روايات

رواية الأربعيني الأعزب الفصل الثاني 2 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب الفصل الثاني 2 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب البارت الثاني

رواية الأربعيني الأعزب الجزء الثاني

الأربعيني الأعزب
الأربعيني الأعزب

رواية الأربعيني الأعزب الحلقة الثانية

إزدحام إشارة المرور جعله في حالةٍ من الفتورٍ، فأسند رأسه على مقعد السيارة في مللٍ، فمر من جواره دراجة نارية تحمل رجلاً وعلى ما يبدو بأن من تجلس خلفه زوجته، إنتبه “غيث” لبطنها المنتفخة، وتمسك يدها بحافةٍ الدرجة خشية من أن تسقط من فوقها فيتأذى جنينها، حتى زوجها كان يراقبها بين الحين والأخر بقلقٍ، حتى خف الإزدحام من أمامهما فقاد على مهلٍ، مراعاة لحملها، سيطرت عليه في تلك اللحظة غيمة من الحزنٍ على حاله، يلوم نفسه أحياناً بأنه سمح لقلبه أن يحبها، وكعادته كلما يأتي ذكرياتها يحاول أن يهرب منها حتى لا يضعف، فأمسك بمقودٍ سيارته ثم تحرك بها، حتى وصل للبناية التي يقطن بأحد زقاقها، فصف سيارته ثم صعد للأعلى وهو يدعو الله أن لا تكون والدته مازالت مستيقظة، فخطى الدرج مسرعاً للطابق الرابع، ولكنها كعادتها فتحت باب شقتها وأوقفته حينما نادته قائلة:
_إتاخرت كده ليه يا حبيبي!
جز على أسنانه بغيظٍ، فكم لعن نفسه بأنه إستأجر شقة في نفس العمارة التي تسكن بها والدته، فإستدار تجاهها وهو يرسم إبتسامة هادئة:
_كنت مع “عاصي” يا أمي.. وراجع تعبان وحقيقي مش قادر أقف.
عقدت “سمية” حجابها حول رأسها بإهمالٍ، ثم أسرعت تجاهه لتسأله بلهفةٍ عما انتظرته لأجله:
_طب قولي عملت أيه في الموضوع اللي كلمتك عنه؟
جز على شفتيه السفلية بقوةٍ، ثم مرر يديه على خصلات شعره الطويلة نسبياً قبل أن يجيبها بضيقٍ:
_أنا قولت لحضرتك قبل كده أنا مبفكرش في الجواز تاني.
إنكمشت تعابيرها الباسمة بحزنٍ، لتردد بعصبيةٍ:
_أوعى تكون لسه بتفكر في تربية الملاجئ دي، والله يا “غيث” لو رجعتها تاني لا تبقى ابني ولا أعرفك.
زفر بحنقٍ، وهو يوضح لها سريعاً:
_يا ماما أنا لا هرجعها ولا هتجوز تاني، أرجوكي سبيني أطلع إرتاح بقا.
سكن السرور والفرحة خلاياها، فربتت على كتفيه برضا:
_إطلع يا حبيبي، ونبقى نكمل كلامنا بعدين.
تماسك بصعوبةٍ وهو يستمع لإصرارها بالحديث عن أمر زواجه للمرة التي تعدت الثلاثون، ولكنه الآن لا يملك طاقة لخوض مجادلة عصيبة معها، فإستكمل طريقه للأعلى بصمتٍ تام، حتى وصل لشقته أخيراً، فدث مفاتحه بالباب ثم كاد بفتحه، ولكن سماعه لصوتٍ مألوف إليه جعل يديه تتجمد أطرافه المتمسكة بالمفتاح، وخاصة حينما عادت لتناديه مجدداً:
_”غيث”.
القرار الذي سيتأخذه تلك المرة صعب للغاية، إن إلتفت تجاه مصدر الصوت القادم من الدرج الجانبي ربما سيرى صاحب الصوت، أيعقل أن يكون يتوهم ذلك!
مهلاً أذنيه تلتقط صوت شهقات خافتة لبكاءٍ، علها حقيقة ستستهدف غضبه المحتبس بداخله طوال تلك الأشهر، لعق شفتيه بلسانه ليمنحهما رطوبة تزيل قسوتهما، قبل أن يستدير ليصبح مقابلها، نعم وجدها تجلس على الدرج وعلى ما يبدو بأنها هنا منذ فترة طويلة، إستندت بيدها على دَرْبَزِين الدرج، حتى استقامت بوقفتها، كان يعتقد بأنه سيندفع بالسباب العنيف فور رؤياها، كان يستعد لذلك قبل لحظاتٍ، ولكنه فور أن رأها سُلبت الكلمات منه، ربما عينيه تشتاق لرؤياها، وقلبه لسماعٍ دقات قلبها، وجسده يتلهف لقربها منه، فإزدحمت رغباته لتهاجمه بضمها بتلك اللحظة، أصبحت هزيلة كثيراً عما كانت، ويبدو عليها إرهاق الحمل الذي ترك أثره أسفل عينيها السوداء، إنخفضت عينيه تدريجياً تجاه بطنها المنتفخة، الآن هي بشهرها الثامن، نعم يعلم ذلك ويعد لها باليوم، مازال يتذكر اليوم الذي علم به بحملها، ولكن خانته تلك الفرحة فتسببت له بوجعٍ بعدها بإسبوعٍ واحد حينما عاد مبكراً من العمل ليراها ترفع صوتها على أمه حتى أنها كادت برفع يدها عليها، إستحضاره لذلك المشهد الذي لم ينساه أبداً جعل عينيه يستحوذهما شرارة مخيفة، بترت كل ما يحمله تجاهها من شوقٍ دفن مع الذكريات الجميلة التي جمعتهما سوياً، فتحرر لسانه ناطقاً بقسوةٍ:
_جاية ليه؟
فركت يدها وهي تقترب منه بإرتباكٍ، وبصعوبةٍ قالت:
_آآنا… كنت… آآ..
قاطعها بجفاءٍ، وكأنه لم تجمعهما علاقة يوماً:
_الإيجار اتدفع ومصاريف الشهر اتبعتتلك وبزيادة، مش شايف مبرر لزيارتك دي!
إنهمر الدمع من حدقتيها التعيسة، فخرج صوتها مختنق بالدموعٍ:
_أنا مش عايزة الشقة ولا فلوس.
رفع حاجبيه وهو يتساءل ساخراً:
_أحب أسمع اللي عايزاه.
أزاحت العبارات اللامعة بأهدابها قبل أن تجيبه بقوةٍ تحاول التمسك بها:
_عايزاك تعرف الحقيقة مش أكتر.
رد عليها بنفس حالة الجمود التي تستحوذ عليه:
_اللي هي!
رغم جفائه بالحديث معها، الا أنها لم تتوقع الا ذلك، فالتقط نفساً مطولاً قبل أن تخوض معه تلك الحرب التي ستستنزفها نفسياً:
_من أول ما دخلت البيت ده ووالدتك مش متقابلة وجودي، كل ما بتشوفني تحت بتقولي كلام صعب على أي حد يستحمله وفي اليوم ده قالتلي آآ…
قطع حديثها حينما إقترب ليصبح قريباً منها، فارتدت للخلف بخوفٍ، فحدجها بنظرةٍ قاتلة قبل أن يلحقها صراخه:
_وده يديكي الحق إنك تحاولي تمدي إيدك عليها، أنا اللي غلطت من البداية لما دخلتك البيت اللي عمرك ما كنتي تحلمي بيه، أنا السبب في الغلط ده وأنا اللي هصلحه..
ثم أشار لها بيديه وهو يستطرد بإنفعالٍ:
_أوعي تفكري إني عشان لسه مطلقتكيش لحد دلوقتي أبقى لسه باقي عليكي، أنا مستني اللحظة اللي تولدي فيها وأخد ابني بعد كده متلزمنيش.
طعنها بخنجرٍ سن نصله واستهدف صدرها ليصل لقلبها، شعرت في تلك اللحظة بدوارٍ مفاجئ يهاجمها، فخشيت أن تفقد وعيها أمامه فيظن بأنها تستعطفه، لذا تركته وهبطت أول درجات الدرج، فإحتد بها الدوار حتى أنها خشيت السقوط عن الدرج فتفقد الرابط الوحيد الذي يجمعها به، لذا إختارت حل وسط لتكون منقذ لها، فجلست محلها على الدرج لتسبح في غياهب الظلام التي إبتلعتها، ذابت طبقة البرودة التي يتخفى خلفها، حينما رآها مغيبة عن الوعي، فأسرع تجاهها ثم حملها بين ذراعيه، ليتجه لشقته مجدداً، فحرر المفتاح العالق ببابه ثم ولج بها للداخل، ليضعها على الفراش، وجذب هاتفه ليطلب الطبيب على الفور.
*******
بمنزل “عمر”.
إستحوذت الصدمة عليهما، فلأول مرة منذ سنوات يصطحب “عاصي سويلم” فتاة معه، كانت “هند” الإمرأة الاولى والوحيدة بحياته، وكلما حاولت شقيقته “إيمان” أن تجد له عروس مناسبة إليه، ولكنه رفض في كل مرة أتت له بفتاة مختلفة، وأخبرها بأنه لا يفكر بالارتباط بعد موت خطيبته وحبيبته “هند”، وهي الآن تراه يقف أمامها وبصحبته فتاة جميلة للغاية، تجاهل”عاصي” السؤال المطروح، فعادت شقيقته لتسأله من جديدٍ:
_مين دي يا”عاصي”؟
ابتسمت وهي تقترب منها، لتجيبها بابتسامةٍ عذباء:
_أنا”لوجين” ، وأنتي إسمك أيه؟
انتقلت نظراتها المتعجبة تجاهه، ومن ثم أشارت له هامسة:
_قولي يا “عاصي” مين دي؟
جذبهما برفقٍ للغرفة القريبة منه، وأغلق بابها ليلتفت إليهما ومن ثم قص على مسماعهما ما حدث، فقال “عمر” بصدمةٍ:
_سيبني أركز بس في اللي قولته، يعني البنت اللي برة دي تبقى خطيبة “قاسم خلدون” اللي المفروض في صفقة هتم بينكم في نفس اليوم اللي كان فيه خطبتهم، فخطفتها أنت لأنها مش عايزة تتجوزه، أيه الورطة السودة دي!
ابتسمت “إيمان” لتقطع حديث زوجها بحماسٍ بعد تفكير جعلها تنجرف بعيداً:
_ كل قصص العشق والغرام بتبدأ بأحداث زي دي بالظبط، أنا دلوقتي متفائلة بالبنت دي وحاسة إنها هتعمل اللي فشلنا إحنا فيه.
استدار تجاهها”عاصم” ثم صاح بها بانفعالٍ:
_إهدي يا “إيمان”،مفيش حاجة من اللي بتقوليها دي هتحصل، قولتلك ألف مرة إن قلبي مات في اللحظة اللي “هند” ماتت فيها..
ثم تركها وخرج من الغرفة ليجلس على الاريكة مقابل”لوجين” التي تنتظرهما بالخارج، فما أن جلس جوارها حتى قالت بخجلٍ:
_أتمنى أني مكنش سببتلك إحؤاج مع عيلتك .
لمس بحديثها خجل يتخفى خلف نبرتها الهادئة، وها قد إستكشف بها جانب جديد جوار مشاكستها وجرائتها التي أثارت اعجابه، لم ينكر بأن تلك الفتاة بها شيئاً يثير إعجابه، ولكنه علل لذاته بأنه لم يتخلى عن أحداً قط حتى يتخلى عنها وهي بحاجة لمساعدته، فقال بصوته الرخيم:
_لا أبداً… إختي كانت عايزة تطمن عليا بس.
قاطع “عمر” الهمس المتلهف بينهما، حينما قال بترددٍ:
_إتفضلوا جوه..
لم يفهم “عاصي” لماذا يريد منه الدخول، فغمز بعينيه وهو يخفض من صوته خشية من أن تستمع له زوجته:
_المفاجأة اللي قولتلك عليها، أنت لحقت تنسى ولا أيه؟
إبتسامة شبه ساخرة رسمت على محياه على طريقته بالحفاظ على سر زوجته، فنهضت “لوجين” عن مقعدها وهي تشير إليه بحماسٍ:
_مفاجأة أيه دي،قولي بسرعة.
أشار لها بأن تتبعه، فأتبعته للداخل ومن خلفهما “عاصي”، فوجد شقيقته قد زُينت الغرفة بأكملها بالبلالين الحمراء، والشموع، ووضعت طاولة كبيرة بمنتصف الغرفة، تحوى قالب عملاق من الكعك المغرق بالشوكولا الشهية، وكتبت على سطحها بالكريمةٍ
“عيد ميلاد سعيد عاصي”…
تطلع تجاهها وهو يمنحها ابتسامة حنونة، فلم يعد يملك بهذا العالم سواها هي وأصدقائه”غيث” و”عمر”، لا يعلم ماذا كان سيفعل بدونهما!
ساد الصمت بينهم حتى طوت صفحته صفقات تلك الفتاة واتبعها صياحها:
_أنا هنا في الوقت الصح، يالا نقطع الكيك لأنه شكله يجوع بصراحة.
ابتسمت لها “إيمان” بلطفٍ، ثم قالت:
_تعالي نجيب السكينة وأطباق..
أومأت برأسها بخفةٍ ومن ثم اتبعتها للمطبخ ومازالت نظرات “عاصي” تتبعها بدهشةٍ،فسرعان ما تأقلمت مع إناس تراهم لأول مرة، تتابعتها نظراته حتى خرجن من الغرفة، فأسرع “عمر” تجاهه ثم جذبه على الأريكةٍ ليردف بشكٍ:
_إنت هتقولي الحقيقة ولا أجيبك يوم عندي في عيادتي ووقتها مش هتخبي حاجة، فتعالى دغري كده وقولي مين البت دي؟
أبعده “عاصي” عنه ثم قال بسخريةٍ:
_فاكر إن كلامك الساذج ده هيجيب معايا نتيجة زي ما بيجيب مع المختلين اللي بتعالجهم لا فوق.
رد عليه بضيقٍ:
_وظيفتي اللي مش عجباك دي بتجبرني أنبش في ماضي الناس وحاضرهم يا أسناذ، لإني دكتور في النهاية.
دفعه بشراسةٍ قبل أن يجيبه:
_يبقى تمارس مهنتك الغبية دي بعيد عني والا هقطع رقبتك،فاهم يا دكتور!
إبتعد عنه ببعض الخوف:
_إهدى، ده مجرد نقاش عادي، إنت انزعجت ليه كده!
إستقام “عاصي” بجلسته ثم عدل من قميصه، لينتبه كلاً منهما لصوت الضحكات المرتفع الذي يقترب، حتى بات بالغرفة نفسها، فما كانت سوى ضحكات “إيمان” و”لوجين”المرحة بعدها تعرفت كلا منهن على الاخرى، فكونت صداقة سريعة بوقتٍ لم يستغرق الثلاث دقائق!
*******
إنتهى الطبيب من فحصها، ثم جذب دفتره الخاص ليدون بالرُوشِتّة بعض الأدوية، ثم قدمها إليه وهو يخبره بعمليةٍ:
_الدوخة اللي عندها دي سببها الإجهاد وسوء التغذية، عشان كده كتبتلها شوية فيتامنيات، والأفضل إنها ترتاح خالص وتنام على السرير لحد ما تدخل في التاسع على الأقل.
شكره “غيث” وقدم له مبلغ من المال، وإتبعه للخارج، ثم طلب الدواء من الصَّيْدَلَةِ القريبة منه هاتفياً، وما أن أغلق هاتفه حتى ألقى بثقل جسده على أحد المقاعد، يحاول التفكير في مخرج لهذا الأمر، فهي وحيدة بهذا العالم، لا تمتلك أماً ولا شقيقة، حتى ابنة خالته وصديقتها الوحيدة تخوض نفس المعاناو مع حملها المرهق، هل سيزيد مسؤولياتها بمسؤولية زوجته، ربما يحتمل المخاطرة بها حينما تعود لشقتها التي إستأجرها لها ولكن كيف سيخاطر بإبنه الذي تحمله بأحشائها!
الأمر ليس سهلاً، لذا لم يملك أي خيارات قد تخرجه من مأزقه، لذا نهض ليتجه للمطبخ ثم أعد لها بعض الطعام الطازج، ليحمله ويتجه لغرفة نومه مجدداً، فوضعه على الكومود المجاور لها ثم جلس على المقعد القريب منها، ينتظر لحظة إفاقتها، فكانت تلك المدة ثقيلة على قلبه النازف،يرى معشوقته أمامه ويحارب عينيه أن لا تعانقها، من أصعب المعارك التي قد توجهها يوماً،معركة كان الخصم فيها القلب والعقل، فالعقل يستحضر كل لحظة سوء وضغينة حملها تجاه هذا الشخص فيمقت رؤياه وقربه،أما القلب فلا يستحضر سوى ذكراه الطيبة وكلما خفق لجواره يذكره بأقصوصة العشق الذي شهد عليها،ودونها بداخله، إستقام “غيث” بجلسته حينما وجد “عائشة” تسترد وعيها تدريجياً، فجاهدت لرفع جفن عينيها الثقيل، فبدت الرؤيا مشوشة عليها قليلاً، حتى استطاعت استعادته بشكلٍ كامل، فصُدمت حينما وجدت نفسها بداخل شقتها وبغرفتها التي إشتاقت إليها، خاضت عينيها بتفاصيلها التي إشتاقت لها، فتصلبت نظراتها حينما وقعت على من يجلس بالقرب منها، تنشطت ذاكرتها، فانتباها الأمل مصاحب لفرحةٍ غمرتها، مساعدته لها يعني بأنه مازال يحمل حباً تجاهها حتى وإن كان مبهماً، إتكأت “عائشة” على معصمها، ثم أخفضت ساقيها لتهم بالوقوف، فإستوقفها صوته الخشن:
_رايحة فين؟
رفعت رأسها الذي يدور بتعبٍ، وهي تجيبه:
_همشي عشان مسببلكش مشاكل مع والدتك.
حدجها بنظرةٍ حادة،وكأنها أخطئت بحقها، وبصرامةٍ لا تحتمل نقاش قال:
_إنتي مش هتخرجي من هنا لحد ما تولدي، بعد كده إبقي روحي في المكان اللي يعجبك بس لوحدك من غير ابني.
زداد من وجعها وجعاً، فشددت من ضغطها على فستانها الزهري وكأنها تحاول إستجماع شجاعتها فيما ستقول:
_يعني أيه هتحبسني هنا!
ترك مقعده ثم دنا ليصبح مقابلها:
_سميها زي ما تحبي.
ضمت شفتيها معاً بإرتباكٍ، فقربه يزيد من رجفة شوقها إليه، تود إن تمرمغ رأسها بأحضانه، فكم قست ليالي دونه بجفاءٍ، فبات نهارها شبيه بعتمةٍ الليل الكحيل، وكأنه سحب نورها وتركها تنازع حتى الرمق الاخير، لقاء الأعين القصير دفعها لخوض تجربة حالمة، تتمنى بها إن لم يحدث ما حدث بينهما، ليتها لم تفترق عنه، ولكنه لم يمنحها فرصة حتى لتدافع عن نفسها فبنهاية الأمر لعبت حماتها لعبة ذكية من الصعب الشك بها، أزالت رداء الصمت الذي إستحوذ عليها حينما همست برجفةٍ تصاحب كلماتها المذبذبة:
_أنا مش هتخلى عن ابني يا “غيث”.
أفترت شفتيه عن إبتسامة شبه ساخرة، فتعمد قطع المسافة التي تفصلهما وهو يهمس بشرٍ يلاحق وعده:
_مش بمزاجك.. إنتي غلطتي ولازم تتحملي العواقب.
وإستدار للخلف وهو يشير بيديه على الصينية الموضوعة على الكومود، ثم قال بصرامةٍ:
_كلي وخدي أدويتك.
ثم خطى خطوتين تجاه باب الغرفة، إستعادهما ليقف مقابلها من جديدٍ:
_ده مش عشانك عشان ابني اللي في بطنك.
ثم تركها وغادر من أمام عينيها، فسمحت لنفسها بالإنهيار أرضاً، بكت لتفرغ ما بداخلها من همومٍ وأوجاع كان من إنتشالها منهما السبب بها الآن، ظلت “عائشة” في حالتها تلك ما يقرب النصف ساعة، حتى إستعادت جزء من عزيمتها، فنهضت لتتدلف حمام الغرفة، ثم خلعت حجابها وتوضأت لتلجئ لمن يشهد على ما بصدرها.
********
بمنزل “عمر”
ناولت “إيمان” زوجها السكين، وهي تشير إلى قالب الكعك من أمامه :
_يالا يا “عمر” قطع التورتة..
كاد بأن يلتقطها منها، فقاطعتهما “لوجين”، حينما جذبت منها السكين سريعاً ثم قالت بدهشةٍ:
_إستنوا،هو إنتوا هتقطعوا التورتة بالسرعة دي!
تساءل “عاصي” باستهزاءٍ:
_وأيه اللي المفروض نعمله؟
منحته نظرة ماكرة، قبل أن تدور حول الطاولة وهي تدندن بدلالٍ:
_happy birthday عاصي….
دارت عدة مرات وهي تغني بصوتها العذب، لتتوقف بعد فترة قصيرة لتشير لمن يرمقها بنظراتٍ حادة، تحثها على التوقف عما تفعله، ولكنها لم تبالي، بل أشارت له بمرحٍ:
_مش هتطفي الشمع!
إنتقلت نظراته تجاه أخته وزوجها فوجدهما يتطلعون لبعضها البعض،وأفواهما يكاد يصل للأرضٍ من شدة الصدمة، فكان “عمر” أول من تماسك ليعود لثباته في لحظاتٍ، فدفع بكتفيه “عاصي” برفقٍ وهو يخبره مازحاً:
_مستني أيه، ما تسمع الكلام وتطفي الشمع يا أبو نسب!
تحولت نظراته القاتمة تجاهه وإنذار خفي يعلو صوته داخل أذن “عمر”، فأسرع بإبعاد يديه عنه وهو يردد بخوفٍ:
_أعمل اللي تحبه، إعتبرني مش موجود البيت بيتك.
راقبت “لوجين” ما يحدث بينهما ثم تساءلت باستغرابٍ:
_في أيه؟ انتوا كويسين؟
جذب “عاصي” السكين منها ثم قطع الكعك، ليضعه بالاطباق، ومن ثم ناول “عمر” إحداهما وكلماته تخبره بتهديدٍ صريح:
_خد الجاتو بتاعك وإقعد في جنب.
منحه إنذار بأن يكف عن الحديث، فجذب زوجته ثم جلس جانباً، أما “لوجين” فجلست على المقعد تتناول ما قدمه لها بشراهةٍ، وخاصة الشوكولا، فتأملها بتعجبٍ لحقه بقوله الساخر:
_مش عارف انتي جايلك نفس تأكلي إزاي،و انتي هربانه من عيلتك وقاعدة عند ناس المفروض إنك متعرفيش عنهم حاجة.
رفعت “لوجين” رأسها تجاهه، ثم قالت وهي تلوك قطعة الشوكولا بفمها:
_لا متخفش أنا دايماً عاملة حسابي وجاهزة لأي حاجة.
ضيق عينيه بذهولٍ، فتساءل بإهتمامٍ:
_ إزاي؟
بإبتسامةٍ واسعة قالت:
_هقولك.
ثم لعقت أصابعها التي تحمل بقايا الشوكولا، والأخر يراقبها بتقززٍ، فحاولت فتح حقيبتها الصغيرة، لتخرج منها زجاجة صغيرة للغاية، وجهاز متوسط الحجم، فأمسك به وتفحصه وهو يردد بإستغرابٍ:
_ده أيه؟
جذبته منه ثم قالت بفخرٍ:
_ده كهربا زيادة بعد عنك وعن السامعين فولتها زايد حبتين، حاسب لتعورك.
قرص أرنبة أنفه وهو يراقب أخته وزوجها، ويدعو بداخله إن لم يرى ما تحمله أحداً وخاصة حينما جذب الزجاجة الصغيرة، لتشير له بابتسامةٍ شيطانية إتبعها قولها المشاكس:
_أكيد عارف ده أيه صح!
رفع كتفيه ساخراً:
_في الحقيقة مش واخد بالي، بس ده ميمنعش إني أستفاد من خبرتك.
راق لها كلماته فقالت بغرورٍ:
_هتستفاد متقلقش.
ثم أشارت على محتوياتها قائلة:
_دي شطة حمرا من اللي قلبك يحبها، عشان لو حسيت بأي حركة غدر أستهدف العين على طول، خدت بالك؟
ضحك بصوته الرجولي، وهو يردد من بين ضحكاته:
_أنا واخد بالي من حاجات كتيرة أوي.
******
على مسافةٍ ليست ببعيدةٍ عنهما..
قال لزوجته وهو يوزع نظراته بينهما:
_أنتي شايفة اللي أنا شايفه!
أجابته “إيمان” بإبتسامةٍ مشرقة:
_صدقتني أما قولتلك إن الأمل في البت اللي لسه لاقيها صدقة دي.
انتقلت نظراته تجاهها، ثم قال بإستهزاءٍ:
_أنا مقلق من أخوكي، ليكون البت دي مدياله حاجة كده ولا كده.
اتنقلت نظراتها المحتقنة تجاهه، ثم قالت بغضبٍ:
_أنا موافقة تديله حاجات بس يقرر يتجوز بقا ونخلص.
إرخي جسده على المقعد بإريحيةٍ:
_عندك حق، عايزين نخلص من العانس ده في أقرب وقت.
*******
بفيلا “قاسم خلدون”
ساعات متواصلة من البحث المتواصل، ولم يستطيع أحداً الوصول لشيء قد يفيدهم بمعرفةٍ مكانها، وكأنها إبرة رفيعة غرقت بكومة من القشٍ، تمرد غضب “قاسم” ليصيح برجاله بشراسةٍ:
_إقلبوا الدنيا لحد ما تلاقوها، حتى لو إضطريتوا تفتشوا بيت بيت، أنا عايزاهت واقفة قدامي هنا في أقرب وقت.
أومأ الرجل رأسه بخوفٍ:
_تحت أمرك يا باشا.
وأسرع للخارج ليتبعه رجاله للبحث عن العروس التي إنشقت الأرض وإبتلعتها، أما “قاسم” فجلس على البارٍ الصغير الموضوع بإحدى الزوايا، فإقترب منه عمه وهو يخبره بتوترٍ ملموس بنبرته:
_هترجع يا “قاسم”، هتروح فين يعني!
توقف عن إرتشاف المشروب، ثم إستدار بطرف عينيه تجاهه، ليشير له بغضبٍ:
_إدعي ربنا إنها ترجع ده لمصلحتك والا يا عمي متلومنيش في اللي هعمله فيك وفيها.
وتركه وجذب علبة السجائر الموضوعة على رخامٍ البار، ليتجه للأعلى تاركاً الأخير يلتقط نفسه بصعوبةٍ.
*******
مرت ساعة كاملة قضاها “عاصي” بالحديث مع “عمر”، وحينما شعر بالفتورٍ خرج للشرفة ليضع قهوته جانباً والحزن يسيطر على معالمه، مازال يتذكر وجودها لجواره بمثل هذا اليوم الذي بات أتعس يوماً بالنسبة إليه، كل مناسبة تخصه باتت نقمة عليه بدونها، لا يعلم كم ظل على هذا الحال، ساعة أم ساعتين قضاهما وهو يتطلع للنيل بشرودٍ، فأفاق من غفلته حينما وجد أخته تقترب منه بحزنٍ إتبع لهجتها:
_مالك يا “عاصي”؟ إنت لسه منستهاش؟
نظراته الضائعة إليها كانت بمثابةٍ إجابة صريحة لها، فربتت على يديه الممدودة على السور بحنانٍ:
_حاول تنساها، عشر سنين وأنت لسه زي ما أنت كأنها ماتت إمبارح، العمر بيجري يا”عاصي” إمتى هيبقالك ذكريات جديدة متعلقة بيك!
زفر ليخرج العالق برئتيه ومن ثم قال بصوتٍ موجوع:
_مش عايز أتكلم في اللي فات يا “إيمان”.
تحطم قلبها لأجله، لا أحداً يشعر به أكثر منها، فحاولت أن تغير حديثها، فسألته بلهفةٍ:
_عملت أيه في موضوع”عائشة” ، البنت منهارة يا “عاصي”، ” غيث” ظالمها.
رد عليها بضيقٍ برز بإنفعال نبرته:
_حاولت أتكلم معاه أكتر من مرة بس عنيد واللي في دماغه في دماغه.
سكن الحزن قسماتها، فأجلت أحبالها الصوتية:
_مش قادرة أصدق إن خالتي تعمل كل ده عشان تخليه يطلقها.
استدار بجسده تجاهها، ثم قال:
_لإنها من البداية مكنتش موافقة على جوازه منها يا “إيمان”.
رددت بصدمةٍ:
_تقوم تعمل كده!
أجابها بتهكمٍ:
_تصرفها غلط بس هي عمرها ما هتشوفه كده، خليها تتفرج على ابنها الوحيد وهو بيضيع قدام عنيها بسبب اللي عملته.
وتطلع لساعة يديه بإنزعاجٍ:
_الوقت إتاخر، وأنا ورايا شغل كتير بكره، يلا تصبحوا على خير.
وتركها وولج للداخل فوقف مشدوهاً حينما رأها غفلت محلها كالطفلة الصغيرة التي إتبعت أبيها لمشوارٍ هام ثم غلبها النوم، فمرر يديه على طول شعره وهو يردد باستياءٍ:
_أهو ده اللي كان ناقص!

يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الأربعيني الأعزب)

اترك رد

error: Content is protected !!