Uncategorized

رواية ندبات الفؤاد الفصل الثانى عشر 12 بقلم زيزي محمد

 رواية ندبات الفؤاد الفصل الثانى عشر 12 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل الثانى عشر 12 بقلم زيزي محمد

رواية ندبات الفؤاد الفصل الثانى عشر 12 بقلم زيزي محمد

فرك يزن وجهه بإرهاق شديد نظرًا لهذه الفترة المليئة بالاجهاد والعمل..حيث قرر سليم الاختفاء لمدة ثلاث أسابيع كاملة، لا يعرفون له طريق، تاركًا إياهم في صخب أفكارهم القلقة، وحالة التوتر التي أصابتهم بعدما انفصل عن شمس في تلك الليلة المشؤومة، حاول الاتصال به مرارًا وتكرارًا، ولكن دائمًا هاتفه مغلق، وكأنه يقطع كل طرق الوصول إليه..حتى صديقه الوحيد سيف أقسم على عدم معرفته مكان اختفائه.
– “هو عيل يعني..براحته”.
يذكر ذات مرة قالها لوالدته من شدة غضبه المكتوم، لن ينكر أن قلقه على أخيه الغائب تفاقم بشدة، بكاء والدته من ناحية، وصمت شمس الدائم وكأنها إنسانة أخرى يلعب فوق أوتار تماسكه أيضًا…ناهيك عن عزلة أبيه الدائمة منذ مغادرة سليم للمنزل..وأسئلة يزن عن أبيه التي لا تنتهي..تراكمت مشاعرهم المعقدة وهو لا يمتلك أي قدرة على حلها، يختار الصمت كطريق للهروب، حيث كان غير مدركًا ردة فعل أخيه..لقد ظن أنه سيثور ويغضب كعادته…وبعدها تزول عاصفته، ولكن يبدو أن سليم مازال يعيش في كنف الماضي، وأن ما فعلته شمس ليس سوى القشة التي قسمت ثباته..بل أنها كانت الدفعة القوية التي جعلته يتخلى عن كل شيء، وترتب على ذلك معرفتهم جميعًا لأهميته..بعدما ترك مسؤولية المنزل وإدارة المحلات فجأة لهم.
ارتمى يزن بجسده فوق فراشه بعد ليلة طويلة قضاها حتى الصباح يتابع الفواتير الخاصة بالمحلات..ومن فرط التراكمات بالمحل لم يستطع متابعة الباقي، وطلب المساعدة من زيدان الذي اعترض وثار وكعادته وضع اللوم كله في كافة سليم.
اندفع الباب بقوة، فرفع يزن رأسه يطالع زيدان الواقف أمامه بوجه غاضب، وصوت خشن يسأله:
– قولتلي عليا الدور في انهي محلات.
زفر يزن بحنق مجيبًا:
– هبتعهم في رسالة.
التفتت زيدان نحو الباب مغادرًا..ولكنه عاد واستكمل حديثه بضيق:
– يزن أنا بجد مبفهمش في الشغلانة دي، كمل أنت النهاردة.
انتفض يزن من مكانه، قائلاً باعتراض:
– لا..أنا منمتش من امبارح حرام عليك شغل المعرض والمحلات فوق راسي، شيل معايا شوية.
كور زيدان يده بغضب، وجز فوق أسنانه بعنف:
– نفسي اعرف سليم باشا اختفى فين، وسايبنا متبهدلين كده..أنا حاسس أنه بيعقابنا.
التوى فم يزن بتهكم واضح:
– حاسس مش متأكد..سليم فعلاً بيعلمنا الادب.
– يبقى مجنون..بيعلمنا الادب في الشغل والفلوس وفي اسم قعد سنين يبنى فيه.
أنهى زيدان حديثه بعصبية، غير مدركًا أن خيبة الأمل التي يمر بها أخيه تفوق المال والحفاظ عليه.
قطعت والدتهما حديثهما وهي تدخل للغرفة، بوجه حزين ومتعب:
– كلمت أخوك يا يزن..رد عليك.
– تليفونه لسه مقفول.
جلست منال فوق أقرب كرسي، بعدما خارت قواها وضعفت حيث انهار السند التي كانت تحتمي به:
– ياترى أنت فين يابني، قلبي واجعني عليه.
هبط زيدان بمستواه نحوها، قائلاً بنبرة هادئة:
– ان شاء الله هو كويس، متقلقيش.
فرت دموعها من مقلتيها حزنًا:
– يارب يابني يااارب.
***
تحرك سليم ببطء يغلق التلفاز، بعدما فشلت محاولاته كي يهدأ من اندفاع أفكاره واضطراب مشاعره، رغم مرور ثلاث أسابيع إلا أنه لم يتأقلم مع الوضع الجديد والذي أقسم على المضي به دون الرجوع عن قرارته الجديدة، ومن أهمها الابتعاد عنهم بقدر الأمكان..
لقد تفاقم صدره بخيبات الأمل التي يتجرعها على يدهم دون الاهتمام به، وكأن دمه غريب عنهم، فلم يعد لديه أي صبر لـتحمل نظراتهم الباردة..وأحاديثهم الموجعة.
منذ تلك الليلة وهو قرر الابتعاد..وبدأ في استئجار شقة بعيدة عن منطقتهم، تاركًا عمله لعدة أسابيع بعدما نصحه سيف بذلك، فحاجته للهدوء والراحة هي المفتاح لأي ضغط نفسي يمر به الآن، ولكن يبدو أن سيف لا يدرك حجم أوجاعه، أو حجم ذكريات ماضيه التي كرهها وبغض التفكير بها.
حتى وإن تركته ذكرياته، لن يتركه ما فعلته شمس بحقه، فأكثر ما يألمه هو كلماتها الأخيرة التي تفوهت بها عن قصد، وكأنها إنسانة أخرى غير التي عشقها..واقسم على قوة رابط حبهما، لم يخطر بباله ما تفعله من تخطيط بمساعدة أهله، ولولا شكوكه لكان في عالم الاوهام ينعم بحب زائف.
فرك وجهه بضيق حينما عاد لنفس النقطة، كاد أن يجن من التفكير، لم يجد دافعًا واحدًا لها كي تفعل به هكذا، عاملته كالمغفل وهذا أكثر ما يوجعه، بل كانت تنظر في عينيه بحدة وكأن دفيء عيناها اختفى فجأة واحتل مكانه صقيع بارد، هل أخطأ في حبه الشديد لها؟!، أم أنه زاد في حجم خوفه عليها؟!، حقاً لا يعلم سوى أنها من وافقت منذ بداية زواجهما على مبادئه ولم تعترض..لِمَ تغير كل شيء الآن؟
وأثناء اندفاع سيل من الاسئلة، تذكر ليلة زفافهما وما حدث بها.
***
دخلت شمس بفستانها الابيض البراق، ذو الفصوص اللامعة المتناثرة فوقه بحركة عشوائية، لقد صمم خصيصًا لها..فكان ملائمًا لجسدها وأظهرهه كحورية جميلة بجسدها الممشوق.
راقبت تفاصيل شقتها بهدوء، وابتسامة خفيفة تزين ثغرها المزين بلون أحمر لامع حدد شفتاها بطريقة أثارت غيرة سليم، ولكن مع تدخلات والدها ووالدته جعله يصمت بغير رضا، لن تنسى نظراته المراقبة للشباب الموجودين بالزفاف، ولا يده المحيطه دومًا لها، وكأنه يصك مليكته عليها.
لن تنكر أن مشاعرها الرقيقة ثارت بفرحة عارمة، حينما شعرت به يكتنفها بحماية وخوف، وكأن ذلك الجليد بدأ في الذوبان وهي داخل أحضانه.
وفي ظل صخب تفكيرها المنصب حوله، انتفضت بذعر حينما وجدته يحاوط خصرها ويجذبه نحوه، حتى التصق ظهرها بصدره، فلم يرحم توترها الظاهر له، بل الصق فمه بعنقها ينثر قبلاته فوقه بهدوء أشعل مشاعرها.
ابتلعت لعابها بتوتر وهمست بصوت متقطع من فرط خجلها:
– سـ…سليم.
– نعم.
رد بصوت خافت للغاية، وأنفاسه الحارة تلفح بشرتها الرقيقة.
– آآ…أنا عايزة أغير الفستان.
جعلها تستدير لتقف أمامه، فطالعها بعيون تنذر بنفاذ صبره وقدرته على التحمل أمام جمالها الفتان، كانت مرهقته وستظل هكذا بملامحها الرقيقة والتي تنم عن براءتها.
مد يده وداعب خصلات شعرها، وأرجعهم للخلف حتى تظهر ملامحها كاملة له، لم يترك تفصيلية بوجهها وإلا دقق بها، ازدادت وتيرة أنفاسها، واحمرت وجنتاها خجلاً منه، فعادت وكررت حديثها بلطف:
– قولت إيه!.
– انتي مستعجله ليه..هنغير هدومنا ونعمل كل حاجة.
كانت مجرد فكرة للهروب من عينيه المراقبة لها في كل حركة تصدرها، حتى أن شفتاها ارتجفت قليلاً من شدة خجلها، لم يكن في حسبانها تلك اللحظة، كل ما في مخيلتها هو الزواج به فقط، اما هذه اللحظة كانت ترفض التفكير بها بكل تفاصيلها، تركت نفسها لرياح الحب الهادئة، وقررت أن تستمتع بوجوده جانبها.
ولكن لو يدرك مدى ثوران مشاعرها لاشفق عليها وتركها تهرب منه تأخذ أنفاسًا طويلة بعدما حبست أنفاسها تحت يده الممسكه بها في قوة وكأنه يخشى الابتعاد عنها.
– أنا مش مستعجلة كل الحكاية إن ياعني الجو بقا حر فاجأة.. صح.
كانت تتحدث دون انقطاع، تهذي بأي كلمات قد تساعدها في الهروب منه، ولكنه شدد على خصرها وقربها منه أكثر، مداعبًا شفتاها بتمهل داعب أوتار قلبها الغض.
– امال أنا ليه حاسس أن الجو حلو.
– بجد.
قالتها بتعجب زائف وزاغت نظراتها عندما هز رأسه لها بمكر.
– طيب يلا نقعد نتكلم، انت قولتلي اول ما ندخل بيتنا هنقعد نتكلم الاول.
– مستعجلة ليه، ممكن نأجل الكلام لبكرة.
هزت رأسها برفض، وأصرت على قولها:
– لا نتكلم دلوقتي.
ابتعدت عنه بعدما سمح لها بمسافة صغيرة، ومدت يدها تعانق أصابعه وهي تجذبه خلفها نحو الصالة، تحركت بحذر بسبب ضخامة فستانها من الأسفل، وخلفها سليم يتحرك بخطواته الواسعه، فكاد أن يصطدم بالطاولة الموضوعه بجانب عمود رخامي، حذرته برقة:
– حاسب الفازة هتقع من على الترابيزة.
التوى فم سليم ساخرًا:
– إيه ده، أنتي طلعتي منهم، لايمكن المس النيش والـ…
– لا لا..طبعًا، كل الحكاية إن دي هدية غالية عليا اوي، وبعدين دي جايلي مخصوص بمناسبة جوازي.
جذبت انتباهه فسألها:
– مين اللي بعتهالك!.
اردفت بابتسامة واسعه:
– واحدة من أصدقاء الفيس، بص هي لفة كده بنت خالة واحدة من صحابي، بتحب رسمي اوي، كنت رسمتلها قبل كده تابلو صغنن وفرحت به، فقررت تهاديني.
– امممم، واحدة من الفيس.
تفوه بتلك الجملة وهو يهز رأسه بتفكير، وقد أصابته الحيرة في التحدث في بعض النقاط هو لن يقبل بها بعد الزواج، ولكن لن يصمت، فلن يتحمل أن الهدية المقبلة تكون من رجل متابع لها.
راقب يدها وهي تربت فوق يده بحنو:
– مالك يا سليم!.
لاحظت قليلاً حدة ملامحه، بعد أن كانت ملامح وجه مرتخيه وهادئة، فعبست بوجهها وطالعته باستفهام.
– من ضمن الحاجات اللي عايز اتكلم معاكي فيها، هو الموضوع ده يا شمس.
عقدت ما بين حاجبيها أكثر، وانتظرت استكمال حديثه والذي كان يحمل كلمات اضطرب قلبها اثرها:
– أنا مش عايزك ترسمي على الفيس.
– ليه يا سليم؟!
همست بها ولمحة من الانكسار لاحظها سليم بنبرتها.
– علشان بغير عليكي، أنا مش هستحمل اشوف معجبين ليكي..ولا حد بيشكر فيكي وفي جمالك، مش هستحمل الاقي هدايا من رجالة تيجي على بيتي…
– الاكونت بتاعي كله بنات.
قالتها باندفاع، فقاطعها متحدثًا بجدية اخافتها:
– حتى لو كله بنات..معرضة أن اي ولد يدخل يكلمك وأنا بقولك مش هستحمل يا شمس.
– مش هتستحمل ليه؟! هو أنا مستاهلش تيجي على نفسك علشان خاطري، الرسم ده حاجة أنا بحبها.
ذرفت الدموع من عينيها مجددًا لقد خيرها من قبل، وها هي المرة الثانية توضع في خانة اليك..رغم أن الموقف هذه المرة يختلف تمامًا.. الخيار هنا في بداية حياتها معه، وفي ليلة زواجهما التي طالما حلمت بها.
– وأنا بحبك..بحبك فوق ما تتخيلي، لكن مش هقدر اسكت واشوف حد بيشكر فيكي، شمس أنتي ليا لوحدي، مش عايز حد يشاركني، ولا حاجة تشغلك عني.
– هو أنا لما أعمل حاجة بحبها ابقى كده ببعد عنك.
– لا بس انك تواظبي ترسمي على الاكونت بتاعك دي حاجة هتشغلك عني، وأنا أناني في حبك، ارسمي في بيتك براحتك مش هقولك لا، بس على السوشال ميديا لا يا شمس.
كانت كلماته حادة كالسيف، تقطع كل أفكارها التي تحاول الوصول لحلاً يرضيهما معًا، شعرت بمدى عجزها أمامه، اعترافه بحبه للمرة الثانية على التوالي جعل قلبها ينبض بعنف له، ولكن عقلها يدفعها نحو واقع كلماته التي تحدد مستقبلها بخطوطه هو.
شعر سليم بترددها، فاقترب منها أكثر مختصرًا المسافة بينهما، مقبلاً ثغرها دون مقدمات، لم يفصل قبلته رغم يدها التي تحاول إبعاده عنها بضعف، يدرك مدى ترابط فؤادهما، وأجاد اللعب على هذه النقطة..فهمس من بين قبلاته لها:
– هتهدي حياتنا علشان خاطر حاجة زي دي.
سمح لها بالابتعاد، فركزت ببصرها عليه، تحاول قراءة الغموض المسيطر على عينيه، ولكن هناك وميض بالحب ينير طريقها معه، بالتأكيد لن تخلق مشاكل معه في بداية زواجهما، خاصةً هو لم يرغمها بالقوة، بل يطلب منها بهدوء وحكمة.
– قولتي إيه يا شمس، هتسمعي كلامي.
– خلاص اللي أنت عايزه.
قالتها بهدوء ينافي انكسار أحاسيس رقيقة متعلقه بأحلامًا لم تتخيل قط التخلي عنها، فاستمر هو بالضغط عليها.
– الاتفاق اللي بنتفق عليه بيبقا عهد بينا، اوعي في يوم من الأيام تعملي حاجة أنا قولت عليها لأ.
وقفت حائرة أمام كلماته بعدما شعرت بتحذير طفيف بنبرته ولكنها لم تبالي وقالت ببسمة صغيرة:
– حاضر.
ولصغر سنها لم تدرك حجم التنازلات التي وافقت عليها دون تفكير، كانت تلهث خلف حبها الذي طالما حلمت بتحقيقه وبناء عش وردي يجمعها مع حبيبها الأول والأخير،
فاعتقدت أن فقدان فارس أحلامها سيكون أكثر المًا من دفن أحلامها، نعم وافقت…وافقت إرضاءًا له، و لقلبها النابض من أجله.
***
عاد من شروده على اتصال هاتفي من سيف، كالعادة يطمئن عليه وكأنه طفل لا يجيد الجلوس وحده..فأجاب سليم بنبرة فاترة:
– خير يا سيف، دي المرة التانية تتصل عليا.
– ماتيجي تقعد معايا في الورشة، في حبة شغل جاي انما ايه لوز.
عقد سليم حاجبيه بعدم فهم، قائلاً:
– هو أنا مالي بالشغل بتاعك!.
– مش أنت بتحب الدوشة بتاعت الورشة وزيت العربيات والشحم.
أجابه ببساطة محاولاً كتم ضحكه، فرد سليم بتعجب ساخر:
– هو أنت بتعزمني على جاتو، مالك يا سيف أنت كويس!.
– أنا زي الفل، تعال أنت بس نقعد مع بعض.
– هنزلك بس هعدي على المحل الكبير الاول اشوف الشغل ماشي ازاي.
– كفارة يعم، هستناك.
***
وقف زيدان أمام محلهم الرئيسي بسيارة الشرطة، ثم هبط منها متوجهاً نحو العمال بالداخل بوجه عابس:
– صباح الخير، في جديد.
جذبه عم سعيد جانبًا، قائلاً بنفاذ صبر:
– بص يا باشا اللي بتعمله ده ميرضيش ربنا.
شعر زيدان بالقلق من نبرته، فقال بجدية:
– ليه يا عم سعيد.
– كل يوم والتاني، جايلنا بعربية الشرطة وتقف قدام المحل، سمعتنا بقت في الارض، والمبيعات بتقل.
أنهى حديثه بنبرة حادة، فقال زيدان موجها يده نحوه:
– ياااه ده كله بسببي.
– ايوا يا باشا، يمكن أنت متفهمش بأمور شغلنا…
قاطعه زيدان بحنق:
– بس بس..مش أنا السبب، همشي وخلي يزن يجي يشوف الشغل هو، سلام.
غادر زيدان تحت أنظار سعيد حيث كان غير راضيًا بالمرة لأفعاله:
– يارب ترجع يا سليم باشا، اخواتك مدلعين على الاخر.
***
قبضت شمس فوق حقيبتها الكبيرة وهي تتحدث بالهاتف بصوت خافت ومجهد:
– يعني لما ارجع هلاقي كل حاجة جاهزة يا طنط.
استمعت شمس للطرف الاخر بتركيز، مع استمرار تحريك رأسها بالإيجاب لحديث الاخرى، أنهت الاتصال مع تنهيدة عميقة تخرج من صدرها المشحون بالمشاعر المتناقضة.
رفعت رأسها تلتقط بعض من الانفاس لتعيد مجرى الهواء لصدرها مجددًا، ولكن الجو به حالة غريبة تمنعها من التنفس، وكأن هناك حبل يلتف حول عنقها يضغط بهدوء عليها، رجحت أن تلك الحالة سببها ما تمر به الآن، من خذلان واضح ذاقته على يد سليم بعد اختفائه لمدة ثلاث أسابيع، لقد ظنت أنه سيعود ويتراجع عن قراره المتهور بحقهما، تمسكت بالحب المشترك بينهما، وقررت الحفاظ على منزلها..وحياة أنس، مجددًا توضع نفسها في خانة التنازل، تجلس كشاه يتركها القطيع فجأة في غابة شديدة الظلام فتنتظر عودتهم بخوف.
رغم أنها جرحت بطلاقه لها، إلا أنها اعطته أسبابه، ولكن أي أسباب تلك تجعله يتخلى عنها بهذه السهولة، هو لم يدرك بعد حجم كلمة أنهت حياتهما، لا يفكر بهما..بل بنفسه أولاً.
رغم أنه هذه الفترة كانت طويلة جدًا عليها، يلعب الانتظار فوق هيكل ثباتها الواهي، إلا أنها مفيدة لها، الوحدة جعلتها تعيد التفكير بنقاط سلبية بشخصيتها شعرت بالسأم منها، لن تتنازل بعد حتى وإن ذاقت مرارة وجع الفراق الأبدي بينهما، سترسم طريقًا لها بقواعدها هي، ستبحث عن راحتها وأحلامها التي فقدتها من أجل من لا يستحق، بل أنه تجرأ ووصفها بالخائنة، هل هو مدرك لحجم كلمته؟، أم انها كانت كلمة غاضبة خرجت دون وعي منه!.
ابتسمت ساخرة تزامنًا مع سقوط دموعها الغزيرة، مازالت تفكر به بحماقة، تعطي له الاسباب، تفكر بشعوره حينها، تتوق لعودته وكأنها طفلة صغيرة تنتظر قدوم والدها بشغف.
الجلوس هنا أكبر خطأ قد تقترفه بحقها، لن تترك نفسها لتكهنات جديدة حول عودته، حتى أنها وصلت لمرحلة إن عاد لن توافق بالعودة إليه بعد هجره لها بهذه الطريقة المهينة لها.
أحكمت غلق الحقيبة وقررت التحدث مع منال بعدما طلبت منها أن تساعد أنس في أخذ قسط من النوم أثناء الظهيرة كعادته دومًا.
جهزت نفسها وهي تهبط درجات السلم وصولاً لشقة منال…حتمًا ستكون مناقشة طويلة لن ترضخ بها إلا لقواعدها هي ولن تتعاطف إلا لاجلها.
***
بعد انقطاع دام لاسبوعين، عادت ليال لعملها مجددًا، حيث فكرت مليًا بهذه الفترة بأمر عودتها للدورس مجددًا بعد نكسة مرت بها أثرت في نفسيتها، بل تركت مخاوف سببت لها ذعر دائم بداخلها، في بادئ الأمر تجاهلت مشاعرها وراحت تمشي بطريقها الذي رسمته منذ البداية فمن الصعب التخلي عنه، ولكن كلما أقدمت أمام باب شقة تقف أمامه حائرة عاجزة، هناك خوف يتغلغل داخل قلبها بسبب ما تخفيه تلك الأبواب..حيث مرت بلحظة فارقة كادت أن توصمها بالعار للأبد.
حتى توته تغيبت عنها لاسبوعين هي الاخرى، تختفي عن نظراته هو بالأخص، لن تستطيع مجابة اللوم الدائم بنظراته، وكأنه جلاد يملك سوط من نوع خاص يضرب ضميرها الغافل دون رحمة!.
كانت فترة بسيطة ولكنها نفعتها بالتأكيد، حاسبت نفسها بهدوء، وقررت أن تتمسك بعادات مجتمعها و أمور دينها بعدما ظنت أنها ليست إلا قيود تعيق حياتها، ولكنها اقتنعت أن الحرية الزائدة في كل شيء عائق يصعب التخلص منه.
أحكمت حجابها جيدًا وكانت اولى خطواتها في التغيير، وهبطت لشقته كي تستكمل عملها، مدت يدها كي تتطرق الباب، فوجدته مواربًا عبست بوجهها وحركته بهدوء حتى ظهر صوت فاطمة الغاضب تتشاجر مع أخرى لا تعرفها ولكن تبين من الحديث أنها والدة زوجها السابق.
– بقولك إيه يا حبببتي دي مقدرة ابني في المصاريف، عجابك خديهم، مش عاجبك وفرتي.
ردت فاطمة بغضب:
– هو انتي بتعزمي عليا، ده واجب ابنك انه يتحمل مصاريف بنته، هو فاكر أنه طلقني خلاص هيخلع.
ضحكت منيرة ساخرة:
– قولي أنه حكاية المصاريف دي حجة منك، بقولك إيه رجوع ابني ليكي تاني مستحيل.
صىرخت فاطمة بتحذير:
– بقولك أنا مش هسكتلك تاني، زمان كنت بسكت لكن دلوقتي لا، وبعدين مين قالك أن عايزة ارجعله هو أنا ارضى ارجع للق.رف تاني.
شهقت منيرة بصدمة، قائلة :
– احنا ق.رف يا قليلة الرباية، طيب ليكي أخ اشتكيله.
جذبت حقيبتها بعنف وذهبت باتجاه باب الشقة، فتراجعت ليال للخلف نحو الدرج ومثلت كأنها تقدم نحو باب الشقة، رأتها منيرة فشملتها بنظرات غامضة من اسفلها لاعلاها توترت ليال قليلاً منها، ودون إرادة منها ابتسمت ابتسامة مجاملة لها، لاحظت اقترابها منها و ثم خرج سؤالها بفضول من فمها:
– أنتي مين يا حبيبتي!.
– أنا ليال ساكنة فوق، وبدي توته درس.
أجابت ليال ببساطة جعلت منيرة في حالة من التفكير اللحظي، بعدما راودها شعور بضرورة قهر تلك الوقحة فاطمة، فمدت يدها تحركها بطول ذراع ليال، وبنبرة خبيثة سألتها:
– هو أنتي متجوزة ولا مخطوبة.
شعرت ليال بربكة بسيطة منها، ومن نظرتها التي ارعبتها، فعينيها تحمل قوة وقسوة لم تراهم من قبل.
– أنا لسه متجوزتش، ولا مخطوبه..عن اذنك ادي توته الدرس.
– معقوله في حلاوة كده وتتساب لوحدها، هي الرجالة حصلهم إيه!.
ابتسمت ليال بمجاملة وداخلها لم يرتاح قط لها، ردت بتهذيب وأصرت على الابتعاد:
– شكرًا عن اذنك.
غادرت سريعًا واتجهت صوب شقة فاطمة ودخلت كي تهرب من نظرات تلك السيدة، وما إن أغلقت الباب، حتى رأت فاطمة بوجهها تضع يدها بخصرها تسألها بشيء من الترقب:
– هي كانت عايزكي في إيه!.
– هي مين؟!
ردت ليال ببلاهة بسبب اضطرابها، فقالت الأخرى بضيق لاحظته ليال:
– ام طليقي كانت عايزكي في ايه!.
توترت ليال في بادئ الأمر وقالت:
– مكنتش عايزني في حاجة، أنتي كويسة!.
زمت فاطمة شفتاها بضيق، واستمرت بالتحديق بها، مما اربك ليال الواقفه أمامها كالمذنبة وهي لم تفعل شيء.
***
– إيه عايزة تمشي يا شمس.
وقفت منال مذعورة لا تصدق ما تقوله، وعيناها تنتقل بين شمس وحقيبتها الكبيرة الموضوعه بجانبها بحسرة، هزت الاخرى رأسها بصمت وطالعت منال بنظرات يكمن خلفها إصرار لن تعود عنه أبدًا.
فعادت منال تجلس أمامها مجددًا تتحدث بحزن:
– تمشي تروحي فين يابنتي.
– اروح بيت أهلي!.
استنكرت منال حديثها:
– ابوكي باعه يا شمس.
قاطعتها شمس قائلة :
– واشترى شقة في اسكندرية، هروح اقعد فيها.
– وليه، ما بيتك موجود أهو يا حبيتي.
قالتها منال ببسمة بسيطة ونبرة يندثر منها الرجاء واللطف، فردت شمس بانكسار:
– مبقاش بيتي، سليم طلقني..لازم ابعد عنكوا، علشان هو يرجع بيته.
– هيرجع بيته صدقيني وهيرجعلك بس هو زعلان..
قاطعتها شمس مجددًا، ترفض التفكير حتى في ذلك الأمر مرة ثانية، أعطته فرصة كانت احتمالها صفر، ولن تركض خلف أحلام واهية مرة أخرى.
– يرجع ولا ميرجعش مبقاش فارق.
كانت نبرتها تحمل برود أخاف منال بشدة، يبدو أنها عزمت على أمرًا تخفيه عنها، شعرت بهدم منزلها فوق رأسها، تفرق أولادها، وانعزل زوجها بغرفة وحده يعاقب نفسه على ما مر به ولده، وها هي شمس تقطع آمالها التي كانت تظن أن الحياة ستعود من خلالها.
– يعني مش هشوف أنس تاني.
– عايزة اطلب منك طلب، وياريت توافقي وتساعديني فيه، وتوعديني انك تنفذيه.
اضطرب قلب منال وهي تستمع لحديث شمس، بينما على باب المنزل كانت تقف نهى تستمع لحديثهما بوجه مصدوم، وعيون متسعه لا تصدق..طلاق سليم وشمس، أيعقل؟!
تحركت صوب باب المنزل الخارجي ورفعت هاتفها تخبر والدتها بما سمعته!.
– ماما مش هتصدقي زيدان مكنش بيرد عليا الفترة دي ليه!.
___________________
يتبع ……
لقراءة الفصل الثالث عشر : اضغط هنا
لقراءة باقى فصول الرواية : اضغط هنا

اترك رد