روايات

رواية الأربعيني الأعزب الفصل الرابع عشر 14 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب الفصل الرابع عشر 14 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب البارت الرابع عشر

رواية الأربعيني الأعزب الجزء الرابع عشر

الأربعيني الأعزب
الأربعيني الأعزب

رواية الأربعيني الأعزب الحلقة الرابعة عشر

اليوم بالنسبة إليها ليس عادياً، فاليوم الذي كانت تخشى قدومه هي الآن تنتظره بفارغ الصبر، اليوم لن تجبر على الزواج من البغيض الذي لطالما كرهته، بل ستتزوج من الرجل الذي حمل معظم موصفات فتى أحلامها، حتى وإن كان أربعيني العمر ولكنه مازال جذاباً بحفاظه على جسده وعنايته بذاته، وما يحليه صفاته ورجولته، شهامته التي أعجبت بها منذ اللحظة الأولى، تلك الفتاة المشاكسة التي وجدها تختبئ أسفل طاولته ستصبح الآن زوجة له، في حضور الجميع وعلى رأسهم “قاسم” الأرعن وعائلته، بل والمضحك في الأمر بأن “عاصي” اختاره ليشهد على عقد الزفاف بنفسه.
إنتهت “لوجين” من وضع لمساتها الاخيرة من المكيب، الذي صممت وضعه بنفسها ومن ثم وضعت التاج على رأسها ليمنحها مظهراً أنيقاً، فاستدارت تجاه “عائشة” و”إيمان” التي تحمل الصغير، فما أن رأتها حتى رددت باعجابٍ شديد:
_ربنا يحفظك من العين يا روح قلبي.
واحتضنتها وهي تخبرها بلمعةٍ من الحزن اصطحبت نبرتها :
_انتي عوض ربنا لعاصي بعد صبر سنين يا لوجين، عايزاكي تمنحيه السعادة اللي اتحرم منها.
ابتسمت وهي تمازحها حتى تفتت تلك الدموع البادية بعينيها:
_أنا هديله حاجات كتيرة أوي أولهما الضغط والسكر وأخرهم “هند”..
تعجبت كلًا منهن لما استمعت إليه، فقالت”عائشة”باستغرابٍ:
_” هند”!
أومأت برأسها وهي توضح لهما:
_أيوه، ما أنا هجبله بنت وهسميها هند عشان مينساش حبيبته ومراته الله يرحمها.
انكمشت تعابير “إيمان” في ذهولٍ، فسألتها باهتمامٍ:
_وده مش هيضايقك..
واستطردت بتوضيحٍ:
_يعني مجرد تفكيره بواحدة تانية ده شيء ميزعلكيش.
ابتسمت وهي ترد عليها بحكمةٍ:
_وأيه اللي هيزعلني، اللي فات من حياته ده مجرد ماضي أما أنا فحاضره ومستقبله..
ضحكت إيمان حتى برزت أسنانها البيضاء، فشددت من ضمها اليها ثم قالت:
_ عاصي عرف يختار لنفسه اللي تليق بيه.
ثم أشارت لها بغمزة من عينيها وهي تدفعها للخارج:
_يالا بقى نخطف قلبه بطلتك الساحرة دي.
راق لها تعبيرها فتمسكت بيدها وبيد “عائشة” وهي تشير لهما بمرحٍ:
_هيا.. لننطلق..
وبالفعل هبطت بصحبتهم للاسفل، ليمر اطراف الفستان الطويل على زهرات الياسمين الملقاة أرضًا، ومن حولها عدد من الاطفال يحمل كلاً منهما شموع مزينة بالدنتيل الابيض، لينتهي الدرج الخارجي للقصر بمنتصف حفل الزفاف، لتجده يقف بنهاية الخط المفروش بالورود، ينتظرها بلهفة وشوق يسبقه برسائل من غرامٍ، تاه بجمالها الهادئ وتاهت هي به، فكان يبدو وسيمًا ببذلته السوداء الانيقة، هيبته تلك تمنحه وقار يجبر الجميع على احترامها، انتهى طريقها المحفور بالورد حينما أصبحت تقف من أمامه، فسلمته يدها وكأنها تستئمنه على روحها، لتستكمل معه طريقها حتى وصل للمأذون الذي عقد قرانهما في حضور أهم رجال الاعمال، وعدد مهول من الصحافة والتليفزيون، اتقبض قلب “لوجين”حينما رأت”قاسم” يقترب منهما،فتلقائيًا تشبثت بذراعيه، وتعلقت عينيه بها باهتمامٍ، فوجدها تتطلع لمن يفف مقابلهما بخوفٍ، فرفع كف يديه الأخر ليربت على كفها وكأنه يمنحها الأمان والسكينة، فاحتدت نظراته الصارمة تجاهه، رفع “قاسم” كفيه ليصافحه وهو يهنئه ببسمة رسمها بالكد:
_الف مبروك يا باشا.
راق له انهزامه هكذا، فبالأخير لم يعد هناك مخرج له من مأزقه سواه، لذا أجابه بكبرياء:
_تسلم يا قاسم.
وسحب يديه وهو يشير إليه على احدى الطاولات:
_تقدر تتفضل لسه الحفلة مبتدتش.
كانت رسالة صريحة إليه بأن يظل حتى تنتهي الحفلة، والأخر يكبت خلف قناع برودته حقدًا وغضبًا عظيم، فانصاع لإشارته وهبط ليجلس على الطاولةٍ المقابلة إليهما، تبدد هلعها رويدًا رويدًا، فكيف لا يطمئن قلبها في وجوده!
**********
اجتمع “غيث” و”عمر” على طاولةٍ واحدة، فتأهب كلًا منهم للانقضاض على “قاسم”في أي وقت، فجلسوا يراقبنه جيداً، انتبه”عمر” لزوجته التي تزيح دمعاتها بين الوقت والأخر حتى لا يشعر بها أحدًا، فطوفها بذراعيه وهو يتساءل بلهفةٍ:
_في أيه يا حبيبتي مالك؟
رسمت ابتسامة شبه فاترة وهي ترد عليه :
_مفيش يا عمر، أنا بس فرحانة ومش مصدقة إن عاصي أخيرًا بيتجوز.
مازحها بمشاكسةٍ:
_وأهو اليوم ده جيه، هنفرح بقى ولا هنقضيها كآبة؟
أجابه “غيث” بالنيابة عنها:
_هما الستات كلها كده يقلبوا الفرح ميتم..
لكزته “عائشة” وهي تعاتبه بضجرٍ:
_واحدة ومتأثرة عشان أخوها بتجمع ليه بقى، ثم إن الستات دول أغلب خلق الله، قلبهم أبيض كده وبيتضحك عليهم بأي كلمة، مش زي الرجالة اللي دماغهم متركبة غلط.
رفعت إيمان كفها إليها وهي تثني عليها:
_الله عليكي يام يزيد اديلهم.
لوى “عمر” شفتيه بسخطٍ:
_اتلميتوا على بعض!
ثم أشار لغيث قائلًا:
_قوم يا عم نشوفلنا مكان تاني نقعد فيه.
نهضوا سويًا ليختاروا الجلوس على طاولةٍ مجاورة لهن، وكأنهم فريقين مختلفين بفطرتهم، يناطحن بعضهم بالنظرات المحتفنة وكأن الحرب على وشك الإندلاع بينهما.
********
على الحفل الموسيقى الهادئة، فانضمت “لوجين” معه على المنصة، قدم لها يديه، فخفق قلبها بربكة عشقه الخالد، وضعت أصابعها ببطءٍ بين يديه الخشنة، ثم تمايلت معه على الإيقاع بتناغم، والعينين تشعر قناديل العشق والغرام، فلطالما كان بعينيه قدرها، وبات درب هواه دربها المحتوم، تصمت وما عساها أن تختار الصمت ملجأ، فتأمل عينيه وحركاته التي تجبرها على اتبعها تجعلها تشعر بسطوته وتحكمه بها، صمتاً ودت لو طال عهداً لتتمكن من فك لغز عينيه الغامضة، عل نظراتها تنفذ لداخله، وكأنه خشى أن تستكشف مشاعره التي يخفيها فقطع صمتهما الذي طال، حينما قال:
_بسأل نفسي فين البنت المشاكسة اللي ابتديت أتعود عليها، ودلوقتي شايفها بعيني مستخبية ورا بنت كاملة الانوثة.
استهدفت كلماته مشاعرها العذرية، فحاولت إخفاء خجلها الذي سيفضحها لا محالة، فهمست بخبثٍ:
_وأنا كمان بسأل نفسي فين الاربعيني الكئيب، شايفاه مستخبي ورا شاب في العشرين من عمره وخايف من عين الحسود وهي بتلاحقه..
تعالت ضحكاته الرجولية فزادت من وسامته، فكاد بأن يندمج معها بحوارها المشاكس، ولكنه انتبه لعمر الذي يشير إليه ويحثه على حملها والطواف بها ضيق عينيه بحدةٍ، فعاد الأخير ليشير له بأن يفعلها، لذا حملها بين ذراعيه ثم طاف بها وسط صفقات من الجميع وتشجيع عمر له بمزحٍ:
_هو ده الكلام.
ضحك “غيث” على صفير “عمر” المزعج، فجذبه للخلف وهو يحذره:
_بلاش ترخم عليه عشان متزعلش بعد الفرح.
ردد بمكرٍ:
_هو لسه شاف حاجة!
وما أن انتهت رقصتهم التي جمعتهما سويًا، على الحفل إحدى النغمات الصاخبة، فجذب “عمر”،” عاصي” بعيداً عن “لوجين”، ليشاكسه بالرقص فانضم له” غيث” بفرحةٍ، فلم يتردد “عاصي” مشاركتهم، ليستخدم كلًا منهما ساقيه وبعض حركات يديه التي لم تنتقص من رجولتهم.
أما “لوجين” فأمسكت “عائشة” و”إيمان”يدها، لتدور بها بحركاتٍ بسيطة، لم تصل لحد الرقص، فكانت كلاً منهن ترتدي نفس الفستان من اللون الذهيي ونفس لون الحجاب، شاركتهم لوجين بفرحةٍ لم تتمنى أن يشاركها أحدًا بذلك اليوم المخصص لها، فغدت لحظات الفرح سريعة وتعد على اليد حينما انتهى حفل الزفاف، لتصعد معه للأعلى وبدها معلقة بيديه.
*********
عاون “غيث” “عائشة” على الهبوط من السيارة بفستانها الطويل، فانحنى وهو يحيها بغمزةٍ مشاكسة:
_برنسس.
تجاهلته عن عمدٍ ثم فتحت الباب الخلفي لحماتها، فهبطت تحمل الصغير بين يدها، فحاول “غيث” حمله عنها، ولكنها رفضت ذلك وأشارت إليه بمكرٍ:
_يزيد هيفضل معايا النهاردة، أنا حافظة مواعيد أكله فمتقلقش عليه.
شعرت “عائشة” بالحرجٍ لعلمها ماذا تحاول حماتها صنعه، فبعد ولادتها لم تحظى ببعض الوقت الخاص مع زوجها، فحاولت جذبه من يدها، قائلة بخجلٍ:
_مش هيخليكي تنامي خالص يا ماما وهيقلقك طول الليل.
ضمته لصدرها بحنانٍ وهي تفرد الغطاء على جسده حتى تحفظه من الهواء:
_هو أنا ورايا أيه يا بنتي، سبيه واطلعي انتي مع جوزك ومتشليش همه.
انحنت “عائشة” لتقبل يدها بحركةٍ غير متوقعة لزوجها ولسمية، قائلة بحبٍ:
_ربنا ما يحرمنا منك يا رب.
أحاطهم “غيث” بذراعيه، ليدفعهما برفق تجاه مدخل العمارة:
_مينفعش نقف كده، نتكلم فوق.
صعدوا سويًا للأعلى على أمل محاولة تغير قرارها، ولكنها توجهت لشقتها وأغلقت الباب سريعًا، لتجبرهما على الصعود بمفردهما، التفتت “عائشة” تجاهه، فوجدته يتطلع لها بنظرةٍ سيطرت عليها الرغبة فأخرجت العاشق المدفون بداخله، حملت طرف فستانها ثم صعدت للأعلى، وما أن ولجت لشقتها حتى وجدته يجذبها إليه وهو يهمس لها بأنفاسٍ كادت بإحراق بشرتها الوردية:
_وأخيرًا هنبقى لوحدنا!
حاوط خصرها بتملكٍ، وكأنه يمنعها من الفرار، فقالت بتوترٍ وهي تحاول إبعاده عنها:
_أنت مصدقت الولد يبات بره ولا أيه، إبعد كده.
جحظت عينيه وهو يتساءل في صدمةٍ:
_هو كان بيسيبك لحظة!
ابتسمت على تذمره من صغيرهما الذي لم يتعدى عمره الشهرين بعد، فقالت بمكرٍ:
_وأنت صراحة كنت بتتطوع تسهر بيه على طول.. والله ماما فيها الخير عنك.
قربها إليه بحركةٍ سريعة، جعلتها تبتر كلماتها لتواجه عاصفة ستوقعها باستسلامٍ لا ريب، شعر “غيث” برجفتها بين ذراعيه، وشوقها إليه تخبره بها نظرات عينيها التي تتحاشى التطلع بها إليه، فانسابت قبلاته كنهر من عسل فوق وجنتها، لتجبرها على نسيان “يزيد” والعالم بأكمله، لتصبح ملكه في تلك اللحظة التي ارتوى كلاهما من عشقهما، فربما لقاء يحفه العشق يعوض قسوة الهجران!
*******
فتح “عمر” باب شقته، ثم دفعه على متسعه، فألقى ما بيديه من حقائب ممتلئة، ثم جلس على أقرب مقعد يلهث من فرط مجهوده المبذول لحمل الصغير ومتعلقاته ومتعلقات زوجته، فقربه إليه وهو يتمتم بغيظٍ:
_أنت الوحيد اللي مينفعش أرميك في وسط الكركبة دي، بس قريب هعملها بس مش هتبقى لوحدك، هتبقى أنت وأمك وخالك في يوم واحد إن شاء الله.
_بتقول أيه للولد يا مجنون!
قالتها من تغلق الباب من خلفها، وتدنو منه حاملة طرف فستانها الطويل، فتحولت نظراته المحتقنة اليها، ومن ثم نهض عن مقعده ليلقي الصغير بوجهها، وكأنها بسؤالها هذا اشعلت فتيل قنبلتها المتعصبة:
_خدي بس ابنك الأول عشان أدى لنفسي مساحة فأعرف أخد وأدي في الكلام كده.
لفت يدها حول الصغير، ليتابع الاخير بقول ما كبته بداخله طوال الحفل:
_أنا عايز أسالك سؤال بسيط بس، هو أنا الشغال الجديد اللي جبهولك أخوكي المغرور ده؟
أطاحت بفتيل الحرب التي كانت تستعد لها حينما رأته في حالةٍ لا تسمح ذلك، فالنساء بارعات في تقييم حالة الزوج، فإن سمح لها الدلال بوقت غضبه لن تتردد في ذلك، ولكن أحيانًا تصبح الأمور خارج السيطرة، فيصعب إستخدام أسلحتها في تلك اللحظة، لذا عليها سماعه ومحاولة اطفاء نيرانه قبل أن تشتعل أكثر من ذلك، لذا أجابته بدهاء أنوثتها:
_لا يا حبيبي، أنت جوزي حبيبي اللي مبيهنش عليه يشوف مراته محتاسة لوحدها.
رفع حاجبيه ساخراً:
_ده في حالة إني هساعد مش هيترمى عليا الحمل كله وحضرتك طالعة على السلم زي الأميرة!
وضعت الصغير على الأريكة، ثم لفت بفستانها عدة مرات انهتها حينما غمزت له بخبثٍ:
_طب بذمتك مش شبه الأميرة؟
بلل شفتيه الجافة بلعابه وهو يجاهد مشاعره بإنهاء ذلك الخلاف، ولكنه أنفض عن عقله ما يهاجمه قبل أن يعود لساحة المعركة مجدداً:
_ده مش مبرر يخليني شايل الواد والشنط طول الفرح يا هانم!
ثم استرسل بمثال حي علها تتراجع عن استغلاله:
_ما عندك “عائشة” أهي شوفتيها بتدي الواد “لغيث”، كان قاعد صايع طول الحفلة ومش لاقي حاجة يعملها وأنا البيه ابنك لزق ليا من أول دقيقة لأخر دقيقة!
أجابته بانفعالٍ قد نجح بذرعه بها:
_لان حماتها كانت جنبها طول الوقت وشايله عنها كل حاجة يا”عمر” ، لكن أنا ماليش حد غيرك.
وقطع عبارتها دامعة العينين وهي تحاول السيطرة على انفعالاتها، ولكنه ما أن لمح هذة اللمعة الحقيقية حتى ضمها لصدره بقوةٍ، ليغمرها بين ذراعيه بهذا الفيض الذي يجعلها تصفح له عما دفعها إليه دون قصدًا منه، فكانت بحاجة إليه في تلك اللحظة القاسية التي تذكرها بوحدتها، فجرفتهما المشاعر في رحلةٍ قصيرة سمح لهما العشق بخوضها، ولكنها ابتعدت عنه سريعًا فور سماعها بكاء الصغير، تأفف “عمر” وهو يتطلع إليه بضيقٍ، ليصيح بضجرٍ:
_الواد ده مستقصدني!
تعالت ضحكاتها وهي تحمله وتتجه لغرفته، فجلست تحمله لأكثر من ساعتين حتى غفى وغفت وهي تحمله هي الأخرى، بينما ظل “عمر” ينتظرها بغرفتهما طوال تلك المدة وحينما تأخرت بقدومها، اتجه لغرفة الصغير فارتسمت على شفتيه ابتسامة نبعت بالحنان حينما رآها تغفو هي الأخرى والصغير بين يدها، فتسلل على أطراف أصابعه ليحمل عنها الصغير، فوضعه بفراشه ثم داثره جيدًا، وعاد ليحملها بين يديه واتجه بها لغرفتهما، فوضعها على الأريكة ثم وقف حائرًا، لا يود أن يفيقها وهي منهكة هكذا، لذا اتجه لخزانتها ثم جذب منامة قطنية ليبدل لها فستانها، وحملها للفراش فداثرها بأحضانه وهو يطبع قبلات متفرقة على أنحاء وجهها، هامسًا بحزنٍ:
_كل ما بحاول أنسيكي موت والدتك برجع بغبائي أفكرك من غير ما أقصد، بس أوعدك إنها مش هتكرر تاني.
أطبقت أصابعها على التيشرت الخاص به، فأكدت له بأنها مستيقظة، وخاصة حينما همست بخجلٍ:
_بأحبك.
ضحك بمكرٍ، فجذب الغطاء عليهما وهو يردد بخبثٍ:
_بما انك صاحية في كلام مكملنهوش بسبب المحروس ابنك وجيه وقته.
تعالت ضحكاتها على وصفها لابنه، وتركته يبدد حزنها لسعادة وعشق لا يخص سواه هو!
********
ما أصعب أن يجابه إنسان ماضيه لأجل أن يعيش حاضره، فتلك الروحُ المرهقة رغم السهادِ لم ينطفئ ضوؤها ولم يتزعزع في قلبِها الإيمان ، وربما ما أخذه اللهُ كان لحكمةٍ فقد لا نملك في كثير من الأحيان حريةَ الإختيارِ ونحيا بالحلمِ الوسنان، في تلك اللحظة شعر “عاصي” وكأن روحها تحوم به، تجاهد في نقل غيرتها إليه في تلك اللحظة، فظل بمكتبه طوال تلك المدة التي فشل في تحديدها، وخلع جرفاته حينما شعر بأنها تعيق مجرى تنفسه، فمازال لا يتذكر وعده للوجين بأنه سيحاول منحها الحب والإحترام ووعود شعر بتلك اللحظة بأنها أكبر منه، ربما لإن الماضي مازال يفرض عليه حتى تلك اللحظة، استكان بجسده على المقعد حتى سيطر عليه النوم، فاستسلم إليه، ولم يعد يشعر بشيئًا، فما أن مضى الليل حتى شعر بوخزاتٍ مؤلمة تستهدف جنبه الأيسر، ففتح “عاصي” عينيه بانزعاجٍ، ليتفاجأ بها تجلس على مقعد مقابل إليه، وتلكزه بعصا غليظة للغاية، استقام بجلسته وهو يتساءل بدهشةٍ:
_في أيه؟
ألقت ما في فمها من بقايا التسالي، وهي تجيبه ساخرة:
_مفيش، جيه في بالي شوية قرارات مهمة كده وقولت لازم أبلغك بيها، بس أنت اللي نومك تقيل ومش راضي تصحى أعملك أيه!
عبس بعينيه وهو يحاول الاستيقاظ، فردد بنومٍ:
_قرارات أيه دي؟
عند تلك اللحظة نهضت “لوجين” عن مقعدها، ثم طرقت بالعصا على المكتب فأفزعته:
_أولًا جو كل واحد ينام في أوضة لوحده لحد ما المشاعر تتحرك زي روايات المحن دي متلزمنيش، هي أوضة واحدة هنتشارك فيها واللي عنده ضغينة من التاني يقولها.
ضيق عينيه بذهولٍ، فاسترسلت بحدةٍ:
_ثانيًا بقى وده الأهم مفيش نزول الشركة من غيري وده طبعًا لما تقعدلك هنا أسبوعين تلاته عشان محدش يأكل وشي… ثالثًا بقى آ…
قاطعها حينما لوح بيديه بتعصبٍ:
_حيلك حيلك أنتي داخلة تشتري أرض!
والتقط نفسًا مطولًا ثم زفره على مهلٍ:
_معنديش مشكلة نقعد مع بعض، لكن شغل أيه اللي عايزة تنزليه معايا ده؟
صعدت فوق سطح المكتب لتجيبه باندفاعٍ والأخر يتابعها في صدمةٍ:
_أمال عايزني أسيبك تمشي على حل شعرك ودي تغمزلك ودي تكتبلك رقمها لا مستحيل.
مرر يديه على وجهه بقسوةٍ، ثم قال من بين اصطكاك أسنانه:
_أيه جو الأفلام الهندي اللي أنتي عايشة جواه ده!
وتابع بقرارٍ هام وهو يجذب منها العصا ليلوح بها أمام وجهها:
_وبعدين انتي داخلة من تاني يوم تناقشيني بقرارتك ومعاكي دي أمال بعد كده النقاش هيبقى ازاي، لا وعايزاني أقعد معاكي هنا اسبوعين انتي بتحلمي!
لوت شفتيها في سخطٍ:
_يعني عايزني أصحيك ازاي وانت مقضي ليلتك هنا وكأن في غول مستنيك فوق!
عجز عن كتم ضحكاته وهو يراها بتلك الحالة الجنونية، فاستفزتها ضحكاته وهتفت بانفعالٍ:
_بتضحك على أيه؟
استعاد اتزانه وهو يشير إليها بثباتٍ مخادع:
_مبضحكش، اتفضلي كملي كلامك.
كزت على أسنانها بغيظٍ من طريقته:
_كلامي خلص.
وتركته وغادرت من أمامه ويدها تقبض بقوةٍ على أصابعها، فابتسم رغمًا عنه ليردد بصوتٍ خافت:
_شكل اللي جاي شيء تاني خالص!
********
تعمدت “لوجين” تجاهله، حتى حينما تتناول طعامها، كانت تتناوله بمفردها، وحملت هاتفها ثم خرجت للحديقة تتحدث مع “عائشة” و”إيمان”، عل الفتور الذي يستحوذ عليها يتبدد بحديثها معهن، ولكن لم يزيدها الأمر الا إنها اكتسبت طاقة سلبية جعلتها تطوق لأمرًا جنوني، لذا نهضت عن الأريكة وبحثت عنه والغضب يجعل عينيها خطيرة، وجدته بغرفته يتمدد على الفراش ويغفو بنومٍ مريح، فكزت على أسنانها بغلٍ، ثم اقتربت منه لتصرخ بأعلى صوت تمتلكه:
_عاصـــــــــي.
نهض من محله مفزوعًا، وهو يلتفت جواره، فاهتدت عينيه بها، فقال بضيقٍ:
_في أيه تاني على الصبح!
جلست جواره على الفراش، لتستكمل صياحها المنفعل:
_انت طالع تكمل نوم وعلى بالك الست اللي انت اتجوزتها دي!
كبت ابتسامته للمرة التي تعدت حساباته، فقال بهدوءٍ زائف:
_والمفروض أعمل أيه؟
هزت كتفيها بتشتتٍ:
_معرفش، بس أكيد هنلاقي حاجة نعملها، ممكن نخرج مثلًا، نروح نسهر بأي مكان.
انتباه فكر مجنون، فقال بحزنٍ مصطنع:
_سهر أيه لا أنا ماليش في الجو ده، أنا واحد أربعيني مكتئب أخري أقرأ كتاب أشوف فيلم حلو لكن سهر والكلام ده موعدكيش.
وجذب الغطاء على جسده مجددًا في محاولةٍ لادعاء النوم، كزت على أسنانها بقوة تفوق تلك المرة، فجذبت الغطاء عنه ثم حركته بشراسةٍ:
_يعني أموت جنبك ولا أهبب أيه في السعادي.
قيد حركة يدها التي تكيل له الضربات، وحاصرها لتصبح مقيدة بين ذراعيه، فقرب وجهه منها وهو يهمس بصوتٍ دق ناقوس الخطر:
_وبعدين، هنبتديها عناد وحروب من أولها كده… ده لسه معداش على فرحنا غير كام ساعة!
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ وهي تتطلع لعينيه عن قربٍ، فوجدت بهما هداها، ناده نبضها وعشقها وكل جوارحها بكرةً وعشيا، وفي محرابه كانت تغزل قصائدها المخملية، وقلبها يشتعل شوقًا وحنينًا، مرت نظراته ببطءٍ على معالم وجهها حتى استقرت فوق شفتيها المرتجفة، فلم يستطيع الصمود أمامها، أراد أن يتذوق معسول حاولت اخفائه عنه، ولكنه تمكن من ذلك، فابعدته “لوجين” عنها وهي تهمس على استحياءٍ:
_ابعد..
ونهضت وهي تعيد خصلات شعرها للخلف فقرأ توترها، فشتت نظراته عنها حينما قالت بتصميمٍ:
_هتخرج معايا وهنسهر للصبح وده قرار نهائي. واتجهت لخزانته لتنقي له قميص من اللون الأبيض وبنطال رمادي اللون، ثم وضعتهما على الفراش لتشير إليه بصرامةٍ:
_أنا نص ساعة وهكون جاهزة وتكون أنت كمان لبست.
عقد حاجبيه باستنكارٍ:
_من أمته وانتي بتديني أوامر؟
حملت فستانها واتجهت للحمام وهي تجيبه بغرورٍ:
_من اللحظة اللي بقيت فيها مراتك.
وأغلقت الباب بوجهه، فراق له كلماتها، ثم نهض ليرتدي ما وضعته له، ومازالت كلماتها تهيم به، فانتهى من تصفيف شعره ثم استدار تجاهها وهو يردد بانزعاجٍ مصطنع:
_كده تمام ولا لسه في حاجة تانية.
منحته نظرة شملته، ثم رفع أصابعها وهي تشير له باعجابٍ، ولكن لم يكن ينتبه لما تفعله، فكان صافن بجمالها الذي يطل من خلف فستانها الأبيض الرقيق، لاحظت نظراته تلك فراقبته خلسةٍ وهي تصفف شعرها، وفور أن انتهت اتجهت إليه لتسأله باهتمامٍ:
_أيه رأيك؟
ابتسم وهو يخبرها:
_جميل.
لم يعجبها رأيه المختصر بها، كانت تود أن تستمع مدحه بما يرضي فضولها كأنثى، ولكنها لا تعلم سبب انزعاجه، دنا منها “عاصي” ثم بدأ حديثه معها بمكرٍ:
_انتي كنتي عايزة تنزلي معايا الشركة ليه؟
ردت باقتضابٍ:
_مش قولتلك الصبح!
_معلش مكنتش أخد بالي.
_قولتلك مش هسمح لأي بنت كده ولا كده تبصبص ليك.
ابتسم بخبثٍ وقد وصل لغايته، فقطع المسافة التي تفصلهما حتى بات قريبًا للغاية، فمرر يديه على خصلات شعرها الأسود بلمساتٍ يديه الرقيقة، أغلقت عينيها في محاربة لما يهاجمهما من مشاعرٍ عذرية، ولكنها تفاجأت به يهمس جوار أذنيها:
_وأنا كمان محبش أشوف راجل غريب يبص لمراتي، عشان كده مش هستحمل انك تخرجي معايا كده.
وابتعد عنها ليتأملها بنظرة مهتمة لما سيحدث لها من تعابير معبرة عما يحدث معها، فأغلب النساء تعتقد غيرة الرجل شيئًا رجعي يقيد حريتها، فقد تظن بأنه حينما يفرض رأيه بارتداء الحجاب وملابس محتشمة بأنه يفعل ذلك تشددًا، ولكنه يصون غيرته التي قد تشتعل حينما يرى رجلًا أخر يتطلع لمفاتنها، يريد أن يخصه جمالها ولا أحدًا سواه، لمعت عينيها بدمعةٍ ترقرقت فرحًا لحبه وخوفه عليها، إذًا باتت تعنيه الآن، نعم كانت قد اتخذت القرار مسبقًا بارتداء الحجاب بعد زواجها، ولكن ما أروع أن يختاره هو لها ويخبرها بذلك بطريقةٍ راقية تحمل نبع حنانه وهدوئه، ابتعدت عنه “لوجين” لتتجه لخزانتها ثم عادت إليه مجددًا لتسأله وهي تشير على حجابها الذي ترتديه:
_طب أيه رأيك كده؟
تبسم العشق بوجهه، فمنحها نظرة إعجاب ملأت نقصها تجاه رأيه المتنقص، فاقترب “عاصي” منها ثم طبع قبلة عميقة على جبينها:
_أجمل بكتير…خليكي عارفة ومتأكدة إني أحب أشوفك أجمل واحدة بالكون كله، بس في عيوني أنا مش في عيون حد.
تلون وجهها بلون حبات الفراولة الشهي، فابتعدت عنه ثم اشارت تجاه الباب:
_طب مش يالا بقى.
اتبعها للخارج وهو يرد عليها:
_يالا..
وتحرك بها للمكان الذي اختارته، فكان يطل على مياه النيل، قضى معاها ساعات كان يضحك بها من صمام قلبه، جعلته يخالف مواعيده المنضبطة، فلم يعد يعنيه الوقت كلما يكون معها، يشعر وكأنها تغلبه بعالمها المشاكس الوردي، فتجعله ينغمس معها دون رجعة منه، فكان شغوفًا لسماعها طوال الوقت، حتى وإن كان الأمر تافه لا يزيد حافظته، يرغب فقط بسماعها ورؤيتها تبتسم، فقد أيقن الآن بأن ما كان بداخله منذ البداية هو حبًا فشل بالاعتراف به!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الأربعيني الأعزب)

اترك رد

error: Content is protected !!