روايات

رواية يناديها عائش الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الخامس والعشرون

رواية يناديها عائش الجزء الخامس والعشرون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الخامسة والعشرون

 

هناك ألف طريقة للخيانة ؛ لكن أقبحها هو التظاهر بالحب .

..
تنهدت عائشة بإرتيـاح فور أن ابتعدت عن أعين الحارة بسلام، وفي غضون نصف ساعة أو أقل تقريبـًا وصلت للمكان الذي أخبرها أمير به.
ترجلت من التاكسي بعد أن دفعت له، وأخذت تجوب بعينيها هذا المقهى الضخم والراقي جدًا ويبدو من شكله وبراعة تصميمه أن ثمن الجلوس فيه واحتساء مشروب ربما يكلفك نصف مرتبك.
برقت عيناها بإنبهار وارتسمت ابتسامة بلهاء ملء شدقيها، وظلت تخيُلاتها وأحلامها بأن تتزوج من وسيم ثري تحوم أمام عينيها، وهي تتمنى من صميم قلبها أن يصْدق أمير في حُبه وينتشلها من تلك الحارة البغيضة؛ التي ابتلعت أحلامها لعالم تحقيق الأمنيات..بعد لحظات انتبهت حواسها لذلك الوسيم الأنيق مُقبل عليها يمشي في خيلاء وغرور وعلى شفتيه ترتسم ابتسامة ماكرة، بادلته عائشة الإبتسامة بسعادة وأخذت تفرك يديها في خجل بدا حقيقيًا.
تحدث أمير بلُطف مُحاولًا اظهار حبه المزيف وهو يقف أمامها شامخ الرأس

— وحشتيني
همست عائشة بعد صمت دام لثوانِ

— وإنت كمان.. وحشتني

 

 

 

اتسعت ابتسامته المصطنعة مردفـًا وهو يتفحص ملابسها التي بدت محتشمة نوعًا ما عن سابق ملابسها.
— حلو اللبس ده عليكِ.. إنتِ جميلة وأي حاجه بتلبسيها بتليق عليكِ
شعرت عائشة بفيض من السعادة يغمرها و ظنت بأن أمانيها بدأت بالتحقق الآن، الوسيم
“أمير المليطي” فارس أحلام الفتيات وقع في غرامها هي تحديدًا، أحلامها ستتحقق جميعها، آخيرًا منّ الله عليها وستتزوج بـشاب به جميع المواصفات القياسية التي كانت تحلم بها..
“يا اللـه كم أنت جميل !”
قالتها في نفسها وضربات قلبها تزداد كقرع الطبول كأنها من شدة سعادتها وابتهاجها يعزف قلبها سيمفونية السعادة والحُب.
ظلت تُطالعه بشـرود باسـمة، حتى قطـع أميـر شرودها مُشيـرًا لطاولة بالقرب منهم قائـلًا

— تعالي يا حبيبتي نقعد عشان فيه كلام كتير عاوز أقولهولك
تقدمت عائـشة بموافقـة أمامه ثم جلست قبالتـه وقالت بعفويـة

— أميـر.. إنت مبتضحكش عليا صح ؟
قطب أمير جبينه وأردف

— أضحك عليكِ في إيه !
قالت وهي تفرك أصابعها بتوتر ملحوظ

–يعني.. يعني متكونش بتحبني

 

 

 

 

 

تنهـد أمير معتدلـًا في جلسته مُحاولـًا اظهار الصدق في كلامه فقـال بتـأني
— عائـشة.. معلش يعني إنت مش آخر واحده في العالم عشان اسيب البنات دي كلها وابصلك.. مقصدش حاجه طبعـًا.. انتِ جميلة وتتحبي بس برضو متنسيش أنا مين وابن مين.. يعني مش محتاج اضحك على بنت واتسلى بيها يومين.. أنا بحبك.. إفهمي بقى
بإيماءة بسيطة وابتسامة خافتة قالت

— عارفـه.. بس بتأكد مش أكتر
“تشـربي إيه؟ ”
تساءل أميـر بإبتسامة مزيفة فأجابت عائشة بخجل
— أي حاجه
هتف أمير مداعبـًا في محاولة منه لجعلها تعود لمرحها المعتاد؛ فهدوءها هذا يجعله يشعر ببعض القلق من عدم سير خطته كمـا يريد.
“أي حاجه.. أي حاجه.. يمشي معاكِ شيشه تفاح!
رمقته عائـشة بدهشة هاتفة

— إنت بتهزر صح !
أومأ مقهقهـًا

— أكيد بهزر.. ها تشربي إيه ؟
تنهدت قائلة بخفوت

— ممكن عصير لمون.. حاجه تهدي أعصابي شويه

طلب أمير عصير ليمون لها وقهوة له، ثم مدّ يده ليحتوي أكفف يديها دون انتباه منها، جذبت عائشة يديها بقوة واحتقن وجهها بغضب هاتفة

— أميــر.. انت اتجننت !.. الناس يقولوا ايه ؟؟
تمتم أمير بإنزعـاج
–يعني إنتِ كل اللي همك الناس.. خلاص تعالي نقعد في عربيتي
نهرته بنفي

–لأ طبعـًا.. وبعدين انت جايبني هنا ليه.. مش قلت عاملي مفاجأة وعاوزك في موضوع مهم وبتاع.. هو فين بقى كلامك ده
ابتسم ليحاول أن يهدئهـا قائلًا بهدوء

— كله بآوانه.. أنا بحاول أخليكِ تفكي شويه.. واضح إن موت باباكِ لسه مأثـر عليكِ

اتسعت أعين عائشة بتعجب مما قاله وأردفت ساخرة

–أكيد مأثر عليا.. مش أبويا !
برم شفتيه بلامبالاة وقال
— اه فاهم.. بس يعني إنتِ علاقتك بيه مكنتش قد كده.. كنت فاهم إنك مش هتزعلي على موته غير يومين ولا حاجه.. بس طلعتي بتحبيه وفارق معاكِ بجد
رفعت عائشـة حاجبيها وهي تطالعه بتعجب، فقد أثار حديثه استغرابـها مما جعل ملامحها عابسـة وانسالت دمعة من مقلتيها؛ فمسحتها وأردفت بثبات

“أنا مش هلومك على كلامك ده.. أنا اللي غلطانه عشان كنت عاقه ببـابا وأستاهل عذاب ربنا بس بتمنى من قلبي يسامحني ونفسي لما أروح عند بابا في الآخرة وأشوفه يكون راضي عني.. أنا كنت غبيه لما اتكلمت عليه بطريقة وحشه قدامك.. وده اللي خلاك تقولي كده وتاخد عني فكرة إن مبحبش بابا.. بس لأ يا أمير.. أنا بحبه وبحبه أوي كمان ووحشني جدًا وبتمنى يرجع يوم من أيامه وأنا مش هسيب حضنه لحظه.. موت بابا فوقني وخلاني أعرف إن الواحد من غير أبوه ملوش ضهر.. إن مات الأب ماتت معاه كل حاجه حلوه.. الله يرحمك يا بابا

شعر أمير بالغباء من نفسه، فقال بتأثـر مصطنع

— أنا آسف يا عائشة.. مقصدتش أجرحك والله.. حقك عليا يا حبيبتي
هزت رأسها بنفي مبتسمة لتقول

–مفيش حاجه.. حصل خيـر
” أخبـار ابن عمك الميكـانيكي إيه؟.. لسه بيدايقك؟ ”

 

 

 

 

 

 

 

 

قالـها أمير محاولـًا التجسس على أخبار بدر، فكم كرهُ كثيرًا منذ ذلك اليوم الذي سخر منه وحذره بألا يقترب من عائشة أو يُفكـر حتى أن يؤذيها، جعله ذلك يغار منه بشدة ويود لو أن يفعل أي شيء يرد به كرامته بالإنتقـام من بدر في أقرب شخص لقلبه، ولغيرة بدر الشديدة على عائشة جعله يشك بأنـه واقع في عشقـها؛ لذا ساقته نفسه الضغينة للإتيان بعائشة والوقوع بها في فخه كي ينتقم لكبريائه ويرضي ذاتـه.
تحولت ملامح عائشة للعبوس واستخفـها الغضب لتهتف
— أميـر لو سمحت بلاش تجيب سيرة بدر على لسانك.. خليه برا موضوعنا
تغلغل الشك في قلـب أميـر وازدادت الحيرة، فلم يعد يعرف هل وقعت هي الأخرى في غرامه أم ما زالت لا تطيق أن تسمع اسـمه.. أردف بخبث

— مش حابه تسمعي اسمه ليه؟.. أكيد الواطي ده زعلك في حاجه
انزعجت عائـشة كثيـرًا من تطاوله على بدر فقالت بمدافعة عفوية

— كله إلا بدر يـا أميـر.. هو اللي بقيلي في الدنيا بعد أبويا وأمي الله يرحمهم.. مليش غيره
صمتت لتتنفس بغضب وتراجع في ذهنها ما تفوهت به دون تخطيط مسبق، بينما الآخر ظل يرمقها بدهشة حتى صارت ملامحه محتقنة بغيرة وغضب وغيظ شديد مما لاحظت عائشة ذلك وسرعان ما صححت كلامها بلُـطف قائلة

— متفهمنيش غلط.. أقصد إن بدر في مقام أخويا وأبويا قبل ما يموت وصاه عليا وهو الوحيد من عيلتنا اللي شايل همي.. عشان كده مبحبش حد يشتمه.. ترضى حد يشتم إخواتـك ؟
ابتسم بتهكم حاول اخفائه ليقول

 

 

 

 

 

 

 

 

–عندك حق.. بس إيه اللي غيرك من نحيته كده ؟!
أردفت بإدعاء وهي تشيح ببصرها عنه
— عادي يعني.. بس زي ما قولتلك بعتبره أخويا الكبير والمسؤول عني بعد وفاة بـابا.. وهو بصراحه بيحاول على قد ما يقدر يراضيني.. يعني ميستاهلش مني حاجه وحشه
ارتشف أميـر القليل من قهوته دون أن يجيبها بشيء، بينما عائشة شربت عصير الليمون خاصتـها ثم نظرت في ساعة الهاتف فوجدت أنه تبقى القليل على آذان المغرب وما هي إلا ساعة وسيخيم الليل لذا نهضت متحججة

–أميـر لازم أمشي دلوقت.. الوقت إتأخر ومحدش يعرف إني خرجت
تساءل أمير في تعجب

–يعني خرجتِ من وراهم ؟
أومأت بقلق
–ايوه.. انتهزت فرصة إن مفيش حد في البيت وجيت عشانك وانت لسه معرفتنيش عاوزني في إيه.. وحاليـًا لازم أروح
اتسعت ابتسامتة الماكرة ليقول
–متخافيش.. كلها كام يوم وتبقي على ذمتي ومحدش يقدر يقولك تلت التلاته كام.. أنا كنت عاوز أشوفك عشان افرحك وأقولك إن كلمت بابا في موضوعنا ووافق ويومين كده لما يرجع من سفريته اللي في شرم.. هجيب أهلي واتقدملك
جلست عائـشة وقد ملأ كيانها فرح فريد لم تعرفه من قبل وفيض من السعادة لا يوصف..
فقـالت متلهفـة

–بتكلم بجد !

 

 

 

 

بادلـها التهلل هاتفـًا

–طبـعًا.. اقعدي عشان لسه مخلصناش كلامنا وابقي قوليلهم واحده صاحبتك تعبت وراحت المستشفى وملهاش حد وألفي أي حوار وخلاص.. ومتقلقيش أنا معاكِ محدش هيقدر يكلمك
اقتنعت عائشة تمامـًا بما قاله وظلت تراودها الأحلام السعيدة وهي تتخيل نفسها في قصر المليطي، التي تحلم الفتيات بأن يجلسن فيه لدقيقة واحدة فقط، أما هي ظفرت بكل شيء وستصبح سيدة القصـر قريبـًا، ولكن.. ماذا عن
بدر الشباب ! هل ستتركه من أجل أموال أمير وثروته الطائلة، هل ستترك أهلها والمكان الذي ترعرعت فيه لتنعم برفاهية الأثرياء!.. نعم.. تلك البيئة التي يعيش بها أمير لا تقدر بثمن وها قد تحققت إحدى أمنياتها لِمَ لا تستغنى عن كل شيء من أجل أحلامها ؟
قررت عائـشة أخيرًا أن ترضي رغباتها ولا تهتم لأحد أيًا كان..من وجهة نظرها أن إرضاء النفس هي أهم من العائلة وكل شيء آخر.
جلست تتبادل أطراف الحديث بمرح وسعادة مع أميـر الذي تملكت منه نفسه الأمارة بالسوء لتجعله يسير على خُطىٰ الشيطان ويتلاعب بتلك الغبية التي صدقت كل ما قاله لسذاجتها وعفويتها الزائدة.
***
“أخشى أن يثقلني الكتمان يومًا ما، وأكون غريبًا حتى على نفسي”


مرّت ساعتين كاملتين على “بـدر” وهو منهمك في العمل بشدة، دون حتى أن يرتاح لدقيقة واحدة، وكأنـه يُفـرغ كل همومه وأحزانـه في عمـله، ففي الفترة الآخيرة مع ازديـاد الأعباء والضغوطات عليـه أصبـح يُـعاني من تغلغل الطاقـة السلبيـة في أعماق نفسـه؛ وبسبب ذلك لم يعد مستقر نفسيـًا وفي أغلب الأحيان لا يستطيع أن يسيطر على مشاعره، بل أصبحت هي المسيطرة عليـه.
بينمـا يقوم بإستبدال قطعة تالفـة بأخرى جديدة في السيارة التي يعمل عليـها ليُصلح القطعة القدميـة، انتبـه لصوت أحد الرجال جالس في مقعد القيادة بسيارته ويصيح بغضب مُلـوحـًا بيده للرجلين العاملين بـورشة بدر وهما
” فينحـاس وصـابر ”
كان الرجل يصرخ عليـهم بغضب هاتفـًا

— فين الأُسطا بتاعكم.. فين الأستاذ صاحب الورشة يجي يشوف البهايم اللي مشغلها عنده عملوا إيه في المُحـرك
ذهب بـدر إليه وهو يتنفس الصعداء مُحاولـًا التهدئة من نفسـه عندما وصل لمسامعه تطاول الرجل على صِبيـانه؛ فقـال بهدوء

–خيـر يا باشا
ترجـل الرجل من سيارته مُتفحصـًا بـدر بنظرات غاضبه، ولكن سُرعان ما تحول عبوس وجه للهدوء حينـما أصابته تلك النظرة الثاقبة من بدر والهدوء المُريب، ولضئالة حجم الرجل مقارنة بـبدر فقد ظنّ أنه سيهجم عليه يبرحه ضربـًا لسبـه الرجلين وساعده على ذلك التوهم تعابيـر وجه بـدر الجامدة والتي يبدو عليه أنه يتهيء لإفتـراسه كما تتهيء الضِـباع للقبض على فريستها.
تحدث الرجل بهدوء قليلـًا

— يسـطا بـدر أن جبتلكم العربية دي من أسبوع وكان في عُطل في المُحـرك.. وقتها إنت مكنتش موجود واللي اشتغل عليها الواد ده وإمبـارح العربية وقفت مني كذا مرة في السكة.. أنا جايلك بيها بالعافية.. مهو مينفعش برضو أدفع فلوس على الفاضي ولا إيـه !
تنهـد بـدر بهدوء قبل أن يُجيب بجِدية
— قبل كل شيء عاوز أفهم حضرتك حاجه.. الميكانيكي مش شغال عند حضراتكم.. إحنا لينا إحترامنا واللي عملته من شويه ده مفيش حد يقبل بيه.. وده ليه إسم زي ما حضرتك ليك إسـم. إيه واد دي ؟
إنت مترضاش حد يعاملك كده.. ولو شايف إن مشغل عندي بهايم فـ دي مشكلتك روح لطبيب عيون يكون كويس يعالجك واتفضـل دي فلوسك اللي دفعتهـا إحنا مبنصلحش عربيات حد بيقل أدبـه علينـا وشايفنـا خدامين عنده.
لم يكن الرجُـل مندهشـًا من ردة فعل بـدر الهجوميـة، توقع ذلك بالفعل ولأنه لم يعرف
بـدر الشباب إلا إسمـًا فقط، فلم يتعجب لإسلوبه الذي بدا قاسيـًا قليلـًا عليـه؛ لذا ذهب غاضبـًا وهو يتمتم بغيـظ

” كلكم نصابين داهيه تشيلكوا ”

 

 

 

 

 

 

 

 

بينمـا فينحاس وصـابر تبادلَ نظـرات الدهشة المصحوبة بالإستغـراب، فلأول مرة يروا بـدر يتحدث هكذا مع أحـد حتى وإن تطاول عليه شخص كان يبتسم ويدعو له بالهِدايـا، ماذا حدث له كي يصبح هكذا ؟، ما الشيء الذي دفعـه لأن يتغير ويُصبح أسلوبه عنيفا؟.. من المؤكد أنه شيء بغيض جدًا حدث له ليجعله يتحدث بلسـانا سليطـًا دون تردد.
تركهم بـدر مُتجهـًا للداخل، سحب مقعد ليجلس عليـه وظل ينظـر للفراغ أمامـه بشرود مُريب جعل فينحاس يشعر بالقلق حيـاله؛ فتقـدم ليجلس قبالتـه مُتسائلـًا بهدوء مصحوب بالخوف منه

” مالك يا سطا بدر.. أنا أول مره أشوفك كده.. أكيد حاجه حصلت زعلتك.. أقدر أساعدك بإيـه؟ ”

ظل بـدر صامتـًا لدقائق مما أضطر صابر للتدخل فقال مُحاولًا جعله يتحدث ويفضفض بأي طريقة فهم لم يعتادوا أن يروه جالس لوحده حزينـًا منطفئـًا هكذا
” إحنـا ملناش الحق ندخل في مشاكلك الشخصية، بس إحنا من يوم ما إشتغلنا معاك وإنت معانا على المُرّة قبل الحلوة وبتساعدنا لو أي مشكله حصلت معانا في البيت أو في الشغل.. خلينا إحنا نساعدك المرادي.. إنت أخونا الكبير ومحدش فينا هيهداله بال غير لما يشوفك كويس ”

مسـح بـدر على وجهه بهدوء ثم نهض قائلـًا

— أنا هروح.. كملوا شغلوا أو لو حابين تمشوا اقفلوا الورشه وامشوا..
تابـع متمتمـًا بنفاذ صبر “هي كده كده خربـانه”
***

كان “قُصـيّ” ما زال يمارس هواياته المفضلة على الهاتف وهي لُعبـة (بابچي) ومحادثة مختلف الفتيات من مختلف البلدان والعجيب في هذا الأمر أن كل أموالـه تنفذ بسرعة البرق؛ بسبب تردده على المحلات الخاصة بشحن الرصيد يوميـًا ليستطيع مهاتفة الفتيات صوتيـًا بلهجتهن ولأنه تعلم في مدارس لغات والتحق بجامعة الألسن فأصبح من السهل عليه التحدث بعدة لغات مثـل( الإنجليزية والإيطالية والفرنسيـة والألمانية والعبريـة والهنديـة وترابيزات بلياردو وبينج)
والأعجب من هذا كُله أن قُصي ذلك الوسيم التـافه من عُشاق فرقة “Bts” الكوريـة لذا أحب أن يتعلم الكورية وبالفعل أصبح يتحدثها بطـلاقة، وليس غريب على ذلك الساذج العشريني أن يضع صورة “جونكوك” في محفظتـه ويُقبلها من حين لآخر، عزيزي القارئ أرجوك لا تدع عقلك يأخذك لمسـار خاطئ، قُصيّ يتخيل جونكوك فتاته الخاصة حتى أصبـح مهوسـًا به وأسماه
” نجـلاء”7

أخرج محفظته ثم نظـر مليـًا لصورة جونكوك وأخذ يُقبلها بجنون هاتفـًا

“آه.. إنتِ فين يا نجلاء.. نفسي أعرف درجة الروچ اللي بتحطيها إيه.. مش عشان أحط زيه.. تؤتؤ.. لأجل أجيبلك واحد وأفرحك يا فلذة كبـدي”
أدخل المحفـظة جيبـه بعد أن سمع زقزقة بطنه توحي بجوعه؛ فنهض وهو يمسد على بطنه ويقـول

” لحقتوا جوعتوا !.. خلاص متزعلوش هأكلكم فخدة مشويه.. يمشي معاكم فخدة معزه ولا بتحبوا الخرفان ؟.. لأ.!.. مش عاوزين فخده !.. طيب إيه رأيكم في الكوارع.. إنتوا كارع وأنا كارع ونطحن بعض بيهم.. إشطـا !.. تمام إشطـا ”

في تلك الأثنـاء جاءت تلك الجميلة الرقيقة ملك شقيقته لتتساءل بهدوء

–قصي.. إنت بتكلم نفسك ؟
ضحك قصي وعاد لطبيعته ليبادلـها السؤال

— إنتِ منمتيش يا ملوكه ولا إيه ؟
هزت رأسـها بنفي قائلة

— لاءه.. مجاليش نوم.. كنت بتفرج من الشباك وشفت عائشة بنت عمو محمود خرجت ومشت بعيد.. هي رايحه فين ؟.. قصي إيه رأيك نخرج ونروح الملاهي.. في ملاهي هنا صح !.. إنهارده العيد.. قول لبابا وتعالى نخرج
تجـاهل قصي كل ما قالتـه ليتساءل بتعجب

— عائـشة خرجت ؟.. هتروح فين !.. اممم ممكن تكون راحت تزور أبوها في المقابر
رفعت ملك كتفيها لأعلى وأسفل دلالة على عدم المعرفـة بينما قصي أصدر هاتفه صوت رسالة فوجد أن رصيده قد نفذ، قال وهو يهم بالخروج

–طب ادخلي إنت يا ملك دلوقت وأنا هبقى أخرجك بعدين.. هروح أشحن وأجي
بإيماء وطاعة دخلت ملك بعد أن قبلته من خده وأوصته بأن يشتري لها بعض من الأشياء التي تُحب أن تـأكلها.
***

تململت هـاجر في نومها أكثر من مرة بإنـزعاج من لهيب الجو وحرارته العالية حتى إستيقظت واتجهت نحو الثلاجة لتشرب الماء البـارد.. نادت على عائـشة أكثـر من مرة فلم يأتيـها رد،
غمغمت بقلق

— هي اختفت فين !
صاحت ثانية

“بت يا شوشو ”
بدأ الشك يتغلل قلبها وسارعت بالذهاب لبيت عائشة لربما تكون هناك.. دخلت هاجر وبحثت في كل مكان بالمنزل فلم تجدها، عادت لبيتها ثانية ثم جلست على فراشهـا لتهاتف عائشة، رنّ الهاتف ولم يأتيـها إجابة.. ابتلعت هاجر ريقها وهي تتمتم بالدعاء أن تكون بخير أينما كانت.. فكرت أين يمكنها أن تتواجد الآن أو لأين تكون قد ذهبت، سرعان ما جالت بخاطرها تلك الرسالـة التي أرسلها لها أميـر.. هتفت هاجر وهي تعبث في أزرار هاتفها بخوف شديد

— يـاربي.. ليه يا عائـشة.. ليـه يا غبيه تروحيلوا.. يارب أكون غلطانه ومتكونش راحتله..يارب لو راحتله ميعملش فيها حاجه.. يارب تبقى كويسـه

هاتفت هاجر شقيقها بـدر وعندما أجاب اندفعت قائلة بإرتبـاك وخوف
“تعالى بسرعه”
بدا التوتر على ملامحه خيفةً أن تكون والدته قد علمت بـأمر سيف، والمفترض أن اليوم موعد خروجه وسيواجه العائلة بأكملـها بسبب تلك الكذبة التي اضطر لها حتى لا يتآكل قلب والدته من الحزن والغم إذا علمت بأمر ولدُها فتصاب بشيء.. تسـاءل بتلجلج..
“في إيـه”
–تعالى بس..
أغلقت هاجر الهاتف وأخذت تقضم أظافرها من الخوف على ابنة عمها الحمقـاء لخروجها دون أن يعلم أحد، حتى أسدل الليل ستائره السوداء وهي لم تعُد بعد.
***

لم تدرِ عائـشة كم مرّ من الساعات وهي جالسة مع أمير تتسامر بسعادة وتتبادل أطراف الحديث بفرحة لم تكن في الحُسـبان بينما هو أيضـًا يشعر بالسعادة ولكن من نوع آخر، السعادة في الإنتقـام، ها هو أصبح على شفا حفرة من تحقيق نواياه الخبيثة تجاهـها.
قـال بإبتسـامة عاشقة اصطنعها ببراعة

— محضرلك مفاجأة متخطرش على بالـك

هتفت عائشة بلهفة

— إيـه هي !
نمت جانب شفتاه ابتسامة خبيثة ليردف وهو ينهض ويأخذها من يدها برفق دون أدنى مقاومة منها حينما احتوى كفها بل ابتسمت برضـا وأحست بأنه لها وحدها.
“زوجتي المستقبلية وأم عيـالي ورفيقة حياتي.. تسمحيلي أخدك أوريكِ المفاجأة.. أنا متأكد إنك هتطيري من الفرحه لما تعرفي هي إيه”
انسحرت عائشة بكلامه المعسول الذي أسكر عقلها كأنها ارتوت الخمر للتو ونهضت ترافقه لسيارته كأنها تمشي وهي نائمة لا تشعر بأي شيء سو السعادة العارمـة.
***

أسرع بـدر في خطواته للمنزل وذهنه خاليـًا من التفكير تمامـًا، لم يعد يعرف بماذا يفكر وماذا عليـه أن يفعل، يشعر وأن كل شيء يتخبط به ويحطم كيـانه، حتى مشـاعر الحُب والوله التي كان يشعر بها تجاه صغيرته عائش، تبعثرت ولم يتبق منها إلا القليل، نالت منه همومه وتملكت منه أحزانه واشتد كربـه وشعور العجز وقلة الحيلة أصبح هما المسيطران عليه، ولكن صوتـًا ما يتردد في قلبه ليصل لمسامعه يخبره بأن تلك المتمردة العنيدة حدث لهـا شيء !
وصـل بـدر لمرحلة حتى البُكـاء تراكم عليـه، ‏كيف سيخبر عائلتـه عن حجم الخيبة والعجز اللذان أصبحا في داخله لا يفارقانه، كيف سيمكنه أن يصف لهم هذا الحزن والتكبل الذي يسحق روحه ببطء دون أن يبدو وكأنه ينهـار !.
أثنـاء مروره من أحد الشوارع المؤدية لمنزله، انتبـه لوجود قصي يعبث في هاتفه بجانب أحد المحلات، نادى عليه بـدر فلوح له قصي فاتحًا فمه بضحكة مشاكسة وهو يرقص حاجبيه قائلـًا بمداعبة
— إيه وحش الكون جاي على ملى وشك ليه.. تكونش المزه وحشتك
تأفف بـدر بعد أن رمقه بغضب ليكمل سيره تجاه البيت، هرول قصي وراءه هاتفـًا

— ملك شافت عائشة وهي خارجه لوحدها.. هي راحت فين ؟
استدار بـدر لينظر له بدهشة ظل يتأمله بعدم تصديق للحظات محاولًا استيعاب ما قالـه ببطء، ثم هتف بهذيـان
— معرفش.. معرفش راحت فين.. هي فين ؟.. ازاي.. ازاي تخرج لوحدها ومن غير ما تعرف حد !.. هي ليه بتعمل كده !.. ليه بتدبحني بدم بارد كده
اقترب قصي منه ليحاول أن يهدئه بقوله

— اهدى.. هي أكيد راحت تزور أبوها
أغمض بدر عينيه لثوان ثم تنفس بعمق في محاولة منه باتت فاشلة لتهدئة ذاته، اندفع مسرعًا حتى وصل للبيت، قابلته هاجر بوجه شاحب، لم ينتظر بدر لحظه واندفع صائحـًا

— راحــــت فين ؟.. بتسيبها تخرج لوحدها ليـه.. ليلتها مش معديه إنهـارده.. والله العظيم لأعلمها الأدب
قالت هاجر بخوف من هيئة بدر التي صارت كالوحوش بغضبه الجحيمي الذي سيطر عليه فجأة

— والله معرف.. بس.. بس في حاجه حصلت كنا هنقولك عليها لما ترجع من الشغل

“حاجـة إيـه ؟”
تساءل بدر بإنفعال شديد، فأخبرته هاجر برسالة أمير وما جاء فيها.. مما جعل بـدر يجن جنونه ويظل يهذي وهو يقوم بتكسير أي شيء يراه أمـامه في حالة من الجنون والإنهيـار انتابته جعلت هاجر تهرب لغرفتها وتغلق الباب وهي تبكي مرتجفة من الخوف ومن مظهر أخيها الذي يجعل كل من يراه يبتعد فورًا حتى لا يتأذى من جنونه وغضبـه.. أخـذ يصيح في تشنج وعصبيـة بالغـة
” أميــــر.. تـــــــاني زفــت.. راحتله ليـــــــه.. ليـــــه بتعمل فيـــــــا كده.. هي عاوزه إيـــــه بالظبــــــط.. عاوزه إيـــــــه ”

أتى زيـاد في الحال بعد أن هاتفته هاجر وهي تبكي وتخبره بما حدث حتى يهدئ بدر خوفـًا من أن يؤذي نفسه بجنونه المفاجئ فيبدو أنه فقد عقله بتلك التصرفات التي لا يتحملها أحد.
اندفع بـدر تجاهه وامسكه من كتفيه بقوة ليهزه بجنون وهو يصيح

” أنـا فيا إيه يا زيـاد.. للدرجادي أنا وحش.. أنا ليه متحبش !.. ليـه حياتي كده.. ليه ربنـا بيعمل فيـا كده.. أنا عملت إيـــه عشان يحصـلي كل ده.. عملـــــــت إيـــــــه.. قولــــــي”

دُهش زيـاد من الحالة الجنونية التي وصـل لها بدر؛ فلم يتردد لحظه في عناقه وتهدئته بقوله

“استغفر ربك.. استغفر الله يا بـدر.. إنت مش كده.. ولا عمرك هتبقى كده.. متخليش الشيطان يسيطر عليك ويوصلك للكفر.. كل اللي يجيبه ربنا خير.. استغفر ربك يا ابن عمي”
انسابت الدموع كالمطر بغزارة من أعين بـدر، فمسحها بضعف شديد وهو يستغفر ربه مرارًا على ذلات لسانه وغضبه ثم استعاذ باللـه من الشيطان ليقول
— أنا لازم ألحقها قبل ما يعمل فيها حاجه.. الواد ده عمري ما ارتحتله من يوم ما شفته
بـادر زياد بسؤالـه وهم يخرجان للسيارة

— انت عارف مكانهم
” هاجر بتقول إنه قالها تقابله في كافيه (..) ”

–طيب الحمدلله اللي إحنا عرفنا المكان.. الكافيه ده مش بعيد أوي.. أنا عارفه
قاد زيـاد سيارته وبجانبه بـدر قاصدين ذلك المقهى الراقي.
***

توقف أميـر بالسيارة أمام فيـلا متوسطة الحجم جميلة مبهجة من الخارج بحديقتها الممتلئة بالأشجار والورود الرائعـة.. أعجبت عائشة بالفيلا بشدة وتساءلت في فرح

— هي دي المفاجأة ؟
بإيماء ونظرة ماكرة قال أميـر

— دي اللي هنتجوز فيها يا حبيبتي
همّ أمير بأن يسحبها من يدها للداخل ولكن عائشة سحبت يدها برفق لتقول بتردد وقلق

— أنا إتـأخرت أوي يا أميـر وهاجر اتصلت عليا كذا مره.. زمانهم قلقانين عليـا
“حبيبتي جمدي قلبك كده.. هو أنا قليل في البلد دي ولا إيه.. إحنـا خلاص لبعض.. متخافيش طول ما إنتِ معايـا”
قالها وهو يسحبها للداخل، طمأنتها كلماته قليلًا ولكنها توقفت في منتصف الحديقة متساءلة بتعجب

“هو في حد جوا ؟”
ارتبك أمير لثوان ليقول بثبات مصطنع

— دول الصنايعيه.. تعالي أفرجك على الشغل اللي عملته فيها.. هيعجبك جدًا.. وعشان تطمني ياستِ أكتر.. أنا إتصـلت بمريم صاحبتنا تيجي عشان لما أروحك تكون هي معاكِ وتقوللهم هناك إنها كانت معاكِ بتزوروا صحبتكم وهي وصلتك بعربية أخوها.. تمام كده !
أومـأت بهدوء ولكن الخوف ما زال يتملك من قلبـها، بينما هو منذ أن علم بـأمر الفديو الذي نُشر لها مع بدر والغِل يأكل قلبه وود لو أن يتذوقـها هو الآخر كما سولت له مخيلته أنها فعلت الفاحشة مع ابن عمها الذي يبغضه كثيرًا، لذا لا يوجد أي مانع من أن تسلمه نفسها أيضـًا في مقابل أن يعطيها مبلغ لا بأس به من المال ويوفر لها عمل بشركة والده كونها تُحب المال كثيرًا وتحب أن تنعم بالرفاهية؛ ولأنه يعلم جيدًا ذلك استطاع أن يلعب بمهارة على نقطة ضعفها حتى أوقعها في فخـه.+
فهل ستنجو عائـشة أم ستنتهي حياتها على ذلك الوغد ؟
#يُتبـــــــع

 

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية يناديها عائش)

‫2 تعليقات

اترك رد

error: Content is protected !!