النظر بتفاصيلها الجميلة، لاحظت كم هي شاحبة! ربما متوترة إن دق التعبير، ابتسامتها لبقة منمقة للغاية؛ وكأنها مضطرة على ذلك. عرفتُ من والدتي أنها بلغت الثامنة عشر قبل بضعة أسابيع، وذكرني عمرها الصغير بشقيقتي “آن”، بالإضافة أيضًا أنها لم تكن الزوجة الأولى له.
انزعجت من فكرة إجبار فتاة -في مقتبل العمر- مشاعرها لم تنضج بعد، على الارتباط للأبد بشخصٍ لا تعرفه. البديهي والمعروف للجميع حدوث مثل تلك الزيجات من أجل مصالح عائلية عُليا، ولا يهم إن كان يتم الزج بالفتيات في الجحيم، فالعائلة فوق الرغبات الشخصية. ماذا إن كان سيئًا في تعامله معها؟ ماذا عن طباعه الشخصية؟ تلقائيًا حدقت في وجه العريس، ورأيت الفارق العمري واضحًا، كان يكبرها بحوالي عشرين عامًا على الأقل، وقد يزيد. تجهمت تعبيرات وجهي في نفورٍ صريح، لذا أجبرت نفسي على عدم النظر إليه لنمو مشاعر الحنق بداخلي. توقفت عن استغراقي في تفكيري المهموم لالتفت نحو والدتي عندما تنهدت هاتفة بنبرة ناعمة:
-أوه! كم هي رائعة!
سألتها ببلاهة:
-من تقصدين أمي؟
أدارت رأسها في اتجاهي، ورمقتني بنظرة معاتبة، قبل أن تجيب:
-“ريانا”! يبدو عقلك شاردًا، انظري للعروس الخجول!
بالكاد التفت وزوجها يختطف قبلة إجبارية مطولة من على شفتيها، وسط تهليلات الحضور لاستمرار قبلته العميقة، الوقح! يتعمد إظهار سيطرته عليها علنًا لإخضاعها. ما لاحظته حقًا أن العروس بدت مستاءة من جراءته العلنية، عن كونها مبتهجة. أشاحت بعيني بعيدًا عن المشهد الرومانسي المبتذل، وأنا أشعر بالغثيان يضرب معدتي مرة أخرى. تنبهت مجددًا لصوت الهمهمات العالية المصحوب بنهوض المدعوين من على مقاعدهم، تطلعت إلى “صوفيا” فرأيتها تنهض وهي تعيد ترتيب وشاحها حول عنقها، حثتني على التحرك قائلة:
-هيا قطعة السكر، سيبدأ الحفل الآن.
بتثاقل وكدر رفعت جسدي عن المقعد لأسير بجوارها، رأيت نظرات الترحيب في أعين كل من مر بجوارنا، على ما يبدو كان الأغلب ودودين معنا، أو ربما ذلك نوع من التقدير اللبق احترامًا لمكانتنا، فهي شقيقة زعيم المنظمة، وأنا ابنتها الكبرى. انتقلنا للجانب الآخر من الحديقة؛ حيث تتواجد طاولات الطعام، كنت على وشك نسيان ما مررت به اليوم، لولا رؤيتي للحقير “لوكاس” والمخيف “فيجو” يحتلان الطاولة الموضوعة في الصدارة، إن دق الوصف طاولة العروسين. تبدلت ملامحي المرتخية للوجوم المتوتر مجددًا، انفلتت من بين شفتي سبّة خافتة:
-اللعنة! إنهما هنا!
كدت أترك مخاوفي تظهر على السطح، وتحتل قسماتي؛ لكن رؤية خالي يتجول بخيلاءٍ وثقة في الوسط أعادت إلي إحساسي المسلوب بالأمان. تنفست الصعداء، وهبط صوت دقات قلبي العنيفة. لم ينظرا نحوي مطلقًا، كانا مشغولان بالحديث مع بعض الأفراد، لذا الاحتمال الأكبر أنهما لم يلمحاني، وأردت الإبقاء على ذلك طوال المدة المتبقية للحفل. أشـارت لي والدتي لأتبعها، ولم أحاول النظر في اتجاههما، وبسخافة ساذجة رفعت حقيبة يدي الضئيلة، والصقتها بجانب وجهي خلال مروري بالقرب منهما، على أمل أن أكون غير مرئية لهما. سرت بخطوات شبه متعجلة للطرف الأقصى من الطاولات، شعرتُ بمزيدٍ من الارتياح يتخللني وأنا أجلس في منأى عنهما. وعلى عكس معظم الفتيات اللاتي احتللن الصدارة، ليظهرن جمالهن المغري للشباب المفعم بالذكورة والقوة، انزويت في هذا المقعد المميز، والذي حجب الأنظار المتلصصة عني؛ كنت أريد الاختباء بالفعل، وكم تمنيت حدوث ذلك!
………………………………………………………..
كان من سمات ذلك القصر العظيم، إطلالته الفريدة على واحدٍ من أشهر الخلجان بالمدينة، استقرت عيناي على منظر الخليج الرائع، وددت لو استطعت خلع حذائي، والتسلل خلسة من هنا لأدس قدماي في الرمال الدافئة. انتشلتني والدتي من سرحاني الممتع وهي تسألني:
-“ريانا”! هل تصغين إليّ؟
رمشت بعيني متسائلة بوجه يكسوه علامات الجدية:
-ما الأمر والدتي؟
رأيتها وهي تنهض من مقعدها لتقول:
-سأذهب للحمام لأضبط زينتي، ألن تأتين معي؟
علقت نافية وأنا أهز رأسي:
-لا.. أنا بخير.
ابتسمت قائلة بلطفٍ، وابتسامتها المشرقة تنير وجهها اللامع:
-حسنًا، لن أتأخر.
قلت بابتسامة عادية:
-خذي كل ما تحتاجين من وقت “صوفيا”.
عدت لأحدق بزرقة الخليج البراقة بنظراتٍ أكثر عمقًا؛ وكأن التحديق به يفصلني عمن حولي، انتبهت لأحد الندلاء يفرغ في الكأس الفارغ قبالتي نوعًا غاليًا من الشمبانيا، أشرت له بيدي ليكف عن ملء الكأس، واعتذرت منه بلباقةٍ:
-شكرًا.. لا أريد المزيد
ولكنه أصر عليّ:
-إنها هدية من السيد …
وأدار رأسه في اتجاه أحدهم، تتبعت نظراته لأجد “فيجو” محدقًا بي بنظارته القاتمة من طاولته البعيدة عني، أصبتُ بالذهول، لقد حدد مكاني رغم صعوبة إيجادي وسط ذلك الزحام. لن أنكر أني شعرت بنفس الرجفة المرعبة تغزو جسدي بقوة، أخبرت نفسي بضرورة إخفاء أي أمارة تدل على خوفي، وباستبسالٍ يناقض الرعب المسيطر علي، أمسكت بالكأس ورفعته عاليًا بعد أن صرفت النادل، ثم سكبت ما فيه خلفي، وتلك الابتسامة المتعجرفة تحتل شفتي، ربما محاولة طفولية مني، لكنها تستحق التجربة. أعدتُ الكأس إلى مكانه، ولكن موضوعًا على حافته، ثم أرحت ظهري للخلف، وأنا أتطلع إليه بغرورٍ سعيد، رأيته يومئ برأسه لي، بدا متقبلاً لردة فعلي الخرقاء مما أفسد عليّ متعتي. أشحتُ بوجهي نحو الخليج مجددًا زافرة الهواء المكبوت في صدري دفعة واحدة.
دقائق، وعاد الصخب ينتشر في المكان بسبب قيام العروسين بافتتاح ساحة الرقص برقصتهما الأولى، بدت الموسيقى جيدة، ومع ذلك لم أبدو متحمسة لمتابعة حركاتهما الإيقاعية، فالزوجان غير متناسقين بالمرة؛ العروس شاردة، وتوترها واضح للعيان، والعريس متحكم بطريقة خانقة للأنفس. بالطبع أجبرت عيناي على عدم ملاحقة “فيجو”، لأتركه يحترق كمدًا لتجاهلي إياه، لكن من حين لآخر أبت حاسة البصر الانصياع لأوامر عقلي، واختلست النظرات نحو مكانه. زفير ارتياح خرج من جوفي حين اختفى عن المشهد، شعرت بالحرية أخيرًا، وحاولت الاندماج في الحفل الممل .. دنا “رومير” من طاولتي، وبصحبته أحد الأشخاص، لكن الأخير استوقفه أحدهم ليرحب به في اهتمامٍ مبالغ به. ابتسم خالي بحماسٍ زائد عندما سألني، وهو يدور برأسه على الحضور:
-أين “صوفيا”؟
-أجبته بشكلٍ آلي:
-في الحمام، ستعود الآن.
تنحى للجانب ليتابع معرفًا بضيفه:
-أقدم لك سيد “مكسيم” ابنة أختي.
نظرة سريعة ألقيتها على الضيف، بدا في الخمسين من عمره، يدخن سيجارًا كوبيًا، استله من بين شفتيه وهو يستقر بنظراته على وجهي، وكبادرة تهذيب مني اضطررتُ أن أنهض لمصافحته، ثم قلت بابتسامة رقيقة:
-مرحبا.
بادلني المصافحة بحرارة قبل أن يقول في إعجابٍ:
-جميلة كأمها.
قال “رومير” في زهوٍ:
-أنت تعلم جينات الجمال موروثة لدينا.
شاركه ضيفه الرأي مرددًا في استحسانٍ:
-بالطبع.
استدار كلاهما نحو والدتي حين أقبلت تقول برقةٍ ونعومة:
-أهلاً..
أدار خالي ظهره لي ليعيد تقديم ضيفه لها:
-“صوفيا” قابلي السيد “مكسيم”… إنه زعيم عائلة “سانتوس”!
عندما نطق بتلك الكلمات الأخيرة هبط قلبي في قدمي فزعًا، تشتت نظراتي، وتشوش تفكيري من الصدمة، لما لم يتفقه ذهني لحضوره المهيب منذ البداية؟ فأغلب المتواجدين هرعوا لتحيته بإجلالٍ مبالغ فيه، ولمحته تقريبًا خلال جلوسه على طاولة القادة، ولذا من البديهي أن يكون تواجده هنا للمشاركة في حفل العروس، حيث يعد ذلك الارتباط بمثابة هدنة مؤقتة بين العائلات المتناحرة. تحفزت في وقفتي، ورغم كوني بتُ متجاهلة من قبل ثلاثتهم بعض الشيء إلا أنهم بدوا على وفاق غريب، يناقض المشاعر العدائية القاتلة التي يكنها باقي أفراد العائلة نحو خالي. عبست تعبيراتي عندما رأيت “مكسيم” يدعو والدتي للرقص معه، والأخيرة لم تدخر وسعها، وهتفت بترحابٍ رقيق:
-يسعدني ذلك سيد “مكسيم”.
رد بنوعٍ من التحدي وهو يتغزل بها بنظراته الخبيرة:
-لنرى مهاراتك أيتها الأميرة.
ضحكت والدتي ملء شدقيها وبصفاءٍ ردت على كلماته اللطيفة:
-حاول أن تجاريني.
وتركته يقودها لساحة الرقص، بينما جلست في تذمرٍ عابس وقد تهدل كتفاي بســأم. لم أحبذ أبدًا رؤية والدتي بين أحضان أحد هؤلاء القتلة، آهٍ لو تعلم ما يضمره القلب! فقط لو اتسعت نظرتها المحدودة وتخلت عن البريق الزائف المحاوط بها لرأت نواياهم الحقيقية.
………………………………………………………..
ظننتُ أن كل شيء سيسير على ما يرام، طوال الوقت المتبقي من الحفل، خاصة مع انشغال الأغلبية بالرقص واللهو، مددت يدي لأعبث بهاتفي المحمول، وتبادلت مع رفيقتي “مارتا” بعض الرسائل الطريفة، لأقتل بها الضجر الذي بدأ يصيبني. رعشة باردة مصحوبة بشرارت حسية ضربت جسدي في مقتل، تخشبت في مكاني، وتجمدت أناملي على شاشة الهاتف حينما سمعت صوته العميق يستأذنني:
-هل تسمحي لي؟
ببطءٍ رفعت رأسي نحوه، كان يحجب ضوء النهار بجسده الشامخ، لاحظت أنه نزع سترته ليظهر قميصه الملتصق بعضلات صدره، بينما انسدل ذراعاه القويان على جانبيه، إلى أن اختفت قبضتاه في جيبي بنطاله. رفرفت بعيني في ذهولٍ قلق، لم يبتسم لي، اكتفى بالتحديق الملي في تفاصيل وجهي بعينيه الداكنتين، وأنا حملقت فيه بنظرات ضيقة، حثني فضولي على النظر إليه دون خوفٍ، لن يجرؤ على المساس بي أو حتى تهديدي أمام ذلك الحشد الغفير. أفقت من شرودي في تحديد أي درجة تمتاز بها حدقتي هذا القاتل على صوته الآمر:
-هيا!
على الفور أخفضت رأسي لأجد يده ممدودة نحوي، أحرجته عن عمدٍ بالرفض ببرود سمج:
-لستُ مهتمة
توهمت أن الحرب ستندلع لوقاحتي الصريحة؛ لكنه تقبل رفضي بلباقةٍ، وقال مستقيمًا في وقفته بصوتٍ أجش، زادني توتر:
-ستأتين إليّ طوعًا…
صمت لبرهة ليتابع بعدها بصوت عميق أجفلني أكثر:
-قطعة السكر!
حدقت فيه بنظرة حادة شبه غاضبة، وقبل أن أعنفه على مناداتي بذلك اللقب المدلل، كان قد ابتعد، تجمدت نظراتي على ظهره، لم يتحرك كثيرًا، تعمد الوقوف في مرمى بصري ليضاعف من استفزازي، تحرك بؤبؤاي مع صاحبة الثوب الأصفر، هي إحدى وصيفات العروس، رأيتها تقترب منه، رمت نفسها في أحضانه بغنجٍ مفتعل، ومالت على أذنه لتهمس له بشيء، وعلى ما يبدو تدعوه لمشاركتها الرقصة التالية، وبعنجهية مفرطة قبل دعوتها، وسحبها بسيطرة كاملة نحو ساحة الرقص، ليراقصها ببراعة. لبرهةٍ بقيت عيناي مرتكزة عليه، لا أعرف إن كان من غيظي أم لخوفي من تحقيق ما ألقاه على مسامعي. التفت نحو والدتي حين عادت من رقصتها الأخيرة هاتفة لي بأنفاس شبه لاهثة:
-“ريانا”! تبدين شاحبة! ما الأمر؟
نهضت واقفة من مقعدي، وتعللت كاذبة:
-يبدو أن الحر لا يفيدني، سأذهب للحمام.
أشـارت لي بيدها لتدلني على الطريق، فلا أضل وجهتي. حافظت على ثبات بسمة منمقة مرسومة على شفتي، وأنا أخطو مبتعدة عن الساحة، وقبل أن أتركها بالفعل وجدت “سانتوس” يعترض سيري، سألني الأخير بتهذيب:
-جميلة الحفل، أرغب في اصطحابك للرقص؟
وجدت نفسي في مأزق آخر، وكنت على وشك الاعتذار منه بتهذيب، لكنه خالي كان الأسبق في الانضمام لنا ليعلن موافقتي نيابةً عني، لم أرغب في إحراجه، سيعتبر ذلك قلة ذوق مني، وربما يُساؤء فهمي. رفعت يدي في استسلام لأضعها في كفه الذي احتضن أناملي، وقادني لحيث يرقص الثنائيات، لف ذراعه الآخر حول خصري، وضغط برفقٍ على ظهري، أكاد أشعر بحمرة طفيفة تتسلل إلى بشرتي الشاحبة، كنت جيدة في الرقص، لا أدعس الأقدام كما تفعل الفتيات؛ ولكن مع الأصدقاء .. الأصدقاء فقط!
تمايلت بحذرٍ، وأنا أمنح السيد “سانتوس” ابتسامة رقيقة، وظلت نظراتي شبه متوترة، بالرغم من لباقته الغريبة معي، فمن يظن أن ذلك السيد المحترم زعيمًا لأحد أكبر المنظمات الإجرامية؟
لسوء حظي، لم انتبه لكون تلك الرقصة التي انضممت إليها يتبدل فيها الأزواج بعد كل مقطع، ارتخت ذراعاه عني، ووجدت آخرًا يتلقفني على الفور؛ وكأنه متربصٌ بي. ارتفع حاجباي للأعلى في ارتعابٍ حقيقي، وأظن أن علامات الخوف تزينت بها ملامح وجهي، حينما وجدت رفيقي المؤقت هو .. “لوكاس” ………………………………………. !!

يتبع

اترك رد