روايات

رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل السابع والعشرون 27 بقلم مريم محمد غريب

     رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل السابع والعشرون 27 بقلم مريم محمد غريب

رواية وقبل أن تبصر عيناك البارت السابع والعشرون

رواية وقبل أن تبصر عيناك الجزء السابع والعشرون

رواية وقبل أن تبصر عيناك الحلقة السابعة والعشرون

_ حليف ! _
مضى يغسل يديه جيدًا بالماء و الصابون أمام عينيّ إبنته اللامعتين ببقايا دموعها، راقبت بقلبٍ واجف كيف أن دماء أخيها التي لطخت يدي أبيها راحت تختفي منهما شيئًا فشيء متسربة مع دفقات المياه الدافئة
كانت لا تزال مأخوذة، ترهب والدها بعض الشيء.. فاسترعت إنتباهه فورًا حين صدرت عنها شهقة من جراء البكاء الذي أقلعت عنه بصعوبةٍ تحت إلحاحٍ منه
ما لبث “سالم” أن أغلق صنبور المياه و سحب منشفة مجففًا بها يديه و هو يقول متنهدًا :
-من آمن العقاب. أساء الأدب.. ده إللي إحنا إتعلمناه لما كنا لسا عيال يا سلمى. و ده عرفنا من الأزل. إنتي عارفة طبعًا إن عيلتنا قديمة جدًا. جدك الجزار الكبير. ده ماكنش لقبه.. هو كان إسمه كده. و هو بردو إللي عمل حي الجزارين بتاعنا ده. لو كان عايش و أنا لو كنت مكان أخوكي مصطفى. كان هايعمل فيا نفس إالي عملته فيه
و ترك المنشفة جانبًا و أخذها إلى الخارج محيطًا كتفيها بذراعه …
-عمري ما شوفتك عملت كده في حد يا بابا ! .. قالتها “سلمى” بلهجةٍ متأثرة و هي تثير في قدم أبيها
اصطحبها “سالم” حتى غرفة المعيشة، جلس فوق مقعده الضخم المخصوص، قربها منه و أجلسها فوق قدمه مطوقًا خصرها بذراعيه.. ثم قال بلطفٍ و هو يمسح بكفه على شعرها الحريري :
-أنا عمري ما افتريت على حد يا سلمى. طبيعي ماتشوفنيش بعمل كده في العادة.. لكن ده مش معناه إنه مابيحصلش أوقات.. في ناس مجرد الكلام مايجبش معاهم أي نتيجة. لازم يشوفوا تصرفات و أفعال تخوفهم. عشان محدش يتجرأ و يتطاول على الكبار. إللي هما إحنا طبعًا.. أخوكي حط من كرامتنا كلنا قصاد الناس. و لو ماكنش إتعاقب هيبتنا كانت هاتسقط. و بالتالي سيطرتنا على الناس و قوتنا كلنا كانت هاتبقى في الأرض …
نظرت له غير مستوعبة لكل هذا، فابتسم لها ببساطةٍ و حنى رأسه قليلًا ليقبلها هلى خدها متمتمًا بحنانٍ :
-جايز ماتفهميش كلامي كله دلوقتي. بس انا متأكد مع الأيام هاتستوعبي.. سلمى أبوكي مش قليل. لازم تفهمي كويس إحنا مين. إحنا مش مجرد عيلة زي الناس.. و حبايبنا أقل من اعدائنا. في قوانين بتحكمنا ماينفعش نخرج عنها. لو خرجنا العقد يفرط و كل شيء ينتهي في لحظة !
و صمت هنيهة، ثم قال رابتًا على كتفها :
-بكرة تكبري و تفهمي قصدي كويس.. و بكرة ده مش بعيد يا حبيبة أبوكي. إنتي ما شاء الله بقيتي عروسة زي القمر
-لأ !!! .. هتفت “سلمى” محتجة بنفس اللحظة و صارت كأنما روحٌ أخرى تلبستها
عقد “سالم” حاجبيه مرددًا :
-لأ إيه يا سلمى ؟!
سلمى بجدية : لأ مش عايزة أبقى عروسة يا بابا. مش عايزة أبدًا.. أبدًا !
إرتفع حاجباه هذه المرة دهشةً …
-ليه كده يا سلمى ؟ و يهون عليكي أبوكي تحرميه من فرحة زي دي.. أينعم أنا هكون حزين جدًا و غيران كمان من إللي هايجي ده و ياخدك مني. بس بردو إنتي فرحتي الكبيرة يا عمري. ده ساعتها أعملك ليلة من ألف ليلة و ليلة.. ليلة محدش شافها و لا هايشوفها. و مش ليلة واحدة. وحياتك سبع ليالي ورا بعض.. وقتها الدنيا ماتسعنيش من فرحتي بيكي يا قلب أبوكي
تقلصت قسماتها الخمرية الجميلة بتعبيراتٍ أليمة و هي ترد عليه بخوفٍ بَيّن :
-أنا مش عايزة يجرالي زي بطة يا بابا …
مجرد طرح المقارنة و إمكانية حدوث ذلك لإبنته.. مجرد تخيّلها مكان “فاطمة” في تلك الليلة و رؤية وجهها مذعورًا و سماع صراخها من خلف باب غرفة وحدها مع رجلٌ حتى و لو كان زوجها
هذا التصوّر وحده الذي أُجبر على استعراضه بمخيلته جعل النيران تتأجج من أعماقه متصاعدة حتى طالت قمة رأسه و كادت تذهب بعقله كليًا، لولا أنه أدرك بأنها لا تزال بين يديه …
تمالك “سالم” أعصابه بجهدٍ، ثم نظر لعينيها بعمقٍ و خاطبها بهدوءٍ واثق :
-سلمى.. عاوزك تبقي واثقة من حاجة واحدة بس… في الدنيا دي كلها. لو حد فكر يمسَّك بسوء أنا أمحيه من على وش الأرض في ثانية. و قبل ما يجرب يخطي ناحيتك خطوة. إوعي تخافي أبدًا.. إللي حصل لبطة كان غلطة عملها أخوكي و إتحاسب عليها. بس عمرها ما تحصل معاكي طول ما أنا و إخواتك عايشين و بنتنفس..مصدقاني ؟
سلمى بقليلٍ من التردد :
-مصدقاك.. بس أنا بردو خوفت أوي !
رقت نظراته كثيرًا و هو يحتضن جانب وجهها بكفه الضخم متمتمًا :
-من إيه بس يا حبيبتي ؟
عضت “سلمى” على شفتها السفلى قبل أن تقول على إستحياء :
-إمبارح. لما كنت واقف تحت شباك رزق.. و رمى المنديل الصغير. ساعتها شوفتك بتضحك و مبسوط أوي. و بعدين خدته و إديته لستي دلال و بردو شوفتها بتضحك و بتحطه على وشها و بتزغرط. و إنت و عمامي واقفين كلكوا بتضحكوا.. أنا خوفت منكوا كلكوا يا بابا !!!
أمعن “سالم” النظر بقسماتها الأنثوية الجميلة و الشبيهة قليلًا بقسماته، ضايقه أن يرى حقًا تعابير الخوف تستبد بها بهذا الشكل، فسحب نفسًا عميقًا ثم قال دون يغير من وضعيته شيئًا :
-بصي يا حبيبتي. إنتي لسا سنك صغير عشان تفهمي إللي حصل ليلة إمبارح ده.. بس أنا هاختصر عليكي و أقولك إنها حاجة ضروري تحصل لأننا عايشين في وسط شعبي. لينا عادات و تقاليد.. يمكن الحكاية قاسية شوية. بس لا بد منها. عشان الراجل و الست الإتنين يقدروا يمشوا قدام الخلق راسهم مرفوعة. البني آدم يا سلمى مايساويش حاجة لو فقد شرفه و كرامته. لما تكبري و تبقي عروسة إنتي أول واحدة هاتصممي الحاجة دي.. و هاتبقي فخورة بنفسك. بس مش أكتر مني أنا يا قلبي …
و ضمها إلى صدره الواسع بشدة حنونة مضيفًا :
-و على أي حال متخافيش. سلمى بنت سالم الجزار مش أي حد ياخدها. و إللي هاياخدها هايحطها تاج على راسه. عمري ما أسمح لمخلوق يزعلك أو ينزل دمعة واحدة على خدك.. آكل قلبه !
أجفلت الفتاة بخوفٍ من ذاك الوصف الأخير، لكنها ما لبثت أن إبتسمت أخيرًا، عندما شعرت و تأكدت من صدق أقوال أبيها.. إذ نعم و ألف نعم
إنها “سلمى”… إبنة “سالم الجزار”.. و شتّان بين “سالم الجزار” و بين الناس جميعًا، حتى لو إخوته، هو الأكبر قيمة و مقامًا، عليها أن تؤمن بأنها لن تضام أبدًا ما دام إسمها مقترنًا باسمه
هكذا طوال حياتها ستظل تنعم بالحماية و الآمان التام …
_______________
لا !
لم يبرد قلبها بعد.. حتى بعد رؤيته و هو يتعذب و يُهان على مرآى من الجميع و مسمعٍ… لا زال جرحها أشد عمقًا و ألمًا من أن تداويه خمسون جلدة.. أو حتى إذا أتم الثمانون
طعناته لها كانت أقل، و لكنها تعادل مليارات من صنوف و أشكال الوجع و الأذى الجسدي و المعنوي، فضلًا عن عدم تقبّلها إياه.. صارت تكرهه و هي التي لم تكن تحبه يومًا و لا حتى تبغضه
اليوم، بل إنطلاقًا من الأمس “مصطفى الجزار”.. زوجها… أمسى ألد عدوًا لها.. مهما حدث لن تعود إليه.. لن تنظر في وجهه ما دامت حيّة !!!!
كانت تجلس منذ الظهيرة، منذ أتى “رزق” و أمام عينيها أنقذ “مصطفى” من العقوبة الواقعة عليه.. لم تبارح مكانها هنا عند النافذة
جلست فوق كرسي مبطن بالاسفنج، تسند رأسها إلى إطار النافذة المزدوجة، تراقب المارة بالأسفل و دموعها تسيل في صمتٍ على خديها الشاحبين، رأسها متخمًا بالأفكار.. لكنها لا تستطيع أن تنبش بها، فإذا فعلت حتمًا سيصاب عقلها بالشلل كما حدث لجمسها ليلة أمس، من شدة العذاب الذي نزل به لم يتحمل و تخشّب تخشيبًا …
-بطة !
إرتعدت بذعرٍ حين سمعت النداء المبهم
لكنها سرعان ما اطمأنت حين إلتفتت و رأت زوجة عمها تقف عند عتبة باب الغرفة، ابتسمت لها ابتسامة لم تصل إلى عينيها و قالت بعتبٍ واضح :
-أيوة يا أبلة عبير. نعم ؟
شملتها “عبير” بنظرات العطف المحبة و قالت :
-أمك و أبوكي قاعدين برا يا حبيبتي.. عاوزين يدخلوا يشوفوكي !
إنسحبت الدماء المسحوبة أصلًا من وجه “فاطمة” و قامت من مكانها فورًا متحاملة على جميع آلامها …
-لأ يا أبلة عبير !! .. هتفت “فاطمة” معترضة و هي تعرج على قدم و قدم وصولًا للجهة الأخرى من الغرفة
-لأ مش عاوزة أشوفهم. لا أمي و لا أبويا.. ماتخليهمش يخشوا هنا ونبي …
نظرت لها “عبير” بعجزٍ، و و قفت تلتفت خلفها مرارًا حائرة، هكذا لمدة دقيقة كاملة.. إلى أن تفاجأت “فاطمة” برؤية أمها أولًا.. ثم لمحت أبيها في إثرها
بإذعانٍ شديد أفسحت “عبير” لهما ليلجا، بينما تتراجع “فاطمة” للوراء حتى إلتصقت تقريبًا بالجدار، إكتنفتها نظرات أبويها المتلهفة فور وقوع عينيهما عليها
و كانت “نجوى” أول من تحظثت بتلك اللهجة الكسيرة :
-فاطمة !
يابنتي يا حبيبتي.. عارفة إن دي كانت أطول ليلة تمر عليا ؟ غيابك قاطع بأمك يا نور عيني. تعالي يا حبيبتي في حضن أمك …
-إوعي تقربي منـــي !!!! .. صرخت “فاطمة” بوجوههم جميعًا موسعة دائرة تحذيرها
جمدت “نجوى” محلها مصدومة، لتستطرد “فاطمة” مصوّبة نحوهم نظرات العداء الصريحة :
-أنا ماعنتش طايقة أشوفكوا كلكوا أساسًا.. إزاي. و بأنهو وش جايين تشوفوني.. رررددددوا عاوزة أعرف إزااااي ؟؟؟؟؟؟
-مش كده يا فاطمة ! .. قالتها “عبير” بتأثرٍ بالغ و هي تمضي نحو “فاطمة” مسرعة
أمسكت بها و حاولت تهدئتها :
-ماتضغطيش على نفسك بالطريقة دي يا بنتي.. إحنا مش ناقصين تتعبي تاني
طغى صوت “إمام” القوي على الأجواء المتوترة في هذه اللحظة :
-سبيها يا عبير. سبيها تخرج كل إللي جواها.. أحسن. عشان لما يرجع مصطفى و ترجع هي كمان معاه تبقى هادية و راسية عن كده
-أرجع مع مين ؟؟؟!!! .. تساءلت “فاطمة” مذهولة حد الجنون
و ما لبث أن تحوّل هذا الذهول إلى إنفعالٍ هز كيانها هزًا و هي تصرخ من نواصيها :
-لأ.. لأااااااااااا. مستحيييل. إنت جاي تقولي أرجع لمصطفى بعد كل إللي عمله فيا ؟؟؟
ده أنا أموت نفسي و مارجعلوش !!!!
تدخلت “نجوى” الآن و قد ظهرت عليها المفاجأة فعليًا :
-إيه إللي بتقوله ده يا إمام ؟ إحنا ماجبناش سيرة الكلام ده قبل ما نطلع هنا.. و حتى لو قولتلي قبلها. أنا مش موافقة. بنتي عندي أهم من أي حا آ ا …
-إسكتي إنتي يا ولية ! .. قاطعها “إمام” مخشوشنًا
-مافيش كلمة بعد كلمتي …
-أنا مش هارجع !!! .. صرخت “فاطمة” ثانيةً مطرقة الرأس
فإستشاط “إمام” غضبًا و صاح :
-و أنا قلت كلمة. أول ما يرجع مصطفى إنتي كمان هاترجعي بيتك معاه.. مش هانفرج الناس علينا أكتر من كده. كفايانا فضايح
رفعت “فاطمة” نحوه عينين مغرورقتين بالدموع، و إنتحبت قائلة بمرارةٍ و هي تتشبث بذراع زوجة عمها :
-يا بابا حرام عليك. هاترجعني عنده تاني.. ده إغتصبني قدامكوا كلكوا و إنتوا ساكتين و سيبتوه !
إنتفض “إمام” مغمغمًا عبر أسنانه :
-إخرسي يابت بلا قلة حيا على رأي ستك.. مافيش راجل بيغتصب مراته. إنتي عاوزة حد يفوقك !!!
و جاء ليخطو خطوة نحوها و هو يرفع يده مهددًا، فاعترضت “نجوى” طريقه فورًا صائحة بهلعٍ :
-هاتعمل إيه يا إمام ؟؟؟!!
كوّر “إمام” قبضة يده، بينما تنطق “فاطمة” بأسى مزدري :
-سيبيه ياما.. مش هاتفرق لو عاوز يضربني. أنا كده كده ميتة.. إنتوا كلكوا دبحتوني و معايا بقيتوا إسم على مسمى !!
كلماتها مسّت أفئدة الجميع المجروحة حقًا لجرحها، و إن لم يبدوا ذلك كليًا، في المقابل أبيها يغمض عينيه ليخفي مدى تأثره باتهاماتها الصحيحة.. و عوض ذلك وضع نظره بالأرض و هو يرفع نبرة صوته قائلًا بصرامةٍ :
-أول ما يرجع مصطفى من المستشفى هاتطلعي شقتك و تستقبليه بنفسك كمان.. إنتهى !
و أولاهم ظهره ثلاثتهن و غادر ممزق الصدر مغمومًا …
_______________
الآن …
صوته هو الذي بلغ جنابات البيت إلى حد سمعه أهالي الحي القريبين و أمام الباحة، لم يسيطروا على فضولهم و هم يتطلعون لأعلى، حيث نافذة شقة الكبير.. “سالم الجزار”
بالداخل… كان هناك “رزق”.. يقف في مواجهة أبيه أمام الشرفة المفتوحة… عيناه الزرقاوتين صارتا الآن أقرب إلى السواد و هو يحدق بعينيّ “سالم”.. سواد لا يختلف البتة عن قميصه الملتصق بجزعه القوي
وقف “سالم” ضده هادئًا، باردًا كالعادة، و باعصابٍ كالثلج استمر يستمع إلى صياحه الغاضب المصم :
-إللي إنت عملته و فاكر إنه من الحكمة و فرض سيطرة على الكل للأسف قدام هايخيب ظنونك دي. مصطفى منغير حاجة سوداوي و أعصابه بتحكمه. مافكرتش هيبقى إيه الوضع لما يرجع و يستوعب إللي جراله ؟؟؟؟
هز “سالم” رأسه نفيًا و قال بفتورٍ :
-لأ.. مافكرتش.. كل إللي فكرت فيه إنه كان لازم يتربى. مصطفى ماغلطش غلطة واحدة. مصطفى بقاله فترة سايق العوج و معايا أنا بالذات. كان لازم يفوق
رزق بغضب شديد :
-و إنت كده فوقته ؟؟؟؟
إنت أهانته. كسرت عينه قصاد أهل المنطقة إللي المفروض بيحكمها زيه زينا. الناس تحترمه تاني إزاي ؟ لما ضيعت نيبته وسطهم ترجع تاني إزاي ؟؟!!!
-أنا أبـــوه ! .. صاح “سالم” محتدًا و قد صارت نظراته أكثر قتامة الآن
-محدش بيعاير عيّل لما أبوه بيجي يأدبه أو حتى لو ضربه علقة موت. إللي مد إيده على مصطفى يبقى أبوه مش واحد من الشارع.. محدش يقدر يقل منه. و لا إنت يا رزق هاتبقى أحن عليه أكتر مني. ده أبني أنا. و إنت بالنسبة له حيالله نص أخ. و ماتنساش حقيقة إن مصطفى عمره ما حبك و أنا إللي دايمًا بجبره يحترمك.. جاي تدافع عنه دلوقتي ؟!!!
أومأ “رزق” قائلًا بقوة :
-أيوة بدافع عنه.. لأنه أخويا. حتى لو هو نفسه مش شايفني كده أصلًا. أنا عمري ما أجي ضد مصطفى أبدًا.. بالعربي يعني لو بالنسبة له مش أخ فانا حليفه. فاهم المعنى يا معلم سالم ؟
ابتسم “سالم” بغموضٍ أمام إبنه، لكنه في قرارة نفسه كان قد أعجبه حديثه و أغاظه في نفس الوقت، أن يتفوّق ولده عليه بالحكمة و الدراية، بل و يجعله صغيرًا أمام نفسه حقًا بعد أن ظن أفعاله هي الصواب
ما دفعه للقول متعمدًا النقصان منه :
-إنت عشان معاك سلاح التعليم و الثقافة فاكر نفسك هاتعلّي عليا.. لكن لأ. الحقيقة غير كده. إنت بسنين علامك و الكتب إللي حشيت راسك بيها و دماغك دي كلها ماتجيش حاجة جمب خبرتي.. أنا بيتقالي المعلم. إنت بقى يا رزق بيقولولك إيه ؟
ردًا على ذلك، و إحباطًا للهجة الفخر في صوت أبيه قال “رزق” واضعًا النقاط على الحروف :
-طيب يا معلم سالم. يا كبير.. لو حقيقي عندك حكمة و طول نظر. إزاي فكرت و لو لثانية تدخل مصطفى على فاطمة و يتقفل عليهم باب واحد و هو في الحالة دي ؟
ما جاش في بالك أي حاجة ممكن تحصل اسوأ من إللي خصل ؟
مثلًا البت ماتستحملش و تروح فيها و هي خايفة و متوترة بالشكل ده !
أو تكون حالتها مختلفة عن معظم البنات و مايتمش المراد إللي وقفتوا تستنوه ف مصطفى يشوف كده يتغابى عليها و يتجنن خالص ف يموتها بإيده و هو لوحده معاها محدش يلحق يمنعه !!
مافكرتش خالص في احتمالات زي دي يا معلم ؟؟!!!!
على عكس التوقع، صمت “سالم” في المقابل و قد آمن الآن بأن معادلة القوة قد إنقلبت لصالح إبنه، و أن “رزق” قد نجح و ببساطة في إثبات جدارته، و إنه بالفعل أنسب شخص لتولي زمام الأمور من بعد أبيه
إنه حقًا ولي العهد.. هو لا غيره …
-إنت الغلطان ! .. قالها “رزق” بغلظةٍ مفاجئة، و أردف مشددًا على كلماته و مشيرًا له بسبابته :
-محدش غيرك ولع نار الفتنة دي.. و محدش غيرك يقدر يطفيها. و صدقني. لو معملتش ده في أسرع وقت كلنا هانخسر. و هانخسر كنير أوي …
مثل مصارعٍ محاصر عند حواجز الحلبة، تلقّى “سالم” كلمات إبنه دون أن يدفعها أو يردها عليه… فانتفض “رزق” عادلًا هندامه و هو يضيف مستعدًا للرحيل :
-بالإذن.. راجع المستشفى لاخويا. ياريت تفكر في كلامي و تشوف ممكن تتصرف إزاي قبل ما أجيب مصطفى و أرجع !
و أدار له ظهره ماضيًا صوب باب الشقة كهبة عاصفة
بينما بقى “سالم” محله، يفكر جديًا بحل ما كما نصحه إبنه.. و الحقيقة أنه وجد حلًا بالفعل …
______________
في دورة المياه المترفة كثيرًا، تشعر “نسمة” بساقيها تهاوى فتسقط بكل ثقلها فوق المرحاض المغطى… كانت تكمم فمها بكفها، بينما عيناه مثبتة على الإنبوب الطبي الصغير بيدها
كان شعورًا متضاربًا يضج بأعماقها، إذ أنها فعلتها من باب الصدفة، لا أكثر.. لم يخيّل لها مطلقًا أنها ستحصل على أيّ نتيجة إيجابية
و لكن ها هي …
-حامل ! .. غمغمت “نسمة” بصوتٍ هامس
و كررت غير مصدقة :
-حامل !
إبن  رزق !
يتبع…..
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية وقبل أن تبصر عيناك)

اترك رد

error: Content is protected !!