روايات

رواية صرخات أنثى الفصل الرابع 4 بقلم آية محمد رفعت

رواية صرخات أنثى الفصل الرابع 4 بقلم آية محمد رفعت

رواية صرخات أنثى البارت الرابع

رواية صرخات أنثى الجزء الرابع

صرخات أنثى
صرخات أنثى

رواية صرخات أنثى الحلقة الرابعة

اليوم خاص باحتماع رؤساء مجلس الادارة، وبالرغم من أهمية الإجتماع الا أنه كان شاردًا، عينيه مسلطة على المهندس الذي يتابع شرحه باستفاضة على شاشة الانجازات المطروحة من أمامهم، بينما يستكين عمران على ذراعه الساند على حافة المقعد المتحرك، يسحب عينيه تارة عن المهندس الذي يشير له بإعجاب لما يبديه بالمشروع القادم وفي الحقيقة لم يستمع لأي حرفًا قاله من الأساس، وتارة أخرى يسحب عينيه لمن تجلس على يمينه تتابع العمل بجديةٍ تامةٍ.
خيمتها نظرة عميقة من رماديته، لم تنتبه لها مايسان لانشغالها بتدوين بعض الملاحظات الهامة المتعلقة بالمشروع الجديد التابع للشركة، انتبهت لصوت المهندس المنادي:
_عمران باشا حضرتك معايا؟
انتبه الجميع لعمران وكذلك مايسان، استدارت إليه فاندهشت حينما وجدته يتطلع لها بشرودٍ، لعقت شفتيها بارتباكٍ من نظرات الموظفين حولها، وضحكات الموظفات الحالمة بتفاصيل قصة حب نابعة بينهما، على عكس ما يحدث، فنادته على استحياءٍ وهي تعدل حجابها:
_عمران!
لم ينتبه إليه، فمررت قدميها من أسفل الطاولة لتلكزه بقوةٍ، جعلته يرتد بجلسته متأوهًا بألمًا ليس كإفاقته على ما يحدث حوله، اعتدل بجلسته وتنحنح بخشونة، اتبعت أوامره الصارمة:
_كمل يا بشمهندس سامعك.
ابتسم وهو يخبره مازحًا:
_أنا خلصت يا فندم!
التقطت عينيه الهمسات الجانبية بين موظفينه، فنهض عن مقعده الرئيسي وهو يشير لهم بحزمٍ:
_ولما أنت خلصت لسه قاعدين هنا ليه، كل واحد يروح يشوف شغله!
جمعوا أوراقهم وغادر الجميع والابتسامة تشق الوجوه، فحك عمران لحيته بحرجٍ مما فعل، وخاصة حينما وجدها مازالت تجلس محلها وتطالعه بدهشةٍ، سحب جاكيته عن مقدمة المقعد وغادر من الباب الجانبي لمكتبه، فجلس على مقعده وهو يمرر يده على جبينه هامسًا بضيقٍ:
_ناقصة هي!
وجذب أحد الملفات الموضوعة جواره ليجبر ذاته على التركيز بالعمل دون التفكير بليلة أمس، فاستقبل هاتفه رسالة نصية جعلته ينصب اهتمامه فور رؤيتها تخص ألكس، فتح الرسالة ليجدها تدون له
«ألم تمل من الحديث عن زواجنا! حسنًا عمران سأثبت لك حبي الشديد لك، أنا موافقة على الزواج بك ولكن شرطي الوحيد أن تتخلص من زواجك الأول، فإن كنت تحترم دينك أنا أيضًا أحترم ديني، وديني يمنعني بالزواج من شخص متزوج، ولأعلمك بالأمر لا ينبغي لك الزواج إن قبلت أنا زواجك».
استفزته رسالتها، فعبث بأزرر هاتفه يجيب
«بربك ألكس، ألا تريني أحاول فعل ذلك منذ أشهر! فريدة هانم ترفض طلاقي من مايسان، والإ حينها سأخسر المال وكل ما أملك!»
ليته كان لجوارها ليتمكن من رؤية فزعها وخوفها على المال السبب الوحيد لتعلقها به، فوصلت رسالتها إليه بعد خمسة عشر دقيقة، بعد تفكيرها الميمون بالأمر
«إترك لي الأمر، أعدك بأنني سأجعل والدتك تتوسل لك لتطلقها.»
تجعد جبينه بدهشةٍ وراح يتساءل
«كيف ذلك؟!»
وصلته رسالتها ففتحها بلهفة
«لا تهتم عزيزي، أريدك أن تترك لي أمر تلك المعتوهة سأهتم بها..»
اغتظم غيظه لسماع لفظها البذيء، فترك هاتفه ورفع يديه لوجهه بتعبٍ من تلك الحلقة الدائرية التي يدور بها، انطلق رنين هاتف مكتبه، فتفحصه وهو يردد بسخطٍ:
_مش وقتك يا فريدة هانم!
ولكنه اضطر يحمل السماعة ليجيب بامتعاضٍ:
_صباح الخير.
أتاه صوتها مفزوعًا، مقبضًا، يستمع له عمران للمرة الأولى:
_عمران.
انتفضت حواسه فتساءل بقلقٍ:
_ماما إنتِ كويسة؟
رددت بارتباكٍ وتخبط بكلماتها الغير مرتبة والغير مسبق لها :
_مايسان مش في أوضتها، في شنطة على سريرها لمة فيها هدومها.. باينها سابت البيت..مايسان سابتني، مش عارفة هتكون راحت فين، دور عليها وشوفها فين أنا عايزة بنتي يا عمران!
أجابها سريعًا وملامح الخوف مرسومة على معالمه تأثرًا بسماع والدته بتلك الحالة:
_متقلقيش يا حبيبتي مايا هنا معايا في الشركة.
وصل إليه أنفاسها التي عادت تنتظم بعد عناءٍ، وبصوتٍ مهزوز قالت:
_بجد يا عمران ولا بتضحك عليا.. طيب سمعني صوتها.
شفق عليها، يعلم جيدًا ماذا تعنى مايسان لوالدته، فحمل سماعة الهاتف اللاسلكي، وأجابه بهدوءٍ:
_حاضر خليكِ معايا.
ودلف من الباب الجانبي لغرفة الاجتماعات، فوجدها مازالت تجلس محلها تراجع أوراقها، قدم لها عمران الهاتف قائلًا بثباتٍ:
_فريدة هانم.
التقطت منه الهاتف تجيب ببسمة ساحرة:
_صباح الخير يا ديدا.
انكمشت تعابيرها وهي تستمع إليها، وخاصة من مراقبة عمران لها، وكأنه يحاول تحليل تلك الاحداث، فقالت بتلعثم:
_لأ، أنا بس كنت بجمع الهدوم اللي مش محتاجاها وزاحمة الدولاب عندي، لكن أنا هسيبك وأروح فين، ده أنا حتى كنت هرجع بدري النهاردة عشان أروح معاكِ الجمعية.
أتاها صوتها المتلهف يخبرها:
_سيبي اللي في إيدك وتعالي حالًا، أنا من الخضة مش قادرة أتلم على أعصابي وشكلي كده هعاقبك على اللي عملتيه ده.
رددت بمزحٍ رغم تجمع الدمعات بمقلتيها:
_عقاب أيه بس، لا أنا جاية مسافة الطريق بإذن الله.
وأغلقت الهاتف ثم قدمته لعمران، وانحنت تجمع متعلقاتها تحت نظراته المتفرسة، فقطع صمته حينما قال:
_إمبارح كان معاكِ جواز سفرك وفريدة هانم بتقول إنك كنتِ محضرة شنطتك.
رتبت الأوراق بمجلد واحد قائلة ببرود:
_وده يخصك في أيه؟
مال بجسده ليستند على جسد الطاولة الزجاجية:
_يعني أيه يخصني في أيه؟ انتي ناسية إنك مراتي؟
ضحكت ساخرةٍ وتجاهلت التطلع إليه:
_لا مش ناسية، بس اللي فاكراه إنك مش معترف بجوازنا وبتحاول بكافة الطرق تنهي العلاقة دي.
ابتلع ريقه بارتباكٍ وبقى يتابعها بجمودٍ مصطنع، حملت مايسان حقيبتها واستدارت لتكون قبالته، فقالت بألمٍ:
_أنا حياتي مش هتتوقف على العلاقة السامة دي يا عمران، أنا عايزة أكمل حياتي مع الشخص اللي يقدرني ويحبني من قلبه.
وفتحت الباب الزجاجي وقبل أن تغادر منحته ابتسامة رقيقة وهي تخبره:
_متقلقش لما أرتبط بانسان تاني مش هنسى إنك كنت صديق طفولتي وهكونلك الصديقة دايمًا حتى لو أنت كنت رافض الاعتراف بده.
واستكملت بتسليةٍ:
_المواقف اللي بنتعرضلها في حياتنا هي اللي بتورينا احتياجنا بيكون لمين؟
وودعته بنفس البسمة الواثقة:
_مع السلامة يا عمران .
وتركته مقيدًا محله، يتطلع للباب الذي يتراقص من خلفها لشدة دفعها له، شعر بالاختناق يجوبه من حديثها الذي أيقظ غضبه وحنقه الشديد، مجرد تخيله أنها برفقة رجلًا أخرًا غيره جعلت الدماء تتصاعد بأوردته بشراسةٍ.
حرر عمران جرفاته باختناقٍ، فعاد لمكتبه يجذب مفتاح سيارته، وغادر وهو لا يعلم لأي وجهة سينطلق!
*******
منحها ابتسامة صغيرة رغم ثبات نظراته، ليخطفها لعجلة القيادة المركونة على الرصيف، رفع حاجبه بتمعنٍ اتبع نبرته:
_الظاهر إنك كالعادة محتاجة مساعدة.
رفعت كتفيها بقلةٍ حيلة:
_الظروف اللي بتعمل فيا كده، لكن أنا بسكوتة وقلبي أبيض والله متحملش كل اللي بيحصلي في حياتي ده.
قهقه ضاحكًا وهو ينزع عنه جاكيته الأسود، وأشمر عن ساعديه ليجذب من صندوق سيارته المعدات اللازمة ليبدل عجلة سيارتها، رفع آدهم السيارة باستخدام الحامل ومن ثم شرع بتبديلها بأخرى كان يحملها بسيارته.
راقبته شمس باهتمامٍ وهو يعيد ربطها، وقالت بحرجٍ حينما وجدته ينظف يده المتسخة بالمناديل بصعوبةٍ:
_كان نفسي أساعد بس للأسف مينفعش فستاني هيتوسخ.
ابتسم وهو يراقبها تشير لفستانها، وكأنه جوهرة ثمينة وتنحنح وهو يلقي منديله:
_ولا يهمك، أنا خلاص خلصت، هلم الحاجة بس.
رددت بامتنانٍ لما فعله:
_شكرًا يا كابتن.
ضحك بصوتٍ مسموع، وقال وهو ينحني يجمع أغراضه:
_العفو يا شمس هانم.
على رنين هاتفه فوضع الأغراض عن يده ثم رفع شاشته إليه، فأجاب بخشونة اعتلته:
_أيوه يا باشا.
تجهمت معالمه تدريجيًا بصورة لفتت انتباه شمس التي راقبته باهتمامٍ لمعرفة ماذا هناك؟
أسرع آدهم لسيارته، ففتح بابها الخلفي وهو يبحث عن شيئًا كان مبهمًا لشمس، فجحظت عينيه صدمة مما رأه، وقبل أن تستوعب ماذا أصابه، وجدته يجذب يدها مرغمًا إياها على اتباع خطاه، فهرول بها بعيدًا عن السيارتين، والاخيرة تتساءل بدهشةٍ:
_في أيه؟
دفعها أدهم لمقاعد الانتظار المصفوفة على طرف الطريق، فأرغمها على الجلوس أرضًا، ليحني جسده من فوقها ويديه من أعلاهما في تأهبٍ صريحٍ لمواجهة ما سيحدث، رفعت شمس وجهها إليه تتساءل برعبٍ من هيئتها:
_آدهم في أيه!
أتاها دوي الأنفجار الخاص بسيارته، ضاربًا سيارتها المجاورة للأخرى، فصرخت برهبةٍ وتمسكت بقميصه وهي تصرخ:
_أيه اللي بيحصل جاوبني!
رفع رأسه من خلف حافة المقعد يراقب الطريق بتمعنٍ، فتفاجئ بسيارتين تقترب من سيارته المتفحمة، عاد يختبئ من جديدٍ، وما يهاجمه بتلك اللحظة اكتشافهم بقائه على قيد الحياة.
المعركة الآن غير متكافئة بوجود شمس برفقته، لا يرغب في إيذائها بسبب عمله المفروض عليه، إن كان بمفرده كان ليقف شامخًا بساحة الحرب متباهيًا بقوته بالقتال، ولكنه من المؤكد لن يحتمل خسارة حياة أحدٌ بسببه، ماذا وإن كانت تلك الفتاة التي بدأت تعرف طريقها لقلبه!
جابت عينيه ذاك الطريق المنجرف خلف أعواد الخضرة الضخمة التي تسد الطريق عن المياه، فأخرج سكينًا صغيرًا مما جعلها تردد بذعرٍ:
_أنت هتعمل أيه؟
وتابعت وعينيها تراقب السيارات التي خرجت منها رجالًا مسلحين:
_ومين دول!
أشار لها بأن تخفض صوتها، ليهمس لها بحذرٍ:
_اهدي يا شمس، خليني أعرف أتصرف قبل ما يلاحظوا مكانا لإنهم لو وصلوا لينا أوعدك هيكون يومنا الأخير.
صعقت مما استمعت إليه، وابدت اعتراضها الفوري:
_وأنا مالي، إنت شكلك اللي مزعلهم بالجامد ذنبي أنا أيه؟
ضحك وهو يراقب ملامحها المذعورة بتسليةٍ، فصاحت بعصبيةٍ:
_وطي صوتك مش بتقول هيعرفوا مكانا!! وبعدين أنت ليه دايمًا منشكح كده حتى في المواقف اللي مينفعش حد يبتسم فيها!
رد عليها وهو يغمز لها بمشاغبةٍ:
_بستقبل موتي بنفس بشوشة.
ردت باجتياجٍ:
_استقبله انت براحتك أنا لسه صغيرة وفي بداية حياتي.
أشار بالسكين خلفه:
_حاولي تقنعيهم بده، يمكن وقتها يفكروا يمشوا ويسبوا وراهم شاهدة لطيفة على جريمتهم البشعة اللي هيرتكبوها مع الشخص اللي علم على قفاهم مرتين.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ، فحاولت ادعاء قوتها الزائفة:
_وأنت بتتنيل تديهم بالقفا ليه يا عم إنت!
تمردت ضحكاته الرجولية بشدةٍ ومازالت تشير له بخوفٍ، فقال:
_آسف بس إنتِ جاية تنكتي وإحنا بنموت حضرتك!!
وتابع بخبث وهو يحاول نزع الغاب عن طريقهما:
_يعني ده جزاتي بدل ما تشكريني إني حميت حياة راكان باشا خطيبك من الكلاب دول زعلانه إني علمت عليهم!
زوت حاجبيها بدهشةٍ:
_يعني الناس دي عايزة تقتلك عشان كنت بتحمى راكان منهم؟
هز رأسه بتأكيدٍ وهو ينزع أخر الغاب المصفوف، لوت شفتيها وهي تهمهم بتريثٍ:
_يا أخي كنت سبتهم يخلصوا عليه وخلصتني من بروده وتقل دمه.
تطلع لها بعدم تصديق وخار ضاحكًا، فرفعت كفها تكبت ضحكاته وهي تردد برهبةٍ:
_اطلع اضحك بره قدامهم وسبني أعيش!
غادرته ضحكاته وهامت عينيه بقربها الشديد منه، يدها التي تلامس شفتيه ونظراتها المرتعبة، ارتبكت شمس من نظراته الجذابة تجاهها، فسحبت كفها بارتباكٍ لمسه آدهم فابتسم وهو يتابع عمله ببراعةٍ، وما أن انتهى حتى أشار لها:
_يلا.
هزت رأسها وانحنت على يدها تزحف حتى وصلت إليه، فمدت رأسها داخل الفجوة التي صنعها، ثم عادت إليه سريعًا تخبره بذعرٍ:
_ده طريق للبحر!
أكد بإشارة رأسه، وردد وهو يطالعها بتسليةٍ:
_عندك حل تاني؟
لعقت شفتيها وهي تخبره بتوترٍ:
_بس أنا مش بعرف أعوم!
ابتسم وهو يخبرها:
_متقلقيش يا شمس أنا معاكِ.
زادتها كلماته ارتباكًا فوق ارتباكها، فرددت بتشتتٍ:
_كلمة متقلقيش دي بتقلق أساسًا، ثم أنك ما صدقت ونازل من الصبح شمس شمس، أمال فين هانم اللي كنت بتقولها!
وأشارت باصبعها تعترض:
_لا أوعى الموقف ده ينسيك إني خطيبة راكان البارد اللي بتشتغل عنده أنا مسمحلكش.
سيطر على ضحكاته بصعوبةٍ وهو يشير بيديه كأنه يرحب بالملكة:
_آسف شمس هانم، ممكن لو سمحتي تدخلي بسرعة قبل ما الحيوانات اللي بره دول يعرفوا مكانا ووقتها هنتزف في شوال واحد لراكان باشا خطيبك!!
لعقت شفتيها برعبٍ:
_بتخوفني ليه يا عم!
ومرت لداخل الفجوة التي تحيطها الحشائش مرددة بضجرٍ:
_كان يوم مالوش ملامح لما وافقت ارتبط باللي اسمه راكان ده.
زحف من خلفها مبتسمًا، فأحاط الفجوة بالحشائش لتخفي محلهما، تفادت شمس فستانها الذي كاد بأن يسقطها بالمياه، فتمسك بها آدهم بقوةٍ جعلتها تعود لطريقها من جديد حتى وصلوا لنهاية الطريق المؤدي على الرصيف الأخر، هبط آدهم أولًا فمد ذراعه مشيرًا لها:
_هاتي ايدك.
تفحصت المسافة بينها وبين الرصيف بتمعنٍ، وليده الممدودة فعادت تختبيء خلفه الحشائش وهي تخبره:
_هستنى هنا لحد ما يمشوا وهطلع.
أجابها بنفاذ صبر:
_متبقيش جبانة يا شمس إطلعي!
فتحت الحشائش لتطل عليه من جديدٍ، قائلة بغضب:
_أنت بتتخطى حدودك يا كابتن، مش كفايا العربية اللي اتفحمت على الطريق!
واسترسلت بغيظٍ:
_لأ وأنا اللي كنت فرحانة إنك موجود وبتساعدني عشان ألحق المحاضرة، لا لحقت محاضرة ولا العربية سلمت!!
مرر يدها على وجهه بغضبٍ، مازال مكانهما غير آمنًا بالمرة، وهي غير مدركة لخطورة الموقف، وكأنه يحاول أن يلين رأس إبنة شقيقته البالغة من العمر اثنا عشر عامًا، فقال من بين اصطكاك أسنانه:
_شمس الموضوع خطير من فضلك خلينا نمشي من هنا وفورًا، وإن كان على عربيتك فأنا هعوضك صدقيني.
عادت تطل له من خلف الحشائش تخبره بغضب:
_أنا مش بقبل عوض يا كابتن، ثم أنك متعرفش أنا بنت مين ولا أيه؟
أدنى شفتيه بأسنانه وصاح بها:
_مش وقته الكلام ده بقولك الناس اللي بره دي لو وصلولنا هيصفونا!
اعترضت محتجة:
_يصفوك أنت أنا مالي بالليلة دي!
ضيق عينيه بنظرةٍ مستهزئة فأشار لها بخبث:
_أوكي أنتِ صح، عشان كده ههرب أنا وهسيبك تداري ببوكيه الورد اللي أنتِ قاعدة جواه ده، مع السلامة يا شمس هانم.
جحظت عينيها في صدمةٍ حينما وجدته يشرف على الابتعاد عنها، فصاحت بهلعٍ:
_أنت سايبني ورايح فين، يا آدهم… كابتن آدهم استنى، طيب مش خايف من راكان البارد يعاقبك انك سبتني ليهم..
لم يعيرها انتباهًا، فصاحت بصوتٍ أعلى:
_طيب استنى تنتاقش طيب.
صعقت شمس حينما استمعت لصوت طلقات نارية تجوب مياه البحر، بعد أن اكتشف الرجال أمر السيارة فارغة، فظنوا بأنه هرب للمياه، أمرهم كبيرهم باطلاق الرصاص الحي على المياه حتى يصبوه في مقتلٍ.
كادت بأن تلقي ذاتها من خلفه غير مبالية بما سيصيبها لبعد المسافة، فوجدته يسرع ليتلقفها بين ذراعيه، ارتجفت شفتيها وهي تردد بخوفٍ:
_بيضربوا نار، شكلهم فعلًا ناس خطيرة
لوى شفتيه بتهكمٍ:
_والله؟!
********
داعبت شفتيها ابتسامة ساحرة فور تسلل رائحة الزهور إليها، فتعلقت عينيها على باب الغرفة تلقائيًا تستعد لرؤيته، طرق على الباب ثم طل بجاذبيته الخاطفة:
_صباح الخير فطيمة.
ابتسمت فور رؤيته يتقدم لينزع زهور الأمس، ومن ثم وضع الزهور الجديدة بالڤازة القريبة منها، فجلس على المقعد المقابل لها قائلًا:
_يا رب تكوني النهاردة أحسن؟
بقيت صامتة كحالها وابتسامتها لا تفارقها، فتقوست معالمه هاتفًا بضيق:
_لا احنا اتخطينا مرحلة الصمت من إمبارح تقريبًا ومش مستعد إنك ترجعيلها تاني.
وعبث بحدقتيه مرددًا:
_هنعيد من تاني.
ضيقت عينيها بعدم فهم، فوجدته يخرج من غرفته ويعود بالطرق مرة أخرى، مكررًا:
_صباح الخير يا فطيمة.
صاحبتها ضحكة رقيقة:
_صباح النور دكتور علي.
تهللت أساريره واتجه ليقف قبالتها يكشف عن ساعديه وكأنه على وشك الاستعداد لشيءٍ هامٍ، فقال:
_بصي أنا جاي النهاردة وعندي نية تامة إني هنزلك الحديقة، ترفضي بقى تقبلي قراري صدر وأمره نافذ.
منذ ثمانية أشهر تجلس بتلك الغرفة، ولم تحبذ يومًا مغادرتها، بداخلها رفضًا تامًا للاحتكاك بأي رجلًا، مجرد تواجد أي طبيب بغرفتها كان يثير اشمئزازها، لولا وجود علي لجوارها، فقالت بإصرارٍ:
_مابغيت نشوف حتى واحد،انا كنخاف فاش كنكون وسط ناس كتيرة، عافاك خليني هنايا احسن.
(مش جاهزة أشوف حد، أنا بخاف لما بكون وسط ناس كتير، من فضلك خليني هنا أحسن)
فاقت رغبته اصرارها فقال:
_لازم تخرجي يا فطيمة، وجوك هنا طول الوقت هيضرك مش في صالحك.
وقال بهدوءٍ:
_متخافيش هكون جانبك وجاهز لأي رد فعل.
زوت حاجبيها بعدم فهم، فوجدته يخرج إبرة طبية من جيب بنطاله، فأشارت له بهلعٍ:
_لاا مابغيتش نضرب ليبرة.
(لأ مش عايزة أخد حقن!)
أعادها علي لجيبه بابتسامةٍ ماكرة:
_يبقى تسمعي الكلام.
هزت رأسها بطاعةٍ، ونهضت عن فراشها تبحث عن حذائها، ارتدته فطيمة ولفت طرف حجابها من حولها ووقفت قبالته قائلة بحرجٍ:
_أنا جاهزة.
فتح باب غرفتها وخرج وهي تتبعه بخطواتٍ مترددة، لفت انتباهها الطابق القابع به غرفتها، يغمره اللون الأبيض النابع عن صفاء العين، وبالرغم من الهدوء الشامل للمكان الا إنه لم يخلو من المارة، سواء من الاطباء أو المرضى، وكأنه هي بمفردها التي تحبس ذاتها بغرفتها.
ابتسم علي وهو يراقبها من طرف عينيه تتابع المكان باهتمامٍ، هكذا ما أراد أن تختلط سريعًا بالبيئة المحاطة بها.
استدارت فطيمة تتفحص المكان ولم تنتبه لتوقف علي عن الحركة، فارتطمت به وكادت بالسقوط لولا يده التي تشبثت بها وصوته الدافئ يصل لها:
_خلي بالك يا فطيمة، بصي قدامك.
ارتجف جسدها الهزيل، وتلقائيًا دفعته بعيدًا عنها، وأنفاسها تعلو بعنفٍ، منحها علي ابتسامة هادئة لم تغادره وقال مازحًا وهو يشير على المصعد:
_آسف إني وقفت فجأة، بس مش هينفع ننزل كل المسافة دي.
انفتح باب المصعد، فأشار لها بالدخول، وزعت نظراتها المرتبكة بينه وبين المصعد، صحيح أنها تراه أمانها ولكن بخروجها معه تختبر شيئًا لم تختبره من قبل، والآن أعليها البقاء معه بمفردها داخل المصعد!!
استمدت فطيمة قوتها الزائفة حينما وجدته يناديها بدهشةٍ:
_فطيمة إنتِ كويسة؟
أومأت برأسها وهي تلحق به، ففور انغلاق الباب حتى اهتز جسدها وتسلله البرودة، اضطربت أنفاسها رويدًا رويدًا وهي تراقب مكان وقوفه، فابتعدت لأخر زوايا المصعد.
تفهم علي حالتها لذا بقى ثابتًا، لم يعير ما يحدث أي اهتمامًا قد يضايقها، هو بالنهاية ليس شخصًا عاديًا، هو طبيبٍ نفسي يحلل تصرفاتها ويعلم بماذا تفكر؟ ولماذا تشعر؟.
كان احترافيًا بالتعامل معها، فلم يبدي أي اهتمام لوقوفها بعيدًا عنه ولم يتساءل عما يصيبها ليقلل من تنفسها هكذا، توقف المصعد فخرج أولًا وهو يقول دون النظر إليها:
_وصلنا.
لحقت به للخارج، فوقفت تتطلع للحديقة بنظرةٍ انبهار، طافت حدقتيها كل ركنٍ بها، لم تكن كبيرة ولكنها منسقة بزهور ترآها لأول مرة، تملأها عدد من الطاولات، وعدد من المرضي المرتدون لنفس لون جلبابها، أشار لها على على الطاولة القريبة منهما متسائلًا بلباقةٍ:
_تحبي نقعد هنا؟
اكتفت بإيماءة من رأسها، فاتجه للطاولةٍ ثم جذب المقعد ليشير لها بالجلوس، فجلست وهي تردد على استحياءٍ:
_شكرًا.
جلس علي قبالتها، مستندًا على الطاولةٍ بجسده العلوي عليها، ليسحبها من دوامة تشتتها:
_شوفتي بقا إنك سايبة الجمال كله تحت وقاعدة حبسة نفسك فوق.
تكلفت بسمة على شفتيها، وعادت تتطلع من حولها بفضولٍ، متجاهلة حديثه عن مداخل الحديقة ووصفه الدقيق عن كل مكانٍ بها، ابتسم علي حينما تأكد بأنها لا تصغي لحرفٍ واحدٍ مما يقول، فردد بصوته الرخيم:
_فطيمة!
عادت برأسها إليه، ورددت بحرجٍ:
_بتقول حاجة يا دكتور؟
استند على يده وتابع بنفس بسمته:
_كنت بقول حاجات بس الظاهر إن جمال الحديقة خطفك مني.
ابتسمت وهي تخبره:
_المكان فعلًا جميل أوي.
بداخله يهمس دون توقف “مفيش في جمالك!”
وتنحنح قائلًا:
_شوفي بقى، عشان سمعتي الكلام هكافئك بالرغم من إنك غلبتيني.
تساءلت باستغرابٍ:
_مكافأة أيه!
أخرج علي هاتفه ثم حرر زر الاتصال بعدما فعل السماعة الخارجية، فتابعته باهتمامٍ لمعرفة مقصده، زف إليها صوتًا رجوليًا مألوفًا لمسمعها:
_دكتور علي،إزيك.
ابتهجت للغاية، ورددت بلهفةٍ:
_مراد!
_فطيمة، أخيرًا سمعت صوتك!
وتابع بحماسٍ:
_طمنيني عاملة أيه؟
اتسعت بسمتها وهي تجيبه:
_أنا كويسة الحمد لله، أخبارك إنت أيه؟
_بخير بفضل الله.. المهم إنتِ عايزك تفوقي كده وتستردي صحتك،والأهم إنك تسمعي كلام دكتور علي.
ابتسم علي وأشار باصبعيه للهاتف:
_سمعتي.
أجابته بلطفٍ:
_حاضر.. أنا بجد مبسوطة أوي أني اتكلمت معاك.
_وقريب هاجي بنفسي أزورك بس عشان ده يحصل لازم تخفي وتكوني أحسن عشان أخدك في إيدي على مصر وأعرفك على حنين وبناتي مرين ومارال هيتجننوا عشان يشوفوكي.
ببسمة مشرقة قالت:
_ما شاء الله، ربنا يباركلك فيهم وتفرح بيهم يا رب.
اتاها صوت ضحكاته ومن بعدها سخريته بالحديث:
_بتدعي عليا أني أكبر ، ماشي يا فطيمة مكنش العشم!
شاركته الضحك وتحدثت بصعوبةٍ:
_قولي الدعوة اللي تحبني أدعهالك وأنا أدعي.
رد عليها بجديةٍ تامة:
_مفيش عندي شيء أتمناه غير إنك تقومي بالسلامة.
تمعنت ببسمتها وهي تردد بهمسٍ:
_يا رب.
تبادلا الحديث حتى أغلق مراد معها على وعد بأنها ستجاهد لتلقي خلفها الماضي بما يحمله من آهات قاتلة، كانت مكالمة الجوكر لها في الصميم مثلما توقع علي، فقد تبدلت فطيمة من حالٍ للأخر، فجلس يراقبها خلسة وكلما أمسكت به عينيها ادعى انشغاله بمراقبة هاتفه، حتى أخرج لها دفترًا صغيرًا وقلمًا مرددًا:
_أنا هسيبك تقعدي لوحدك شوية في الجمال ده، وعايزك تدوني بالدفتر ده ذكريات جميلة لسه فاكراها لحد النهاردة عن طفولتك.
جذبت الدفتر منه ببسمةٍ هادئة، ففتحت أول صفحاته لتتفاجئ بأنه يدون “فاطيما” بأول صفحاتها، فرفعت عينيها إليه وقالت:
_انا اسمي فاطمة بالالف و لكن في المغرب كنقولوا فاطما و لا فطيمة
و انا انا دارنا كيقولو لي فطيمة.
برق بدهشةٍ، فجذب الدفتر يمحي إسم فطيمة ويكتب “فاطمة” ،وأعاده لها وهو يسألها:
_يعني أناديكي فاطمة ولا فطيمة؟
أجابته ببسمة صغيرة:
_ الاسم اللي يعجبك و تبغيه عيطلي بيه
ردد بتيهةٍ:
_ما تكلميني مصري ينوبك ثواب!
تعالت ضحكاتها وهي تعيد ما قالته:
_الاسم اللي يعجبك ناديلي بيه.
هز رأسه باقتناعٍ:
_اتفقنا.
_علي!
صوتًا ذكوريًا اقتحم جلستهما، فرفعت فطيمة رأسها تجاه هذا الشاب الذي يملك ملامح مشابهة لعلي، ابعد مقعده ونهض يردد بدهشةٍ:
_عمران!
جابت عينيه الفتاة التي يجلس برفقتها، وقال دون أن يحيل عينيه عنها:
_روحتلك مكتبك قالولي إني أكيد هلاقيك مع فطيمة!
وتابع بمرحٍ:
_وكل ما أسأل حد يقولي نفس الجملة لدرجة إني بقى عندي فضول أشوفها.
وتابع وهو يشير بعينيه إليها:
_هي دي بقى فطيمة؟
بدى الارتباك يجوب ملامحها، فأجبر علي رسم بسمة متكلفة على وجهه وهو يسحب عمران بعيدًا عن مقعدها مرددًا:
_ده عمران أخويا الصغير يا فطيمة، هو بس مشاكس حبيتين وداخل على هزار على طول.
صحح له مفهومه الخاطئ:
_ أنا بني آدم عشري وقلبي أبيض والله.
سحبه علي مشيرًا بيده للممرضة التي جلست محله، بينما اتجه بعمران للطاولة القريبة من فطيمة، جلس قبالته يتساءل بقلقٍ:
_خير يا عمران.
لفظ أنفاسه بصوتٍ مسموع، واستكان على سطح الطاولة بنصف العلوي، مجاهدًا لخروج كلماته:
_علي إمبارح كنت سخيف أوي معاك فأنا… آآ… آسف على اللي حصل إمبارح مش عايزك تزعل مني إنت أخويا الكبير وآ.
قاطعه علي ببسمته الهادئة:
_عمران مفيش داعي إنك تكمل كلامك، أنا مزعلتش منك ولا عمري هزعل، أنا زعلي كله عليك وعلى الحالة اللي أنت حاطط نفسك فيها.
مرر يده بين خصلات شعره التي تناثرت بفعل الهواء العليل، ثم قال بفتورٍ:
_علي، إمبارح قولتلي أطلق مايسان وأسيبها لغيري يعوضها ظلمي.
هز رأسه بتأكيدٍ لتذكره ما قال، فلعق عمران شفتيه مضيفًا بارتباك:
_وقتها حسيت إني شوية كمان وهضربك.
احتدت نظراته بغضبٍ، فأسرع يبرر له:
_مايسان النهاردة قالتلي نفس جملتك حسيت اني هقتلها بردو.
وتابع بضجرٍ ينتابه:
_علي أنا مبقتش عارف أنا عايز أيه، فجيتلك تعالجني من الحالة النفسية اللي أنا فيها دي.
ذم شفتيه بضجرٍ، ثم قال:
_إنت اللي حاطط نفسك في الحالة المرضية دي يا عمران.
بجديةٍ تامة أجابه:
_أنا عقلي مشتت ومش قادر أشوف شيء، بس اللي أنا قررته إني مستحيل هغضب ربنا تاني يا علي، وقولت لألكس الكلام ده مستحيل هسمح لنفسي أعيش حالة الخوف والرعب والاشمئزاز اللي بكون فيها.
ضم يده بمقدمة أنفه يحاول تهدئة إنفعالاته، لا يرغب أبدًا بالاندفاع بحديثٍ متهور قد يفقده أخيه، فقال باتزانٍ:
_عمران أنا عايز أسألك سؤال وتجاوبني عليه بصراحة.
هز رأسه وتابعه باهتمامٍ، فاقترب علي من الطاولة ثم قال وعينيه تقابل عينه:
_لما حصل بينك وبينها علاقة كانت مرتها الأولى؟
مسح بيده وجهه، وكأنه لا يود اجابته لمعرفته ما سيقول أخيه ومع ذلك ردد باقتضابٍ:
_لأ.
ألقى الكرة بملعبه، فقال بثبات:
_وهتأمن تديها إسمك يا عمران؟
سيطر على غضبه القاتل، وقال بتعصبٍ واضح:
_ألكس اتغيرت من وقت دخولي لحياتها يا علي، وبعدين الحب مش اختيار، ولو كان بإيدي كنت أكيد اختارت مايسان.
زفر بمللٍ من الوصول لحل ينهي معضلة أخيه، فصاح بتريث:
_يعني إنت عايز أيه دلوقتي ألكس ولا مايسان؟!
تنحنح وهو يجلي أحباله الصوتية:
_الاتنين.. عايزهم الاتنين.
جذبه من تلباب قميصه بعنفٍ:
_وحياة أمك!
تلفت حوله وهو يحاول تحرير ذاته مرددًا:
_علي عيب الناس حولينا، وبعدين لو فريدة هانم سمعتك بتقول الكلام ده هيجيلها سكتة قلبية!
تفحص الأوجه من حوله، وحينما وجد الجميع يراقبون ما يحدث بينهما تركه متمتًا:
_قوم امشي من هنا يا عمران، بدل اللي ما عملتهوش امبارح هعمله النهاردة وقدام الناس.
حمل مفاتيح سيارته وهو يشير له:
_طيب يا حبيبي همشي أنا دلوقتي ولما تهدى وتعقل كده بالتعامل مع المرضى بتوعك أبقى أجيلك.
واستدار عمران يشير له بمزحٍ:
_بنصحك تشوف دكتور نفساني هينفعك أوي في شدة الاعصاب اللي أنت فيها، سلام.
أوقف عمران رنين هاتفه، فوقف على مسافة من أخيه يجيب ومازالت الابتسامة على وجهه:
_أيوه أنا عمران سالم.. خير؟
اكفهرت معالمه وهو يصيح بصوتٍ مرتفع:
_عربية أيه وإنفجار أيه، أنت بتتكلم عن مين؟!
هرول علي إليه يتساءل بقلقٍ:
_في أيه يا عمران؟
وجده يهمس بصدمةٍ وهو يبعد هاتفه عنه:
_شمس!
جذبه علي ليقف قبالته يصيح:
_مالها شمس؟!
*******
وضع النادل العصير على الطاولةٍ، فشكره من يتابع مسح قميصه الأبيض المتسخ بالمناديل المبللة، بينما تراقبه الاخيرة بصمتٍ، فجذبت كوبها بعدما انهت رسالتها بارسال إسم المطعم المتواجدة به لعلي، وارتشفت الكوب عله يزيح مرارة حلقها، ومازالت تخطف النظرات إليه، فتحررت عقدة لسانها السليط قائلة باستهزاءٍ:
_بقالك ساعة بتمسح قميصك وبيحاول يقنعك أنه مش هينضف وإنت مازلت مصر!
ابتسم آدهم واستمر بتجفيف صدره المتسخ بسواد السيارة، قائلًا بخبث:
_ده طبعي مش بمل بسهولة.
رمشت باهدابها وهي تتابعه، وقالت ضاحكة:
_خليه كده على الأقل تبقى محتفظة بالبقايا الأخيرة من عربيتي المرحومة.
تعمق بالتطلع لعينيها وقال ببسمة واثقة:
_على فكرة عجلة عربيتك عطلت بفعل فاعل.
ابتلعت ريقها بارتباك، ودنت منه تتساءل بخوف:
_قصدك أيه؟ هما اللي عملوا كده عشان يقتلوني!
تمردت ضحكاته الرجولية، فنفى ذلك مرددًا:
_لأ مش للدرجادي.
التقطت أنفاسها براحة غادرتها حينما استطرد:
_أنا اللي عملت كده.
برقت بعينيها بصدمة:
_إنت! طب ليه؟
ترك آدهم المنديل عن يده ثم مال برأسه إليها يهمس:
_كانت نيتي أشوفك على الطريق وأقف أصالحلك العربية وبعديها تعزميني في مكان على قهوة، أو على الأقل تخدي رقمي وتشكريني حاجة شبه الأفلام كده بس صدقيني مكنتش أعرف إن الكلاب دول مش هيلاقوا غير الوقت اللي هقابلك فيه ويهاجموني.
توقف عقلها عن استيعاب ما يخبرها به، فتساءلت بعدم تصديق:
_مش خايف أقول لراكان أنك بتحاول توقعني؟
اتسعت بسمته وهو يجيبها دون مبالاة:
_أنا مبخافش من حد يا شمس.
وبجديةٍ تامة تناقض نبرته قال:
_إنتي نقية وتتحبي بجد عشان كده هقولك إبعدي عن راكان يا شمس، ميستهلكيش.
كادت بسؤاله لماذا يخبرها تلك الكلمات؟ ولماذا يحاول التقرب منها، فقطعها صوت أخيها المنادي بلهفة:
_شمس.
التفتت تجاه مصدر الصوت، فوجدت أشقائها، ضمها علي إليه بلهفةٍ وأبعدها وهو يتفحص جسدها بنظرةٍ متفحصة:
_طمنيني حصلك حاجة؟
هزت رأسها نافية وقالت وعينيها تجوب آدهم:
_خرجت من المكان بفضله.
تركزت نظراتهما عليه، فتعرف عليه عمران فقد رأه أكثر من مرةٍ برفقة راكان، فقال:
_مش إنت آدهم الحارس الشخصي لراكان.
نهض عن مقعده يشير له بهدوءٍ، فصافحه عمران بامتنان:
_مش عارفين نشكرك ازاي حقيقي جميلك ده مش هننساه أبدًا.
أجابه وهو يسحب جاكيته الموضوع على المقعد:
_مفيش داعي للشكر يا باشا ده واجبي.
رد عليه علي ومازال يحتضن شقيقته:
_ربنا بعتك بالمكان ده بالوقت المناسب.
وتساءل بفضول:
_بس ازاي ده حصل، فهمني.
خطف آدهم نظرة سريعة لشمس قبل أن يجيبه بذكاءٍ:
_في الحقيقة أنا السبب في اللي حصل، عربيتي سخنت ودخنت بشكل مخيف، وقفتها ونزلت أشوف في أيه فلقيت الامور ساءت وعلى وشك إنها تنفجر.. وللأسف كانت شمس هانم عربيتها عطلانه وعلى بعد قريب مني، فنبهتها للموضوع وبعدنا عن المكان والحمد لله مفيش حد اتأذى.
ردد علي وهو يطبع قبلة على جبينها:
_الحمد لله، أنا روحي راحت لما جت المكالمة دي لعمران لو كانوا اتصالوا بالبيت كانت فريدة هانم جرالها حاجه.
ربت عمران على ظهر شمس بحنانٍ:
_جت سليمة الحمد لله.
ابتسمت شمس وهي تنصاع لذراعه التي تتلقفها بعيدًا عن علي لاحضانه هو، فهمس لها عمران بتسليةٍ:
_فريدة هانم هتعاقبك بحرمان دائم من العربيات طول حياتك.
منحته نظرة ماكرة:
_مين اللي هيقولها؟!
رفع يده ببراءةٍ:
_أنا مش هتكلم في سبيل أنك متفتحيش بوقك ولا تفتني عليا في أي كارثة جاية هرتكبها، علوى اللي جنبك ده اللي لسانه فالت أمني عليه بس للأسف مالوش لوية دراع ولا حاجة تساوميه عليها.
راقب آدهم حديثهما ببسمةٍ هادئة وخاصة حينما صاح علي بحزمٍ:
_أنا مش جبان زيكم.. عمومًا لينا بيت نتساوم فيه.
واستدار يقف قبالة آدهم، يصافحه من جديد وتلك المرة عينيه تقابله وجهًا لوجه، فقال وهو يضيق نظراته تجاهه:
_هو أنا ليه حاسس إني شوفتك قبل كده، على ما أعتقد بمصر!
لم تتلاشى بسمة آدهم وأجابه بثبات:
_جايز، أنا نزلت مصر أكتر من مرة يمكن حالفني الحظ إني قابلتك ولو حصل واتقابلنا تاني هنكون عارفين بعض.
ابتسم لرتابة حديثه وقال بوداعةٍ:
_إن شاء الله.. بشكرك لتاني مرة.
ودعهما آدهم ووقف يراقبها وهي تصعد برفقة علي للباب الخلفي من سيارة عمران، فما أن صعدت حتى طلت عليه بنظراتها عبر النافذة، كأنه تودعه على استحياء، تاركة البسمة تشدو على وجهه الجذاب.
*********
وضعت المال على الطاولة، فتلقفه الشابين الجالسان من أمامها، لتؤكد عليهما وهي تنفث دخان سيجارها:
_ستفعلان ما طلبته منكما غدًا بحفل ليام وإميلي.
وعادت تكرر تنبيها الحازم:
_واحرصا على أن تنجزان مهمتكما والا لن أدفع لكم دولار واحد بعد الآن.
ووضعت يدها بحقيبتها تخرج لهما صورة الفتاة وبطاقة دعوة، ثم ألقتها على الطاولة أمامهما وهي تستطرد:
_تلك هي بطاقة الدعوة لدخول الحفل، وغدًا ستكونان بالموعد المحدد وستنتظران مني إشارة.
هز رؤسهما وغادروا معًا، بينما نفثت هي دخانها وهي تردد ببسمةٍ استمتاع:
_حسنًا مايسان فلنري من منا ستنتصر بتلك المعركة، أنا أم أنتِ!

يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية صرخات أنثى)

اترك رد

error: Content is protected !!