روايات

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الرابع عشر 14 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام الفصل الرابع عشر 14 بقلم رحاب إبراهيم حسن

رواية قلبي و عيناك و الأيام البارت الرابع عشر

رواية قلبي و عيناك و الأيام الجزء الرابع عشر

قلبي و عيناك و الأيام
قلبي و عيناك و الأيام

رواية قلبي و عيناك و الأيام الحلقة الرابعة عشر

~…عتاب وعقاب…~
أحيانًا يخرج أعتراف الحب كصوت غاضب ….. گعتاب مؤجل …. گهزة تحت أقدامنا تجعلنا ننتبه أن هناك ميل ..!
في المركز الطبي …..مع ساعات النهار الأخيرة من هذا اليوم الشاحبة شمسه….ثارت ثائرتها …
لم تكن تلك المريضة كأي حالة بالنسبة للطبيبة “مروة” … أتى إليها قريبها …… الضابط أحمد …أبن خالتها …..
بعينيه نظرة تقول شيء يتردد في الاعلان عنه … حيرة مبعثها عدم ثقته في مشاعرها نحوه …. وهي گ اللون المحير الذي يتصف بعدة أسماء ….مشاعرها متأرجحة …
تارة تدفعه للإعتراف …ويأخذه الحماس !
وفي التو ترجع لذات السكوت والصمت ..!
دلف مكتبها …أقترب إليها وهي تقف شاردة أمام النافذة كأنها تفكر بحبيب طال انتظاره ..!
تطلع بشرودها جيدًا وكم تمنى أن يكن البال مشغول بحبه !
قال بصوت خرج هامسا :
_ مروة ….. اللي واخد عقلك ؟!
توترت ملامحها … ودائمًا كان يأتي في الوقت الصحيح …!
عندما يجتاحها الشوق وتتلهف لرؤيته تجده ماثل أمامها !
كيف الشوق يأتي به عند الطلب ولم يزلّ لسانه بالإعتراف ؟!
التفتت له ببطء …لم يكن بمفاجئة أن تره …وجوده قائم حتى وهو غائب لا عجب ..!
شعور مقيت يدفعها كي ترتمي على صدره وتخبره أنها تحتاج إليه ؟! ….ولكن بعد حساب أن هذا يخالف أخلاقها وحيائها ….كان يخالف الكبرياء أيضاً…….
هي ليست احتياط أو بديل كي يجده حينما ينتهي من علاقة أو ارتباط مع أحداهنّ….!
قالت بثبات وهي تعقد ذراعيها حولها ….إشارة دفاع ترسلها لقلبها سرًا :
_ شغلي اللي شاغل بالي يا أحمد ..!
تنهد أحمد بنفاد الصبر …. العمل مجددًا ..! ….لا بأس سيتحكم بأعصابه للمرة ما بعد المليون …قال بهدوء :
_ ورد تاني ؟! …… كل حياتك شغل …شغل..!!
هتضيعي عمرك بالشكل ده !!
ارتاحت أنه صدق ما قالته للتو ….. يكفِ ضعف أمامه …قالت :
_ هدفي أني اكمل مشواري معاها ….أنت عارف أني عنيدة ….
هز رأسه موافقا قولها …مؤكدًا على ذلك بكل قوته ….لكن الأمر كان يبدو أنه أبعد عن حديث العمل ….قال بسخرية :
_ ومين يعرف أدي ؟! ….. عنيدة وعندك هيوصلك لحيطة سد ! ….
يتلاعب ثم يعاتب ؟!
أيا رجل ألا تسأل أفعالك عن ما طالك منها ؟!
التمعت عينيها بضيق منه …..
يؤرق القلب عتاب مختبئ ….كلمات كان لابد أن تُقال وقيدها الصمت …. أعتذار وأعذار …دفاع ربما بعده كان السماح ممكن !

 

 

قالت بحدة صوتها :
_ تقصد إيه …؟!!
أقترب احمد إليها خطوة….خطوة واحدة كان يعرف أنها ستؤثر على حدتها …..القرب يؤثر على غضب الأنثى ويعرف ذلك …
قال بنظرة عتاب لعينيها :
_ اقصد أني عمري ما حبيت غيرك ….. يمكن خطوبتي كانت بقصد أني استفزك واغيظك…أخرجك من مرحلة السكوت والجمود ده …… غلطت …حسبتها غلط …ظلمت انسانة معايا مكنش ذنبها أني بحبك …..بس عملت ده كله بسببك أنتِ..!
ابتسمت بسخرية ….مرارة ارتسمت على شكل ابتسامة ساخرة !
قالت :
_ حكايتنا كانت جميلة ….بنت خجولة وبتتكسف …قلبها لسه أخضر …. وشاب شايف أن الحب عبارة عن كلام !!
أني لما تقولي بحبك ….يبقى لازم أرد وأقولك أنا كمان بحبك …!! مافهمتنيش ….
التمعت عينيها بالدموع وتابعت :
_ ماحسبتش أني حسيتها بس كان صعب أقولها ….اسأل نفسك لما أنا مردتش كسوف وخجل كان رد فعلك ايه ؟!
عرفت كام واحدة وفي الآخر خطبت صاحبتي !
وده كله عشان تستفزني ….فكرك أني كده يعني هجري عليك وأقولك بحبك ؟! ……
سقطت دمعة من عينيها وهي تضيف بانكسار :
_ أنت كسرت جوايا مقامك عندي …. كسرت حلم بريء أوي اتمنيت أنه يكمل بشكل راضية عنه …..وده كله عشان احترمت مشاعري وحبيت أديها حقها بشكل رسمي ……
أنت بقى كنت عايز واحدة زي إسراء صاحبتي ….
بنت بتعرف تحب …وبتعرف تلبس وتتشيك …بتعرف تتكلم وتلف دماغك بكلمتين حلوين ….ده يعني من وجهة نظرك…!
بس الحب بالنسبالي مش كده !!
ومش هقولك عشان أنت ما تستاهلش …واحمد ربنا أني قادرة اعتبرك حتى أخ …!!
هتفت في آخر حديثها واشتدت دموعها انهمارًا ……للتو اكتشف كم كان غبي في قراره الذي عذبها هكذا ….قال بأسف وندم :
_ نفسي أعرف كام مرة لازم أعتذر واتأسف عشان تسامحيني ؟
كل اللي أقدر أقوله ….أني غلطان وندمان …..
أنا حبيت بجد ….بس أنا مش ملاك ….فهمت غلط …وغلطت …عكيت الدنيا … كسرت بغبائي أحلى حاجة في حياتي ….. بس تفتكري لو أنا بالفعل عملت ده كله بدافع إنك تتحركي وتتكلمي وتبيني اللي جواكِ حتى لو كنت غبي في تصرفاتي ….ما استاهلش السماح ؟
عجزت مروة عن الرد ….. بماذا تجيب ؟!
بعض من الحكمة يخبرها أن تعطيه فرصة …..ولكنها تمقت هذا الشيء ….تمقت أن تكن لعبة بين يديه !!
وربما كان كاذب ….للأسف هي لا تعرف حقيقة مشاعره حتى الآن !
رغم أنه فردًا من عائلتها ….ولكن القلب محراب مغلق الدوام……لا يفتح لاحدًّا ……
ابتلعت ريقها وتهربت بحركة عائدة إلى مكتبها ….وراقبها بتمعن بانتظاره كلمة تبل ريقه بالحياة والفرحة….قالت :
_ أنا راجعة البيت …..بعد أذنك ….
صرّ على أسنانه بغضب مكتوم ….ثم قال بعصبية رنت بصوته :
_ هوصلك ….
رفضت قائلة وهي تحمل حقيبتها وتظاهرت بالبحث بداخلها عن شيء :
_ لأ مافيش داعي …..كنت بسيبك الفترة اللي فاتت توصلني عشان كنت بتساعدني أدور على ورد …أنما دلوقتي مافيش داعي توصلني …..شكرًا جدًا ….
ارتفع صوته بعصبية ولمحة أصرار :
_ من غير نقاش يا مروة يلا عشان أوصلك ….أظن مش من الذوق أو الرجولة أني أسيبك تركبي مواصلات لوحدك بليل كده …..!
اللي بينا شيء …..وقرابتنا شيء تاني ….
قالت مروة وهي تحمل الحقيبة على كتفها :
_ أحنا مافيش بينا حاجة غير أننا قرايب وبس …..وعمومًا هتوصلني ولا هنقف كده كتير ؟!
تنفس بعمق وعصبية تلتمع بعينيه وهو يشير لها أن تخطو أمامه ….

 

 

➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
انهمكت الفتيات في تحضير الطعام على صواني فضية اللون دائرية الشكل ……وكان الفريق الطبي مؤلف من ستة عشر طبيبًا من مختلف الاقسام والتخصصات وأثنين من الصيادلة وبعض الافراد الأخرى …..
وفي مندرة منزل العمدة التي كانت واسعة جدًا لأستقبال ضعف هذا العدد …..وضع نعناعة طاولات خشبية على شكل مستطيل أمام الضيوف وهذا طبقاً لطقوس إعداد الطعام الذي تعود عليها …..
فلا يترك أي من الفتيات تقترب من المندرة أثناء وجود أي من الرجال الغرباء …..ويستقبل هو مهمة ترتيب الأطباق على المائدة الريفية الثرية بالأطعمة اللذيذة ….
بدأ الصبي في نقل الصواني من المطبخ حتى المندرة ووضع الأطباق أمام الضيوف …..
ابتسم يوسف وهو ينظر للأطباق التي ترتفع منها السنة البخار برائحة شهية نفاذة بمختلف الأطعمة الدسمة…..وقال هامسا لرعد :
_ شوف الاكل اللي يفتح النفس ! …… ومستغرب أني مبسوط هنا !! …..طبيعي أتبسط جدًا …..ريحة الأكل ده بتفكرني بريحة الفطير بتاع البنت العسولة الفلاحة اللي شوفتها من قريب ….
رد رعد عليه مبتسما بمكر :
_ البنت العسولة الفلاحة !! ….. وإيه كمان يا حنين ….يا ابو قلب كبير….يا أبو بطن كبيرة!
تحسس يوسف بطنه المسطحة وقال بتعجب :
_ بطني مش كبيرة يا غلس !! أنا بعوض بالرياضة وده قمة الذكاء بقا خد بالك…… باكل اللي أنا عايزه ….وساعة رياضة تخليني رشيق جدًا…
وعلى الجانب الآخر همس آسر ليوسف :
_ يوسف …الأكل ده كله بالسمنة البلدي يعني خلي بالك …..ماتنزلش فيه أوي عشان أنت مابتصدق ….
تنقلت نظرة يوسف للأطباق الذي يرتبها نعناعة على الطاولة الخشبية أمامهم ورد على آسر وعينيه على الطعام :
_ شايف الطبق اللي فيه محشي قدامك ده ….عايزه ….
قال آسر بدهشة :
_ ما انت قدامك واحد من الناحية التانية؟!
وضح يوسف قائلًا :
_ رعد عايزه
هز آسر رأسه موافقا …انتظر يوسف للحظات ثم همس لرعد :
_ بقولك …. قرب عليا طبق المحشي بتاعك ده كده ….أصل نفسي فيه ….
قال رعد بتعجب :
_ اومال اللي هناك ده بيعمل ايه ؟! ..
أجاب يوسف متظاهرا بالضيق :
_ آسر عايزه
قال رعد مبتسما وهو يربط على قدم يوسف بتأثر :
_ حاضر …أول ما نبدأ اكل هحطه قدامك ….أنت أخويا يابني…. !
نظر يوسف له وأطرف عينيه سريعا بتأثر :
_ ربنا يحميك ويكتر من أمثالك لأمثالي ….
ابتسم رعد بشكر :
_ حبيبي تسلم ….ربنا يديك على أد معدتك يا حبيبي ….
تم ترتيب الطعام بعد دقائق قليلة فقال العمدة لهم جميعا وهو يبدأ باسم الله :
_ بسم الله يا دكاتره …بالهنا والشفا ….
وضع رعد وآسر طبق “المحشي” في وقتٍ واحد أمام يوسف ….حتى نظر كلًا من رعد وآسر لبعضهما وفهما مكر يوسف عليهما فضيقا أعينهما في غيظ منه ….. بينما ضم يوسف الطبقين أمامه في ابتسامة واسعة ورماهمها بغمزة …..
تمتم آسر ورعد وكتما بعض الكلمات العصبية …..
تفاجئ جاسر بيد نعناعة التي تضع أمامه مزيدًا من الطعام من حين لآخر ببسمة واسعة …..حتى نظر جاسر له بغيظ وقال :

 

 

_ كفاية !!
قال نعناعة بضحكة بلهاء :
_ لازم تتغذى يا دكتور …. أنت نورت الدنيا والله ….
كتم جاسر غيظه من هذا الصبي المزعج وتابع طعامه الذي تلذذ به حقا ……
قال الصبي نعناعة بحماس :
_ على ما تخلصوا هكون جبت شنط الدكاترة اللي في الخيمة ….فوريرة وهتلاقوني جاي …..
قال أبيه العمدة بأمر :
_ لأ استنى …..بعد لما يخلصوا عشان تشيل الأكل وتدخله المطبخ……وتبعتلنا الشاي ….
وافق الصبي في ترحاب شديد بالضيوف …..
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
قالت سما بسيمات الإرهاق على وجهها وهي تستند على رخامة المطبخ:
_ طب كده هيكون فاضل بس المواعين تتغسل …..هروح استريح في اوضتنا ….مابقتش قادرة أقف …
قالت جميلة وهي ترتشف كوب من شاي بالنعناع :
_ روحي ارتاحي أنتِ يا سمكة ….هخلص انا المواعين أنا وحميدة ورضوى……
هزت سما رأسها وتوجهت لغرفتهم بداخل المنزل …..قالت حميدة بصوت خافت وضيق لأجل شقيقتها :
_ البت سمكة مابقتش بتهزر زي الأول ….. أنا زعلانة عشانها أوي ….
قالت رضوى بغيظ :
_ منه لله اللي كان السبب ….. واحد مايستاهلش تعريفة كرهها في عيشتها وطفش !
تنهدت جميلة بألم وقالت :
_ غلبانة سمكة ….كانت راضية بيه رغم انها مكنتش بتحبه ولا كانت عايزاه في الاول …..احنا اللي اقنعناها وفضل خاطبها اربع شهور ……اربع شهور مقالهاش كلمة حلوة !!
على طول كلامه دبش ….وشايفها وحشة ومسترجلة ! اومال حفي على ما وافقت عليه ليه ؟!
أجابت حميدة عليها :
_ بس سمكة برضو غلطانة يا جميلة ….هي جافة أوي بصراحة ….ماهي ممكن توصل اللي في دماغها بشكل هادي من غير مشاكل …هي عصبية وهو عينه زايغة وطلع مش سهل ….
وضعت رضوى يديها على خصرها بإعتراض :
_ يعني تتسهوك عشان تعجب يعني !! مايغور في داهية ….بكرة يجي سيد سيده !!
نفت حميدة الأمر وأوضحت :
_ مش بتكلم عن الواد ده …بتكلم عمومًا يا رضوى …..سمكة عصبية في كل حاجة والدنيا مش بتتاخد كده ….. لما تتجوز هتفضل كده برضو وهتتعامل كده ودي المشكلة الحقيقية …..
في غرفة الفتيات …..
التي تضم سريرين وخزانة ملابس كبيرة تحتوي على ملابسهما الأربعة ……وأريكة جانبية خلفها نافذة خشبية باللون الأخضر

 

 

الباهت بعض الشيء ……
أغلقت سما الباب جيدًا خلفها ثم توجهت للأريكة ….فتحت نصف النافذة ونظرت للسماء الغائمة وهي تدمع وتتذكر كلمات الطبيب الشاب …..مع ذكريات مؤلمة مرت بها …
وتقول دموعها الكثير …..
لست قبيحة …..لست كما تراني أعينكم …..انظروا إلى قلبي …إلى روحي ….أنظروا إليّ بعين الأنصاف ….
انظروا إليّ وأنا اطعم طير ضعيف يبحث عن الطعام بجوع ….. أو وأنا احمل صغير وابتسم له …..
أنظروا لما أصنعه بيدي ….وليس لما بيدي فيه أي صنع !!
لست مثل أحد للمقارنة بالأخريات … أنا أحب تلك الملامح بوجهي…. لما اجبرتوني على كرهها لأنها لا تروق لكم؟!
أنتم تنظرون لما ترونه …ولكن لا ترون دموعي بالخفاء ليلًا على كلماتكم الجارحة …..لا ترون أنشقاق قلبي عند تذكرها ….ولا ترون صفعات الألم مع تردد صداها وتأثيرها بروحي …..
أعينكم ليست مبصرة …وقلوبكم دون بصيرة لرؤية الجمال الكامن بالقلب والروح …..
أي جمال يمتلكه انسان يؤذي مشاعر غيره بمنتهى الثبات دون رفة ندم ؟!
وعن أي قبح تتحدثون عنه بفتاة لا تريد من الحياة أكثر من أن تغفو عند المساء دون دموع ؟!
أنتم بشر ….والبشر ليس ملائكة ….إذن علي تحمل ما اقابله منكم…أسفا على قلبي ….وعلى قوة احتمالي …..
وعلى حياة لابد أن اتحملكم فيها وليس بيدي شيء سوى أن أهرب لغرفتي وأبكِ في عزلتي ….. في شموخ صمتي …
هذا رد فعل متأخر …..يسبقه رد سريع ببسمة تخفي دموعي حتى أنفرد بنفسي …..بمساء أبكِ فيه وحدي ….مثلما أفعل الآن تمامًا…
انتفضت سما من البكاء وهي تسقط رأسها على حافة الأريكة وتدفن دموعها بجفاف قماشها المقلم ……
ورغم أن العين تدمع ….والقلب منكسر … لكن هناك يقين بأن السعادة آتية بالأماني ….
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
القلب له أعين ….تسهر وتنام …تغفو بالأحلام …وتستيقظ مهلة وأحيانا فزعة …. بينما هناك قلوب عينيها گعيون التماثيل الثابته …. ساهدة صباحها ومسائها …..تنتظر مساء الفرحة بيوم ….
كانت في طريقها إلى المشفى ….وقد دخل الليل بعاصفة من البرد الشديد ….. كانت قد ابتاعت بعض الملابس بنهار اليوم لها ولأبنتها …ببعض المال الذي تبقّى معها …
أضفى الرداء الطويل الكحلي من قماش القطيفة نعومة في طلتها …. ولابد أن تعترف أن لهفتها يشوبها لهفة لرؤياه …رغم أيضا بعض القوة التي لا تريد أن تراه ….فسيبدو الأمر بعدما حدث كارثة !
كارثة ليس بمعناها المعروف…
كارثة مشاعر !!
ربما هذا نوع من الكوارث يدحض أخطر القرارات …. أن نحب كثيرًا ….ونضحي أكثر …ونبتعد ونفارق لإبعاد الخطر عن قلوبهم ….وتأتي تلك الكارثة الحسية وتخبرنا أننا نريد البقاء ويحدث ما يحدث …
ويتنحى الكبرياء لبعض الوقت ….
شيء شديد الخطورة بالأخص في هذا الوقت …. التي تبعده لتسعده …. أو لتقنع نفسها بذلك …..
مرت السيارة الأجرة بالطريق ووصلت أمام المشفى في سرعة لم تشعر بها ليلى ….. همست ليلى لأبنتها التي صمتت طيلة الطريق فقط لأنها تعتقد أنها عائدة لبطل حكايات قبل النوم ….. لأبيها التي قررت ببراءة أنه أصبح أبيها !
وقالت للصغيرة :
_ أوعي تعملي أي صوت …..وإلا هيزعقولي أنا …ماشي يا حبيبتي ؟
اومأت الصغيرة برأسها في موافقة عاجلة …..للأسراع فقط والدخول …..وقفت السيارة الأجرة بقرب المشفى ….نظرت ليلى من النافذة الزجاجية لتتعجب !!
ليس هناك حراسة على باب المشفى !
أين هم إذن ؟!
مصادفة أم غير ذلك ؟!
تذكرت ليلى أن الحرس قد أرسلهم وجيه لقسم العناية …..سبب مقنع لأختفائهم ….رغم أن عدم وجود باقي الحرس أمر مثير للشك …..ولكن سيسهل الامر عليها بهذه الطريقة للدخول ….
خرجت من السيارة الأجرة وتوجهت إلى المشفى وهي تحمل طفلتها ……
دق قلبها بخوف وشعور قوي أن هناك مؤامرة بالأمر ….ولم تعرف لما لم تبحث على الأقل عن وسيلة أخرى للدخول ….
كأنها تريد أن يقبض عليها وتقنع نفسها أنها ما كانت تريد ذلك !
خطواتها كانت بين البطء والسرعة وهي تمضي من باب الدخول بيسر ….كأن الظروف تمهد لها ذلك ….ولا تدرك فعليًا أن الأمر مرتب له من قبل …..
مضت من أمام مكتب الاستعلامات وهي تخفي وجهها في كتف أبنتها …..ووقفت أمام باب المصعد ….تنتظر أن يحتويها قبل أن يرها أحد …..
أي كارثة وضعت نفسها بها ….للتو ادركت الأمر ….رغبتها متضاربة بين اللهفة والخوف والابتعاد …..
لسان الافتقاد هو من ارغمها على هذا العبث والمجيء بهذا الشكل ….علها تره …عله يجدها في تيهتها …رغما عنها ….
وقف المصعد وتنفست الصعداء عندما خرج منه بعض الغرباء …..دخلت وهي تتعجب من نفسها !!
ماذا تريد ؟!

 

 

ما هذا الجنون ؟!
تريده بشدة أن يجدها ….وتريد بجنون الهرب منه ! …أي عبث هذا ؟!
بين اللحظة والأخرى الف شعور ولهفة وهجر يتقلب بخاطرها …..!
صعد المصعد بها وهي لا زالت تحمل ابنتها ….وعامل المصعد يواليها ظهره بانتظار الطابق المقصود ….
حتى وقف المصعد وتابعت سيرها …على سير من الجمر والخوف وهي تترقب ظهوره بين اللحظة والأخرى …..لتقابلها زميلتها “بثينة” وهي تباشر عملها بتنظيف الممر …..
دهشت بثينة من رؤيتها تسير هكذا وهي من هربت بالأمس !!
تركت ما بيدها واسرعت إليها في تحذير وقلق :
_ كنت اتصلي بيا وطنت نزلت جبتك من باب تاني ….أنتِ مش خايفة وأنت ماشية كده عادي ؟!!
قالت ليلى بعجالة :
_ نبقى نتكلم بعدين يا بثينة ….خليني بس أشوف أبويا الأول واطمن عليه …..
نظرت بثينة حولها بترقب ثم قالت :
_ طب هاتي بنتك هخليها معايا ….البسي لبس ممرضات وكمامة وادخلي شوفيه …محدش هيعرفك بالكمامة ….
أنا حضرت اللبس في أوضة المنظفات …ادخلي بسرعة ومتتأخريش ….. الحرس عندهم راحة بعد دقايق …قدامك عشر دقايق بالضبط أكتر من كده معرفكيش …..
اودعت ليلى صغيرتها مع بثينة وتوجهت لغرفة المنظفات سريعا ….وبسرعة خارقة كانت ارتدت رداء الممرضات وارتدت الكمامة الطبية التي حجبت ملامحها عن التعريف …..
ثم خرجت من الغرفة وهي تنظر حولها ولاحظت أن بثينة اختفت من الممر أيضا …..
سارت ليلى بترقب وخوف وهي تنظر حولها ….كان الطريق لغرف العناية هادئ وخالِ من المرور ……
مضت بساقيها التي ترتجف من الخوف وتحملها بالكاد …..كانت تبتلع ريقها بصعوبة كلما مرت خطوة ..!
حتى وقفت اقتربت من غرفة العناية التي بها والدها ….وانتبهت لبثينة وهي بغرفة مواجهة وتحمل الصغيرة …. نظرت لها بثينة وحذرت إنها ليلى بتلك الكمامة الكبيرة الحجم …..اغلقت ليلى الباب علي بثينة وقالت بهمس :
_ ماتعمليش صوت يا ريمية زي ما قولتلك ….رجعالك تاني ….
ضافت الطفلة من ترداد قول أمها للمرة التي لم تحسب كم !
وبدأت تتأفف من الانتظار ……
اغلقت ليلى الباب وحمدت ربها أن الحرس ذهبوا للإستراحة قبل أن تأتي وأنهم لم يتعرفوا على ابنتها….
فتحت باب العناية المركزة لتخدمها الظروف أيضا أن هناك ممرضة واحدة تعاين أحد المرضى على بُعد خطوات بعيدة من والد ليلى الذي كان سريره مقابل للباب مباشرةً…..
توجهت بنظرة يغمرها اللهفة لفراش والدها ….لتجده على حاله ….اطرفت عينيها بإعتذار ودمعة سقطت من عينيها وقالت بصوت خافت جدًا :
_ غصب عني سيبتك …. بس جيت رغم كل شيء عشان أشوفك …. بس بالكتير يومين وهتتنقل وهقدر اكون جانبك على طول …..أنت سامعني يا بابا ….أنا متأكدة …
مرت الممرضة بجانبها وقالت متسائلة وهي تنظر لليلى بتعجب :
_ مالك ؟!
جف ريق ليلى التي ضيقت عينيها لتخفي الدموع وقالت بتلعثم :
_ لا أبدًا ….أصل ….أصل حسيت بحركة …و
قاطعتها الممرضة وقالت بموافقة:
_ أيوة فعلًا ….. النهاردة الدكاترة كانوا بيتكلموا عن الموضوع ده …يمكن المريض ده قرب يفوق مين عارف …
لم تعتقد ليلى أن كذبتها تشكلت حقيقة وواقع ! …..أرادت بشدة أن تبك بسعادة ….نظرت لأبيها وعينيها ملؤها الدموع وابتسامة بآنٍ واحد ….حتى انتفض جسدها عندما اقتحم القسم من هربت منه …..من اصبحت لديه كالهواء الذي يتنفس ولا يستطع أن يمسكه بيديه!
اتسعت عينيها وكاد قلبها أن يتوقف عندما سمعت صوته وهو يدخل سريعا للقسم وخلفه الحرس……

~…عتاب وعقاب…~
أحيانًا يخرج أعتراف الحب كصوت غاضب ….. گعتاب مؤجل …. گهزة تحت أقدامنا تجعلنا ننتبه أن هناك ميل ..!
في المركز الطبي …..مع ساعات النهار الأخيرة من هذا اليوم الشاحبة شمسه….ثارت ثائرتها …
لم تكن تلك المريضة كأي حالة بالنسبة للطبيبة “مروة” … أتى إليها قريبها …… الضابط أحمد …أبن خالتها …..
بعينيه نظرة تقول شيء يتردد في الاعلان عنه … حيرة مبعثها عدم ثقته في مشاعرها نحوه …. وهي گ اللون المحير الذي يتصف بعدة أسماء ….مشاعرها متأرجحة …
تارة تدفعه للإعتراف …ويأخذه الحماس !
وفي التو ترجع لذات السكوت والصمت ..!
دلف مكتبها …أقترب إليها وهي تقف شاردة أمام النافذة كأنها تفكر بحبيب طال انتظاره ..!
تطلع بشرودها جيدًا وكم تمنى أن يكن البال مشغول بحبه !
قال بصوت خرج هامسا :
_ مروة ….. اللي واخد عقلك ؟!
توترت ملامحها … ودائمًا كان يأتي في الوقت الصحيح …!
عندما يجتاحها الشوق وتتلهف لرؤيته تجده ماثل أمامها !
كيف الشوق يأتي به عند الطلب ولم يزلّ لسانه بالإعتراف ؟!
التفتت له ببطء …لم يكن بمفاجئة أن تره …وجوده قائم حتى وهو غائب لا عجب ..!
شعور مقيت يدفعها كي ترتمي على صدره وتخبره أنها تحتاج إليه ؟! ….ولكن بعد حساب أن هذا يخالف أخلاقها وحيائها ….كان يخالف الكبرياء أيضاً…….
هي ليست احتياط أو بديل كي يجده حينما ينتهي من علاقة أو ارتباط مع أحداهنّ….!
قالت بثبات وهي تعقد ذراعيها حولها ….إشارة دفاع ترسلها لقلبها سرًا :
_ شغلي اللي شاغل بالي يا أحمد ..!
تنهد أحمد بنفاد الصبر …. العمل مجددًا ..! ….لا بأس سيتحكم بأعصابه للمرة ما بعد المليون …قال بهدوء :
_ ورد تاني ؟! …… كل حياتك شغل …شغل..!!
هتضيعي عمرك بالشكل ده !!
ارتاحت أنه صدق ما قالته للتو ….. يكفِ ضعف أمامه …قالت :
_ هدفي أني اكمل مشواري معاها ….أنت عارف أني عنيدة ….
هز رأسه موافقا قولها …مؤكدًا على ذلك بكل قوته ….لكن الأمر كان يبدو أنه أبعد عن حديث العمل ….قال بسخرية :
_ ومين يعرف أدي ؟! ….. عنيدة وعندك هيوصلك لحيطة سد ! ….
يتلاعب ثم يعاتب ؟!
أيا رجل ألا تسأل أفعالك عن ما طالك منها ؟!
التمعت عينيها بضيق منه …..
يؤرق القلب عتاب مختبئ ….كلمات كان لابد أن تُقال وقيدها الصمت …. أعتذار وأعذار …دفاع ربما بعده كان السماح ممكن !
قالت بحدة صوتها :
_ تقصد إيه …؟!!
أقترب احمد إليها خطوة….خطوة واحدة كان يعرف أنها ستؤثر على حدتها …..القرب يؤثر على غضب الأنثى ويعرف ذلك …
قال بنظرة عتاب لعينيها :
_ اقصد أني عمري ما حبيت غيرك ….. يمكن خطوبتي كانت بقصد أني استفزك واغيظك…أخرجك من مرحلة السكوت والجمود ده …… غلطت …حسبتها غلط …ظلمت انسانة معايا مكنش ذنبها أني بحبك …..بس عملت ده كله بسببك أنتِ..!
ابتسمت بسخرية ….مرارة ارتسمت على شكل ابتسامة ساخرة !
قالت :
_ حكايتنا كانت جميلة ….بنت خجولة وبتتكسف …قلبها لسه أخضر …. وشاب شايف أن الحب عبارة عن كلام !!
أني لما تقولي بحبك ….يبقى لازم أرد وأقولك أنا كمان بحبك …!! مافهمتنيش ….
التمعت عينيها بالدموع وتابعت :
_ ماحسبتش أني حسيتها بس كان صعب أقولها ….اسأل نفسك لما أنا مردتش كسوف وخجل كان رد فعلك ايه ؟!
عرفت كام واحدة وفي الآخر خطبت صاحبتي !
وده كله عشان تستفزني ….فكرك أني كده يعني هجري عليك وأقولك بحبك ؟! ……
سقطت دمعة من عينيها وهي تضيف بانكسار :
_ أنت كسرت جوايا مقامك عندي …. كسرت حلم بريء أوي اتمنيت أنه يكمل بشكل راضية عنه …..وده كله عشان احترمت مشاعري وحبيت أديها حقها بشكل رسمي ……
أنت بقى كنت عايز واحدة زي إسراء صاحبتي ….
بنت بتعرف تحب …وبتعرف تلبس وتتشيك …بتعرف تتكلم وتلف دماغك بكلمتين حلوين ….ده يعني من وجهة نظرك…!
بس الحب بالنسبالي مش كده !!
ومش هقولك عشان أنت ما تستاهلش …واحمد ربنا أني قادرة اعتبرك حتى أخ …!!
هتفت في آخر حديثها واشتدت دموعها انهمارًا ……للتو اكتشف كم كان غبي في قراره الذي عذبها هكذا ….قال بأسف وندم :
_ نفسي أعرف كام مرة لازم أعتذر واتأسف عشان تسامحيني ؟
كل اللي أقدر أقوله ….أني غلطان وندمان …..
أنا حبيت بجد ….بس أنا مش ملاك ….فهمت غلط …وغلطت …عكيت الدنيا … كسرت بغبائي أحلى حاجة في حياتي ….. بس تفتكري لو أنا بالفعل عملت ده كله بدافع إنك تتحركي وتتكلمي وتبيني اللي جواكِ حتى لو كنت غبي في تصرفاتي ….ما استاهلش السماح ؟
عجزت مروة عن الرد ….. بماذا تجيب ؟!
بعض من الحكمة يخبرها أن تعطيه فرصة …..ولكنها تمقت هذا الشيء ….تمقت أن تكن لعبة بين يديه !!
وربما كان كاذب ….للأسف هي لا تعرف حقيقة مشاعره حتى الآن !
رغم أنه فردًا من عائلتها ….ولكن القلب محراب مغلق الدوام……لا يفتح لاحدًّا ……
ابتلعت ريقها وتهربت بحركة عائدة إلى مكتبها ….وراقبها بتمعن بانتظاره كلمة تبل ريقه بالحياة والفرحة….قالت :
_ أنا راجعة البيت …..بعد أذنك ….
صرّ على أسنانه بغضب مكتوم ….ثم قال بعصبية رنت بصوته :
_ هوصلك ….
رفضت قائلة وهي تحمل حقيبتها وتظاهرت بالبحث بداخلها عن شيء :
_ لأ مافيش داعي …..كنت بسيبك الفترة اللي فاتت توصلني عشان كنت بتساعدني أدور على ورد …أنما دلوقتي مافيش داعي توصلني …..شكرًا جدًا ….
ارتفع صوته بعصبية ولمحة أصرار :
_ من غير نقاش يا مروة يلا عشان أوصلك ….أظن مش من الذوق أو الرجولة أني أسيبك تركبي مواصلات لوحدك بليل كده …..!
اللي بينا شيء …..وقرابتنا شيء تاني ….
قالت مروة وهي تحمل الحقيبة على كتفها :
_ أحنا مافيش بينا حاجة غير أننا قرايب وبس …..وعمومًا هتوصلني ولا هنقف كده كتير ؟!
تنفس بعمق وعصبية تلتمع بعينيه وهو يشير لها أن تخطو أمامه ….
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
انهمكت الفتيات في تحضير الطعام على صواني فضية اللون دائرية الشكل ……وكان الفريق الطبي مؤلف من ستة عشر طبيبًا من مختلف الاقسام والتخصصات وأثنين من الصيادلة وبعض الافراد الأخرى …..
وفي مندرة منزل العمدة التي كانت واسعة جدًا لأستقبال ضعف هذا العدد …..وضع نعناعة طاولات خشبية على شكل مستطيل أمام الضيوف وهذا طبقاً لطقوس إعداد الطعام الذي تعود عليها …..
فلا يترك أي من الفتيات تقترب من المندرة أثناء وجود أي من الرجال الغرباء …..ويستقبل هو مهمة ترتيب الأطباق على المائدة الريفية الثرية بالأطعمة اللذيذة ….
بدأ الصبي في نقل الصواني من المطبخ حتى المندرة ووضع الأطباق أمام الضيوف …..
ابتسم يوسف وهو ينظر للأطباق التي ترتفع منها السنة البخار برائحة شهية نفاذة بمختلف الأطعمة الدسمة…..وقال هامسا لرعد :
_ شوف الاكل اللي يفتح النفس ! …… ومستغرب أني مبسوط هنا !! …..طبيعي أتبسط جدًا …..ريحة الأكل ده بتفكرني بريحة الفطير بتاع البنت العسولة الفلاحة اللي شوفتها من قريب ….
رد رعد عليه مبتسما بمكر :
_ البنت العسولة الفلاحة !! ….. وإيه كمان يا حنين ….يا ابو قلب كبير….يا أبو بطن كبيرة!
تحسس يوسف بطنه المسطحة وقال بتعجب :
_ بطني مش كبيرة يا غلس !! أنا بعوض بالرياضة وده قمة الذكاء بقا خد بالك…… باكل اللي أنا عايزه ….وساعة رياضة تخليني رشيق جدًا…
وعلى الجانب الآخر همس آسر ليوسف :
_ يوسف …الأكل ده كله بالسمنة البلدي يعني خلي بالك …..ماتنزلش فيه أوي عشان أنت مابتصدق ….
تنقلت نظرة يوسف للأطباق الذي يرتبها نعناعة على الطاولة الخشبية أمامهم ورد على آسر وعينيه على الطعام :
_ شايف الطبق اللي فيه محشي قدامك ده ….عايزه ….
قال آسر بدهشة :
_ ما انت قدامك واحد من الناحية التانية؟!
وضح يوسف قائلًا :
_ رعد عايزه
هز آسر رأسه موافقا …انتظر يوسف للحظات ثم همس لرعد :
_ بقولك …. قرب عليا طبق المحشي بتاعك ده كده ….أصل نفسي فيه ….
قال رعد بتعجب :
_ اومال اللي هناك ده بيعمل ايه ؟! ..
أجاب يوسف متظاهرا بالضيق :
_ آسر عايزه
قال رعد مبتسما وهو يربط على قدم يوسف بتأثر :
_ حاضر …أول ما نبدأ اكل هحطه قدامك ….أنت أخويا يابني…. !
نظر يوسف له وأطرف عينيه سريعا بتأثر :
_ ربنا يحميك ويكتر من أمثالك لأمثالي ….
ابتسم رعد بشكر :
_ حبيبي تسلم ….ربنا يديك على أد معدتك يا حبيبي ….
تم ترتيب الطعام بعد دقائق قليلة فقال العمدة لهم جميعا وهو يبدأ باسم الله :
_ بسم الله يا دكاتره …بالهنا والشفا ….
وضع رعد وآسر طبق “المحشي” في وقتٍ واحد أمام يوسف ….حتى نظر كلًا من رعد وآسر لبعضهما وفهما مكر يوسف عليهما فضيقا أعينهما في غيظ منه ….. بينما ضم يوسف الطبقين أمامه في ابتسامة واسعة ورماهمها بغمزة …..
تمتم آسر ورعد وكتما بعض الكلمات العصبية …..
تفاجئ جاسر بيد نعناعة التي تضع أمامه مزيدًا من الطعام من حين لآخر ببسمة واسعة …..حتى نظر جاسر له بغيظ وقال :
_ كفاية !!
قال نعناعة بضحكة بلهاء :
_ لازم تتغذى يا دكتور …. أنت نورت الدنيا والله ….
كتم جاسر غيظه من هذا الصبي المزعج وتابع طعامه الذي تلذذ به حقا ……
قال الصبي نعناعة بحماس :
_ على ما تخلصوا هكون جبت شنط الدكاترة اللي في الخيمة ….فوريرة وهتلاقوني جاي …..
قال أبيه العمدة بأمر :
_ لأ استنى …..بعد لما يخلصوا عشان تشيل الأكل وتدخله المطبخ……وتبعتلنا الشاي ….
وافق الصبي في ترحاب شديد بالضيوف …..
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
قالت سما بسيمات الإرهاق على وجهها وهي تستند على رخامة المطبخ:
_ طب كده هيكون فاضل بس المواعين تتغسل …..هروح استريح في اوضتنا ….مابقتش قادرة أقف …
قالت جميلة وهي ترتشف كوب من شاي بالنعناع :
_ روحي ارتاحي أنتِ يا سمكة ….هخلص انا المواعين أنا وحميدة ورضوى……
هزت سما رأسها وتوجهت لغرفتهم بداخل المنزل …..قالت حميدة بصوت خافت وضيق لأجل شقيقتها :
_ البت سمكة مابقتش بتهزر زي الأول ….. أنا زعلانة عشانها أوي ….
قالت رضوى بغيظ :
_ منه لله اللي كان السبب ….. واحد مايستاهلش تعريفة كرهها في عيشتها وطفش !
تنهدت جميلة بألم وقالت :
_ غلبانة سمكة ….كانت راضية بيه رغم انها مكنتش بتحبه ولا كانت عايزاه في الاول …..احنا اللي اقنعناها وفضل خاطبها اربع شهور ……اربع شهور مقالهاش كلمة حلوة !!
على طول كلامه دبش ….وشايفها وحشة ومسترجلة ! اومال حفي على ما وافقت عليه ليه ؟!
أجابت حميدة عليها :
_ بس سمكة برضو غلطانة يا جميلة ….هي جافة أوي بصراحة ….ماهي ممكن توصل اللي في دماغها بشكل هادي من غير مشاكل …هي عصبية وهو عينه زايغة وطلع مش سهل ….
وضعت رضوى يديها على خصرها بإعتراض :
_ يعني تتسهوك عشان تعجب يعني !! مايغور في داهية ….بكرة يجي سيد سيده !!
نفت حميدة الأمر وأوضحت :
_ مش بتكلم عن الواد ده …بتكلم عمومًا يا رضوى …..سمكة عصبية في كل حاجة والدنيا مش بتتاخد كده ….. لما تتجوز هتفضل كده برضو وهتتعامل كده ودي المشكلة الحقيقية …..
في غرفة الفتيات …..
التي تضم سريرين وخزانة ملابس كبيرة تحتوي على ملابسهما الأربعة ……وأريكة جانبية خلفها نافذة خشبية باللون الأخضر الباهت بعض الشيء ……
أغلقت سما الباب جيدًا خلفها ثم توجهت للأريكة ….فتحت نصف النافذة ونظرت للسماء الغائمة وهي تدمع وتتذكر كلمات الطبيب الشاب …..مع ذكريات مؤلمة مرت بها …
وتقول دموعها الكثير …..
لست قبيحة …..لست كما تراني أعينكم …..انظروا إلى قلبي …إلى روحي ….أنظروا إليّ بعين الأنصاف ….
انظروا إليّ وأنا اطعم طير ضعيف يبحث عن الطعام بجوع ….. أو وأنا احمل صغير وابتسم له …..
أنظروا لما أصنعه بيدي ….وليس لما بيدي فيه أي صنع !!
لست مثل أحد للمقارنة بالأخريات … أنا أحب تلك الملامح بوجهي…. لما اجبرتوني على كرهها لأنها لا تروق لكم؟!
أنتم تنظرون لما ترونه …ولكن لا ترون دموعي بالخفاء ليلًا على كلماتكم الجارحة …..لا ترون أنشقاق قلبي عند تذكرها ….ولا ترون صفعات الألم مع تردد صداها وتأثيرها بروحي …..
أعينكم ليست مبصرة …وقلوبكم دون بصيرة لرؤية الجمال الكامن بالقلب والروح …..
أي جمال يمتلكه انسان يؤذي مشاعر غيره بمنتهى الثبات دون رفة ندم ؟!
وعن أي قبح تتحدثون عنه بفتاة لا تريد من الحياة أكثر من أن تغفو عند المساء دون دموع ؟!
أنتم بشر ….والبشر ليس ملائكة ….إذن علي تحمل ما اقابله منكم…أسفا على قلبي ….وعلى قوة احتمالي …..
وعلى حياة لابد أن اتحملكم فيها وليس بيدي شيء سوى أن أهرب لغرفتي وأبكِ في عزلتي ….. في شموخ صمتي …
هذا رد فعل متأخر …..يسبقه رد سريع ببسمة تخفي دموعي حتى أنفرد بنفسي …..بمساء أبكِ فيه وحدي ….مثلما أفعل الآن تمامًا…
انتفضت سما من البكاء وهي تسقط رأسها على حافة الأريكة وتدفن دموعها بجفاف قماشها المقلم ……
ورغم أن العين تدمع ….والقلب منكسر … لكن هناك يقين بأن السعادة آتية بالأماني ….
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
القلب له أعين ….تسهر وتنام …تغفو بالأحلام …وتستيقظ مهلة وأحيانا فزعة …. بينما هناك قلوب عينيها گعيون التماثيل الثابته …. ساهدة صباحها ومسائها …..تنتظر مساء الفرحة بيوم ….
كانت في طريقها إلى المشفى ….وقد دخل الليل بعاصفة من البرد الشديد ….. كانت قد ابتاعت بعض الملابس بنهار اليوم لها ولأبنتها …ببعض المال الذي تبقّى معها …
أضفى الرداء الطويل الكحلي من قماش القطيفة نعومة في طلتها …. ولابد أن تعترف أن لهفتها يشوبها لهفة لرؤياه …رغم أيضا بعض القوة التي لا تريد أن تراه ….فسيبدو الأمر بعدما حدث كارثة !
كارثة ليس بمعناها المعروف…
كارثة مشاعر !!
ربما هذا نوع من الكوارث يدحض أخطر القرارات …. أن نحب كثيرًا ….ونضحي أكثر …ونبتعد ونفارق لإبعاد الخطر عن قلوبهم ….وتأتي تلك الكارثة الحسية وتخبرنا أننا نريد البقاء ويحدث ما يحدث …
ويتنحى الكبرياء لبعض الوقت ….
شيء شديد الخطورة بالأخص في هذا الوقت …. التي تبعده لتسعده …. أو لتقنع نفسها بذلك …..
مرت السيارة الأجرة بالطريق ووصلت أمام المشفى في سرعة لم تشعر بها ليلى ….. همست ليلى لأبنتها التي صمتت طيلة الطريق فقط لأنها تعتقد أنها عائدة لبطل حكايات قبل النوم ….. لأبيها التي قررت ببراءة أنه أصبح أبيها !
وقالت للصغيرة :
_ أوعي تعملي أي صوت …..وإلا هيزعقولي أنا …ماشي يا حبيبتي ؟
اومأت الصغيرة برأسها في موافقة عاجلة …..للأسراع فقط والدخول …..وقفت السيارة الأجرة بقرب المشفى ….نظرت ليلى من النافذة الزجاجية لتتعجب !!
ليس هناك حراسة على باب المشفى !
أين هم إذن ؟!
مصادفة أم غير ذلك ؟!
تذكرت ليلى أن الحرس قد أرسلهم وجيه لقسم العناية …..سبب مقنع لأختفائهم ….رغم أن عدم وجود باقي الحرس أمر مثير للشك …..ولكن سيسهل الامر عليها بهذه الطريقة للدخول ….
خرجت من السيارة الأجرة وتوجهت إلى المشفى وهي تحمل طفلتها ……
دق قلبها بخوف وشعور قوي أن هناك مؤامرة بالأمر ….ولم تعرف لما لم تبحث على الأقل عن وسيلة أخرى للدخول ….
كأنها تريد أن يقبض عليها وتقنع نفسها أنها ما كانت تريد ذلك !
خطواتها كانت بين البطء والسرعة وهي تمضي من باب الدخول بيسر ….كأن الظروف تمهد لها ذلك ….ولا تدرك فعليًا أن الأمر مرتب له من قبل …..
مضت من أمام مكتب الاستعلامات وهي تخفي وجهها في كتف أبنتها …..ووقفت أمام باب المصعد ….تنتظر أن يحتويها قبل أن يرها أحد …..
أي كارثة وضعت نفسها بها ….للتو ادركت الأمر ….رغبتها متضاربة بين اللهفة والخوف والابتعاد …..
لسان الافتقاد هو من ارغمها على هذا العبث والمجيء بهذا الشكل ….علها تره …عله يجدها في تيهتها …رغما عنها ….
وقف المصعد وتنفست الصعداء عندما خرج منه بعض الغرباء …..دخلت وهي تتعجب من نفسها !!
ماذا تريد ؟!
ما هذا الجنون ؟!
تريده بشدة أن يجدها ….وتريد بجنون الهرب منه ! …أي عبث هذا ؟!
بين اللحظة والأخرى الف شعور ولهفة وهجر يتقلب بخاطرها …..!
صعد المصعد بها وهي لا زالت تحمل ابنتها ….وعامل المصعد يواليها ظهره بانتظار الطابق المقصود ….
حتى وقف المصعد وتابعت سيرها …على سير من الجمر والخوف وهي تترقب ظهوره بين اللحظة والأخرى …..لتقابلها زميلتها “بثينة” وهي تباشر عملها بتنظيف الممر …..
دهشت بثينة من رؤيتها تسير هكذا وهي من هربت بالأمس !!
تركت ما بيدها واسرعت إليها في تحذير وقلق :
_ كنت اتصلي بيا وطنت نزلت جبتك من باب تاني ….أنتِ مش خايفة وأنت ماشية كده عادي ؟!!
قالت ليلى بعجالة :
_ نبقى نتكلم بعدين يا بثينة ….خليني بس أشوف أبويا الأول واطمن عليه …..
نظرت بثينة حولها بترقب ثم قالت :
_ طب هاتي بنتك هخليها معايا ….البسي لبس ممرضات وكمامة وادخلي شوفيه …محدش هيعرفك بالكمامة ….
أنا حضرت اللبس في أوضة المنظفات …ادخلي بسرعة ومتتأخريش ….. الحرس عندهم راحة بعد دقايق …قدامك عشر دقايق بالضبط أكتر من كده معرفكيش …..
اودعت ليلى صغيرتها مع بثينة وتوجهت لغرفة المنظفات سريعا ….وبسرعة خارقة كانت ارتدت رداء الممرضات وارتدت الكمامة الطبية التي حجبت ملامحها عن التعريف …..
ثم خرجت من الغرفة وهي تنظر حولها ولاحظت أن بثينة اختفت من الممر أيضا …..
سارت ليلى بترقب وخوف وهي تنظر حولها ….كان الطريق لغرف العناية هادئ وخالِ من المرور ……
مضت بساقيها التي ترتجف من الخوف وتحملها بالكاد …..كانت تبتلع ريقها بصعوبة كلما مرت خطوة ..!
حتى وقفت اقتربت من غرفة العناية التي بها والدها ….وانتبهت لبثينة وهي بغرفة مواجهة وتحمل الصغيرة …. نظرت لها بثينة وحذرت إنها ليلى بتلك الكمامة الكبيرة الحجم …..اغلقت ليلى الباب علي بثينة وقالت بهمس :
_ ماتعمليش صوت يا ريمية زي ما قولتلك ….رجعالك تاني ….
ضافت الطفلة من ترداد قول أمها للمرة التي لم تحسب كم !
وبدأت تتأفف من الانتظار ……
اغلقت ليلى الباب وحمدت ربها أن الحرس ذهبوا للإستراحة قبل أن تأتي وأنهم لم يتعرفوا على ابنتها….
فتحت باب العناية المركزة لتخدمها الظروف أيضا أن هناك ممرضة واحدة تعاين أحد المرضى على بُعد خطوات بعيدة من والد ليلى الذي كان سريره مقابل للباب مباشرةً…..
توجهت بنظرة يغمرها اللهفة لفراش والدها ….لتجده على حاله ….اطرفت عينيها بإعتذار ودمعة سقطت من عينيها وقالت بصوت خافت جدًا :
_ غصب عني سيبتك …. بس جيت رغم كل شيء عشان أشوفك …. بس بالكتير يومين وهتتنقل وهقدر اكون جانبك على طول …..أنت سامعني يا بابا ….أنا متأكدة …
مرت الممرضة بجانبها وقالت متسائلة وهي تنظر لليلى بتعجب :
_ مالك ؟!
جف ريق ليلى التي ضيقت عينيها لتخفي الدموع وقالت بتلعثم :
_ لا أبدًا ….أصل ….أصل حسيت بحركة …و
قاطعتها الممرضة وقالت بموافقة:
_ أيوة فعلًا ….. النهاردة الدكاترة كانوا بيتكلموا عن الموضوع ده …يمكن المريض ده قرب يفوق مين عارف …
لم تعتقد ليلى أن كذبتها تشكلت حقيقة وواقع ! …..أرادت بشدة أن تبك بسعادة ….نظرت لأبيها وعينيها ملؤها الدموع وابتسامة بآنٍ واحد ….حتى انتفض جسدها عندما اقتحم القسم من هربت منه …..من اصبحت لديه كالهواء الذي يتنفس ولا يستطع أن يمسكه بيديه!
اتسعت عينيها وكاد قلبها أن يتوقف عندما سمعت صوته وهو يدخل سريعا للقسم وخلفه الحرس……

يتبع…

اترك رد

error: Content is protected !!