روايات

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الأربعون 40 بقلم مريم محمد غريب

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الأربعون 40 بقلم مريم محمد غريب

رواية وقبل أن تبصر عيناك البارت الأربعون

رواية وقبل أن تبصر عيناك الجزء الأربعون

وقبل أن تبصر عيناك
وقبل أن تبصر عيناك

رواية وقبل أن تبصر عيناك الحلقة الأربعون

_ كنتِ هنا ؟ _ “1”
“إمام”… إسترجاع زمني ١
بُنيّ منزل العائلة الكبير _ رغم هيئته البدائية _ بأفضل و اكفأ المواد المقاومة للزلازل و المتصدّية لأيّ عدوانٍ محتمل، كما كان يضم مستوى أرضي بمدخلٍ سري لا يعلمه سوى رجال العائلة الكبار مقامًا.. و هو ما خوّله إليه وضعه كونه الأخ فوق الأوسط لعائلة “الجزار”
على الرغم من الكارثة التي وقعت الليلة، مقتل أخيه الأصغر على أيدي فرقة من العصابات الشعبية بمنطقةٍ مجاورة، فور أن تلقّى نباءً من حراسة حدود الحي بمحاولة هرب زوجة أخيه، لم يتوانى عن الذهاب فورًا و استطلاع ما يجري بنفسه
ذلك ما وجده صحيحًا، امرأة أخيه النبيلة، في عهدة رجال الحراسة، و على عكس ما توقع.. لم تكن خائفة أبدًا و لا حتى في هذا الوضع
بل كانت هادئة، متباهية، و… جميلة جدًا بالنظر إلى الفترة الطويلة التي قضتها حزينةً كئيبة !
بدون تفكير أخذها “إمام” خلسةً وسط الهرج و المرج و أعادها إلى البيت، لكن هذه المرة لم يسمح لها بالتجوّل كما في السابق قبل أن تحاول الهرب،و إنما رأسًا قادها إلى القبو السري، تركها هناك و أغلق عليها و ذهب من فوره ليرى مآل الكارثة التي وقعت على رأس العائلة
مر على الساعة المشؤومة نصف يوم، مع إعتقاد الصغير “رزق” بأنه سلك درب الفرار لأمه، بينما أبيه “سالم الجزار” و بقية أسرته و رجال قومه الأشداء لم يهنأوا بدقيقة واحدة من الراحة، ذهبوا في التو للأخذ بثأر فقيدهم الغالِ “ناصر الجزار”.. و بالفعل لم يعودوا إلا بالنهار التالي محققين الثأر المنشود …
لم يكاد “سالم” يلتقط أنفاسه ليصدمه “إمام” بالخبر الذي أجله وقتًا كافيًا حتى لا يشتت رأس أخيه الكبير، و لعل “سالم” لم يستشيط غضبًا بقدر ما اعتصره الذعر لمجرد فكرة رحيلها و إنفصالها عنه للأبد، توجه مباشرةً حيث وضعها شقيقه
فؤاده مثقل بالخوف و الفزع.. كان يركض إليها و في نفس الوقت يحاذر أن يراه أحد.. تلك كانت مهمة شقيقه أيضًا… إذ تبع إثره حاميًا ظهره !
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
كان القبو الأرضي، مغمورًا بالضوء الأصفر المزعج، يسبح في صمتٍ موحشٍ و مريب، روائح العطن و العفن تملأ كل الجنابات، و معظم الأثاث هنا مؤلفًا من سريرًا أثري متهالك متهالك مصنوع من للنحاس، و بضعة قطع من صالونٍ بالي لا ينفع بشيء
كانت كلها اجواء إن ساهمت بشيء فلن يكون سوى سخطها و حزنها، لم تذرف عينيها دموعًا، لم تشكو بطنها الحاضنة لجنينها جوعًا، كل ما طمحت إليه منذ الأمس حتى هذه اللحظة هو الموت.. و الموت فقط
لا يمكن أن تُهزم، لا يمكن أن تتخلّى عن مبادئها و إن كان الثمن حب عمرها الوحيد، طالما وصلت إلى هذه التقطة إذن فلا عودة
إما أن تذهب كما أرادت، أو تموت بأرضها، لن تستسلم بعد الآن مهما حدث …
جالسة على طرف السرير ذي الشراشف القذرة، تخفي وجهها بين كفّيها، تهز جسمها للأمام و الخلف هزًا هو مزيجًا من الخوف و اليأس
لتنتفض فجأة، حين دفع باب القبو و كأن عبوةً ناسفة حطمته، سبقه صوته حتى قبل أن تلتفت لترى من …
-بتهربـي يـا كاميليــــــا ؟
عايـزة تسبينــــــي ؟؟؟؟؟؟
كان صوته مصمّ، و عندما قامت و استدارت ناحيته تبيّنت وجهه شرس التعابير، ربما يفقد صوابه لو تفاقم غضبه أكثر من ذلك بقليل
مع هذا لم تبدو أمامه قلقة مطلقًا، بل مع شعرها الأشقر المنساب بنعومة حول وجهها و على كتفيها، زرقة عينيها و احمرار شفاهها المكتنزة الصغيرة رغم شحوب بشرتها
كانت جميلة و مثيرة كعهدها، تحت هذا الظرف أيضًا لم تفقد رونقها أبدًا… ما الذي يمكن أن تفعله بقلبه هذه المرأة أكثر ممّا فعلته ؟
ألا يكفي حبه لها ؟
حسنًا.. بيّد أنه لم يعد يكفي بالفعل …
-كنتي فاكرة إنك هاتقدري تمشي بالسهولة دي ؟؟؟ .. صرخ “سالم” حين وصل إليها و قد إمتدت يداه ليشدها من ياقة سترتها قبل إتمام جملته
في الخلفية وقف “إمام” مشاهدًا
أما “كاميليا” فلم تشفي صدره و لم تجفل للحظة واحدة، بل و أيضًا لم تنطق.. ما أضرم لهيب جنونه و جعله أكثر وحشية و هو يستطرد صائحًا بعنف :
-إزاااااي ؟؟؟
إزاااي جاتلك الجرأة تعملي كده ؟ طيب أديكي جربتي.. حصل إيــــه ؟؟؟؟
رجعتيلي تاني زي القرش البرّاني. قوليلي إيه إللي ممكن أعمله فيكي دلوقتي.. قوليلي نوعه إيه العقاب إللي تستاهليه ؟؟؟؟؟
-اقتلني يا سالم ! .. نطقت كلماته أخيرًا ببطءٍ و بدقة
بينما كانت عيناها الزرقاوين تحدقان بعينيه في برودٍ …
في لحظة، تلاشى الغضب العنيف بعينيّ “سالم” و حلّت الصدمة محله… في اسوأ الأحوال بينهما لم يكن ليتخيّل قط أن يطاوعها قلبها لتنطق بذلك !!
بدا و كأنه لا يستطيع أن يصدق ما سمعه للتو …
إن هذا لظلمًا عظيم، بالاضافة إلى أنها سحقته بمجرد تفكيرها بأنه قد يقدم على ايذائها بأيّ شكل من الأشكال، و كأن ما بينهما لم يكن حبًا، و كأن كل ما عاشاه من مشاعر عشقٍ و شغف لمدة عشر سنوات إن هي إلا زيفًا ما من صحةٍ له على الاطلاق
حاول “سالم” أن يعثر على ردًا مناسبًا، لكن لسانه عجز عن تكوين جملة مفيدة، أو حتى عتابٍ
لتتولى “كاميليا” هذه المهمة عنه و تقول من جديد دون أن يرف لها جفن :
-أنا مستحيل هارجع معاك. مستحيل تقدر تاخدني تاني للجحيم إللي كنت فيه ده. أنا عشت معاك أيام.. مجرد أيام معدودة. لكن كانت كفاية أوي عشان تنسف جوايا أقل شعور بالاحترام ليك.. إنت قضيت على حياتنا من قبل ما تبدأ حتى يا سالم لما كدبت عليا و خدعتني. و دلوقتي مش هاسمحلك تكمل في السكة دي معايا أكتر من كده. طلقني يا سالم و سيب معايا رزق.. أو تقتلني حالًا و ننهي القصة دي كلها !
كتمت آهة متألمة عندما قبض على ذراعيها بشدة و هو يغمغم بانفعالٍ و قد ظهرت عروقًا رزقاء بجبينه و على جانبيّ عنقه :
-مش هاتقدري. مش هاتقدري تقنعيني أبدًا إنك كرهتيني.. مهما عملتي يا كاميليا. أنا و انتي اتخلقنا عشان نلاقي بعض. عشان نعيش و نموت مع بعض.. مش مصدقك و مش مصدق أيّ إنكار منك لحبنا
-و مين قال إني بنكر ؟؟!!!! .. صرخت به و قد طفا كل الضغط و تراكمات الفترة السالفة كلها على السطح
لتنهمر دموعها و تشرع بالارتجاف بين ذراعيه بشكلٍ مثير للشفقة و هي تقول بنشيجٍ متقطع :
-أنا بحبك. لسا بحبك.. بس متأكدة لو فضلت أكتر من كده معاك هاكرهك يا سالم. أنا فعلًا كارهة الشخص إللي واقف قصادي دلوقتي. لو ماكنتش مقتنعة إن وراه مستخبي سالم حبيبي إللي عرفت و حبيته و إتجوزته و شيلت حتة منه.. كنت كرهتك بجد مية في المية
“سالم” و قد وخزت صدره باعترافها، إلتزم الصمت مرتبكًا لهنيهة، ثم قال و قد لان تعبيره الوحشي بلحظة :
-إستحالة أفرط فيكي يا كاميليا. بموتي لو بعدت عنك.. لو حقيقي بتحبيني شيلي فكرة الطلاق دي من راسك. شليها خالص عشان خاطري. و كمان عشان رزق يا كاميليا.. إبننا مايقدرش يعيش منغير حد فينا. إنتي عارفة كده كويس !!
ندت عنها نهدة ثقيلة و هي تغمض عيناها لتهطل بضعة قطرات من دموعها الشفافة الأشبه بالآلئ …
سحبت إحدى يديها من قبضته و على مرآى منه بسطت كفها فوق حدبة ملحوظة أسفل بطنها، و همست :
-على الأقل رزق أخد فرصته. لكن ده.. هايتظلم لو سمحت له يفتّح عنيه في مكان زي ده. ساعتها ماستحقش صفتي كأم لا له و لا حتى لرزق. لو إتنازلت دلوقتي مش هقدر أرجع تاني يا سالم !
كل ما قالته لم يكن بشيء إلى أن سمعها ترمي للمعنى الذي فهمه فورًا …
بغتةً إتسعت عينيه و توقف عند ذلك تمامًا، أمسكها بكتفيها هذه المرة و سألها و هو يهزّها بقوة :
-إنتي بتقولي إيـــه ؟؟؟
ده مين.. إنتي حامل يا كاميليا ؟؟؟!!!
لم تحاول اختلاق أيّ أكاذيب الآن، فقد أرادت من نفسها أن تفصح له.. لذلك أكدت بايماءة و عقّبت عليها بصوتٍ مختلج :
-مش هاجيب الطفل ده هنا يا سالم.. مهما حصل مش هايتولد هنا. عندي مايتولدش خالص.. و لا إنه يتولد هنا !
-إيه التخريف ده !!! .. زمجر غاضبًا و قد أفلتها متراجعًا خطوة للوراء
لوهلة كاد توازنها أن يختلّ، ألا أنها تمالكت نفسها جيدًا، بينما يمضي “سالم” قائلًا بحدة :
-إنتي بتقوليها في وشي ؟
عايزة تقتلي إبني يا كاميليا ؟!!!
ردت بحدة أشدّ منه :
-يبقى إبني أنا كمان يا سالم. و كل إللي إحنا فيه ده بسببك إنت سامع ؟
بسببك إنت مش حد تاني !
بقى جامدًا للحظات تحت وطأة كل ما قالته منذ قدومه، ثم إنتفض فجأة معلنًا بخشونةٍ صارمة :
-لأ.. كلامك مايمشيش عليا. إنتي مراتي و الولاية عليكي ليا أنا.. و الطلاق و المشي من هنا كل ده تنسيه خالص. لو آخر يوم في عمري مش هاطلقك و لا أسيبك يا كاميليا …
و تبادلا نظرة أخيرة، ليوليها “سالم” ظهره المتنشج هاتفًا و هو يدفع بأخيه أمامه بمجرد نظرات :
-هاتفضلي هنا لحد ما تعقلي. المكان مش مقامك آه. بس أنا هحاول على أد ما أقدر أخليه مناسب ليكي.. و لما أحس إنك رجعتي كاميليا مراتي و حبيبتي. هاتطلعي منه تاني و ترجعي لحضني و حضن إبنك.. قصدي ولادك. ولادنا !
و تركها مغلقًا عليها باب السجن الجديد، سجن أكثر قتامة و وحشة، سجن يخبر لأول مرة عن مدى قسوته
لم يجرؤ على النظر خلفه أبدًا، إذ كان يعلم بأنه سيخر راكعًا تحت قدميها، ما لو أظهرت له مزيدًا من الضعف و الوهن.. هذا الوضع من وجهة نظره بحاجة لاعتماد بعض الشدة لتعود إلى صوابها
و لكن هي أم هو !!!
••••••••••••••••••••••
نهض “رزق” متكئًا إلى معادن حاويات القمامة الصدئة، كانت ساقيه ترتجفان بشكلٍ يرثى له، ربما أصابه دوّارًا طفيف
و صداعًا شديد ألمّ برأسه …
لكن مع هذا أبقى على يقظته و تركيزه لتحصيل أكبر قدر من الحقائق التي هو قتيلها، لن تمر الليلة إلا و هو يعرف كيف ؟
كيف جرى هذا الأمر ؟
و أين أراضي أمه في هذه اللحظة ؟؟؟
أغمض عينيه و شد على أسنانه لبعض الوقت، ثم تطلع إلى عمه الذي حصر بالزاوية أمامه، مرعوبًا ممّا يطالبه به إبن أخيه.. مرعوبًا منه و من أبيه… و كأنه بين المطرقة و السندان
و ما من مهرب، لقد بدأ بشيء، و لن يتركه “رزق” قبل أن ينهيه …
°°°°°°°°°°°°°°°°°°°
“إمام”… إسترجاع زمني ٢
لم تتسنّى له أبدًا فرصة زيارة القبو بعد المرة الأولى، فقط أخيه هو من تولّى الاهتمام و العناية التامة بزوجته الحبلى، بينما الجميع خلال ذلك الوقت قد ظنّوا بأنها هجرته و ذهبت بلا رجعة
كان “سالم” يخطط لاستعادتها، مهما كلفه الأمر، و بالفعل كان قد بذل مجهودات خرافية، كلها من دون نتيجة كما توقع …
إلى أن حانت اللحظة الموعودة
ساعة ميلاد طفله الثاني، كانت طفلة لي الحقيقة، خاضت فيها أمها مخاضًا مأسويًا.. إنتهى بنزيفٍ شديد ألزمها الفراش لقرابة الاسبوع خائرة القوى
و في ليلتها الأخيرة لم تتحمل أكثر و ألحت في طلبها …
-عشان خاطري يا سالم.. عشان خاطري عايزة أشوف رزق… هاتلي رزق !
رؤيتها على هذه الحالة و قد تدهورت صحتها و ساءت إلى أقصى حد، وجهها و قد ذبل و جمالها قد طمسه الاعياء الشديد،حتى صوتها.. طغت عليه نبرات التعب
لم تكن “كاميليا”.. بل شبحها …
بينما كان “إمام” يراقب المشهد السريالي بالمقابل، كان “سالم” يجثو إلى جوار السرير و الدموع ملء عينيه، حاول تهدئتها قائلًا و هو يمسح على شعرها بحنوٍ بالغ :
-إهدي يا حبيبتي. عشان خاطري أنا إهدي و متخافيش.. انتي هاتبقي كويسة. عارفة كل الدكاترة إللي جبتهم هنا و لا ليهم لازمة. أنا مش هاجبلك دكاترة تاني. أنا هانقلك المستشفى الليلة.. عربية الاسعاف زمانها على وصول. لو حكمت أسفرك أخر الدنيا بس ترجعيلي زي الأول.. إرجعيلي يا كاميليا !
كانت منهكة بشدة و وجدت صعوبة كبيرة بابداء ردة فعلٍ عصبية سرعان ما استبدلتها بهمسٍ وهن خالكه سعالٍ ضعيف :
-مافيش وقت يا سالم.. و حياتي عندك. لو بجد بتحبني.. هاتلي رزق الله يخليك. عايزة أشوفه قبل ما آ ا …
-لأااااا !!!! .. صاح مذعورًا و هو يكمم فمها بطفه مقاطعًا إتمام جملتها
و في هذه اللحظة تمامًا أصابه إنهيار تام و هو يدفن رأسه بحضنها مغمغمًا :
-إوعي تقولي كده.. إوعي تقوليها بحق إللي خلقك. أنا مقدرش أكمل منغيرك.. أنا حياتي واقفة عليكي و ربي يا كاميليا. أبوس رجلك أثبتي.. شدي حيلك عشان خاطري. إوعي تستسلمي …
لم يتلقَ منها أيّ رد، ما جعل براكين الآسى و القهر تتفجّر بدواخله و تحرقه دون أن يجرؤ على إظهار آثارها خاصةً أمامها هي، و كأنه يتشبث بضآلة متناهية من الأمل
لعلها تتجاوز ما تعانيه
ربما !
“سالم” و قد تأكد من إحكام سيطرته على نفسه مجددًا، رفع رأسه عن حضنها، تلاحمت نظراته الدامعة بنظراتها الباهتة الخالية من أيّ شعور.. سوى شعورها بدنو الأجل
إرتفع صوته آمرًا مصيبًا هدفه بأذنيّ أخيه تمامًا :
-إمــام !
روح هات رزق من عند أمي.. هاته منغير ما يحس
دون أن يهدر “إمام” مزيدًا من الوقت، إندفع للأعلى بسرعةٍ قصوى، والدته التي كانت على علمٍ كلّي بما يجري، ساعدته في أداء مهمته
إذ أضافت جرعة من المنوّم إلى كأس حليب الصغير “رزق”.. و حيث خلد إلى فراشه أسرع ممّا يفعل كل ليلة… حمله عمه بين ذراعيه و نزل به إلى القبو
نهض “سالم” ليتسلّمه من أخيه، بينما “كاميليا” التي قضت آخر شهورها بالحياة دون أن تلمح وجهه، صارت حيوية أكثر أثناء تلك اللحظات و هي تحاول القيام بجزعها بلا جدوى
و قبل أن يهرع “سالم” إليها متناسيًا أمر إبنه هتفت بكل ما أوتيت من جهدٍ :
-قربه عندي. هاته هنا جمبي يا سالم.. هاته في حضني !
مناصعًا لطلبها، قام “سالم” بوضع الصغير “رزق” كما هو نائم هكذا بجوار أمه، أسند رأسه فوق ذراعها و بسط فوقهما الغطاء
أما “كاميليا” التي راحت عيناها تفيضان بالدمع الوفير الآن، أمالت رأسها صوب رأس صغيرها، أخذت تمطره بوابل من القبلات و هي تهمس له بأعذب الكلمات و الوداعات الحارة التي حطّمت قلب زوجها و أخيه معًا
و لما فاض به الكيّل، إستدار نحو “إمام” هادرًا كالوحش الكاسر :
-فين الاسعاااااف يا إمام ؟؟؟ اتأخروا ليــــــه ؟؟؟؟؟
يرد “إمام” متلعثمًا :
-كلمتهم و الله ياخويا. مش عارفين يلاقوا مدخل للحي.. بيحاولوا يوصلوا هانعمل إيه أكتر من كده !!
شرر يتطاير من عينيّ “سالم” و صياحًا مصمّ ربما يوقظ الصغير الغارق بسباته …
-يعني إيه تعملوا إيــــه !!!
انا سالم الجزار. انا إللي بعوزه بيتم و في لحظته.. مش قادر أنقذ مراتي ؟؟!!!
دي لوحدها تطير فيها رقاب الـكـــل …
-سالم !
جمد حين أتاه صوتها مناديًا من الخلف بقدرٍ من التصلّب …
إلتفت ناحيته بطرفة عينٍ، إنحمى صوبها ملبيًا النداء بكل جوارحه :
-أيوة يا حبيبتي.. مالك فيكي إيه ؟
حاسة بإيه يا كاميليا. أنا هاشيلك على أديا دلوقتي و هاطلع بيكي قصاد الخلق. أنا هاوديكي أحسن مستشفى. و أوعدك بس ترجعيلي بالسلامة هاعملك كل إللي إنت عايزاه.. بس شدي حيلك عشان خاطري …
بدت و كأنها لم تسمع ما أيّ ممّا قاله، دست يدها أسفل وسادتها، سحبت مغلفًا ورقيًا، ثم ناولته إياه متمتمة بأنفاسٍ هفهافة لاهثة :
-الجواب ده تديه لرزق. تدهُله أول ما يكبر و يقدر يختار بنفسه.. سالم… ولادي أمانتي ليك. أمانتي يا سالم !
و من دون مقدمات
أسلمت “كاميليا” الروح و قد غابت رزقة عيناها المتألقة خلف بياضًا شاحب و نصف اغماضة من جفنيها الرخوين …
أمامها “سالم” الذي صفعته الصدمة و لكمته و ركلته، بل و بعثرته كليًا، إذ نشر ذراعيه حولها و أمسكها بقوةٍ صارخًا :
-كاميليــــــا.. لأ. لأ لأ.. لأاااااااا. كاميليــــــا.. قومي يا حبيبتي
قومي بالله عليكي.. ماتعمليش فيا كده. أنا آسف.. حقك عليا و الله. طيب قومي. قومي و أنا هاعملك كل إللي انتي عايزاه. كنتي عايزة نمشي من هنا هانمشي.. و الله هاخدك انتي و الولاد حالًا و هانمشي بس قومي.. قومي يا كاميليا ماتكسرنيش… شايفاني ببكي زي العيال إزاي. ده لو أمي هاصعب عليها.. معقول ماصعبتش عليكي.. قوووومي يا كاميليا. قومي.. قومي يا حبيبتي !
•••••••••••••••••••••••••••
تتمة الحكاية
و آخر ما سمعه “رزق” من عمه قبل أن يطلق سراحه كان موقع أمه بالتحديد …
مكانٍ لا يخطر على بال الأبالسة، مكانٍ كلما فكر فيه و هو يتخذ خطواته إليه تصيبه قشعريرة، برودة، غثيان !
ها هو الآن
يصعد درجات السلم مباشرةً إلى شقة أبيه، في يده البلطة الشهيرة التي مزق بها جسد ضحيته الأولى.. “عزام الوديدي” …
و بمفتاحه الخاص، فتح الباب، و بخطى متثاقلة، تكاد تكون آلية، مشى نحو غرفة نوم أبيه
يجر البلطة في يده فوق الأرض
إلى أن وصل عند ذلك الجدار الشهير، أمام إطار صورتها تمامًا، مد يديه و رفعه عن الحائط، و بهدوءٍ أسنده إلى ركنٍ مجاور
كم هو متماسك في هذه اللحظة، كم هو متأملًا بأن يكون حديث عمه ما هو إلا ترهات لا أساس لها من الصحة
فوق كل هذا جنونه قد صوّر له بأن هذه الحياة و تلك الاحداث التي مر بها كلها إن هي إلا كابوسٌ مزعج، و هو في الأخير سوف يستيقظ ليجد نفسه و لا يزال في العاشرة من عمره
في منزله بالحي الاسكندراني الراقي، محاطٌ بوالديه في الصباح، يغدقانه بالحب و الحنان، و هناك جده الباشا ينتظره عند طاولة الشطرنج و يسقيه من خبراته و تجاربه المفيدة فقط
كان يأمل أن يتحقق هذا فقط، حتى لو توقف قلبه عن النبض حينها، ما من شيء يساوي هذا الشعور الذي يتوق إليه بكل ذرة من كيانه
إنها قساوة لا تحتمل …
-آععععااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه ! .. صاح “رزق” بضراوةٍ كبيرة و هو يرفع البلطة و يهوى بها بكل قوته فوق الجدار
محطمًا ما استطاع، بلا كلل و لا تعب، واصل الضرب فوق الحجارة القاسية، مرة، إثنان، ثلاث… عشرة !!!
ثم توقفت اعضاؤه قاطبةً عن العمل للحظة …
عندما برزت قطعة من القماش الأبيض المصفرّ خلف بقايا الجادر نصف المهدوم، سرعان ما انتزع نفسه من حالة الشلل الفجائي تلك و أنقض بيديه المجردة الآن لينزع بقية الحجارة بنفسه
و عند قطعة معيّنة، سقط الكفن و كأنه شبحًا تبخر و لم يترك سوى قطعةٍ من القماش ..
لكن أذنيه ميّزتا صوت لقلقة العظام فوق الأرض، و عيناه قد اصطدمت للتو بالخصيلات الشقراء الزاهية التي يعرفها جيدًا
إنه شعر أمه الذي لم يشيب أبدًا …
-آااااااااااااااااااااااااااااااااااااه !!!!!
هكذا أطلق “رزق” آهةٍ مكلومة و هو ينهار على ركبتيه إلى جانب جثة أمه البالية.. بقاياها
صار يبكي كالاطفال و يندب كالنساء دون يجرؤ على الاقتراب أكثر
لقد كانت هنا.. طوال هذا الوقت كله… لقد كانت هنا !
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية وقبل أن تبصر عيناك)

اترك رد