روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل السادس و الخمسون 56 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل السادس و الخمسون 56 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت السادس و الخمسون

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء السادس و الخمسون

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة السادسة و الخمسون

~… المؤنسات الغاليات….؟!…~
هناك جراح قديمة بداخلنا لم تشفيها الأيام … وستظل تؤلمنا حتى آخر الأنفاس.
خدوش في الروح لا يستطع أحد الوصول إليها ولا رؤيتها .. ولكنها تؤلم صاحبها بكل يومٍ يمر بأيام العمر.
ونكره لحظات الحزن لأنها تُرينا الجانب الضعيف فينا … فكانت تلك مشاعره وصراعاته النفسية التي تحتدم بأنفاسه وبصدره طوال الوقت، واعتراك طباعه وحقيقته مع تطبعه بالقسوة والجبروت بالسنوات الفائتة….
وتمدد زايد على الفراش بعد تلك اللحظات الشديدة القسوة على نفسه، وفتحت الذاكرة ملفات سوداء من الماضي.
ملفات مُلطخة بأكبر أزمات حياته ..
عندما كان صغيرا … بالكاد تخطى عمره العشر سنوات بقليل … ذلك اليوم الذي زرع بركانً ناري بداخله، وأصبح الطامة الكبرى …..
منذ سنوات كثيرة مضت … اعلنت ذاكرته طيفا من الماضي.
بيوم من أيام الماضي … مر عليه سنوات كثر …
وبعدما خرجت والدته من نوبة اكتئاب شديدة أوشكت أن تنهي حياتها بسبب كثرة أعطائها للمهدءات …. وذلك بسبب هجر زوجها لها لأشهر دون أن تعرف مكانً له.
وبعدما تحملت كثرة علاقاته النسائية وظلت تحت ضغط عصبي شديد طيلة فترة زواجها منه … وتلك المشاعر اللعينة بالحب والوجد جعلتها ترضخ بالبقاء معه على أن تفارقه وترحل، وتنقذ نفسها من القهر كلما اكتشفت أنه على علاقة بأحداهن.
لم تكن بقوة نفسية كافية لأن تتخطى الأزمة القادمة … وكان صغيرها زايد مدثر في الفراش ومريض بارتفاع درجة الحرارة ونوبة برد شديدة تجتاح وتنهش جسده الصغير ..
مررت يدها على جبينه بحنان، حتى فتح عينيه قليلًا ورفت ابتسامة بسيطة على محياه، مطمئن آمناً لأن أمه ترعاه وبجانبه أخيرا بعدما حُجزت لأيام كثيرة بالمشفى إثر أزمتها النفسية والجسدية الأخيرة.
وكان يتمتم بكلمة واحدة “ماما” … فهمست له قائلة برقة :
_ لما ابوك يرجع اتمسك فيه … أوعى تسيبه يا زايد مهما حصل، عشان خاطر ماما حبيبتك أوعى تبعد عنه أو تعامله وحش، لو عملت غير كده هزعل منك أوي.
هز الصغير رأسه بموافقة واستسلم للغفوة بأمان وراحة رغم وهن جسده … ولكنه استيقظ بعد ساعاتٍ مفزوعا على صوت صراخها وبكائها الشديد ولم يكن الصبح قد أنار جسد السماء المظلمة …
وبدا على والدته أنها فقدت صوابها تمامًا، بل وصلت لمرحلة أقرب للجنون، وفي حقيقة الأمر أن سبب تدهور حالتها كان اتصال هاتفي من أحداهن تخبرها فيه أن زوجها عقد قرانه فعليًا على امرأة ثرية … وما أوصلها لحالتها هذه أكثر عندما أجرت اتصال على هاتف زوجها واكد لها الخبر سريعا مؤكدا أنه سيزورهما بالقريب ويوضح كل شيء وما خلف زواجه هذا من منفعة.
وبعدها ضربت المرأة كل شيء بالغرفة بعنف، ودخلت في نوبة هيسترية من البكاء أودت لفقدانها عقلها للحظات وتحكم منها الشيطان حتى اوصلها لأن تنهي حياتها ، ففتحت باب شرفة الغرفة والقت نفسها من الطابق الرابع …
وكان زايد يراقب ما تفعله بجسد ينتفض من المرض والذعر وبالكاد نهض ليلحقها بجسده المحموم … ولكنها كانت تنحدر للأسفل تحت نظراته المفتوحة على آخرهما من الذعر والفزع وهو يفرد ذراعه لها بمحاولة ضعيفة أن تتمسك به …
انعقد صوته وانتابه نوبة من الخرس وهو ينتفض بهلع من مشهد والدته وهي تسقط … حتى سقطت تمامًا على الأرض بعد لحظات سريعة، واتسعت دائرة كبيرة من الدماء خلف رأسها وعينيها جامدتان ومفتوحتان لا حياة فيهما… وهكذا ختم هذا

 

المشهد على قلبه بالقهر والخوف وعدم الأمان …
لم يشعر بأحد .. لا بأفراد الشرطة ولا بالصراخ الذي ارتفع بعد فترة من اكتشاف الواقعة … لم يشعر غير بضابط الشرطة الذي كان يستجوبه بعد عدة أيام من وفاة والدته ، وكان بأحد المستشفيات للأمراض النفسية والعصبية، وذلك عقب صراخه طيلة الأيام التي تليت تاريخ الوفاة أو بالأصح “الإنتحار” …
ويومٍ بعد يوم … تمر الساعات ببطء وهو بالمشفى مُقيد بغرفة مغلقة … نافذتها عالية وصغيرة جدًا …كئيبة المنظر بشكل مثير للضيق واليأس، ولم يكن من المفترض أن يمضي كل هذه الفترة بالمشفى!!… وبدأ يدرك أن هناك شيء خاطئ يدور حوله.
حتى أنه تلقى معاملة قاسية من البعض وغير مبررة وغير منطقية لمريض المفترض أنه مريض نفسي … !
ولكي يهرب من هذا الجحيم وافق أن يأخذه والده بعدما مضى من عمره ٥سنوات في هذا العذاب … وكان حقيقة موافقته هي وصية أمه بآخر حديثً لها … ألا يبتعد عن والده ويلازمه مهما حدث … ولكنه لن يسامحه بهذه السهولة حتى وأن ظل معه.
وبعدما ذهب مع والده واكتشف كم من ترف وثراء أصبح عليه … وقابل معاملة جامدة من زوجته وأبنها “هيثم” …. اكتشف مع الوقت أن تلك المرأة كانت خلف تعذيبه بالمشفى حتى تتخلص منه قبل أن يأتي وينغص عليها رغد العيش هذا .. ولكنه لم ينبث ببنت شفة عن الأمر … فعلى كل حال لم يصدق والده عنها حرفً يدينها بشيء … الصمت أفضل في بعض الحالات !
ولكنه سينتقم منها ببطء … ودون حتى أن يفعل شيء أو يسلك دربً عنيف ، ولكن يبدو أن مجرد وجوده يُعدّ عقابً لها …. ولأبنها الغبي … حسنا … فليبدأ الانتقام البطيء.
خرج زايد من شروده على صوت دق خفيف على باب الغرفة بالمشفى … اعتدل ونفض عنه هذا الشرود والغيمة القاتمة من الذكريات وسمح بدخول الطارق …. حتى فتح شقيقه من أبيه “فادي” … وقال وهو يدخل ويغلق الباب خلفه:
_ ما رجعتش البيت امبارح وقلقت عليك ….أنت رجعت المستشفى تاني؟!
أطرف زايد عينيه بثبات وأعرض عن إجابة السؤال فقال:
_ حد عارف أنك هنا ولا هربان كالعادة ؟!
ابتسم فادي ببعض المرح وقد شعر أن بالأمر بعض المغامرة والحماس فأجاب:
_ هربان طبعا …. أمي نوران هانم فكراني بروح النادي وزقه السواق يراقبني، بس أنا بغفله وأخرج من باب تاني وأجي هنا … وبرجع تاني بنفس الطريقة وهكذا … بس أنت مجاوبتش على سؤالي يا برو ؟
واتسعت ابتسامته نظرا لأنه يقصد بهذا الأمر إطراء وإشادة لشقيقه الأكبر زايد … ومحاولة لأن يتقرب إليه ولكن زايد يأخذ زاوية بعيدة عن الجميع ولا يسمح لأحد أن يقترب منها … واكدزذلك رد زايد الحاد :
_ مش مضطر أجاوب عليك ! … وقولتلك مليون مرة بلاش برو دي !
بُترت ابتسامة فادي وانعقد حاجبيه بعبوس ، ثم قال بعتاب :
_ نفسي أفهمك ! … أنت بتحبني ولا بتكرهني ! … لما بعمل مشكلة بتبقى واقف معايا قبل أي مخلوق وبحس أني غالي عليك وبتطمن …. بس معاملتك بعد كده بتكدب أحساسي …
يبدو أن تلك الكلمات أثرت في زايد فأشاح بوجهه بعيدًا عن شقيقه الصغير وقال بحدة :
_ خليك بعيد عني … احسن الست والدتك تزعل !
صمت فادي للحظات … وكان صمته تعجب وحيرة من الحرب الباردة بين زايد ووالدته ! …. ليس الأمر مجرد أنها زوجة أبيه فقط ! …. فقال بحيرة :
_ أنا عارف أن مافيش عمار بينك وبين أمي ومش فاهم ليه بصراحة …. ليه ما تعتبرهاش زي والدتك و….
انتفض جسد زايد واسودت عينيه بغضب عنيف وهتف بشقيقه :
_ مافيش حد زي أمي … ولا عمر هيكون حد زيها ولا مكانها !!
قال فادي فجأة وهو يمعن النظر بشقيقه :
_ ولا حتى فرحة ؟!
وكأن فادي استخدم أفضل وأسهل طريقة لصب الثلج على نيران زايد المتقدة والملتهبة … فابتلع زايد ريقه بقوة ببعض الارتباك من هذه المواجهة الصريحة، ونهض ببطء مستندا على عكازه متجنبا نظرات شقيقه التي تدرس انفعالاته بدقة…..
اقترب فادي منه وقال بنبرة يلتمع فيها المحبة :
_ أول مرة أشوف بنت مأثرة فيك كده! …. حاسس أن هي دي اللي ممكن تصالحك على الدنيا ..
تعجب زايد من حديث شقيقه الصغير العقلاني الذي لا يظهر إلا نادرا …. فأضاف فادي بتأكيد:
_ قليل أوي لما كنت بشوفك بتضحك … وتقريبًا عمري ما شوفتك فرحان ومبسوط … وكنت بستغرب أن واحد زيك في ذكائك ونجاحك اللي الكل بيتكلم عليه ليه مش مبسوط !
رد زايد مقاطعا والمرارة تطوف بصوته :
_ لا ما تستغربش …. اللي زيي عمره ما هيعرف يعني إيه سعادة …. السعادة سابتني من سنين طويلة واتخلت عني وماتت! ….
وكان فادي يعرف بعض الأشياء عن ما حدث لوالدة زايد ، ولكن اعتقد أن بعد كل تلك السنوات لابد أن يكون زايد استفاق من هذه الصدمة وتخطاها … ريثما بعد نجاحه بأكتساح في السباق التجاري لرجال الأعمال.
وضع فادي يده بربته بها شيء من الرفق والدعم .. وقال :
_ عارف يا زايد لما كلمتك عن فرحة امبارح وجيت هنا.. تقريبًا أول مرة أحس أني بشاركك في شيء … انا نفسي أبقى زيك … أنت مثلي الأعلى وقدوتي.
استدار زايد له وهزه بعنف من ذراعه وقال بغضبً شديد :
_ ابقى أي مخلوق تاني إلا أنا ! …. أنا عاجبك في إيه يا غبي ؟! … أنت عايز تبقى زيي … بس عمرك ما هتستحمل اللي أنا شايله جوايا … لأني أنا نفسي مش قادر اتحمله … خليك بعيد عني وأبقى حد تاني .. شبه نفسك … شبه أخوك هيثم ..

 

شبه أي انسان تاني غيري.
عبس وجه فادي ببعض الضيق وقال:
_ هيثم ! … هيثم مش بحب اتكلم معاه … كل كلامه تريقة عليا وتنمر، عمري ما احتجتله ولقيته!، وللأسف أمي راضيها طريقته دي معايا…. شخصيته مش بتعجبني زيك … هيثم طول عمره بعيد عني حتى من قبل ما يسافر…. أنما أنت رغم بعدك عننا بس عارف أنك بتحبني وغالي عليك … بلاقيك قبل ما أطلبك!
ولم يعتاد زايد أن يظهر مشاعره الحقيقية لشقيقه الصغير … ولكنه فعليًا يحب هذا الصبي الذي سبب للعائلة الكثير من المشاكل …. ومع ذلك نظر له بثبات وقال :
_ ارجع النادي قبل ما السواق يكتشف أنك هربت ووالدتك تعاقبك أنك جيتلي!
تنهد فادي بيأس واحباط… فزايد لن تؤثر فيه الكلمات بتلك البساطة … ولكن أقلًا رأى طيف دافئ بعينيه وهذه إشارة حسنة للآت…… فقال موافقا :
_ هشوف حسام واطمن عليه وبعدها همشي … في حاجة عايزني ابعتهالك من البيت ؟
أجاب زايد بعد لحظات تفكير:
_ هدوم …. معملتش حسابي وأنا جاي …. ابعتلي شنطة هدوم ليا مع السواق …
هز فادي رأسه بموافقة ثم غادر الغرفة ….
***********
فرغ المنزل من جميع الرجال سوى الجد رشدي الذي صعد لغرفته ….. ودخلت ليلى بعينان زائغتان للبعيد وبخطوات بطيئة للداخل … بدا عليها أن بالها مشغول بشيء هام … فقالت حميدة وهي تحمل الصغيرة وتشاكسها :
_ اللي واخد عقلك يا مرات عمي ؟
انتبهت ليلى بعد لحظات من الشرود لما تقوله حميدة وأجابت بتوتر :
_ لا أبدًا … بابا وحشني وعايزة اروح أشوفه …
تدخلت جميلة بالحوار وقالت لليلى :
_ ربنا يطمنك عليه يارب.
شكرتها ليلى سريعا ودخلت بعد ذلك في موجة من الشرود حتى نهضت وقد قررت شيء … فقالت لحميدة:
_ أنا هروح المستشفى أطمن عليه وهاخد ريميه معايا، لو جدك سأل عني ابقي قوليله يا حميدة أنا فين.
وافقت حميدة حتى أخذت ليلى صغيرتها وارتقت درجات السلم حيث غرفتها الكبيرة استعدادا للذهاب ….
**********
وبعد أن وصل وجيه للمشفى وعلى إثره الشباب الأربعة الأطباء ذهب لمكتبه مباشرةً …. بينما تجمع الشباب الأربعة بمكتب جاسر حيث استغلوا فترة النصف ساعة قبل البدء الفعلي بالعمل.
وبعد دقائق كان كلا منهم يجلس في زاوية بمفرده عن الآخر ….. بينما رعد كان يجيء ويذهب بأرض المكتب في موجة عاصفة من الغضب …. وقال بعصبية لهم :
_ هيجي بكرة ! …. طب المفروض بقا اتصرف أزاي دلوقتي ؟!
قال جاسر وهو يحاول جاهدا أن يتحكم بأعصابه:
_ طالما وعدنا عمي وجيه بأننا نسيبه يتصرف يبقى لازم ننفذ كلامنا … وماتنساش وائل اتصرف أزاي المرة اللي فاتت …
زفر رعد بغيظ شديد وود لو يصب عصبيته بأي شيء حتى يهدأ ولو قليلًا …. ثم قال بنرفزة:
_ مش ناسي وعدنا مع عمي … لكن…
قاطعه يوسف بتأكيد :
_ مافيش لكن ! …. طالما عمي قال هيتصرف يبقى سيبه يتصرف ، أنت تقريبًا بتتحايل على رضوى عشان توافق وهي منشفة دماغها حبتين ..
تنهد رعد بيأس وشعر للحظات أنها لن ترضى قط … فقال:
_ مكنتش فاكر انها عنيدة بالشكل ده ! ….. غلطت واعترفت بغلطي واتأسفت كتير ومافيش فايدة !
تحدث جاسر بصدق واعترف :
_ بص يا رعد … أنت اخويا مش أبن عمي بس، لذلك أنا شايف موقفها متزمت وعنيد وأوفر …. بس لما بصيت أنها برضو زي أختي حسيت أني عايز أضربك قلمين على وشك وأضرب نفسي معاك أني سمعت كلامك واتغابيت …. هي شكلها حبيتك واتعشمت فيك أوي وأنت بموقفك ده خذلتها وجرحتها جامد …. خصوصا أن شكلها طيبة أوي وحساسة.

 

قال يوسف بغيظ:
_ وأحذر غضب الطيب ده ….
التفت جاسر ليوسف وقال بسخرية :
_ قلبك جمد وبقيت بتزعق فينا يا أستاذ طبيخ !….. أنت قاعد معانا ليه ياض !
ابتسم يوسف ابتسامة واسعة ليغيظه أكثر وقال بثقة:
_ بتصعبوا عليا !
أشار له جاسر بتهديد أن يلكمه، ولكنه لم يستطع أن يخفي ضحكة فرت من شفتيه …
فألتفت جاسر بعد ذلك لآسر وقال بسخرية :
_ ممكن أعرف استاذ افلاطون ماله ؟! …
تسللت نظرة رعد لآسر وادرك مخاوفه خصوصا بعد قدوم حبيبته السابقة للمشفى، والذي يتوافق مع قدوم سما للعمل هنا … فقال:
_ أهو أنت بقا اللي اتغابيت لتاني مرة ومن غير تدخل من حد فينا …. تقدر تقولي بقا هتعمل ايه مع الدكتورة حبيبة ؟ …. حبيبتك القديمة !
رد جاسر باستهزاء:
_ لا والدكتورة حبيبة رامية شباكها عليه أوي الفترة دي …. دي بتقول للممرضات أنها قريبة آسر!
سأل يوسف جاسر وهو يضيق عينيه مكرا:
_ طب وأنت يا جاسر عرفت منين أنها قالت للممرضات كده ؟!
ابتسم جاسر بثقة وقال :
_هما اللي قالولي … بيثقوا فيا يا أخي … أقولهم لأ يعني ؟!
نهض آسر بضيق وعصبية ولم يبدو عليه أي صدمة بالأمر … فقال:
_ وصلني أنها بتقول كده … لو كنت عارف أنها راجعة عشان كده مكنتش ساعدتها والله …. ومش لاقي سبب مقنع يخليها تمشي من هنا …
هتف جاسر فيه بغيظ وانفعال:
_ طب ما تحذرها إيه الغباء ده ! ….
رد آسر بنفس مستوى عصبيته :
_ قولتلها ونبهتها … وقالتلي أنها عملت كده مضطرة لما لقت كذا حد بيضايقها ….
لوى جاسر شفتيه وقال:
_ يعني بتبتزك عاطفيًا عشان تسمحلها بكده ! … قابل بقا من ده كتير …. ويا سلام بقا لما الكارثة بنت عمك تيجي هنا …. أبقى قابلني لو جوازتك تمت في سنينك البيضا دي ..
ضاق آسر وتملّك منه الغضب منهم أكثر وخرج من المكتب …. فزفر جاسر بقوة ثم قال :
_ موضوعنا ده عايز معجزة عشان يتم … ربنا يستر.
********
وبعد مرور ساعتين تقريبًا وصلت السيارة الخاصة بالجد رشدي أمام المشفى …. وكان بداخلها ليلى وصغيرتها …
خرجت ليلى من السيارة وهي تحمل أبنتها وقالت للسائق أنها ستمكث لوقتً ربما سيطول ….
وبعدها توجهت للباب الرئيسي الذي يحاوطه رجال الأمن من كل جهة ….
ولم تتوجه لمكتبه مباشرةً بل أخذت خطواتها المضي إلى حيث مكتب صغير بأحد الطوابق قد خصصه وجيه للدكتورة مروة ….. واستقبلتها مروة بترحاب شديد وخصوصا الصغيرة التي ابتسمت شفتيها تلقائيًا لصوت مروة الحنون الدافئ ….

 

ثم سألت مروة بتعجب :
_ هو دكتور وجيه مقالكيش حاجة عن موضوع الفيروس المنتشر هنا ؟! …. كان الأفضل نتقابل برا !
أطرفت ليلى أهدابها بتعجب وحيرة ثم أجابت بنفي:
_ لأ مقاليش ! …. يمكن نسي ..
وكانت هذه الإجابة الأكثر منطقية للسؤال … فقالت مروة بتأكيد:
_ لأ هو فاكر أننا هنتقابل برا على طول .. وممكن يكون نسي فعلًا … المهم ما تقلقيش هو الموضوع الحمد لله مش منتشر أوي لدرجة تخوف… ٣حالات ظهروا والباقي كله عمل فحص وكله تمام والمستشفى اتعقم كل جزء فيها ….
اطمأنت ليلى بعض الشيء من حديث الطبيبة … حتى لاحظت أن الصغيرة تغلق عينيها وتتيه بغفوة كل لحظة ثم تستفيق على أصواتهن….فنهضت ووضعتها على السرير الطبي بالمكتب وربتت عليها بحنان قائلة بهمس :
_ الحمد لله أنها نامت …. كنت عايزة اتكلم معاكي شوية …
تأكد حدس مروة وقالت :
_ سمعاكي … كلي آذانً صاغية.
ابتعدت ليلى عن ابنتها وتوجهت لنافذة المكتب …ثم وقفت أمامها وشرحت الموقف الأخير والذي سبب شيء من الخصام معه …. فقالت مروة باستغراب:
_ ما عملتيش بنصيحتي ! …. أنا مش شيفاه غلطان يا ليلى ! … ومش شايفة أن جيهان برضو غلطانة !!
التفتت ليلى لها بدهشة وقالت :
_ يعني مش قاصدة تضايقني ؟! ….
نهضت مروة وتقدمت لليلى عدة خطوات ببطء ثم وقفت قربها وقالت مجيبة:
_ طالما مش بتتعدى حدود حقها المفروض ما تزعليش …. أنتي بتقولي أن ده يومها … يبقى هتفرق إيه تقضيه مع جوزها في أي مكان ! … ما هي في النهاية وفي كل الأحوال معاه ! …. زي برضو أنك من حقك تطلبي منه يفسحك أو تتعشوا برا مثلًا في أيامك معاه ….. ساعتها لو جيهان زعلت هتستغربي وهتدي لنفسك الف حق! ….
ورغم علم ليلى أن ما تقوله الطبيبة هو المنطقي والصواب … ولكن هناك مرارة بحلقها تمر كلما تذكرت ذلك … ولم تستطع منع نفسها ابدًا من الاحساس بها …. شيء أقوى منها يدفعها لذلك …. ربتت مروة على ذراعها وقالت :
_ أنا قولتلك المرة اللي فاتت بلاش يجيلك وهو شايل هم أنك هتشتكيله وتحكيله …. أنا عارفة أنك بتحبيه …بس احمدي ربنا أنك مش في موقف جيهان …. لو حطيتي نفسك مكانها بجد هتصعب عليكي والله …
ابتلعت ليلى ريقها بحيرة وقالت :
_ اروحله طيب ؟
ابتسمت مروة وقالت بتأكيد :
_ روحيله بس ما تصالحيهوش على طول ….. غلسي الأول كده وشوفي رد فعله … خليكي مكارة يعني .
وغمزت لليلى بخبث وابتسامة … فمرت ابتسامة مرتبكة على ثغر ليلى ونظرت لأبنتها، فقطعت مروة سير أفكارها وقالت :
_ سيبي ريمو معايا ما تصحيهاش … هفضل جنبها لحد ما ترجعي ما تخافيش عليها.
ووافقت ليلى على مضض ثم توجهت لمكتب وجيه مباشرةً….

 

*********
قبل اللقاء بقليل يُقال أن القلوب تتلاقى أولًا … قبل حتى أن تقع أعيننا عليهم ! …
وقفت ليلى أمام مكتبه في توتر وبعدما ذهبت لوالدها واطمأنت عليه من الأطباء على ازدياد تحسن حالته ولو بالبطء … ثم حسمت أمرها ودقت على باب المكتب … ولكنها لم تسمع ردا !
وكررتها وتلقت نفس الصمت ! …. حتى قررت أن تفتح الباب لكن وجدته خاليًا ! ….دلفت خطوات للداخل تنظر بجميع الاتجاهات حتى وجدت أحدى الممرضات تدخل للمكتب بعدما لمحتها من بعيد …. وقالت لها بترحيب :
_ ازيك يا ليلى … أقصد يا مدام ليلى …
وكانت هي تلك الممرضة التي رأتها بأول يوم أتت لهنا مع والدها إثر الحادث … فأهدتها ليلى ابتسامة وقالت :
_ الحمد لله أنا بخير تسلمي …. هو دكتور وجيه فين ؟
وبعدما قصدت ليلى عدم الخوض في أحاديث جانبية كان يبدو أن الممرضة ستطرق إليها … أجابت الممرضة منى بعدما شعرت بأختصار ليلى بالحديث:
_ شوفته في العناية اللي في الدور الرابع من شوية … مش عارفة هو فين دلوقتي بس هروح ادور عليه وأقوله أنك هنا.
واختصرت الممرضة أيضا طلب ضروري كانت ستقدمه ليلى برجاء …. وغادرت الممرضة واغلقت باب المكتب وبداخله ليلى ….
فجلست ليلى على المقعد أمام المكتب الخشبي باستياء وتوتر شديد…. ما كانت تريد أن تنتظر لأن يأتي …. كان الأفضل أن تأتي اليه مباشرة … لا أن تأتي وتنتظره وتهرب منها كلماتها بهذا الشكل ….
وبالفعل اسرعت منى بالبحث عن الدكتور وجيه بالطابق الرابع بأكمله …. حتى وجدته يتحدث بالأنجليزية مع طبيب أجنبي يأتي كل فترة للمشفى …. فقالت مسرعة :
_ يا دكتور يا دكتور يا دكتور …..
اغتاظت وجيه منها والتفت اليها ناظرا بحدة :
_ عايزة إيه ؟!
قالت منى بعبوس من عصبيته في الرد عليها :
_ مدام ليلى مستنياك في المكتب …
تفاجأ وجيه بالفعل وصمت للحظات بدهشة اجتاحته … ولكن لا ينكر أن تلك الدهشة كانت غلاف رقيق لبهجة شديدة محجوبة عن الظهور …. فقال بشيء من نبض بصوته :
_ طب …. هخلص واروحلها …
ظنت منى أنه ربما يظن ليلى أهرى فقالت بتوضيح وابتسامة ماكرة :
_ يا دكتور مدام ليلى مراتك ! … مش ليلى تانية …
كان غباء منى دائمًا يثير غيظه وعصبيته ، ولكن الآن جاهد ليخفي ابتسامته من غبائها التي تؤكده بنظراتها البلهاء !
فقال بثبات زائف:
_ روحي لشغلك يا منى!
تمتمت منى بغيظ وقالت وهي تغادر من أمامه :
_ تعمل خيرا شغلا تلقى ! …. كل ما يشوف وشي يقولي روحي لشغلك ! …
وظهرت ابتسامة على شفتيه ثم استأذن من الطبيب الذي يحدثه وابتعد مغادرا ….
وقصد أن يسير ببطء حتى مكتبه ….. كان يعرف أنها الآن تنتظره ولكن حقا لا يعرف أن كانت تريد الصلح أو الجدال الغير مُجدي !

 

***********
نفخت ليلى بعصبية من مرور الدقائق والانتظار ….. وعندما قررت الذهاب كان يفتح باب المكتب ووجدها تتأهب للمغادرة !
حمد سرا مجيئة بالوقت المناسب قبل أن تغادر … ولكنه ظاهريًا تعامل بجدية مفرطة واغلق المكتب بالمفتاح دون أن تنتبه ليلى الذي تقدح عينيها شررا واضحا …..
استدار دون حتى أن ينظر لها وتوجه لمقعد مكتبه وجلس عليه بهدوء مستفز ….. راقبته ليلى وهي تضيق عينيها بدهشة ثم هتفت بعصبية :
_ يا هدوء أعصابك ! …… أنت عارف مستنياك هنا بقالي أد إيه ؟!
رد وجيه بنفس الهدوء المثير لغضبها:
_ أنتي جاية وعارفة أني بشتغل مش فاضي! ….. وأنا مكنتش عارف أنك هتيجي النهاردة اصلًا ….
وفجأة تذكر أمر الفيرس المنتشر الذي غفل تمامًا عن أخبارها به لكثرة ما يدور بخلده …. فزفر بضيق ونهض قائلا باهتمام حقيقي :
_ مش عارف نسيت أقولك أزاي … بس مش عايزك تيجي المستشفى الفترة دي …. في مرض منتشر و….
قالت ليلى بحدة :
_ يعني أنت عايزني أمشي من غير حتى ما نتكلم ؟!
تنهد وجيه وهو ينظر لها ثم قال بهدوء :
_ عايزة تتكلمي في إيه ؟!
فرت دموع من عينيها وقد جرحها جفائه وقالت بعصبية :
_ كنت جاية أقولك أني مش زعلانة انك رايح لجيهان …. وأني اتماديت في زعلي الصبح بس غصب عني … وأنت حتى ما كلفتش نفسك تيجي ورايا ؟!
مرر وجيه يده على ذقنه مانعا ضحكة ثم قال مبتسمًا :
_ متأخر على شغلي بسببك وكمان عايزاني أجي وراكي ! … ومن تواضعك جاية تقوليلي انك مش زعلانة أني رايح لجيهان اللي هي اصلا مراتي ….! …. أنا فخور بيكي يا ليلى.
اقسم بالله أنتي مجنونة ! ….
واتسعت ابتسامته بضحكة …. فنظرت له بابتسامة مرت رغم دموعها ، ولكي تستفزه استدارت للباب لتخرج … ولكنها تفاجآت أن الباب مغلق تمامًا …. فاستدارت له بغيظ ووجدته يشير لها بالمفتاح وهو يضحك … وقال :
_ مش هفتحلك غير بشروطي …
ارتبكت وتظاهرت بالعصبية كي لا يتلذذ بانتصار من ابتسامتها …..وقالت بتوتر:
_ اللي هي إيه شروطك دي بقا ؟!
اقترب اليها ببطء حتى ابتعدت هي بتضاد خطواته …وعندما التصق ظهرها بالحائط اسند معصمه على الحائط فوق رأسها تمامًا …. ثم مسح دموعها بابتسامة عاشقة وهمس :
_ ما تعيطيش تاني …. لولا شغلي وضرورة حضوري النهاردة كنت جيت وراكي ورضيتك … بس أنتي كمان مش بتقدري موقفي ! ….
قالت ليلى بصدق :
_ لما حسيت أني تماديت جيتلك …. أزاي بقا مش مقدرة ؟!
ابتسم وجيه مرة أخرى لها وقال بغمزة من عينيه :
_ بقيت بخاصمك عشان اصالحك … زعلك جميل بشكل !
رفت الابتسامة على شفتيها حتى اتسعت تدريجيًا …. وهمست برقة :
_ كل مرة تضحك عليا بكلمتين …. بس أنا مبسوطة .
ضيق عينيه بمكر وقال :
_ يعني لما بصالحك ومابيهونش عليا زعلك يبقا كده بضحك عليكي بكلمتين ؟! …. ده أنت بتاكلي عقلي بنظرتين وساكت ومش راضي اتكلم !
انخرطت ليلى بنوبة من الضحك …. وبعدها مرت عليهما لحظاتٍ من الرومانسية …..
*********
انتبهت مروة لاستيقاظ الصغيرة مذعورة باكية …. فادركت ما تمر به وكوابيسها المؤلمة …. فاعتدلت الصغيرة سريعا وهي تناشد أمها فاقتربت منها مروة وضمتها كي تطمئن …. ثم قالت برفق :
_ مالك يا ريمو ؟

تمتمت الصغيرة وهي تدمع :
_ با. .با … بيعيط ….
ربتت مروة على راسها بحنان ثم قالت :
_ طب أهدي كده مافيش حاجة، ماما جاية بعد شوية ….
بدأت الصغيرة تهدأ رويدًا رويدًا وهي شاردة بحزن …. فهمست لها مروة وقالت :
_ احكيلي بتشوفي إيه يا ريمو ؟
ابتلعت الصغيرة ريقها بصعوبة وبدأت تتمتم بكلمات متقطعة لتجيب عن سؤال مروة ….. فشعرت مروة بشيء وارادت التأكد منه فسألتها :
_ طيب …. بابا صالح آخر مرة سمعتي صوته فيها قالك إيه ؟
اجابت الصغيرة وهي تنتفض :
_ كان بيعيط وبيناديلي …
قالت مروة بقوة وكأنها وجدت ضالتها:
_ زي ما بتشوفيه في الحلم صح ؟
اومأت الصغيرة رأسها بتأكيد …. فتنهدت مروة وتأكدت من ظنها بأن الصغيرة تنسخ هذه الكوابيس لأن الأمر يلتمع بعقلها … فقالت :
_ طب عايزاه ما يعيطش تاني يا ريمو ؟
هزت الصغيرة رأسها بقوة أكثر هذه المرة وكأنها تستغيث للنجاة …. فربتت مروة على يدها وقالت :
_ لما حد بيروح عند ربنا بندعيله بالرحمة ….. الرحمة دي بتروح لعنده هدية كلها نور كده وبتفرحه أوي …. بابا دلوقتي زعلان أنه سابك وأنتي زعلانة منه …. فعشان كده قولي لربنا أنا مش زعلانة منه وادعيله بالرحمة ….
سألت الصغيرة بلهفة :
_ هيبطل يعيط ؟
اكدت مروة مبتسمة :
_ اكيد …. هو دلوقتي يتمنى يرجعلك ياخدك في حضنه ويقولك بحبك أوي أوي وأنك مش زعلانة منه …. بس مش هيعرف للأسف … لكن أنتي لو قولتي لربنا انك مش زعلانة منه ومش عايزة بابا يعيط يبقى ادعيله بالرحمة ….. وقولي أنا مسمحاه يارب وعايزاه يبقى مبسوط ..
تفاجئت مروة حقا بسرعة استجابت الصغيرة التي رفعت كفيها الرقيقان وقالت بتوسل ودموع :
_ يارب ما تخليش بابا يعيط تاني يارب أنا مسمحاه وعايزاه مبسوط ….
وكررتها الصغيرة عدة مرات … ثم سألت الطبيبة مروة بلهفةً شديدة :
_ كده بابا بيضحك دلوقتي ؟
مسحت مروة دموع عينيها وضمت الصغيرة واكدت قائلة :
_ ايوة بيضحك ….ادعيله كتير بالرحمة عشان يفرح أكتر …..
” لا تكرهوا البنات ، فإنهن المؤنسات الغاليات “

يتبع…

اترك رد