روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الخامس 5 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الخامس 5 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الخامس

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الخامس

ما بين الألف وكوز الذرة

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الخامسة

* ملحوظة *
قصة ” ميمو ” التي ستُعرض خلال الأحداث القادمة هي قصة حقيقية، مع لمسة خيالية للتخفيف من حدة الواقع .
واعلموا أنه ما من عبدٍ مسلمٍ أكثر الصلاة على النبي محمد ﷺ إلا نوّر الله قلبه، وغفر ذنبه، وشرح صدره، ويسَّرَ أمره.❤️
ابن الجوزيّ.
_______________________
عادت منزلها أو بالأحرى منزل عائلة الاشموني الموقرة والتي تحل ضيفة عليهم، أو _حسب زعمها_هم من يحلون ضيوفًا لديها .
ابتسمت تدلف غرفتها ملقيةً حقيبتها وحذائها جانبًا وقد قررت الاغتسال علّها تفكر بشكل جيد في القادم، لكن أثناء ما كانت تفعل ذلك أبصرت بأعين ضبابية صورة عملاقة تتوسط الجدار فوق الفراش، صورة لفتاة مراهقة بين احضان كهلٍ، ترتدي فستان زفاف ويد ذلك العجوز تضمها بشكل فج وكأنه العالم أسفل قدمه .
ارتسمت بسمة مجروحة أعلى وجهها تقترب من الصورة تتحس الإطار، وتتحدث كما لو أن صاحبها يتجسد أمامها :
” ازيك يا جاد ؟! اخبار الدنيا عندك ايه ؟! ”
ابتسمت بسمة لطيفة تنافي حالتها في تلك اللحظة:
” عارفة أنك حاسس بالوحدة، متقلقش ابنك هيحصلك قريب عشان بس تعرف أن ميمو حبيبتك مش حابة تزعلك حتى بعد ما ريحتنا منك ”
كانت تتحدث وعينها مثبته أعلى ذلك الجسد الذي عذبها لسنوات وسنوات، أغمضت عينها تحاول ابعاد تلك الصور عن عقلها، صور لفتاة مراهقة تطلق شعرها خلفها تركض في الطرقات ببسمة واسعة تضم بين أحضانها كنزها الثمين، صغيرة ذهبت لزيارة منزل عمها للعب مع ابنة عمها، حتى قابلت سبب دمارها ….
دخلت ميمو _المراهقة_ لمنزل عمها وهي تحيي الجميع ببسمة واسعة تحمل بين أحضانها العديد والعديد من الروايات التي نجحت في شرائها بمبلغٍ زهيد من ذلك البائع الذي يجلس على الرصيف أمام مدرستها ..
” فين ميرڤت يا مرات عمي ؟!”
أشارت لها زوجة عمها الحبيبة والحنونة بهدوء :
” اششش وطي صوتك يا ميمو عشان عمك معاه ضيوف جوا يا حبيبتي، ادخلي ميرفت في المطبخ بتصب العصير للضيوف ”
هزت ميمو رأسها تبتسم لها بسمة واسعة قبل أن تنطلق كالقذيفة صوب الداخل وكلها حماس لتقسيم الروايات عليهما كما يفعلان طوال الوقت، فقد كانت تلك الروايات هي الشيء الوحيد الذي يحلي مرارة ايام ميرفت بعدما أجبرها والدها على ترك الدراسة .
وأثناء عبورها من أمام غرفة الضيوف لمحت رجل يجلس بهيبة أعلى مقعد متهالك تكاد أرجله تداعى أسفل جسده الضخم ذو العضلات، رُغم ملامح السن الظاهرة أعلى وجهه .
فتحت فمها بانبهار تراقب تلك الثياب النظيفة التي لا تراها إلا في التلفاز وذلك الهاتف المستقر أمامه يبدو باهظ الثمن، وأثناء شرودها ذلك ارتفع رأس الرجل فجأة بشكل جعلها تعود للخلف مرتعبة، وهي تنظر له بتوتر، ليبتسم لها الرجل جانبية أثارت في نفسها مشاعر مجهولة، ابتلعت ريقها تتحرك صوب المطبخ وهي تنادي باسم ميرفت وفي عقلها ما تزال صورة ذلك الرجل تُعرض …
وكانت هذه المرة الأولى التي رأت بها جاد الاشموني _ والد سعيد _ ويا ليتها لم تفعل، ليتها لم تتوقف لتطيل للنظر به، أو ليتها لم تذهب لمنزل عملها، أو حتى ليت البائع رفض بيع الروايات لها بسعر زهيد وقتها كانت لتعود لمنزلها خالية الوثاق حزينة، افضل من أن تقضي باقي حياتها حزينة محطمة …
أفاقت ميمو من شرودها وهي تتحرك بخطوات بطيئة صوب المرحاض تبعد تلك الذكريات عن رأسها، وقفت أسفل رذاذ المياة بثيابها تبعد تلك الذكريات عن رأسها وصوت جاد يتكرر في رأسها، تغمض عينها تحاول ابعاد صورته ونظراته على جسدها الصغير، صوته المقيت ما يزال يصدح في عقلها..
” ايه يا معتز مقولتش أنك عندك بنت قمر زي دي ؟؟”
نظر عمها صوبها بعدم اهتمام وهي تضع اكواب الضيافة أمامهما :
” لا دي بنت اخويا ”
ابتسم لها جاد وهو يهز رأسه بنظرات كانت غير مفهومة لها في هذا الوقت يقول بصوت مقزز :
” ما شاء الله اخوك عنده بنت عروسة كده ؟؟ تلاقي الرجالة بيترموا تحت رجليها من صغرها، ولا ايه يا عروسة ؟!”
ابتسمت له ميمو بارتباك ولم تُحسن اختيار كلماتها لولا حديث معتز الذي قاطع كل ذلك :
” أيوة، بس امها رافضة موضوع الجواز، قال ايه البنت لسه ١٥ سنة، وصغيرة ”
وفي تلك اللحظة اخترقتها نظرات جاد الذي قال بصوت بدا لها فحيحًا :
” صغيرة ايه ؟؟ ده السن ده هو افضل سن للجواز، البنات في السن ده بيكونوا زي الورد المفتح اللي مستني البستاني يقطفه ”
وقد كان، قطفها سعيد ..قطفها دون أن يأبه أنها لم تُزهر بعد كما يدّعي، قطفها وتركها دون أن يسقيها او يعتني بها حتى ذبلت وتحولت من وردة لصبار شائك، مر كالعلقم .
أغلقت ميمو الصنبور تتنفس بصوت مرتفع أسفل المياة، مسحت وجهها تحاول أن تخرج من تلك الدوامة وهي تهتف :
” اشششش خلاص، جاد مات، جاد مات، لازم اللعبة دي تخلص بقى، كفاية اوي كده ”
رفعت عينها تتذكر ملامح صلاح وهي تردد :
” و عشان تلاعب واحد خبيث زي سعيد، محتاجين واحد أخبث منه …..”
____________________
“نعم يا اختي ؟؟”
خرج محمود من المرحاض مرتعبًا قبل حتى أن يكمل خلع ثيابه تزامنًا مع انطلاق صرخات صالح الذي انتصب جسده بشكل متحفز وكأنه يناقش عدوًا على اتفاقيةٍ ما ..
اقترب منه محمود يردد بجهلٍ وملامح الشر التي ينبض بها وجه رفيقه اخافته :
” فيه ايه ؟! حصل ايه ؟؟ مين اللي بتكلمه ؟!”
لم يجب صالح أي سؤال خرج من فم محمود، بل قال بكل بساطة :
” أنتِ لو ممسحتيش الزفت اللي نشرتيه ده اقسم بالله هـ”
ولأول مرة يقطع أحدهم تهديده، حيث قالت له رانيا بصوت مستفز وقح:
” تؤتؤ بلاش جو التهديد ده لأني بسجل المكالمة واكيد مش هتحب انزل تسجيل صوتي مع البوست ”
عض صالح شفتيه بغضب وهو يهمس :
” يا بنت الــ ”
” برضو بلاش شتيمة عشان المكالمة دي متسجلة ”
ضغط صالح على أصابعه بحنق وغضب حاول كبته لئلا تنفذ تهديدها، فيكفيه ما فعلته لأخيه منذ قليل والذي سيزيد من طينته بلًا .
” طيب انطقي عايزة ايه ؟!”
انتفضت رانيا من مجلسها تتجاهل خالتها التي دخلت الغرفة تحمل كوبًا من الحليب وبعض المخبوزات :
” هعوز منك ايه يعني ؟؟ عايزة تليفوني اللي اخدتوه مني يا حرامية يا نصابين”
تحدثت خالتها ببلاهة وهي تضع الكوب أعلى الطاولة المجاورة للفراش :
” تليفون ايه يا رانيا ؟! مين دول ”
تحدثت رانيا بحنق :
” لحظة يا خالتو، اسمع يا استاذ صلاح لو تليفوني مرجعش ليا اقسم بالله أنا مش هيكفيني اللي عملته، وهروح الجريدة اللي بتشتغل فيها وهقول للكل أنك نصاب وحرامي ”
وكعادته بدأ صالح يبعثر خصلات شعره بقوة جعلت محمود يدرك جيدًا أن صالح الآن على حافة غضبه، وقاب قوسين من الانفجار .
” برضو هتقولي حرامي ونصاب، يابت ده سامسونج امال لو كان ايفون كنتِ هتعملي ايه ؟؟ ”
اقتربت خالتها منها تحاول إلصاق أذنها بالهاتف أكثر :
” مين ده يا رانيا وحصل ايه ؟!”
” لحظة يا خالتو، اولا نوعه ميخصكش، أنا عايزة تليفوني عشان اللي عليه يا محترم ولو الدنيا مزنقة معاك والكتابة مش جايبة همها اوي كده سيبها واشتغل أي شغلانة تانية بدل القرف اللي بتعمله ”
نظر صالح لمحمود وهو يقول بسخرية :
” لا ما أنا فعلا بشتغل شغلانة تانية مقرفة اكتر من القرف اللي بعمله، ولو ممسحتيش البوست اللي نزل أنا هوريكِ الشغلانة دي عملي ”
تعجبت رانيا من حديثه الذي لم تفقه له معنى، لكن صالح لم يسمح لها بالاسترسال في الحديث أو تكرار تلك الكلمات المزعجة :
” اسمعي، بكرة الضهر فيه كافيه هبعتلك عنوانه تيجي فيه تاخدي ام التليفون بتاعك وتنزلي من على دماغي ”
” اه عشان اجي الكافيه ملاقيش حد وتضحك عليا تاني ”
مسح صالح وجهه يبعد وجه محمود الملتصق به بشكل غريب يكاد يستقر بين احضانه بحنق :
” يابني مش كده ما تيجي في حضني احسن، بوسني يا محمود بوسني ”
شهقت رانيا بصدمة وأحمر وجهها من كلماته الوقحة .
بينما هو نفخ بضيق شديد ثم أولى انتباهه لها :
” ده اللي عندي، هتيجي بكرة هتاخدي تليفونك، مش هتيجي والله مش مشكلتي ”
نظرت رانيا حولها تحاول التفكير في الأمر بينما خالتها تحوم حولها كالنحلة التي لا تجد زهرة تحط عليها :
” فيه ايه يا بنتي ما تنطقي؟! ”
وفرت رانيا وهي تقول :
” ماشي، ابعت العنوان بس حسك عينك تضحك عليا تاني ومتجيش سامع ؟؟”
التوى ثغر صالح مظهرًا بسمة ساخرة جانبية أوضحت مقدار ما يشعر به من حنق وغضب :
” ماشي يا ختي، بس قبلها تمسحي اللي نزلتيه وتقولي في بوست أنك كنتِ بتهزري ”
وصل له صياح رانيا عبر الهاتف :
” وانا ايه ضمني إني بعد ما اعمل كده هتكون قد كلمتك ؟!”
اقتربت خالتها تلتصق بها أكثر بحنق شديد والحاح أشد :
” مين ده يا رانيا ؟!”
قال صالح بغضب يوازي، بل يتخطى غضب رانيا بمراحل وقد استفزت تلك الفتاة كل ذرة همجية تسير في دماءه وهو يصرخ :
” لا لحظة يا خالتو، احنا هنستهبل ولا ايه ؟؟ بقولك تتنيلي تمسحي البوست هتلاقي تليفونك معاكِ بكرة وهينام في حضنك وصورتك تنور كاميرته تاني، مش هتمسحي البوست يبقى تودعي تليفونك يا حلوة ”
شهقت رانيا شهقة من تخرج روحه وهي تتراجع للخلف بشكل اثار فزع خالتها تصرخ بصوت مرتفع :
” أنت يا حيوان بتهددني؟؟ بقى هو ده الادب والرقي واللباقة ؟؟ امال لو كنت صايع كنت عملت ايه ؟؟ ”
لم يهتم لها صالح بل اغلق الهاتف بملل وسأم يلقيه أعلى الفراش متجاهلًا أي اسلوب لباقة أو أي آداب عامة، ثم أشار بإصبعه في وجه محمود بشر :
” بكرة في استراحة الغدا هتاخد التليفون ده وتروح توصله لام لسان دي في الكافيه اللي جنب المستشفى، دي غلطتك وأنت اللي تحلها”
أنهى حديثه دافعًا إياه جانبًا، ثم تحرك صوب المرحاض بينما محمود ما يزال واقفًا في منتصف الغرفة عاري الجزع :
” طب وانا ايه يجبرني اعمل كده هي بتهدد اخوك مش بتهددني أنا ”
ابتسم له صالح يردد قبل أن يغلق الباب :
” ما هي المشكلة أنها بتهدد اخويا، هي لو كانت بتهددك أنت في ستين داهية، انما صلاح هيدبحنا، وادعي ربنا أن البوست يتمسح قبل ما يوصل ليه، كفاية اوي اللي حصل في المؤتمر ….”
_________________
وفي غرفة صلاح كان يتمدد أعلى فراشه يتابع حسابه بعدما انتهى لتوه من نشر مقالًا من شأنه أن يحرك مياه سعيد الراكدة، ابتسم بخبث شديد يراقب التفاعل الذي بدأ ينهال عليه بمجرد نشره لذلك المنشور، لكن فجأة أبصرت عينه اشعارًا يأتيه من أحد المتابعين، ضغطت أنامله على الشاشة لينتفض جسده فجأة وهو يصرخ بجنون :
” ايه ده ؟؟؟؟ ايه ده ؟؟؟؟ فيه ايه ؟؟؟؟”
ضغط بأصابع مشدودة من شدة غضبه على زر التعليق لمعرفة ما تقصده تلك الفتاة المسماه ” زهرة الربيع ” بأنه لص نصاب سرق هاتفها مستغلًا اسمه وشهرته، لكن خابت جميع مساعيه حينما ظهرت له على الشاشة رسالة تفيد أن هذا المنشور لم يعد موجودًا ليعلق عليه، اشتد جنون صلاح وهو يحرك أصابعه على الشاشة ليجد منشورًا آخر من نفس الفتاة تخبرهم أنها فقط كانت تمزح.
تمزح ؟؟؟ حقًا ؟! حسنًا هو سيريها كيف يكون المزاح .
دخل صلاح سريعًا للملف الشخصي الخاص بتلك ” الزهرة” يفتح خانة الرسائل يكتب بأصابع غاضبة :
” ممكن توضيح من حضرتك على منشورك حول اني نصاب وسرقت هاتفك ؟؟ أنا اساسا عمري ما لمست هاتف أي قارئة ودائما هما اللي بيتصوروا بنفسهم، اظن أمور زي دي مش مجال للمزاح يا آنسة ”
انتظر أن تجيب، لكن لا شيء، خرج من صفحتها والغضب مازال يتوسط ملامحه، تنفس يحاول الهدوء مذكرًا نفسه أنها ربما فتاة طائشة لا تقصد ذلك وهي بالفعل اعتذر، كما أنه يكفيها معاتبة قراءه لها على حديثها الباطل عنه .
ابتسم يتنفس وهو يهدأ، لكن فجأة اختفت بسمته تمامًا وهو يلمح بعينه بث مباشر منتهي منذ ساعات عن المؤتمر، قد كانت جميع التفاعلات عبارة عن ضحك، قاده فضوله لرؤية ما فعل صالح هناك ليتسبب في إثارة الضحك بدلًا من الإعجاب، وليته لم يفعل ….
خارج الغرفة .
كان جسده يرتفع عن الأرض، ثم يقترب منها في حركات رياضية تسمى بالضغط، رياضة اعتاد رائد ممارستها طوال الوقت حينما يحتاج التفكير في قضية ما، وكان هذا أحد الأسباب لامتلاكه جسد عضلي مميز عن صالح وصلاح، كان الهاتف أمامه يتحدث مع والده الذي لم ينتهي منذ نصف ساعة من أخباره كم ينتظر ترقيته :
” سامعني يا رائد، أنا عملت كل اللي اقدر عليه عشان اوصلك للمكان ده، جبت كل وسطة اعرفها عشان توصل للمباحث ”
أخرج رائد صوتًا ساخرًا لاذعًا :
” يعني هو أنت جبت كل الوسايط عشان اتعين وعطلت على الترقية يابا؟؟”
” بتقول ايه يا بني، أنت معايا ؟!”
تنهد رائد يزيد من سرعة حركاته وقد بدأ العرق يتساقط على الأرضية أسفله :
” سامعك يا حاج، أنت عارف أن الموضوع مش سهل وانا بعمل كل اللي عليا، لكن دايما تحصل حاجة في آخر لحظة تخرب الدنيا ”
تنهد سليمان يتحدث بتمني :
” أنا يابني يوم ما سميتك رائد كان نفسي ومنى عيني تبقى رائد كبير في الشرطة، فاوعى تخيب املي ”
تمتم رائد من بين أنفاسه وحركاته :
” كويس أنك مسمتنيش عقيد ولا لواء، أنا رائد ومش ملاحق عليها ”
في تلك اللحظة أبصر رائد خروج قذيفة عنيفة من غرفة صلاح، فقد كان الاخير يغلق ازرار قميصه الابيض المرتب والذي يرتدي عليه بنطال اسود قماشي، يتحرك خارج البيت بشكل مخيف وكأنه ذاهب لقتل أحدهم ….
اعتدل رائد في وضعيته يمسح وجهه بمنشفة جواره مناديًا إياه :
” خير يا صلاح رايح فين ؟؟”
لكن صلاح لم يجبه بل ركض خارج المنزل بشكل اثار ريبة رائد وهو ينهي المكالمة مع والده سريعًا، ثم حمل سترته يضعها أعلى جسده راكضًا خلفه :
” اصبر فيه ايه ؟؟ فهمني ”
لكن صلاح صعد سيارته وتحرك بها في سرعة مخيفة والشياطين تلاحقه، وكذلك رائد الذي تحرك بسيارته خلفه …
______________________
كانت تجلس أمام المرآة تتجاهل نيرمينا التي تبكي لها تترجاها أن تسامحها :
” والله اخر مرة يا ميمو، آخر مرة وعد مني ”
لكن ميمو تجاهلت كليًا ما تنطق به، وفكرة أنها انحرفت وتجرأت على تجرع تلك السموم التي يعمل أخيها جاهدًا لدسها بين الشباب والانتفاع بها، كل ذلك يقتلها، هل يمكن أن تُعاقب نيرمينا على أخطاء والدها واخيها ؟!
انتفض جسد ميمو رافضًا تلك الفكرة تمامًا، ليس نيرمينا، هي ليست مثلهم هي ليست من تلك العائلة القذرة رغم حملها اسمهم، هي ربيبتها، تشبهها هي ليس هم .
نظرت لها نظرة صارمة فبدت كأم تعاتب ابنتها رغم أن فرق العمر بينهما هو ست سنوات فقط، حيث تبلغ نيرمينا التاسعة عشر من عمرها ..
” على اوضتك يا نيرمينا، وكلامنا مش دلوقتي لما افوق لحوارك ”
سقطت دموع نيرمينا بقوة تجلس على ركبتيها جوار مقعد ميمو تتمسك بيدها وهي تبكي برعب وجسدها يرتجف حزنًا :
” ارجوكِ بلاش تزعلي، والله العظيم كانت مرة وحرمت ”
نظرت لها ميمو تحاول ألا تضعف أمامها :
” على اوضتك يا نيرمينا ”
نهضت نيرمينا من مكانها بتخاذل وحزن، تحركت خارج الغرفة وصوت شهقاتها يرن في المكان بأكمله، الوحيدة التي تمتلكها في تلك العائلة تتخلى عنها الآن، وكل هذا لأجل خطأ ارتكبته في لحظة حماقة، هبطت نيرمينا الدرج تركض خارج المنزل لا تتحمل البقاء .
وبمجرد الخروج انفجرت في البكاء وهي تجلس على عتبات المنزل بانهزام وحزن …
وخلال بكائها انتبهت لذلك الجسد الذي يستند على سيارة ميمو يرمقها بجمود دون ردة فعل، مسحت دموعها تتحرك صوبه بلهفة غريقٍ أبصر قشة نجاته بين امواجٍ متلاطمةٍ، وصوتها خرج به غصة بكاء :
” مختار، تعالى ساعدني ”
لم يتحرك مختار أو تتحرك حتى عضلة واحدة في جسده تدل على أنه استمع لها، اقتربت منه نيرمينا تتمسك به مترجية ودموعها تسيل بقوة كما لو فقدت عزيزًا :
” ميمو زعلانة مني ومش راضية تسامحني، خليها تسامحني ارجوك، هي بتقدرك ومش بترفض ليك طلب ”
وما وصل لها منه أي رد منها سوى أنه سحب يده من بين يديها بهدوء شديد، وصورتها تنعكس في عيونه السوداء المظلمة لتعطيها أحساس بالخواء ..
” مختار ارجوك، مش احنا صحاب ؟؟”
لم يجبها مختار كعادته، فهو لا يتحدث مع أحد ولم يستمع أحد لصوته يومًا، حتى اعتقد البعض أنه ابكم، ولم يتأكدوا بعض من صحة اعتقادهم بعد، لكنهم وصفوه بالبكم طالما لم يسمعوا صوته.
استدار مختار بعيدًا عنها ينظر بشرود للسماء وكأنها ليست هنا، لكن نيرمينا لم تهتم وهي تستدير له ببكاء ودموع تملئ وجهها :
” مختار مش بتبصلي ليه ؟! أنت زعلان أنت كمان ؟! مش احنا اتفقنا نبقى أصحاب ومع بعض على طول ؟! ”
ولم تصل لشيء منه، اندفعت صوبه تمسك بيده تقول بأعين ملتمعة من الدموع :
” مختار طب أنا آسفة والله هما اللي …”
وقبل أن تكمل كلمتها امسك مختار يدها ضاغطًا عليها بقوة لا تدري هل كانت مؤازرة ام غاضبة، لكنه فقط أشار بعينه صوب المنزل .
” عايزني أنت كمان ارجع اوضتي ؟!”
لم يحرك عضلة واحدة من جسده، بل اكتفى بالنظر لها، لتهز هي رأسها، تمسح دموعها بعنف شديد، ثم جذبت يدها منه وتحركت صوب المنزل مهرولة تحت أعين مختار المظلمة وجسده الجامد وقبل أن تبلغ الباب توقفت وهي تقول بلومٍ :
” خليك بس فاكرها يا مختار أنك أنت اللي بدأت وهتبوظ صداقتنا ”
أنهت حديثها تكمل ركضها صوب غرفتها تاركة الاخير ينظر لاثرها دون إماءة واحدة …
___________________
توقف أمام منزل محمود والذي يدرك جيدًا أن الاثنين جاءا للمبيت به، تجاهل يد رائد الذي يحاول منعه من مباغتة أهل ذلك البيت في هذا الوقت المتأخر من الليل، لكن صلاح ابعد يده صارخًا :
” اوعى والله ما هسيبهم ”
ودون تردد طرق الباب بقوة شديدة ينتظر الإجابة ورائد لا يحبذ وجودهم في هذا الوقت :
” يا صلاح ميصحش كده، البيوت ليها حرمتها يا حبيبي، خلينا نرجع ونيجي ليهم الصبح ”
” والله ما هتحرك غير لما اطفي ناري منهم هما الجوز، يا رائد دول ..”
صمت يضغط على أسنانه بغضب بعدما تذكر ما فعل أثناء حالة السُكْر التي أصابته، يا ويلته لقد كان في وضعٍ مزرٍ، وكل هذا على مرأى ومسمع من الاحمقين اللذين لم يكتفيا بما فعلاه به، بل ذهبوا واكملوا جريمتهم في حق اسمه في هكذا مؤتمر كبير، أياليتهم قتلوه وانتهوا من الأمر برمته .
” متقفش في وشي يا رائد عشان والله العظيم اسيبهم وأمسك فيك أنت ”
اشتعلت عين رائد يدفعه جانبًا بملامح مخيفة، ثم ضرب الباب بقدمه في عنف ليتأكد أن أصحاب المنزل لن يتجاهلوا الطرق، يقف في وجه صلاح يتحدث مجابهًا إياه :
” كده ؟؟ طب اتفضل يا عسل روح اقتله وانا هستناكم تحت عشان اخد اللي هيقتل التاني، واهو يمكن النحس يتفك على ايديكم والترقية تيجي عشان الحاج اكل دماغي ”
فتح صلاح عينه بغيظ وما كاد ينقض عليه ساحبًا إياه من تلابيبه، حتى سمع الاثنان صوت فتح الباب ورجل يتحدث بهدوء ناعس :
” نعم ؟؟؟”
تحركت أنظارهم صوب ذلك الخادم الذي فتح لهما الباب وهو يحاول أن يقابلهم بشكل ودي بعدما أفسدوا نومته، يجب عليه البحث عن عمل بعيدًا عن هذا المنزل المزعج بمن فيه .
اقترب صلاح من الرجل الذي كان هادئًا بشكلٍ مستفز :
” فين محمود ؟!’
ابتسم له الخادم يردد بجدية كبيرة وهو ينظر لوجه صلاح جيدًا :
” دكتور محمود قاعد مع حضرتك فوق ”
ظهرت ابتسامة مخيفة على فم صلاح يدفع الخادم جانبًا، يشمر اكمامه في مظهر إجرامي مسقطًا قناع رُقيّه يتحرك داخل المنزل :
” تمام اطلب الإسعاف عشان تشيل جثث دكتور محمود وحضرتي اللي فوق ”
وبمجرد انتهاء كلماته كانت ارجله تهرول فوق درجات المنزل ورائد يلحق به تاركًا الخادم ينظر لهم بتعجب، ثم اغلق الباب غير مهتمًا بما يحدث يعود لنومه .
وفي غرفة محمود كان يجلس يستنشق دخان اللفافة التي تقبع بين أصابعه، وصالح في المرحاض يغتسل من تعب اليوم كله .
لكن فجأة شعر بشخصٍ يندفع لغرفته بقوة، رفع عينه ببطء يحاول تبين ذلك الجسد الذي بدأ يقترب منه ليبتسم فجأة وهو يقول :
” النضافة حلوة مش كده ؟؟ تعالى اقعد وقولي هنرجع التليفون بتاع البنت دي ازاي بدل ما تمرمغ سمعة اخوك في الأرض ”
رفع صلاح حاجبيه يستمع جيدًا لما يقول ذلك الغر، أي هاتف ذلك وأي فتاة ؟! وهل هناك علاقة بين ما يتحدث عنه وبين ذلك المنشور الذي رآه ؟؟
اكمل محمود حديثه وهو يتسطح على الأريكة بتكاسل :
” أنت بس لو تسمع كلامي ونفكنا من الحوار ده، وتسيب اخوك يحل مشاكله لوحده واحنا برة الحوار، وهي كده كده مفكراك اخوك، فيوم ما تفضح حد وتشردله وتخرب بيته وتضيع مستقبله، هيبقى اخوك مش احنا ”
أنهى حديثه ينظر لصلاح الذي كان وجهه مسودًا يقف جوار الأريكة التي يتسطح عليها، ثم أضاف ببسمة وغمزة :
” وشك كده بيقول إنك اقتنعت ”
وقبل أن يفكر حتى في نطق جملة ثانية كانت يد صلاح تنتزعه نزعًا عن الأريكة جاذبًا جسده في الهواء حتى استقر وجهه أمامه يقول بشكل مرعب :
” أنت ايه رأيك ؟؟ وشي بيقول ايه من قريب ؟؟”
نظر له له محمود ثواني يحاول التقاط أنفاسه لا يفهم ما يحدث، ليرتفع فجأة صوت صالح الذي خرج من مرحاض غرفة محمود يردد بتعجب :
” صلاح ؟؟ بتعمل ايه هنا دلوقتي ؟؟”
ابتلع محمود ريقه يردد بريبة :
” صلاح ؟؟ يعني ده مش انت وأنت نضيف ؟؟ ”
نظر لوجه صلاح مجددًا والذي كان يوحي بمقدار غضبه في تلك اللحظة ليعود وعيه في ثواني جراء قلقه وصوته خرج مرتابًا :
” ولا حتى قرينك !؟ ”
وبمجرد انتهاء كلماته، استقر جسده على الاريكة مجددًا بعدما تلقى لكمة عنيفة من صلاح، وفي ثواني تحولت غرفة محمود الهادئة الفاخرة لساحة حرب، حيث ألقى صالح بجسده بين الاثنين بغية فك الالتحام، لكن صلاح وكأنه أراد ذلك، إذ ترك محمود وانكب بالضرب على أخيه وهو يهتف بغيظ شديد وغضب مشتعل :
” كتاب مشاكل النساء أثر فيا وحل مشاكلي؟؟ ليه كنت هتطلق ولحقني، ولا كنت على وش ولادة وحل مشاكل اكتئاب الحمل ؟؟ ”
تحدث صالح يحاول الأفلات من يد أخيه التي تبطش بمن يقع أمامه :
” وانا ايش عرفني أنا فكرته كتاب علم نفس أو غيره، ايه اللي يخلي راجل يتكلم في مشاكل النساء اساسا؟!”
ألقاه صلاح على الأريكة، ثم ألقى بنفسه فوقهم يضرب منهم من يضرب وصورته يتراقص في المنزل وهو سكران تطيح بآخر ذرات عقله :
” بقى أنا أمشي ارقص في البيت زي السكرانين وتسيبوني للمتخلف رائد ؟؟”
تحدث رائد والذي كان يستند بتكاسل على باب الغرفة لا يهتم بما يحدث أمامه، فبدا كما لو كان ينتظر المنتصر منهم حتى يضع الأصفاد في يديه لربما تُكتب له ترقية على يد هؤلاء الحمقى .
” رائد المتخلف ده هو اللي لحقك قبل ما تقابل صاحبة الحصان وانت لابس شورت على جاكتة وفانلة وكرفاته يا حبيبي ”
أبعد صالح يد أخيه يصرخ بغضب :
” ولاا خلصنا خلاص، الحق علينا اساسا أننا مهانش علينا تغيب عن مؤتمر مهم زي ده مجاش من وراه غير وجع القلب ”
” ياريت كنت غيبت، والله يا ريتك كنت غيبت وانا كنت اعتذرت وقولتهم اني تعبان أو أي نيلة بدل شكلي اللي بقى زي الزفت، وبعدين ايه ام الصور اللي متصورها دي ؟؟ متصور ببوز بطة؟ ليه بتتصور مع بنت خالتك يا حيوان ؟؟”
دافع صالح عن نفسه رغم مقته للامر برمته وكرهه للحظات التصوير تلك :
” هي الهام اللي مش بتحب تتصور غير كده، الحق عليا مش عايزك تخسر المعجبين بتوعك ”
جذب صلاح ثيابه يردد بجنون من بين أسنانه وقد فسد وتبعثر شعره بسبب موجة الغضب التي خاضها للتو :
” مش عايزني اخسر المعجبين، تقوم مخسرني اسمي ؟!”
” ياعم ابقى خد اسمي، مش هحوشه عنك والله ”
كانت تلك كلمات صالح والتي خرجت مستفزة باردة لتشعل جنون صلاح أكثر وأكثر وقبل أن يتمادى الأمر وتشتغل المعركة مرة أخرى قاطعهم صوت رنين ثلاث هواتف في الوقت ذاته ..
نظر الجميع لبعضهم البعض وانتفض صالح يدفع أخيه ليجيب هاتفه في الوقت ذاته الذي أجاب رائد خاصته، بينما صاحب الهاتف الثالث والذي كان محمود، كان يجلس على الأريكة يكمل باقي سيجارته بعدما انشغل صلاح عنه بضرب صالح ..
كان يحلق في رحلة خيالية في عالمه الموازي حينما انتفض على صوت صراخ رائد الذي قال بجنون :
” امتى ده ؟! وازاي حصل ؟؟”
انتبه الجميع له وقبل أن يبادر صلاح بالتساؤل عما حدث ارتفع صوت صالح وهو يلتقط حذاءه يرتديه على ثيابه المنزلية والتي كانت مكونة من بنطال اسود قماشي وسترة من نفس اللون فبدا في أفضل حالاته مقارنة بما اعتاد ارتدائه …
تحرك صوب محمود يجذب جسده دافعًا به صوب المرحاض :
” محمود قوم بسرعة فيه جريمة حصلت وفيه ثلاث جثث وصلوا المشرحة من ساعتين ”
كانت أعين رائد مشتعلة وهو يغلق الهاتف ليسمع صوت صلاح يردد بريبة :
” فيه ايه يا رائد ؟؟ حصل ايه ؟؟”
ضغط رائد على الهاتف بين أصابعه يردد بصوت غاضب :
” العصابة اللي مسكتها تلاتة منهم انتحروا في السجن، وواحد هرب ”
حرّك عينه لصالح الذي كان ينظر له بحزن يعلم جيدًا مقدار وجع رفيقه وقال :
” صالح، غالبا الثلاث جثث اللي وصلوا المستشفى اللي بتشتغل فيها هما نفسهم اللي ماتوا في السجن، عايزك تعرفلي فعلا انتحروا ولا لا ؟! وامتى بالضبط حصل كده ”
مسح صالح وجهه يراقب محمود الذي خرج يجفف وجهه يحاول أن يفيق :
” أنا مش هشتغل عليهم لوحدي أنا يا دوبك بشتغل على واحدة مع محمود أو دكاترة تانيين، لكن هبلغك باللي هوصل ليه ”
هز رائد رأسه ليشعر بيد صلاح تربت على كتفه وهو يقول بغموض :
” العصابة دي كانت تهمتها ايه يا رائد عشان حاسس إني سمعت حاجة زي اللي حصلت دي قبل كده ؟؟”
______________________
كعادتها حينما تعصف بها الذكريات وتتسبد بها الاحزان، كانت تتحرك بحصانها في سرعة مهولة حول قصر عائلة الاشموني .
عينها الحادة هي فقط ما يظهر منها، رغم أن ركوب الخيل بوجه مكشوف لن يضرها في الحقيقة، لكن هكذا اعتادت وهكذا تريد أن تكون، ربما بسبب الصور التي كانت تراها لنساء عربيات ذوات أعين كحيلة تظهر من خلف حجاب، ابتسمت تزيد من سرعة حصانها وقررت التحرك به خارج المكان المصمم له لتأخذ جولة حول المنزل علها تصادف سعيد وتدهسه أسفل اقدام خيلها وتنتهي .
انهت جولة، وخلال الثانية أبصرت رجل رثّ الثياب شاحب الوجه بهيئة مقززة يعبر الحديقة متجهًا صوب باب المنزل، لتقطع عليه طريقه بسرعة كبيرة وهي تقول بهدوء :
” على فين يا اخينا ؟؟”
رفع الرجل وجهه لها لتتأكد ميمو أنه أحد قطاع الطرق بسبب الجروح في وجهه…
اطال الرجل التحديق بها بفم مفتوح حتى شعرت ميمو أنها أبصرت لعابه يسيل عليها، وكم زادها ذلك اشمئزازها .
” أنا جاي للبيه الكبير ”
رفعت ميمو حاجبها تدرك إلى من يشير بحديثه ذاك، لكنها حاولت أن تدعي الجهل :
” البيه الكبير؟”
صمتت قليلًا تلوي شفتيها تحاول أن تفكر حول هوية ذلك البيه الكبير الذي يتحدث عنه، فيما انشغل ذلك الرجل بمراقبة تلك الفاتنة التي تعتلي الجواد بكل اباء، ورغم ثيابها التي تغطي جميع اجزاء جسدها دون أن تُظهر شيء، إلا أن ذلك لم يمنع خياله الخصب في التخيل …
فجأة أفاق بصدمة على صوتها وهي تقول شاهقة بسخرية بدت واضحة في نبرتها :
” يكونش قصدك سعودي ؟؟”
هز الرجل رأسه رافضًا :
” لا يا هانم هو مصري عادي ”
ضحكت ميمو بصوت مرتفع تشير بيدها لعامل الاسطبل ليقترب، ثم هبطت عن الحصان تراه يجذبه بعيدًا وعينها تبصر مختار يقترب لتحفز ليستقر في ركن قريب مظلم يراقب ما يحدث بهدوء كبير وصمت، اقتربت من الرجل :
” قصدي سعيد، أنت جاي لسعيد ليه بقى ؟؟”
فتح الرجل عينه وهو يهز رأسه بايجاب مؤكدًا على صحة حديثها حول هوية من جاء للقاؤه :
” أيوة صح يا هانم، أنا جاي لسعيد بيه عرفتي منين ؟؟”
سخرت منه وهي تنظر له بدقة :
” مفيش راجل هنا غيره، فأكيد البيه اللي أنت جاي عشانه مش جاد الله يرحمه، عامة مقولتش عايز سعيد ليه ؟؟”
” وأنتِ مالك ؟؟”
ولم تكن تلك الجملة من ذلك المسكين أمامها، بل كانت خارجة من فم وقح لا يأبه مع من يتحدث، ابتسمت ميمو تستدير نصف استدارة وهي تقول بصوت خافت لسعيد :
” أنا مالي صحيح، أنا بس استغربت أنك بقيت تعزم صحابك على البيت وفيه ستات فيه ”
انطلقت ضحكة سعيد بسخرية يقترب منها مرتديًا ثيابه المنزلية المريحة، وقد كان شعره رطبًا، فقد حدثه أحد الحراس حول وجود رجل يود مقابلته لامر هام وهو الآن يقف مع تلك الحية السامة التي تقيم في منزله .
اقترب منها سعيد ببسمته الساخرة ومظهره المهلك كرجل في اوائل الثلاثينات بوسامة لا تليق سوى به .
” لو قصدك بالستات دول اختي فملكيش دعوة أنا بعرف احميها كويس، ولو قصدك بيهم نفسك فأنا آسف لو حطمت آمالك وقولتلك محدش هيبص ليكِ اساسا يا مرات ابويا ”
ابتسمت له ميمو تتحدث بتلكؤ :
” طب كويس أنك فاكر اني مرات ابوك، لأن قلة ادبك بدأت تزيد اخر فترة، وبالنسبة إن محدش هيبصلي فده بس لأنك اعمى يا عيوني ”
أنهت حديثها، ثم حدقت بالرجل الذي كان يتابع كل ذلك بفم مفتوح بذهول كبير يحاول أن يفهم ما يحدث الآن، لكن غمزة ميمو جعلته ينتفض للخلف بتفاجئ لتطلق هي ضحكة مرتفعة تعيد شعرها للخلف واضعة رابطة الشعر الخاصة بها باهتمام كبير، تربت على كتف سعيد ببطء :
” حاول متظهرش قذارتك للكل وتأكد فكرتهم عنك يا سعودي، كده مش لطيف عشان سمعتك يا غالي، الكل عارف انك قذر بس بلاش تأكد الفكرة دي ليهم”
وبمجرد انتهاء كلماتها تحركت صوب الباب بتكاسل وبطء وعلى فمها ترتسم بسمة هادئة تستمع لصوت سعيد الذي بدأ يتلاشى لابتعادها وهو يصرخ :
” أنت مجنون ؟؟ ازاي تيجي لبيتي يا متخلف افرض البوليس بيراقبك تعالي جوا……”
صعدت ميمو غرفتها، تتحرك صوب الفراش واضعة الحاسوب الخاص بها أعلاه، ثم أخرجت جهاز غريب من حقيبة يدها الملقاه ارضًا توصله بالحاسوب، وبعدها ضغطت على بعض الأزرار بأصابع ماهرة حتى وفجأة صدح صوت سعيد في الغرفة وهو يتحدث مع الرجل في مكتبه .
_____________________
يتحركان في ممرات المشفى والتي كانت في وقت كهذا هادئة بعض الشيء إلا من العمال أصحاب الفترات المسائية، والكثير من المختصين فالأمر لم يتوقف على جثة واحدة، بل ثلاث جثث لثلاث مجرمين، وكما سمع أثناء دخوله فالوفاة حدثت منذ ساعات طويلة وليس للتو كما ظن .
تحرك صوب الاشراف يحمل منه أحد الملفات يحاول منها معرفة ما توصلوا له من خلال نظرة سطحية على الجثث والتي قد بدأت تتجمد .
تحرك محمود جوار صالح بعدما أصبح شبه واعي لما يحدث :
” مفيش أي علامات خارجية بتدل على طريقة الموت، تفتكر مات ازاي ؟؟”
حدق صالح في الأوراق بين يديه يتحرك بأقدام حثيثة صوب غرفة التشريح يحاول فهم ما يحدث :
” معرفش بس ممكن شرب سم، الفكرة ازاي ممكن سم يوصل ليهم جوا السجن ؟!”
دخل الأثنان غرفة التشريح ينظرون لتلك الجثة التي تتوسط أحد الأسرة وحولها تقبع ادوات التشريح جميعها، تحرك محمود يمسك بقطعة بلاستيكية تشبه الوسادة وقد كانت تُسمى ( طوبة الجسد ) وتلك الطوبة البلاستيكية توضع أسفل الجزء السفلي للجسد، لترفع الظهر وبالتالي تسبب في سقوط الذراعين والعنق إلى الوراء مما يجعل الصدر يتمدد وينضغط للأعلى ليسهل عملية فتحه.
في تلك الأثناء كان صالح قد خرج من غرفة التعقيم يثبت القفازات، حاملًا بين يديه مشرطه وما كاد يتحدث حتى أبصر محمود ينحني قرب الجسد يتحدث بصوت هامس، قلب عينه بملل :
” أنت لسه فيك العادة دي ؟؟”
رفع له محمود عينه وهو يأمره بالصمت :
” اششش وطي صوتك ”
نظر له صالح بريبة يتحرك صوب الجهة التي يقف بها، يحاول معرفة ما يفكر فيه ذلك المخبول، هل مازال غير واعيًا لما يحدث ؟؟
فجأة لمحه ينحني أكثر حتى الصق أذنه بفم الجثة وتحدث بهدوء :
” اتكلم ده صاحبي مش غريب”
تحركت عين صالح في الغرفة يبحث عن ذلك الذي يخاطبه محمود، حتى سمع صوت الاخير يعلو صارخًا :
” ده بيتحرك ”
سخر منه صالح بحنق وقد سأم حالته وحديثه أثناء العمل بهذا الشكل الغريب :
” هو ايه ؟؟ عقلك ؟!”
هز الآخر رأسه رافضًا يشير صوب الجثة التي تتسطح بسكون أعلى السرير المتحرك، بتراجع للخلف بخوف :
” اتحركت من شوية حرك أصابعه، ده …ده عايش….عايش يا صالح ”
ابتسم له صالح بغيظ، يتوقف أمام الفراش يجذب محمود من ثيابه مجبرًا إياه على الاقتراب من الفراش ليشرعوا في العمل على الجثة، لكن الأخير كان يصرخ محاولًا الإفلات من يد صالح :
” لا سيبني، بقولك ده عايش…زومبي ”
” ولآ اتعدل احسن والله ابلغ المستشفى بالهبل ده واخليك تسرح بالملوخية بتاعتك في السوق ”
تمسك محمود بيده يقول بهمس في أذن صالح خوفًا أن تسمعه الجثة :
” ده …ده قالي أنه مش عايز يتشرح، هو مش عايز يتشرح هنشرحه احنا غصب ؟؟ ترضى حد يشرحك بعد ما تموت غصب عنك ؟؟”
احمر وجه صالح بغضب وقد أضحت أفعال محمود تثير سخطه، فهو لا يحب أن يعطله شيء عن عمله، نفض يد محمود عنه بعنف، ثم تحرك صوب مقدمة جسد ذلك الشاب يحمل مشرطه وهو يردد بسخرية :
” بجد يا …. ألا صحيح أنت سميته ايه المرة دي ؟؟”
ابتلع محمود ريقه يعود للخلف بخوف :
” معرفش… إيه رأيك نسميه ضياء ؟؟”
ابتسم له صالح، ثم ردد وهو يربت على وجنة ضياء منحنيًا بالقرب منه وقد بلغ الغضب مبلغه، بحيث كاد ينهض يضرب رفيقه .
” بجد يا ضياء مش عايز تتشرح دلوقتي ؟؟”
وكل ما صدر من تلك الجثة المترامية أعلى الفراش هو تأوه صغير وصل لمسامع الاثنين لكل سهولة :
” آه”
أشار له محمود منتصرًا وكأنه للتو اثبت براءته أي تهمة كادت تودي له للإعدام :
” اهو شوفت قولتلك مـش عــ… نعم ؟؟”
توقف فجأة وقد اتسعت عيونه وعيون صالح الذي تراجع للخلف ببطء شديد وكأن تلك الحركة كانت من عقله الباطن، ومازالت أنظاره موجهة صوب الجثة التي إجابته للتو حول رغبتها في عدم التشريح، ابتلع محمود ريقه وهو يقول بريبة :
” هو أنت سمعته بيرد ولا السيجارة لسه مفعولها مراحش ؟؟”
هز صالح رأسه ببطء شديد وقلبه يقرع بقوة، الأمر مخيف، بل مفزع بشكل كبير، الآن أمام عينيه هناك جثة تحدثت معهما .
حاول صالح أن يتمالك نفسه وهو يهز رأسه يتحرك صوب الجثة مرة أخرى ببطء :
” اكيد بيتهيأ لينا، يلا تعالى اخلص ”
هز محمود رأسه برفض وقد أبى أن يقترب سنتيمترًا واحدًا من تلك الجثة.
تجاهله صالح يحمل مشرطه مرة أخرى ليبدأ في عمله :
” تمام التقاعس ده انا هبلغه لإدارة المستشفى و ..”
كان يتحدث أثناء تحريكه المشرط، لكن تيبست يده بل جسده بأكمله وكأنه تحول لتمثال حينما شعر بشيء يعيق يده التي تحمل المشرط، ابتلع ريقه وهو ما يزال ينظر لمحمود الذي شحب وجهه يعود للخلف، وصالح المسكين يشعر أن صوته هرب منه وهو يقول بخفوت مشيرًا ليده الأخرى دون أن يملك الشجاعة للنظر نحوها :
” هو ……أيدي شبطت في ….في حاجة ؟! ”
هز محمود رأسه بلا وهو يعود للخلف وقد بدا أنه يحاول الصراخ، لكن مقدار الرعب في هذه اللحظة منعه، بينما صالح ابتلع ريقه مرددًا :
” يارب اكون اتشليت ”
حركّ عينه ببطء صوب الاسفل ليرى الجثة تمسك يده وتمنعه من بدء التشريح، حاول سحب يده لكن حدث ما لم يستطع تحمله وهو أن الجثة فتحت عينها وحدقت لها .
هنا وانفكت عقدة لسان صالح الذي أخذ يصرخ برعب وهو يلكم الجثة بجنون لنزع يده من بين يديها، وبعدها ركض بعيدًا عنها في الوقت الذي تحركت الجثة من على الفراش تنظر حولها في المكان بتشوش، ثم هبطت من الفراش تحاول معرفة ما يحدث، كل ذلك وصالح يقف أمام الباب من الداخل ومحمود ينظر حوله يحاول الهرب وهو يصرخ بجنون يلطم وجنتيه .
وبمجرد أن لمح محمود الجثة تقترب منه وهي تمد يديها وجسده يتحرك بعدم اتزان صرخ :
” لا لا، أنا اللي مرضتش اشرحك والله يا ضياء، صالح اللي كان عايز يشرحك، الحقوني، لا ”
لكن يبدو أن ” ضياء ” كان يواجه مشكلة في فهم ما يُقال، حيث أخذ يدور في المكان دون أن يحدد وجهته التي يريدها مما جعل صالح يصرخ وهو يركض للخارج، ومحمود يتلفت حوله حتى هداه عقله لرمي نفسه في أحد ادراج المشرحة واغلقها عليه .
بقي ذلك الشاب يقف في منتصف الغرفة ومحمود يسجن نفسه في أحد الإدراج ينتفض بخوف مرددًا :
” يارب تكون السيجارة هي اللي عاملة ده كله واصحى، يارب اكون مسطول، آخر مرة هشرب سجائر وانا بشرح آخر مرة ”
في الخارج حيث الشاب اقتحم صالح الغرفة مرة أخرى منقضًا عليه يكبله بأحد الاحبال التي أحضرها من المخزن صارخًا بانتصار :
” أخرج يا محمود ساعدني بسرعة”
وصلت له كلمة واحدة من محمود حيث هو :
” لا ”
” أخرج يا جبان، أخرج يلآ هيفلت مني ”
وصل له صوت محمود الرافض :
” يا روح ما بعدك روح ”
ازداد غضب صالح وهو يطرح الجسد ارضًا وقد ساعده في ذلك أنه كان أشبه بالمُخدر، حيث استسلم جسده لدفعة صالح، ثم بدأ صالح يعاينه سريعًا ليكتشف أنه حي وضربات قلبه قد عادت للنبض وكذلك انفاسه .
ضيق عينه وهو يقول بشك :
” امال ازاي كان من دقايق بس مش بـ ”
وفجأة صمت بعدما ضربت فكرة ما رأسه ليصرخ بصوت مرتفع حاد :
” محمود تعالى بسرعة ….”
دقائق فقط وكان محمود يندفع من الغرفة خلف صالح الذي ركض في الممرات بحثًا عن هؤلاء الذين تولوا تشريح الجثتين الاخرتين، وبمجرد أن أبصر أحدى الغرف مضاءه حتى اقتحمها وكذلك فعل محمود مع الغرفة الأخرى، وصالح يصرخ بصوت فزع وانفاس عالية :
” استنوا….محدش يعمل حاجة، دول عايشين .”
___________________________
صباح اليوم التالي …
كان ما يزال يجلس داخل مكتبه في مركز عمله، عقله يدور وهناك العديد من الأوراق تقبع أمام عينيه، ثلاثه قُتلوا والاخير هرب، ابتسم يشعر بمؤامرة ..
ودون تفكير أزاح الاوراق من أمام عينيه بغضب كبير، ثم نهض من مكانه يتجاهل كل شيء حاملًا سترته التي خرج بها مساء البارحة حينما لحق بصلاح.
خرج من مكتبه يتحرك صوب مكتب اللواء وفي رأسه شيء يحاول أن يدرسه بشكل جيد، لكن وقبل أن يطرق الباب سمع صراخ مرتفع ويبدو كما لو أن اللواء يجلس على جمر منتظرًا من يفرغ به حممه، ومن افضل من رائد لذلك ؟؟
طرق رائد الباب ينتظر الإجابة وحينما وصلت له فتح الباب بعدما أخذ نفس عميق وهو يتحدث بهدوء :
” صباح الخير يا فندم ”
” خير ؟؟ وهو هيجي منين الخير طول ما أنا مشغل معايا شوية ضباط مش عارفين يخلصوا مهمة واحدة للآخر صح ؟؟”
اغمض رائد عينه يحاول أن يتنفس ببطء ليهدأ :
” يا فندم كل ده حصل وهما في السجن، يعني مكانش في ايدنا حاجة نعملها ”
ضرب اللواء المكتب بيده وقد بدأت ملامحه تحتد أكثر :
” أيوة بس لو كنتم من البداية عملتم المهمة صح وقبضتوا على الزفت اللي اسمه جلال الراجل الكبير بتاعهم، مكانش همنا يموتوا ولا يروحوا في داهية، دلوقتي تقدر تقولي هنوصل منين لراس العصابة دي ”
صمت رائد قليلًا قبل أن يضيف بجدية كبيرة :
” عبدالعظيم …الوحيد اللي هرب ومماتش، اكيد في سبب أنه يفضل عايش دونا عن الكل، وانا بطلب من حضرتك الاذن عشان أبدا في التحريات، بطلب بس حضرتك تثق فيا وتسلمني القضية دي .”
نظر له اللواء ثواني قبل أن يتداعى جسده أعلى الأريكة ثم قال بجدية :
” تمام يا رائد هثق فيك المرة دي وهسلمك القضية ”
ابتسم رائد بسمة واسعة. في عينه التمعت نظرات اصرار، منح قائد بسمة امتنان، ثم تحرك خارج المكتب بعدما استأذنه ليذهب إلى المنزل يستحم ويتجهز لما هو قادم ..
_________________________
ألقى صالح بجسده أعلى مقعد في ممرات المشفى بتنفس بتعب وملامحه متغضنة، لا يدرك ما يحدث، أي أشخاص هؤلاء الذين يتناولون مثل تلك المواد للانتحار، أو أن الأمر ليس بهذا الشكل ؟؟
تذكر البارحة حينما اقتحم غرف التشريح ليكتشف أن الاثنين الآخرين كانا قد ماتا بالفعل قبل التشريح، إذن ذلك الذي استيقظ في غرفة التشريح لديه ربما لم يتناول نفس المادة التي تناولها الباقيين أو أنه خاف وتناول قطرات سم قليلة فقط .
فرك وجهه بتعب لا يفهم ما يحدث، هو فقط اخرج ذلك الشاب وتم تحويله لإحدى مستشفيات السجن لمعالجته من تلك المادة التي تناولها، بينما الاثنين الآخرين تم تشريحهما ليتضح أنهما تناولا إحدى المواد السامة المجهولة وكان ذلك قد حدث قبل عشر ساعات من حضورهما للمشفى .
انتبه صالح لقدوم صالح من نهاية الممر يحمل بين يديه شطيرة كبيرة يتناولها بنهم شديد، وفي اليد الأخرى يحمل كوب شاي يرتشف منه بين القطمة والأخرى .
توقف محمود يقول بتعجب :
” ايه ده قاعد كده ليه ؟؟ كنت لسه جايلك المكتب عشان نفطر سوا ”
نظر صالح ليده بحنق :
” نفطر ايه ؟! ما أنت اكلت كل حاجة لوحدك ”
نظر محمود لما في يده وقال :
” لا ما أنا هسيب ليك حتة ونص كوباية الشاي ”
تنفس صالح بصوت مرتفع يحاول أن يتمالك نفسه بعد تلك الليلة الغريبة :
” أنت مش قرفان ؟؟”
” والله قرفان، طعم الشاي عامل زي الخل وعليه حبر، بس اعمل ايه دافع فيه سبعة جنيه، حر ونار في جتتهم”
عض صالح شفتيه بحنق وقبل أن يتحدث قاطعهم صوت نسائي يتحدث من بعيد وكأنه الاثنين يحملان مرضًا معديًا تخشى انتقاله لها..
” الدكتور اسماعيل طالب حضراتكم في مكتبه ”
أطلق صالح صوتًا حانقًا لما تفعله، كيث وقفت بعيدًا ترمقهما بريبة :
” والله لو قولتي الكلمتين دول من قريب مش هعضك ”
هزت الفتاة وجهها بخوف :
” مش قصدي بس اصل …”
قاطعها صالح بلا اهتمام ووقاحة :
” مش مهم اتفضلي أنتِ ”
تحركت الفتاة بعيدًا عنهما ومحمود يتابعها بشفقة يمتص شفتيه بحسرة كبيرة :
” والله بيقطعوا قلبي، منها لله سجدة فانيليا اللي دمرت سمعتك بين نسوان المستشفى ”
رمقه صالح ولم يكن في مزاج يسمح له بسماع كل ذلك ورغم هذا قال بتقزز :
” نسوان ؟؟ ”
سار خلفه محمود يردد بجدية :
” صدقني يا صاحبي الوضع بيسوء وكده الموضوع زاد عن حدة، أنا بقترح نشوف ليك خاطبة يمكن نحسك يتفك على أيدها ”
توقف الاثنان أمام مكتب، وما كاد صالح يرفع يده ليطرقه حتى وجد محمود يمسكها وهو يردد من بين مضغاطته :
” اصبر باقي قطمة ”
ومن ثم أخذ يمضغ طعامه ويلوكه باستمتاع وصالح يراقبه بملل حتى ينتهي، بينما محمود ما يزال يتناول ما تبقى من تلك الشطيرة مرددًا :
” عارف بقى لما تاخد قطمة كده من السندوتش ده مع الشاي، بيوديك عالم تاني خالص ”
ضربه صالح بحنق شديد أعلى رأسه مرددًا بغيظ :
” وأنت يعني ناقص؟! ما أنت طول الوقت في العالم التاني ده، يا اخي تعالى العالم بتاعنا مرة ولو على سبيل الزيارة، مش بنوحشك ؟!”
انتهى محمود من تناول طعامه يخرج محرمة من جيبه يمسح فمه :
” والله بتوحشني يا صالح، المرة الجاية يبقى اخدك معايا تتفسح هناك”
ابتسم صالح بسخرية وهو يطرق الباب :
” شكرا يا حبيبي يوم ما اعوز اتفسح هروح كوكو بارك اكرملي ”
سمع الاثنان صوت مدير المكان يأذن لهما بالدخول، فبادر محمود بفتح الباب يدفع بجسده للداخل وخلفه صالح الذي كان يهز رأسه بيأس على رفيقه …
__________________
خرج من المرحاض يعدّل من وضعية ثيابه بعدما حصل لتوه على استحمام سريع ينشط به جسده الذي قضى ليلته الماضية على مقعد مكتبه، وبمجرد أن خرج وجد أمامه صلاح يرتدي حذاءه الأسود الأنيق وهو يقول بجدية :
” تمام دلوقتي ؟؟”
هز رائد رأسه يتحرك صوب غرفته، ثم غاب بها دقائق قبل أن يخرج حاملًا بين يديه سلاحه، يدسه في ثيابه، تنهد بتعب يعيد خصلاته للخلف وصوته يظهر مقدار شروده وتعبه :
” رايح الجريدة ولا دار النشر ؟!”
ابتسم صلاح وهو ينهض يعدل من وضعية سترته الأنيقة :
” رايح الجريدة، أنا مش بروح دار النشر غير وقت التعاقد والاتفاق على الكتاب الجديد، المهم انت طمني اول بأول على القضية دي ”
” غريبة يعني أنك مهتم بيها ”
نظر له صلاح ثواني بغموض شديد قبل أن يقول بهدوء :
” مكنتش ههتم لو مقولتش أنها قضية مخدرات، واحساسي بيقول إن العصابة دي مش مجرد شوية عيال صايعة بتوزع بودرة وحشيش، دول مسنودين من ناس عالية، وعالية اوي يا صاحبي وإلا مكانوش عملوا كل اللعبة دي عشان محدش ينطق عليهم”
حرك رائد رأسه موافقًا وقد قال صلاح ما يفكر ويؤمن به منذ رأى ردة فعل تلك العصابة على هجومهم :
” عندك حق، ده اللي أنا اخدت بالي منه، بس يا ترى مين اللي ساندهم ؟! ”
ابتسم صلاح بسمة مخيفة يغلق زر بدلته ثم غمز لصديقه يقول :
” اعتقد اني اعرف الشخص ده ”
رفع رائد حاجبه يراه يتحرك صوب مرآة تتوسط الجدار في بهو المنزل يقوم بتصفيف خصلات شعره بشكل مبهر ورائد مازال يفكر في كلماته التي نطق بها .
” تعرفه منين ؟؟ وايه يأكدلك أنه اللي في بالك؟! ”
نظر له صلاح من خلف ظهره وهو يقول بجدية وبسمة غريبة ماكرة تلون ملامحه الجامدة :
” لو مطلعش اللي في بالي، يبقى واحد من القذرين اللي اعرفهم، المعفنين مفيش اكتر منهم في البلد دي يا رائد يا حبيبي، وصاحبك لحسن حظه وسوء حظهم يعرفهم معفن معفن ”
وقبل أن يبادر رائد بقول كلمة استمع الاثنان لصوت طرقات حثيثة على باب منزلهم جعلت رائد يتحرك صوبها بعدما كان على وشك المغادرة لعمله، لكن وبمجرد أن فتح المنزل ارتفع حاجبه وهو يبصر أمام عينه تلك المرأة التي جاءت مكتبه منذ يوم واحد تتحداه بنظرات سافرة .
افتر ثغر ميمو عن بسمة عابثة وهي تنظر لرائد الذي علمت جيدًا صلة القرابة بينه وبين صلاح السقاري :
” صباح الخير يا حضرة الظابط، اتمنى مكونش جيت في وقت غير مناسب ”
علت ملامح الغرابة وجه رائد يحاول فهم سبب وجودها هنا، هل جاءت لأجل قضية نيرمينا الاشموني ؟؟ لكن هي خرجت، بعدما أقر رفاقها أنها لا صلة لها بالأمر ولا يدرك حقًا كيف حدث ذلك، لكن بعد تدخل تلك المرأة بدقائق خرجت نيرمينا الاشموني وكأنها لم تكن معهم .
” حضرتك ….”
” ميمو الاشموني ”
رفع رائد حاجبه يتعجب اسمها رغم أنه في البطاقة غير ذلك :
” أخت نيرمينا ؟؟”
ارتسمت بسمة جانبية على شفتيها وهي تقول بتلكؤ تشعر بخطوات مختار خلفها بعدما صف السيارة ولحق بها هنا :
” تؤ تؤ مرات ابوها ”
وملامح الذهول هي نفسها التي ابصرتها على وجه صلاح منذ أول مرة قابلته، حسنًا هي نفسها ملامح الصدمة على وجوه كل من يعلمون عن زواجها بجاد الاشموني، ما بال هؤلاء الأشخاص ؟؟ ألم يسمعوا يومًا بزواج العجائز بفتيات صغار ؟؟
” وحضرتك جاية عشان …”
تحدثت ميمو بجدية :
” استاذ صلاح ”
صلاح ؟؟ وما علاقة صلاح بتلك المرأة الـ خبيثة والمريبة، المرأة التي كانت كل لمحة فيها تنطق بالثراء، وكل همسة منها توحي بالرقي والمستوى الرفيع الذي تنحدر منه لتصبح ( ميمو ) اكبر دليل على أن المظاهر دائمًا ما تكون خادعة.
استدار رائد للخلف وعينه ما تزال متعلقة بتلك المرأة الغريبة التي تقف على اعتاب منزله تطالبه برؤية صديقه الذي لم يره يومًا مع امرأة، بل كان ينبذ العلاقات الجادة مسميًا إياها ” مضيعة للوقت ”
” صلاح، فيه زيارة ليك يا حبيبي ”
سمع الاثنان صوت صلاح من الداخل وهو يردد :
” زيارة ايه ؟؟ مين اللي جاي دلوقتي ؟؟”
خرج صلاح أثناء كلماته تلك ليفتح فمه بصدمة وهو يرى ميمو تستقر على باب منزله وخلفها مختار ذراعها الأيمن، ترمقه بنظرات خبيثة وهناك بسمة ماكرة ارتسمت على فمه، وهي تقول بكلمات مدروسة :
” صباح الخير يا لذوذ، جاهز عشان تبدأ اللعبة ؟!”
________________________
تحرك بسيارته مبتعدًا عن المنزل بعدما ترك صلاح مع ضيفته الغريبة، تلك الفتاة التي لم تريحه نظراتها ابدًا، لكن صلاح ليس من نوع الأشخاص الذي قد تخاف عليه، بل هو من ذلك النوع الذي تخاف منه .
توقفت سيارة رائد في نفس الحارة التي أقام عليها غارة منذ أيام بقيادة محسن وفريقه، هبط من سيارته يرتدي ثيابًا ميدانية كي لا يثير الشكوك في قلوب أهالي الحارة، ورغم ذلك آثارها بالفعل .
تحرك بين الأزقة الضيقة يحاول تذكر منزل عبدالعظيم، ذلك المراهق صاحب السابعة عشر عامًا والذي كان هو الوحيد الناجي من موجة الموت التي أصابت أفراد عصابة جلال القذر ..
وبعدما سأل على منزل عبدالعظيم أخيرًا توصل له، منزل صغير من طابقين يتوسط شارع واسع ملئ بالضجيج، ورائحة الرطوبة ومياه الصرف الصحي تفوح في المكان ..
قفز من فوق بركة مياه أمام المنزل، ثم اقترب منه وما كاد يطرقه حتى سمع صوت صرخات عنيفة تصدر من داخل المنزل وصوت تسبيح تصيح وتبكي بعنف يكاد يصم آذانه، اقترب اكثر بريبة شديد يتحسس سلاحه أسفل بنطاله وقبل أن يدفع الباب وصل له صوت صراخ من الداخل بجنون :
” الحقـــــونا يا نـــــاس، الحقـــــونا….”
________________
يقف في منتصف المقهى وقد جاء رغمًا عنه لعلمه أن محمود شخص لا يمكن الاعتماد عليه في شيء إلا وافسده .
نظر حوله يبحث عن تلك المتحذلقة الغبية التي كادت تودي بسمعة أخيه البارحة، وكادت تتسبب في موته هو محمود أيضًا على يده، لكن لا شيء، لم يبصر أحد .
سمع صوت محمود يردد جواره بتأفف شديد :
” أنا مش فاهم الناس اللي مش مسؤولة دي عايشة ازاي بجد ”
وكانت نظرات السخرية من صالح هي أبلغ رد عليه، انظروا من يتحدث الآن عن المسؤولية ؟؟ محمود رئيس جمهورية العالم الموازي والقائد الاعلى لجيوش البط البلدي التي تحرس ذلك العالم .
أطلق صوتًا ساخرًا يحاول أن يتمالك أعصابه، لكن طفح الكيل، ضرب محمود في كتفه بنفاذ صبر :
” بقولك ايه هات ام التليفون بتاعها ده نتصل نشوفها فين ؟! ”
أخرج محمود الهاتف من جيب بنطاله يضعه بين يديّ رفيقه وهو يتحدث بملل شديد :
” لغاية ما تكملها هروح اطلب قهوة عشان افوق ”
” تفوق ؟؟ ده أنت اخر مرة كنت فابق كان في امتحان سنة أولى جامعة ”
لوح له محمود بعدم اهتمام، وما كاد يتحرك حتى وجد صالح يجذب ثيابه وهو يقول بغضب شديد :
” خد هنا يا بلوة ايه ده ؟؟”
نظر محمود حيث يشير للهاتف يردد بعدم فهم :
” ايه مفيش فيه رصيد ؟!”
جذب صالح ثيابه بثوران وهو يكاد ينفجر في هذا المقهى لولا علمه بوجود ضحايا بريئين هنا وأطفال لن يكون ذويهم مسرورين لرؤيتهم ما سيفعله أمامهم :
” ده أنت اللي مخك مفيش فيه رصيد، هو أنا يابني بقولك مزنوق في مكالمة ؟؟ عاطيني تليفونك ؟؟ هات يابني ام التليفون بتاع البنت، هو اللي عليه الرقم اللي بتكلمنا منه ”
نظر محمود للهاتف قليلًا، ثم رفع عينه نحو صالح يرمقه بجهل وملامحه تخبر صالح بأنه لن يحب سماع القادم، وقد كان .
” معلش بس تليفون مين ؟؟”
” تليفون البنت اللي احنا متنيلين جايين هنا عشان نديه ليها، هو فين يا محمود ؟!”
فرك محمود خصلات شعره الشقراء وعينه توحي مقدار الجهل الذي يشعر به :
” هو كان المفروض نجيب تليفون معانا ؟؟”
أطلق صالح صرخة افزعت الجميع في المقهى ضاربًا بعرض الحائط كل الاحتياطات التي كان يفكر فيها لمنع انفجاره وهو يجذب ثياب محمود :
” نعم يا خويا ؟؟ المفروض ايه ؟؟ امال احنا جايين هنا نعملها ايه ؟! نعزمها على شاي بلبن ؟!”
حاول محمود أن يبعد يد صلاح عن ثيابه وهو يقول بغيظ :
” الله وانا اعرف منين، احنا امبارح خرجنا من البيت بسرعة بسبب حوار المستشفى”
ضغط صالح على أسنانه بجنون يجذب محمود له وسط المقهى وصوته خرج مكبوتًا :
” ياض هتغابى عليك، هتشلني، اقسم بالله اخرتك في قبر متر في متر وانا بزرعلك ملوخية وفاصوليا خضرة عليه”
التوت ملامح محمود بعدم رضا وهو يحاول الدفاع عنه نفسه :
” وانا يعني اعرف منين أننا لازم نجيب التليفون معانا ؟!”
” امال هنبعته ليها بلوتوث؟! يا بني حرام عليك أنا آخر مرة قيست الضغط كان في السما بسبب صُحبتي ليك ”
نظر له محمود بحزن :
” كده يا صالح وانا اللي بقول مليش غيرك ؟!”
” مش هيبقى ليك حد خالص بعد ما تخلص عليا ”
تنفس بعنف شديد وانفاسه خرجت حارة تلفح وجه محمود الذي ماتزال ثيابه حبيسة لاصابع صالح، ولم يقطع النظرات المحمومة بينهما إلا صوت رقيق من خلفهما يردد برقة :
” استاذ صلاح ؟؟ حضرتك هنا ؟! ايه المفاجأة السعيدة دي ؟؟”
استدار الاثنان ببطء صوب ذلك الصوت ليتعرف محمود من فوره على صاحبته عكس صالح الذي استمر يحدق بها محاولًا الوصول لهويتها بين ملفات عقله الذي دائمًا ما يهمل أي شيء ينتهي بتاء تأنيث ..
ولم يفق سوى على صوت محمود المبتسم بغرابة :
” البسكوت النواعم ؟؟”
وكان ذلك اللقب يخص فتاة واحدة، فتاة بعينها دائمًا ما يصفها به محمود، ردد صالح الاسم بتعجب متساؤل :
” هاجر ؟؟”
ابتسمت هاجر بسمة واسعة :
” حضرتك فاكرني ؟! أنا مرة كنت سألتك قبل كده على ترشيحات كتب لما جيت المخبز عندي ”
في تلك اللحظة وقبل أن يفحمها صالح برد معتاد منه في مثل هذه المواقف سمع الثلاثة صوتًا من الخلف يردد :
” خالتو، لقيتي الحرامية؟! ”
استدار الثلاثة صوب ذلك الصوت لتتسع أعين صالح ومحمود يحدقون بالفتاة نفسها صاحبة الهاتف والتي كادت تقتل صالح أثناء مطالبتها بتوقيعه خلال المؤتمر، ليخرج صوت الاثنين في نفس الوقت مستنكرًا مما نطقت به للتو مشيرة لهاجر الفتاة الرقيقة :
” خالتو ؟؟؟؟؟؟؟؟”
__________________
وها نحن نسير بالمتعة للمرحلة الثانية، مرحبًا بكم في المستوى الثاني من الجنون …..

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك رد

error: Content is protected !!