روايات

رواية جبر السلسبيل 2 الفصل السابع عشر 17 بقلم نسمة مالك

رواية جبر السلسبيل 2 الفصل السابع عشر 17 بقلم نسمة مالك

رواية جبر السلسبيل 2 البارت السابع عشر

رواية جبر السلسبيل 2 الجزء السابع عشر

جبر السلسبيل 2
جبر السلسبيل 2

رواية جبر السلسبيل 2 الحلقة السابعة عشر

.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
اللهم يا سامع كل شكوى، يا شاهد كل نجوى، يا عالم كل خفية، يا كاشف كل كرب وبلية، يا منجي نوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السلام نجي “سلسبيل” و ولادها بعينك التي لا تغفل و لا تنام، أجبر قلبها و أشفي “عبد الجبار” شفاءًا لا يغادر سقماً يارب العالمين..
تردد “عفاف” هذا الدعاء بلا توقف منذ دخول “سلسبيل” غرفة العمليات المجاورة لغرفة زوجها مباشرةً، بقي الجميع في حالة مزرية حقًا ينتظرون و لو بريق أمل يُزيح هذه الغمة عنهم..
“ماما عفاف.. سلسبيل بتولد إزاي و هي في السابع؟!”..
قالتها “صفا” التي وصلت للتو حاملة حقيبة كبيرة بها كل أغراض “سلسبيل” الخاصة بالولادة..
استقبالتها “عفاف” بضمة حنونة، و أخذت منها الحقيبة و بدأت تجهز ثياب الصغار و هي تقول بصوتٍ متحشرج بالبكاء..
“الحمد لله إني جهزت لها كل حاجة هتحتاجها بدري.. قلبي كان حاسس أنها ممكن تعملها و تولد في أي وقت بسبب الضغط الكبير اللي بتمر بيه.. أدعيلها يا صفا تقوم بالسلامة” ..
ربتت “صفا” على كتفها مغمغمة بيقين..
” إن شاء الله هتقوم بالسلامة هي و النونو يا ماما عفاف اطمني يا حبيبتي”..

 

 

 

” لا متخليهاش تولد يا دادة عفاف.. خليها حامل لو ولدت أمي هتموتها و تموت أخوي و لا أختي اللي هتيچي كيف ما عملت في أبوي “.. صرخت بها” فاطمة” الواقفة بإحدى الأركان محتضنة شقيقاتها و يبكيان بنحيب بصوتٍ مكتوم..
جملتها جعلت الجميع يتطلع ل” خضرا” بأسف ، لتهرول مسرعة تجاه البنتين فاتحة ذراعيها و قد تذكرت وجودهما الآن ..
” فاطمة.. حياة.. متخفوش يا ضناي.. تعالوا في حضني”..
ظهر الذعر على ملامحهما، و فروا مبتعدين عنها اختبؤا خلف ظهر “جابر”، فعلتهما هذه كانت أقسى عقاب بالنسبة لها، أبنتيها خائفتان منها ! تسمرت محلها تطلع لهما بأعين تنهمر منها العبرات حين قالت “حياة” أبنتها الصغيرة..
“عمو چابر متهملناش وياها.. أبوي وصاك على أني و خيتي قبل ما يموت “..
جثي “جابر” على ركبتيه أمامها، و رفع يديه زال دموعهم برفق مردفًا بابتسامة مطمئنة..
“أبوكم مماتش.. أبوكم بإذن الله هيعيش و أنا معاكم أهو مش عايزكم تخافوا و تبطلوا عياط و أدعوا ل بابا و ل سلسبيل كمان يقوموا بالسلامة “..
أتت إحدي الممرضات و تحدثت بعملية قائلة..
“جهزنا جناح لمدام سلسبيل تقدروا تنتظروها فيه على ما تولد”..
نهضت” صفاء” حاملة الحقيبة، اقتربت من الصغيرتان ضمتهما بحنو، و سارت بهما و هي تقول..
“أيه رأيكم تيجوا معايا نستنى النونو سوا في الأوضة “..

 

 

 

تابعتهم” خضرا” بحسرة شديدة على حالها، لتنتفض بهلع حين وجدت باب غرفة العمليات يُفتخ و خرج منه إحدي الأطباء يتحدث بأنفاس لاهثة قائلاً..
“المريض محتاج نقل دم فورًا”..
“أنا معاه قولي أتبرع فين”.. قالها “جابر” بلهفة و هو يفك زرار القميص من حول معصمة، و يرفعه يظهر ذراعه له..
“اتفضل معايا هناخد منك عينة و نحللها الأول”..
أسرعت “صفا” خلفه و هي تقول بستحياء..
“أنا هاجي معاك يا جابر”..
نظر لها” جابر” نظرة جعلت وجنتيها تتورد بحمرة الخجل، ليزيد من خجلها أكثر حين مد يده أمسك كف يدها الصغير بين راحة يده الضخمة ضاغطًا عليها بخفة..
” تعالي “..
سارت بجواره تحاول سحب يدها من يده، لكنه رفض تركها هامسًا بأذنها..
” مش هسيبك.. فاهمة.. أنا مش هسيبك.. ده أنتي وصية أمي يا صفا”..
خفضت رأسها حتى لا يرى ابتسامتها و الدموع التي تجمعت بعينيها تدل على فرحتها بتمسكه بها..
………………….لا إله إلا الله وحده لا شريك له……
“خضرا”..

 

 

 

لم يبق أحدًا غيرها أمام غرفة العمليات، عينيها تذرف الدمع بغزارة، دموع ندم، حسرة، خوف من القادم ..
ضربت بيدها على رأسها مرددة ببكاء كاد أن يقطع أنفاسها..
“اااه يا أخوي.. يارب لاچل حبيبك النبي تقلبه مقلب سلامة لخاطر البنته الصغار”..
كفت عن البكاء حين رأت الطبيب المشرف على حالة “بخيتة” يقترب منها بوجهه لا يُبشر بالخير..
“خير يا دكتور.. أمه حُصلها حاچة..
أجابها الطبيب بأسف قائلاً..
” واضح إن المريضة اتعرضت لصدمة شديدة جدًا أدت لشلل رباعي و حالتها للأسف مش مستقرة.. أدعيلها “..
لطمت” خضرا “وجنتيها بعنف مرددة بنواح..
” يا مرك يا خضرا.. يا وچع الجلب اللي ملوش علاچ و لا دوا”..
…………………………………. سبحان الله وبحمده ….
.. داخل غرفة العمليات..
صدمة شلت الجميع حين توقف قلب “عبد الجبار” عن النبض رغم النجاح الكبير للعملية التي قام بها “أيوب” ببراعة و إتقان شديد،
هرول مسرعًا نحو الجهاز الخاص بإنعاش القلب، و صعقه به مرات متتالية، يكرر المحاولة مرارًا و تكرارًا دون يأس و هو يقول بغضب عارم..

 

 

 

“رافض الحيااااة لييييييييييييه”..
على الجانب الأخر بالغرفة التي تلد بها “سلسبيل” كانت الفرحة تعم المكان حين قالت الطبيبة التي تولدها بسعادة بالغة..
“ولدين.. جالك ولدين زي القمر يا سلسبيل”..
كان صوت بكاء الصغيران يجعل القلوب تتراقص فرحًا، فرحة غامرة تدمع لها العين إلى أن توقف أحدهما فجأة عن البكاء، و تباطأت أنفاسه و حتي نبضات قلبه..
ظهر الذعر على وجهه الطبيب المشرف على حالة الصغيران، و أسرع بإنقاذ الصغير بشتى الطرق أمام نظرات”سلسبيل ” الزائغة، لكن في خلال لحظات فقط قد نفذ أمر الله و توقف نبض الصغير تزامنًا مع عودة النبض لقلب والده،
حينها شعر قلبها بفقدان إحدي صغارها فهبطت عبراتها ببطء على وجنتيها، أبتسمت إبتسامة يملؤها الرضى مرددة بصوتٍ ضعيف مرتجف ..
“إبني فدى أبوه.. عبد الجبار هيعيش.. إبني فداه”..
حمل الطبيب الرضيع على يده ، و ركض به مهرولاً عبر الباب الداخلي المؤدي للغرفة المتواجد بها دكتور “أيوب”، و تحدث بأنفاس متلاحقة قائلاً..
“دكتور أيوب.. قلب الطفل وقف فجأة “.
كان “أيوب” أنتهي للتو من إنقاذ “عبد الجبار “، ليطلق صرخة مغتاظة، و هو يلتقط الرضيع و وضعه على كتف والده العاري مرددًا بغضب مصطنع و هو يقوم بإنعاش قلبه بمهارة و دقة عالية..

 

 

 

“الواد و أبوه دول حد مصلطهم عليا انهاردة و لا أيه؟!!!”..
ليصل إلى سمعه صوت بكاء شقيقه التوأم، فتابع بتساؤل مستفسرًا..
” هما توأم؟!”..
“أيوه يا دكتور توأم.. مولودين قيصري.. و الولادة تمت قبل معادها في الشهر السابع”..
لم يتوقف “أيوب” عن محاولة إنقاذ الرضيع و هو يقول..
” هات أخوه بسررررعة”..
ركض الطبيب و اندفع نحو الرضيع الباكي، حمله على الفور و هرول مسرعًا أمام أعين “سلسبيل ” التي تتابع ما يحدث بقلبها قبل عينيها..
لحظات مرت من أصعب اللحظات، حبس الجميع أنفاسهم و هم يتابعون محاولات” أيوب” المستميته لإنقاذ الرضيع، قام بوضع شقيقه بجواره داخل حضن والدهما الذي بدأ في إستعادة وعيه رويدًا.. رويدًا..

 

 

هبطت دموع “سلسبيل” بغزارة على وجنتيها متمتمة بهمس ضعيف بنبرة متوسلة..
“يارب.. أجبر قلبي يا جبار.. يارب متوجعش قلبي على ضنايا و لا على أبوه.. يارب أنا ملحقتش أخده في حضني”..
و ها قد حان وقت الجبر.. جبر السلسبيل الذي أثلج قلبها حين وصل لسمعها صوت بكاء الصغيريان معًا من جديد، يليه صوت تكبير من جميع الحاضرين الذين بكوا من شدة تأثيرهم عندما خر” أيوب ” أرضًا ساجدًا..
لتجهش” سلسبيل ” في البكاء و الضحك في آنٍ واحد حين استمعت بقلبها أسمها من بين شفتي “عبد الجبار” يقول دون أن يفتح عينيه و هو يضم صغاره بجسده بحماية دون إرادة منه ..
“س سلسبيل.. “..
تأوهت “سلسبيل” بصوتها كله مرددة بفرحة غامرة..
“آآآآه يا عبد الجبار… يا جبر السلسبيل “..

 

 

في أوقات غضبنا نجتهد حتى نجرح غيرنا، لكن بعد فوات الأوان ندرك أننا لم نجرح سوي أنفسنا، نحن مخلوقين من ماء و طين، لو زادت الماء نبقي نهر، و لو ذات الطين نبقي حجر، لا شيء يدوم للأبد في هذا العالم و لا حتى مشاكلنا،
الحياة مجرد رحلة تحتاج منا الكثير من الرفق، التسامح، تجاهل الأخطاء لذلك عش اليوم فالغد قد يكون أو لا يكون..
“صورة تاريخية”..
ألتقطها “جابر” بهاتفه لحظة خروج “عبد الجبار” برفقة صغاره من غرفة العمليات بعد مكوثه داخل غرفة الآفاقة حتى إستعداد وعيه، الصغيران نائمان فوق كتف والدهما الذي مازال بين الوعي و اللاوعي، لكنه يضمهما بذراعيه المعلقان بهما الكثير من الأسلاك الطبية بهيئة تخطف القلب و تدمع لها العين..
“حمد لله على السلامة يا أبو الجبابرة.. يتربوا في عزك يا غالي “.. قالها “جابر” بمزاح أثناء تصويره مقطع فيديو له معاهم، مال عليه أثناء سيره بجوار السرير النقال مكملاً..
“الحمد لله ربنا قومك بالسلامة كلنا نبارك ل عبد الجبار باشا المنياوي على الولادة و نقوله يتربوا في عزك و ربنا يتم نفاسك على خير إن شاء الله “..
” أفوقلك بس و هخبرك زين مين اللي بيولد”..
قالها “عبد الجبار” بوعيد بصوتٍ مُتعب للغاية و بلهفة تابع..
“سلسبيل.. بناتي.. أمي”..
“إحنا أهو يا أبوي”..نطقت بها” فاطمة” ابنته الباكية و هي تهرول بخطواتها نحوه و خلفها شقيقتها..
نظر لهما” عبد الجبار ” بأعين شبه مغلقة، و أبتسم ابتسامته المطمئنة قبل أن يختفي لداخل غرفة العناية المركزة..
كانت “خضرا” تقف على مسافة منه، تتابعه بعينيها الغارقة بالدموع، غير قادرة على الأقتراب منه أو حتى من بناتها اللتان يصرخان بذعر حقيقي و يختبأن كلما وقعت عينيهم عليها..

 

 

 

فور دخول” عبد الجبار” العناية حملت إحدي الممرضات الصغيران مردفة بعملية..
” الأطفال لازم يدخلوا الحضانة عشان الدكتور يعملهم فحص شامل”..
همس “عبد الجبار” بقلق و عينيه تتابع صغاره قائلاً..
“أمهم.. طمنيني على أمهم؟ “..
أجابته الممرضة و هي تضع الصغيران على سرير نقال خاص بهما و تغادر الغرفة على الفور.. ” أطمن الأم كويسة جدًا”..
“حمد لله على السلامة.. خضتنا عليك يا راجل”..
أردف بها” أيوب ” الذي دلف للتو و بدأ يقراء نتائج الأجهزة التي تم توصيلها بصدر و يد “عبد الجبار “..
تنهد” عبد الجبار” تنهيده حزينة و هو يقول.. ” الله يسلمك يا دكتور.. هخرج أمتي من أهنه؟ “..
رفع” أيوب ” حاجبيه معًا، و تطلع له مشدوهًا مغمغمًا..
” تخرج أمتي أيه !!.. أنت ربنا نجاك من طلقة كان بينها و بين القلب واحد سم ، و خرجت برحمة ربنا و رأفته بمراتك اللي كانت عايزه تتبرع لك بقلبها و ولدت قبل معادها من خوفها و قلقها عليك”..
” عشانها و عشان ولادي لازم أخرج من أهنه”..
قالها “عبد الجبار” و هو يكافح بضراوة حتى ينهض من مضجعه، ليوقفه” أيوب ” مسرعًا و هو يقول بتحذير..
” أهدي يا عبد الجبار.. أنت كده بتعرض نفسك للخطر”..
أنهى جملته و قام بإعطاءه حقنه مهدئه، أغمض” عبد الجبار” عينيه المجهدة، و بدأ يهذي بقلبٍ ملتاع..
“سلسبيل..مراتي .. لازم أكون چارها”..
ربت “أيوب” على كف يده المنغرس بها حقن معلق بها محاليل طبية و كيس من الدماء، و تحدث بهدوءه المعتاد قائلاً..
“مراتك كويسة و خرجت من العمليات متقلقش.. و أول ما مفعول البينج يروح هتجيلك هنا تطمنك عليها بنفسها”..
…………………………. سبحان الله وبحمده………….

 

 

مّرت عدة ساعات، هدأ روع الجميع قليلاً باستقرار الأوضاع في الوقت الحالي، ف غادر “جابر” المستشفى برفقة “صفا” و معاهم بنات “عبد الجبار”،و ظلت” خضرا “تجلس بمفردها أمام غرفة العناية المتواجد بها زوجها،رغم أن الطبيب المشرف سمح لها بدخول و الاطمئنان عليه لكنها لم تقوى على مواجهته، فضلت الإنتظار لعله يطلب رؤيتها هو..
بينما بقت “عفاف” مع “سلسبيل ” التي فور شعورها بأطرافها قالت بفرحة غامرة ..
” أنا حاسة برجلي يا ماما عفاف.. ساعديني أقوم.. عايزة أروح أطمن على عبد الجبار و أشوف ولادي في الحضانة”..
هرولت “عفاف” نحوها مرددة بتعقل..
“أستنى لما أنادي الدكتورة تطمني عليكي الأول يا سلسبيل “..
تعلقت” سلسبيل” بذراعها و نهضت بصعوبة شديدة و هي تقول بأنفاس متهدجة..
“لا.. مش هقدر أستني أكتر من كده.. أنا هتجنن و أطمن عليهم يا ماما.. ولادي و أبوهم واخدين قلبي معاهم”..
ساعدتها “عفاف” بخلع رداء المستشفى، و البستها منامة وردية و من فوقها روب طويل من اللون الأسود أحكمت أغلاقه و رفعت الكاب الخاص به على شعرها، أخذت “سلسبيل “نفس عميق قبل أن تغادر الفراش بوهن و ضعف، تحملت على نفسها، و كتمت آهه متألمة حين أنتصبت واقفه..
استندت بيد على “عفاف” التي قالت بحنو..
“حاولي تفردي ضهرك يا بنتي”..
لم تنطق” سلسبيل” بحرف واحد، قطعت الحديث تمامًا من قوة الألم الذي يفتك بها، لكنها تحملته، و مدت يدها الأخرى استندت على المشجب المعلق به المحلول المتصل بكف يدها، و بدأت أول خطواتها تجر قدميها جرًا على الأرض لا تقوى حتى على رفعها..
” عايزين نروح الحضانة لو سمحتي”..
قالتها” عفاف” فور خروجهما من الجناح، لتقبض “سلسبيل” على يدها بأصابعها الباردة، و تحرك رأسها بالنفي مرددة بصوتٍ بالكاد يُسمع..

 

 

“عبد الجبار.. وديني عنده الأول”..
ظهر الضيق على وجهه “عفاف” و تحدثت بأسف قائلة..
“خضرا هتلاقيها عنده هناك يا سلسبيل و بصراحة أنا خايفة عليكي منها وأنتي لسه والدة و تعبانة كده لتعمل فيكي حاجة.. إحنا مش ناقصين يا بنتي”..
هبطت دموع”سلسبيل” على وجنتيها و هي تقول بنبرة راجية..
“عشان خاطري.. عشان خاطري يا ماما وديني عنده”..
حركت “عفاف” رأسها بيأس، و رفعت يدها مسحت دموعها..
” أمري لله.. حاضر هوديكي عنده تعالي نركب الاسانسير لأن هو في تاني دور و إحنا هنا في السابع”..
سارت بخطواتها البطيئة معاها حتى وقفت بها “عفاف” أمام باب الاسانسير ينتظران صعوده، فُتح الباب ليجدوا”جابر” امامهما يقول بقلق و هو يقترب من “سلسبيل” بلهفة ..
“أيه ده رايحين فين؟!”
أجابته” عفاف” قائلة..
” مصرة تطمن على عبد الجبار بيه “..
تطلع لها” جابر “بنظرة عاتبة، و فجأها بلف يده حول خصرها ضمها كلها داخل صدره و هو يقول بغضب ..
“مش أنا طمنتك عليه و وريتك الفيديو اللي صورته له عشان أزل أنفاسه بيه..عجبك يعني و أنتي مش قادرة تقفي كده يا سلسبيل!! “..
لم تستطيع الرد عليه، و لا حتى الإبتعاد عنه، بل أن تعبها الشديد أرغمها بألقاء جسدها عليه..
رمقته “عفاف” بنظرة ذات مخزي مدمدمة..

 

 

“امممم.. كويس إنك روحت صفا و جيت تاني عشان تقولها.. أصلي مش قادره امنعها لوحدي”..
تهرب” جابر ” بعينيه من أعين” عفاف” التي ترمقة بنظرة يملؤها الأسف، ف عشقه ل “سلسبيل” مازال محفور بقلبه، و ظهر على قسماته حين ضمها لصدره بلهفة هكذا..
“لا.. وديني عنده عشان خاطري يا جابر”..
همست بها” سلسبيل ” منعته بالعودة بها تجاه غرفتها مرة ثانية، نفذ طلبها على مضض، و دلف بها لداخل الاسانسير خلفهما “عفاف” و هو محاوطها بذراعها حتى أصبحت قدميها لا تلمس الأرض..
توقف بهما الاسانسير في الطابق المقصود، و فور فتح الباب وجدوا” خضرا ” تنهض من علي مقعدها، و تطلع نحوهم بأعين متسعة، متعجبة من وضع “سلسبيل” المستندة على “جابر”، حاولت “سلسبيل” الإبتعاد عن “جابر” و قد شعرت بالإحراج، إلا أنه أبي أن يتركها..
“مش هسيبك يا سلسبيل.. أنا لو سبتك هتقعي و ده مش هيحصل.. مافيش أي حاجة و لا أي حد يقدر يوقعك تاني طول ما أنا في ضهرك”..

 

 

كان يتحدث بصوتٍ عالِ متعمد أن يصل لسمع “خضرا”، سارت” سلسبيل” برفقته حتى وصلت أمام باب العناية المغلق فطرق “جابر” عليه بقبضة يده..
بينما بقت” خضرا “واقفة مكانها، تتابعهم بصمت..
خرج إحدي الأطباء المشرفين على العناية، و تحدث بعملية قائلاً..
” خير يا فندم”..
“المدام عايزه تطمن على عبد الجبار بيه”..
قالها “جابر “بصوته الأجش، ليبتسم الطبيب و يشير على “سلسبيل” و هو يقول بثقة..
“أكيد حضرتك مدام سلسبيل؟ “..
حركت “سلسبيل” رأسها بالايجاب، ليتابع الطبيب بابتسامة أكثر اتساعًا..
“عبد الجبار بيه مبطلش سؤال عنك و لو كنتي اتأخرتي أكتر من كده كان هيجيلك هو”..
سار من أمامهم تجاه غرفة أخرى مغلقة و فتحها مكملاً..
“اتفضلي أدخلي هنا و هبعتلك ممرضة تعقمك الأول “..
نظرت “سلسبيل “تجاه” خضرا” و همست بابتسامة متألمة ..
“تعالي يا أبلة خضرا.. هندخله سوا “..

 

 

مرحبًا..
أنا “سلسبيل” أتذكروني ؟! ..
تلك الأنثى الضعيفة، المنكسرة التي تزوجت بالإجبار لتنجو بحياتها من ظلم والدها ، لكن دعوني أعترف لكم بشيئًا سيبدو مريبًا لكم جميعًا، عفوًا لا يوجد أنثى ضعيفة على وجه الأرض! ، ضعفنا هذا ستار نخفي خلفه ما نريد الحصول عليه، لذلك ذُكر كيدنا بالقرآن الكريم.
أعترف الآن أن ضميري يأنبني منذ أن أصبحت زوجة ثانية لرجل كانت حياته هادئة مكتفي بزوجته و أبنتيه حتى ألتقي بعيناي التي تعمدت رمقه بنظرة ثاقبة أصابت قلبه في الحال، نظرة كنت أستجديه بها أن لا يتركني، أنا من سعيت لزواجي منه فور رؤيته،
لو كنت طلبت منه المساعدة فقط و أظهرت عدم تقبلي له من بادئ الأمر، كان ساعدني و أبعدني عن والدي و عنه هو أيضًا، لكن أنا من فتحت له طريقًا سهل نحو قلبي، طمعت في قلبه فأوقعته بشباكي و أغرقته في بحر عشقي بكامل أرادته،
فقد كنت على دراية كاملة بحسن أخلاقه و معاملته لزوجته التي جعلتها ملكة متوجة، لن أنكر إني تمنيته لنفسي، يكن رجلي أنا الذي طالما حلمت به ، و قد كان حصلت عليه و استحوذت على قلبه و نزعت عن زوجته تاجها و أخذته لنفسي، دمرت بوجودي قلبها و أظهرت أسوء ما فيها..
و ها أنا أقف على عتبة الغرفة التي يرقد بداخلها بعد أن نجي من الموت بأعجوبة ، يمزقني شعوري بالندم و الألم على ما فعلته به و بعائلته الصغيرة ، أنا الزوجة الثانية لكني الجانية الأولى فإذا كان هناك أحدًا مذنب في حكايتي هذه، فهي أنا تلك المذنبة التى أغرمت برجل رأت مدى عشق زوجته له و مع ذلك لم ترحم لوعة قلبها و سرقته منها..
تمنيت الجبر لقلبي لكني لم انتبه أن جبري هذا سيكون على حطام قلب زوجته الأولى، لوهلة تخيلت نفسي مكانها، أرى زوجي يذوب عشقًا بامرأة غيري أمام عيناي، لن أتردد لحظة و لن يقدر أحد على منعي من تمزيقها و تمزيقه معًا بأسناني أربًا..

 

 

 

كل ما فعلته “خضرا” لن يكن شيء أبدًا أمام ما أنوي على فعله إذا كنت أنا مكانها!!
مجرد التخيل فقط أن زوجي بحضن إمرأة غيري جعلني اتهيأ لأخذ عزاه بابتسامة واسعة بعدما أنهى حياته بيدي، صدق من قال هذا المثل المرأة ترى زوجها بقبره و لا تراه مع إمرأة غيرها حقًا صدق،
نصحيتي لكل من قرأ حكايتي إياكِ أن تقربي من رجل متزوج، إياكِ ثم إياكِ أن تدمري قلب إمرأة مثلك فسوف يأتيكِ عقاب قاسي من الممكن أن يمزق قلبك و روحك لأشلاء مثلي تمامًا الآن ..
“مش هتدخلي معايا ليه يا أبلة خضرا؟!”..
أردفت بها “سلسبيل” بتساؤل حين رأت “خضرا” توقفت قبل عتبة باب الغرفة و تراجعت للخلف خطوتين..
ابتلعت “خضرا” رمقها بصعوبة و هي تقول بصوتٍ متحشرج بالبكاء..
“خليني أنا أهنه..هو مطلبش شوفتي.. لو طلبني هدخله”..
أبتسمت لها”سلسبيل ” إبتسامة باهتة،و أخذت نفس عميق قبل أن تسير بخطواتها البطيئة مستندة على إحدي الممرضات بيد، و يدها الأخرى تضعها أسفل بطنها مكان جرح ولادتها القيصرية..
خفق قلبها بشدة كلما اقتربت من الفراش الممد عليه زوجها، انهمرت دموعها على وجنتيها بغزارة ، تعالت وتيرة أنفاسها أصبحت على هيئة شهقات عالية متقطعة، فجرحها جعلها لا تقوى على البكاء إلا بتلك الطريقة، حتى وصلت لسمعه فنتفض متأوهًا في مضجعه مرددًا بلهفة..
“سلسبيل.. يا حبة جلبي”..
عاشق و مُغرم هو بها و ليس على العاشق لوم..

 

 

 

أخيرًا قطعت المسافة الفاصلة بينها و بينه، ساعدتها الممرضة على الجلوس على مقعد بجوار سريره، لترتمي عليه بحذر شديد تقبل وجهه قبلات حارة متفرقة، و دموعها تنهمر على بشرته حتى اختلطت بدموعه هو ..
“عبد الجبار.. يا حبيبي.. أنا السبب في كل اللي حصلك..ياريتك سبتني لأبويا يموتني.. يا ريتك ما اتجوزتني.. يا ريت قلبك ما حبني.. ياريتني مت قبل ما تشوفني مكنش كل ده حصلك”..
اسكتها هو بفمه الذي التقط شفتيها بين شفتيه يقبلها بلهفة قبله عميقة غير عابئ لوجود الممرضة التي انسحبت للخارج على الفور بحرج تترك لهما بعد الخصوصية ، ابتعد عنها على مضض، و تحدث بنبرة صوته الذي يدغدغ مشاعرها قائلاً بمنتهي العشق..
“بعيد الشر عنك يا حبة الجلب.. فداكي يا سلسبيل.. أني فداكي و لو رچع بيا الزمن من التاني مكنتش ههملك واصل”..
صمت لبرهةً يلتقط أنفاسه، و تابع بصوتٍ اختنق ببكاء مخيف جعل “سلسبيل” تبكي لبكاءه حين قال بقلبٍ ملتاع أرهقه الفراق..
“خوفت أموت وأنتى مش على ذمتي عشان أكده رديتك لعصمتي.. بس رايدك برضاكي.. برضاكي يا سلسبيل “…
قبلت عينيه ببطء كأنها تتذوق دموعه..

 

 

 

” بحبك.. بحبك يا أبو ولادى.. بحبك يا عبد الجبار و عارفة أني أنانية في حبك بس مش هقدر أبطل أحبك.. والله ما هقدر” ..
أبتسم لها ابتسامته التي تُذيب قلبها العاشق له مغمغمًا..
” قولتهالك قبل سابق و هقولهالك تاني “..
نظر لعينيها نظرته المُتيمة التي تأثرها مكملاً..
“كأنك مولودة في جلبي يا بت جلبي يا أم سند و جبر”..
ضحكت بفرحة غامرة وهي تقول..
” الله.. سند عبد الجبار و جبر عبد الجبار.. أيه الأسامي الحلوة.. عجبوني أوي يا أبو جبر “..
تأمل ملامحها بافتنان و بهمس قال..
” أنتي جبر جلب عبد الجبار يا سلسبيل..مع إنك كيف حب الرمان معرفش أتلم عليكي بتفرطي من يدي فرط.. بس خلاص من انهاردة مهتغبيش عن عيني واصل”..
ظهر الحزن على ملامح” سلسبيل ” أخفي فرحتها و همست بتساؤل و خجل قائلة..
” طيب و أبلة خضرا يا عبد الجبار.. هتعمل معاها أيه؟! “..

 

 

بعد وقت ليس بقليل، وقتٍ كان كافي ليتعافي فيه الجميع من جروح أجسادهم، بينما جروح قلوبهم لم تشفي بعد..
اليوم مّر أربعين يوم على ولادة “سلسبيل”، غادرت المستشفى بعد أسبوع برفقة صغارها، أنتقلت بهم إلى منزلها في الإسكندرية بأمر من زوجها “عبد الجبار” رغم أعتراضها و إصرارها الشديد على البقاء بجانبه، إلا أنها انصاعت لحديثه بالأخير.
بينما هو مكث شهر كاملاً بالمستشفى حتى استعاد صحته من جديد، خرج برفقة والدته التي فقدت قدرتها على الحركة و الحديث تمامًا، أصبحت لا تقوى على فعل أي شيء سوي تحريك أهدابها فقط.
خلال تلك المدة ظلت “عفاف” برفقة بنات “عبد الجبار” بمنزلهم الجديد بالإسكندرية المجاور لمنزل “سلسبيل” ، بينما عادت “خضرا” لأهلها في الصعيد بعد إدراكها أن وجودها غير مرغوب من الجميع .
فور خروج “عبد الجبار” أنتقلت “عفاف” على الفور عائدة إلى “سلسبيل”، و ظل هو برفقة ابنتيه و والدته يقوم بخدمتهم بنفسه يحاول قدر المستطاع إحتواء أبنتيه، و تفهم حالتهما النفسية السيئة للغاية بسبب ما مّروا به،
عشرة أيام منذ خروجه من المستشفى و “سلسبيل” تنتظر مجيئه إليها، يرى صغاره يوميًا و يطمئن عليهما ولكنه لم يخطو لمنزلها حتى الآن، و هي تحلت بالصبر تقديراً لحالة والدته و أبنتيه..
تقف كل ليلة في شرفة غرفتها تطلع على باب المنزل الخارجي تنتظر طلته على أحر من الجمر، على يقين أنه سيأتي إليها و هي ستظل دائمًا فى إنتظاره خاصةً الليلة سيأتي لا محالة فاليوم فرح “جابر” و بالتأكيد لن يتركها تذهب بمفردها ..
“سلسبيل أنتي لسه وقفة مكانك.. ملبستيش؟!”..
أردفت بها “عفاف” التي دخلت للتو حاملة الصغيران على كلتا يدها..
تنهدت “سلسبيل” بحزن و هي تقول..
“مستنية عبد الجبار يا ماما.. هو أكيد هيجي عشان نروح الفرح سوا”..
أشارت بعينيها على الفراش الموضوع عليه بدلة سوداء كاملة و فستان في غاية الجمال و الرقي من اللون الكاشمير بلون رابطة عنق البدلة..

 

 

 

“أنا جهزت له البدلة و مستنياه عشان ألبسه بأيدي”..
ظهر الأسف على وجهه” عفاف” و هي تقول..
” سلسبيل يا حبيبتي ألبسي يله على ما أبلغ السواق يجهز عشان يوصلك لأن عبد الجبار بيه مش هيجي”..
تطلعت لها “سلسبيل” بتساؤل تحثها على استكمال حديثها، فتابعت “عفاف” قائلة..
” لأنه راح الصعيد يجيب خضرا “..
انتفض قلب “سلسبيل” انتفاضة قوية، و تجمعت العبرات بعينيها و هي تقول بهمس متحشرج بالبكاء..
” هو قالك أنه رايح يجيبها يا ماما عفاف؟!”..
“اه يا حبيبتي قالى البنات محتاجين أمهم رغم زعلهم منها.. بالذات فاطمة بنته الكبيرة تعبت إمبارح و بقت تعيط من كتر التعب و هو بقي هيتجنن و يسألها أيه اللي تعبها تعيط و مش راضية ترد على سؤاله و كل اللي عليها تقول عايزة أمي..جبلها دكتورة و كشفت عليها لقيتها تعبانة من البيريوت.. اتريها بلغت و مكسوفة تقول لأبوها و حتي مكسوفة مني أنا كمان.. وقتها قرر أنه هيسافر يجيب أمهم و فعلاً مشي قبل ما الشمس تطلع”..
هبطت دموع” سلسبيل ” على وجنتيها ببطء مرددة..
” و تفتكري هي هتوافق ترجع معاه بعد اللي حصلها؟! “..
أطبقت جفنيها وهي تتذكر أخر لقاء جمعها ب” خضرا”..
.. فلاش باااااااااااك..
تجلس على الفراش ضامة صغارها بين ذراعيها بحنان العالم أجمع،غالقة عينيها التي تنهمر منها العبرات بدون أدنى إرادة منها بسبب قوة المشاعر الجياشة التي تعيشها، تستنشق عبيرهما بلهفة و فرحة غامرة لم تشعر بها من قبل تغلف قلبها و روحها ..

 

 

 

بينما تقف “صفا” بجوارها “عفاف” محتضنة “فاطمة، حياة” يتابعونها بابتسامة و أعين دامعة من شدة تأثرهم..
كانت منفصلة عن الدنيا معاهما حتى أستمعت صوت طرقات ضعيفة على باب الغرفة، فتحت عينيها بصدمة حين قالت “فاطمة” بصوتٍ هامس مذعور..
“محدش يفتح دي أكيد أمه خضرا”..
نظرت “عفاف” ل “سلسبيل ” نظرة أسف يملؤها الشفقة فتفهمت “سلسبيل” علي الفور ما يدور حولها، و سبب الذعر الظاهر على ملامح الفتاتين..
ربتت “عفاف” على ظهرهما مرددة بنبرتها الحنونة..
“متخفوش يا حبايبي” ..
فتحت “صفا” الباب، فدلفت منه” خضرا ” بخطي بطيئة، تدور في المكان بعينيها الزائغة تبحث عن بناتها، لترمقها “عفاف” نظرة عاتبة مكملة بثقة..
“مامتكم عمرها ما هتأذيكم تاني أبدًا “..
ليجهشان بنوبة بكاء حاد و هما يدفنان وجهها داخل حضن “عفاف” و يرتجفان بقوة مما دفعها لسحبهما سريعًا تجاه غرفة أخرى داخل الجناح،تابعتهما “خضرا” بقلب ينفطر على حالتهما التي تشق القلوب،عقابها هذا أقوى و أقسى عقاب يمكن أن تتعرض له أي أم، توجهت بنظرها ل “سلسبيل” التي تبادلها النظرة بأخرى مترقبة..
ساد الصمت للحظات حتى قطعته “صفا” و سارت تجاه الغرفة المتواجدة بها “عفاف”..
“طيب أنا جنبك هنا يا سلسبيل..لو احتاجتي أي حاجة أهمسي بس هتلاقيني قدامك”..
“مبروك ما جالك يا خيتي.. يتربوا بحسك و في عز أبوهم إن شاء الله “..
أردفت بها “خضرا” بابتسامة باهتة، و هي تحاول السيطرة على عبراتها التي أغرقت وجنتيها، و استدارت على الفور تستعد للخروج..

 

 

” أستنى يا أبلة خضرا”.. قالتها” سلسبيل ” بصوتٍ مختنق بالبكاء، نظرت لها “خضرا ” مرة ثانية، لتحسها” سلسبيل ” على الأقتراب منها، و هي تمد لها الصغيران، تفاجأت من فعلتها هذه لكنها هرولت تجاهها بسعادة بالغة ظهرت على ملامحها الحزينة، و التقطت منها الصغيران معًا لصغر حجمهما تضمهما بلهفة لصدرها، و انفجرت بنوبة بكاء مرير حين قالت لها “سلسبيل” بابتسامة دافئة رغم الدموع العالقة بأهدابها..
“قولتيلي إن عبد الجبار فداكي بروحه و خد الرصاصة مكانك، و أنا واثقة إنك هتفدي ولاده بروحك و هيبقوا ولادك أنتي كمان زي ما فاطمة و حياة بعتبرهم بناتي”..
كانت “خضرا” تضم الصغيران و تقبلهما بحنان بالغ و هي تبكي بكاء يُبكي الحجر لعلمها أن صوتها سيصل لابنتيها، تعبر لهما ببكائها هذا عن مدى ندمها على خطأها في حقهما..
لتتوقف فجأة عن البكاء، و تنقلت بنظرها بين”سلسبيل ” و الصغيران بأعين متسعة على آخرها و هي تقول..
” سلسبيل”..
بعدت الصغيران بضعة أنشات عن صدرها و تابعت بذهول..
“صدري حن.. صدري حن لهم يا خيتي”..
كانت تتابعهما “عفاف” بنظرات مشتعلة بالغضب، لكنها بقت صامتة إلى أن تفوهت “خضرا” بجملتها الأخيرة، فهرولت مسرعة تجاههم و قامت بأخذ الصغيران من “خضرا” مغمغمًا بلهجة حادة..
“مش هينفع يا مدام خضرا.. عبد الجبار بيه كان عارف إن ده هيحصل و ده اللي سلسبيل هتعمل و اللي انتي كمان هتعمليه عشان كده أكد عليا محدش ليه علاقة بالولاد غير أمهم و بس.. و قالي أبلغكم كل واحدة تخليها في نفسها و في عيالها و ملهاش دعوة بالتانية نهائي”..
“عيالي!! و هما فين عيالي؟! “.. غمغمت بها” خضرا ” بغصة يملؤها الآسي، و هي تطلع نحو بناتها المختبئتان منها داخل حضن” صفا “، شعرت أنها منبوذة من الجميع، و أولهم أبو بناتها الذي لم يطلب رؤيتها حتى الآن..
” أنتي عملتي الواجب و باركتي لسلسبيل تقدري تتفضلي دلوقتي من غير مطرود”..
قالتها” عفاف” و هي تضع الصغيران من يدها داخل حضن والدتهما التي تطلع لها مشدوهة من طريقة حديثها الجديدة مع “خضرا”، لتزفر “عفاف” بضيق مرددة..
“دي أوامر عبد الجبار بيه مش كلامي أنا يا سلسبيل”..
تنقلت” خضرا “بعينيها بين الجميع، و من ثم غادرت بصمت دون التفوه بكلمة واحدة، لم تغادر الغرفة فقط، بل غادرت المستشفى بأكملها عائدة للصعيد مسقط رأسها.
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..

 

 

فاقت “سلسبيل” من شرودها على صوت” عفاف” تتحدث بحنو قائلة..
” متشغليش بالك بغيرك يا سلسبيل.. اعملى زي ما جوزك قالك فكري في نفسك و في ولادك دول اللي أهم حاجة عندك دلوقتي.. و يله يا بنتي البسي عشان الوقت بيجري و أنتي لسه هتروحي المنصورة و ترجعي”..
تحركت “سلسبيل” من مكانها على مضض، اقتربت من” عفاف” و قبلت صغارها مرات متتالية مدمدمة بحيرة..
” مش هاين عليا أسيبكم هنا.. عايزة اخدكم معايا و نرجع سوا”..
قالت” عفاف” بتعقل..
“المشوار هيبقي طويل على الولاد.. أنا هقعد بيهم هنا أفضل على ما تروحي أنتي و ترجعي”..
بدأت” سلسبيل” تبدل ثيابها خلف الزجاج العاتم لغرفة الملابس الخاصة بها مردفة بغصة مريرة..
” عارفة يا دادة أنا كنت بقول لنفسي لو رجع بيا الزمن مكنتش وافقت أبدًا أكون زوجة تانية.. و رغم أن جوازي من عبد الجبار كان هو الوسيلة الوحيدة اللي هتنجيني من أبويا إلا أني لو كنت استنيت شوية كنت قابلت جابر و ساعتها يمكن مكنتش اتجوزت عبد الجبار ولا كل اللي عشته ده حصل”..
ردت عليها ” عفاف ” بثقة قائلة.. ” حتى لو كنتي قابلتي جابر قبل ما تتجوزي عبد الجبار مكنتيش هتتجوزيه يا سلسبيل “..
خرجت” سلسبيل ” مرتدية فستانها الأكثر من رائع،و نظرت لها بابتسامة خجولة مردفة..
” ليه بتقولي كده؟ “..
” عشان أنتي وقعتي في حب عبد الجبار و قلبك اتعلق بيه و اختاره هو و الحب ملوش كبير و لا على القلب سلطان “..
” عندك حق يا ماما.. أنا مش بس حبيت عبد الجبار.. أنا عشقته و أختارته هو يبقي أبو ولادي لأنه في عيني أعظم أب و زوج في الدنيا”..
…………………… لا إله إلا الله……….

 

 

“عبد الجبار “..
يقف أمام” خضرا ” مصدومًا من هيئتها التي تغيرت للنقيض تمامًا، فقدت الكثير من الوزن في وقتٍ قياسي و هذا إن دل على شيء فيدل على شدة حزنها الذي يظهر بوضوح على ملامح وجهها المنطفئة،
تطلع له بأعين جاحظة، نظراتها زائغة وقد ظنت أنها تتوهم وجوده كعادتها، كانت ملامحه في بادئ الأمر جامدة، لكن داهمته ذكريات لن ينكر جمالها له معاها اهمهم بناته فلذات أكباده أجبرته على الإبتسامة وهو يقول..
“كيفك يا خضرا؟!”..
لم ترد عليه، بل قطعت المسافة بينه و بينها بخطوات متثاقلة حتى توقفت أمامه مباشرةً و رفعت يدها وضعت كفها على صدره بمكان تلك الطلقة التي أصابته تتأكد من وجوده..
تتحسس صدره بأصابعها، صعودًا للحيته، و وجهه مرددة بأنفاس متقطعة..
“عبد الچبار .. أنت أهنة صُح يا أخوي.. ولا أني بحلم بيك زي عوايدي”..
وضع راحة يده على يدها و هو يقول بصوته الأجش..
“لا يا خضرا.. مبتحلميش.. أني أهنة.. چاي لاچل ما أخدك و نعاود لدارنا “..
“يعني قلبك صفي من ناحيتي و سامحتني يا عبد الچبار”.. قالتها ببكاء و هي تستجديه بعينيها أن يضمها لصدره..
تنهد” عبد الجبار ” و هو يجيبها..
“لازم أسامحك يا أم فاطمة.. لأن الغلط طايل الكل و أني أولكم “..
حركت رأسها بالنفي و هي تقول..
” لا لا يا أخوي أنت مغلطش أنت عملت شرع ربنا.. اتچوزت على سنة الله ورسوله.. و كنت شاري خاطري و زعلي و بتعمل المستحيل لاچل ما ترضيني بس أني الغيرة عمتني عن كل ده و سودت قلبي..و بعد كل اللي حُصل مني چتلي لحد عندي اهنه لاچل ما تردني و تطيب خاطري اللي عمرك ما كسرته..
حقك عليا يا راچلي.. متزعلش مني أحب على يدك”..
قالتها و هي ترتمي على صدره و تجهش في نوبة بكاء حاد، ضمها هو له و ربت على ظهرها بكف يده مغمغمًا بفرحة ..
“متبكيش عاد أمُال.. و افرحي وياي ب فاطمة بنتنا اللي بقت عروسة “..
توقفت عن البكاء على الفور، و رفعت رأسها نظرت له بأعين يغرقها الدمع و ابتسامة تزين شفتيها المرتعشة مرددة بدهشة..
“وه.. فاطمة بتي بقت عروسة..قصدك أنها چاتها؟!”..
حرك رأسه لها بالإيجاب و هو يقول..

 

 

” و مريداش حد واصل غيرك أنتي.. مافيش على لسانها غير رايده أمي”..
“عشان أكده أنت چيت تاخدني؟!”..
مسح دموعها بأنامله و هو يقول..
“و ده سبب هين يا أم فاطمة.. بناتي أهم حاچة عندي.. أهم حتى من نفسي و من روحي و لخاطر هم و راحتهم أعمل كل حاچة و أي حاچة و لا أيه يا أم فاطمة”..
” عندك حق يا خوي.. قولك دايمًا بيبقي صُح يا عبد الچبار “..
أبتسم لها و هو يقول..
“طيب همي قوام خلينا نلحق معاد الطيارة “..
رفعت حاجبيها بتعجب مرددة بتساؤل..
” أول نوبة نسافر بالطيارة؟! “..
” عندي مشوار مهم مع سلسبيل مَراتي مينفعش اتأخر عنه”..
هكذا اجابها يؤكد لها أن” سلسبيل ” مازالت زوجته مثلها و ستظل للأبد..
أبتسمت هي تلك المرة له و قد عادت ملامحها الحنونة لطبيعتها أخيرًا مردفة بتفهم..
“و ماله يا خوي..ربنا ميحرمناش منك واصل”..
………………………… سبحان الله وبحمده……..
.. داخل إحدي أفخم قاعات الأفراح بمحافظة المنصورة، يُقام فرح أسطوري ل “صفا” صاحبة القدم الصناعية التي عاشت أصعب شعور ممكن أن تحياها فتاه في عمرها الذي لم يتجاوز العشرون عام،

 

 

ليحين وقت الجبر و يرزقها الله برجل بكل ما تحمل الكلمة من معنى يعوضها عن كل ما مرت به في حياتها، يحتويها بين ذراعيه و يرقص بها رقصتهم الأولى على أنغام موسيقى هادئة تعزف على أوتار قلوب جميع الحضور الذين يتابعونهما بأعين هائمة،
“مبروك يا صفا.. مبروك يا أحلى عروسة شافتها عنيا”..
همس بها “جابر” داخل أذنها و هو يميل على وجنتيها و يخطف قبلة عميقة أشعلت حمرة الخجل بوجهها..
“الله يبارك لي فيك يا جابر”.. همست بها بستحياء و هي تطلع لعينيه بعينيها الفاتنة التي جعلت نبضات قلبه تتسارع تؤكد له أن ما كان يشعر به قبل سابق ما إلا وهم بأسم الحب، أما تلك الصفا قد علمته معنى الحب الحقيقي..
حملها “جابر” حتى لم تعد قدميها تلمس الأرض و بقي يرقص بها بفرحة غامرة تُشع من اعينهما، بينما “سلسبيل” الجالسة بجوار جدها شاردة الذهن لا تُفكر في أي شيء سوي زوجها،
رباه!!! لقد اشتاقت له حد الجنون، يرتجف قلبها بقوة كلما داهمتها إحدي لحظاتها الحميمية معه،
اغمضت عينيها ببطء محدثة نفسها بقلبٍ ملتاع ..
” واحشتني أوي يا عبد الجبار.. واحشتني يا أبو سند”..
داعبت رائحة عطره انفها، أرغمتها على فتح عينيها، و بدأت تبحث عنه بلهفة بين الحضور..
ظلت تدور بعينيها حتى أخيرًا لمحته يقترب نحوها،
و ها قد أشرقت شمس حياتي من جديد حين رأيته يقف هنا أمامي على قدميه بطوله المُهيب، و هيئته التي تخطف قلبي و أنفاسي، يتطلع إلى بنظراته المُتيمة التي تُذيب عظامي، هامسًا أسمى بنبرة صوته المُدمرة..
“سلسبيل.. أتوحشتك يا بت جلبي”..
الأمر تخطي كَونه حُب، أنا أصبحت أتنفسه لذا أنا على قيد الحياة.
كان يرتدي البدلة و ربطة العنق التي جهزتها له، مد يده لها، فوضعت يدها الصغيرة داخل راحة يده، فأغلق عليها كفه الضخم حينها تزلزل قلبهما معًا، سحبها عليه بمنتهي الرفق فنهضت من مقعدها و وقفت أمامه على قدميها المرتعشة، مال عليها و طبع قبلة مطّولة على جبهتها،و من ثم سحبها خلفه و سار تجاه العروسين..
“ألف مبروك يا اچدع عريس”.. قالها “عبد الجبار” و هو يحتضن “جابر”، بينما “سلسبيل” احتضنت “صفا” مردفة بابتسامة دافئة..

 

 

“مبروك يا صفا.. ألف مبروك يا حبيبتي.. ربنا يسعدك أنتي وجابر في حياتكم”..
نظرت ل “جابر” و تابعت..
“مبروك يا جابر.. مبروك يا أخويا”..
أبتسم لها” جابر ” و تحدث و هو يضم زوجته لحضنه مرة أخرى..
“الله يبارك فيكي يا حبيبة أخوكى”..
غمز ل” عبد الجبار” و همس بإذنه قائلاً..
” ما تشاركنا في الرقص يا أبو جبر و لا أنت متعرفش ترقص إلا بالنبوت”..
رمقه” عبد الجبار” بنظرة مصطنعة الغضب و جذب زوجته عليه حاوط خصرها و بدأ يرقص بها و هو يقول..
“إسمه الضرب بالنبوت، هعلمك أني كيف ضرب النبوت الصُح يا ابن البندر”..
كانت “سلسبيل” مذهولة من فعلته هذه، حقاً هو يرقص معاها تلك الرقصة التي كانت حلم من أحلامها ظنت أنه لن يتحقق!..
حاوطت عنقه بدلال، و عينيها تتأمل مظهره بإعجاب شديد مدمدمة بغنچ..
“مين اللي لبسك البدلة الحلوة بزيادة دي “..
عينيه كانت تتفرس ملامحها، نظرته لها تصرخ بمدى شوقه و عشقه لها، يتنقل بعينيه بين عينيها و شفتيها بمنتهي اللهفة هامسًا داخل أذنها بأنفاسه الحارة التي تُذيبها كليًا ..
“أني اللي لبستها لحالي.. بس أنتي اللي هتقلعهالي”..
قالها و هو يضغط على خصرها بأصابعه بعنف محبب جعل قلبها ينتفض بين ضلوعها بجنون، و توهجت وجنتيها بحمرة قانية حين تفهمت مقصده و ما ينوي على فعله الليله معاها..
ليصدح صوت المزمار عاليًا جعله يبتعد عنها على مضض حين رأي “جابر” يقترب منه حامل بيديه نبوتين و ألقى له أحدهما فلتقطه بمهارة..
تراجع الجميع تاركين لهما مساحة كافيه ليتمكنا من الرقص على أنغام المزمار الصعيدي الشهير..
بينما وقفت “سلسبيل” بجوار العروسة “صفا” يصفقان بحرارة و تشجيع و فرحة غامرة تغلف قلوبهم..
وفي ظل كل ما يحدث كانت أعين “عبد الجبار” ترمق زوجته بنظراته العاشقة محدثًا نفسه بجمله استماعتها هي بقلبها..
“الآن أدركت أنني كنت دائمًا جبرًا لقلب خضرا بينما سلسبيل جاءت لتكون جبرًا لقلبي”..
تمت بحمد الله..

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية جبر السلسبيل 2)

‫2 تعليقات

اترك رد

error: Content is protected !!