روايات

رواية امرأة العقاب الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب البارت الثاني والخمسون

رواية امرأة العقاب الجزء الثاني والخمسون

رواية امرأة العقاب الحلقة الثانية والخمسون

يجلس فوق مقعد خشبي طويل دائري دون ظهر وأمامه حاملة اللوحات الكبيرة وموضوعة بداخلها اللوحة البيضاء .. وبيده يمسك بالفرشاة يمررها بدقة فوق اللوحة يرسم بها لوحته المميزة .. توقف عن ممارسة هوايته المفضلة لفترة طويلة والآن قرر العودة لكن بلوحة مختلفة تمامًا عن أي واحدة سبقتها .
يداه كانت تتحرك بخفة ودقة شديدة حتى لا يخطأ بأي شيء ويفسد جمالها .. وبجانبه صوت الموسيقى الهاديء يملأ أذنيه فيغمره في عالمه الخاص غير مكترثًا لأي شيء من حوله .
انتشله من قوقعته الخاصة صوت رنين هاتفه فترك الفرشاة من يده ثم مد يده وبسبابته النظيفة فتح الاتصال ومكبر الصوت ثم عاد وأمسك بالفرشاة ليجيب وهو يكمل عمله :
_ أيوة يا محمد
آجابه الآخر بصوت مرتعد قليلًا :
_ ياباشا أنا قدام المكتبة دلوقتي .. سبت العربية بس خمس دقائق روحت الحمام ولما رجعت لقيت المكتبة مقفولة وآنسة مهرة مش موجودة
ضيق آدم عيناه باستغراب وتمتم :
_ مشيت يعني ولا إيه .. وهي ليه قعدت لغاية الوقت ده في الشغل المفروض إن آخرها الساعة عشرة !
محمد باضطراب :
_ معرفش ياباشا بس في حاجة تاني كمان شوفتها عشان كدا اتصلت بيك
بدأت تحتد ملامح آدم الذي قال بريبة :
_ في أي ما تنطق يابني
ابتلع الآخر ريقه بخوف من ردة فعله وأجاب متلعثمًا :
_ لقيت تلفونها واقع قدام المكتبة وكمان شالها اللي كانت لابساه على رقبتها
ترك الفرشاة بهذه اللحظة واتسعت عيناه بدهشة امتزجت بالغضب والقلق .. ويظرف دقيقة فقط بعد تفكير عميق منه اشعره بأن هناك شيء غامض وربما لا تكون عادت للمنزل من الأساس ! .. وثب واقفًا وهتف بسخط ولهجة آمرة :
_ اقلب المنطقة اللي حوالين المكتبة دي كلها ودور عليها في كل شبر لغاية ما اجيلك
_ حاضر .. تحت أمرك ياباشا
ترك الهاتف دون أن ينهي الاتصال حتى واندفع إلى الحمام شبه ركضًا ليغسل يديه من الألوان ثم عاد مهرولًا والتقط هاتفه وسترته واسرع لخارج المعرض بأكمله ومن بعده استقل بسيارته وانطلق بها بسرعة البرق .
طوال الطريق كانت تقذف بذهنه ألف فكرة ومن بينهم أن يتصل بصديقتها ويسألها هل عادت للمنزل أم لا .. لكنه تراجع وقرر أن يذهب بنفسه أولًا ويبحث عنها قبل أن يتصل ويثير قلقهم وخوفهم من دون داعي !  …
                                    ***
فتحت عيناها ببطء والألم يجتاح رأسها بشكل قاتل جعلها تتأوه لا إردايًا من الألم بمجرد استيقاظها .
شعرت بيديها وقدميها لا تقوى على تحريكهم فتلفتت برأسها حولها في رعب ووجدت نفسها داخل غرفة واسعة ومسطحة فوق فراش عريض ..
هي نفس الغرفة لن يتغير بها أي شيء رغم مرور السنوات .. هل ينوي إن يعيد الزمن مرة أخرى ذلك الفاسق .
حاولت النهوض وتحريك أجزاء جسدها لكن قدميها شُلت
وكلما تحاول عنوة تحريها يزداد ألمها فصرخت بالأخير من العجز والخوف وصاحت عليه باكية بغضب ناعتة إياه بألفاظ نابية :
_ إنت فاكر كدا إنك هتقدر تلمسني يا **** .. هقتلك ياعامر سامعنى
لم تنتظر سوى دقيقتين بالضبط ورأته يفتح الباب ويدخل وهو يبتسم بشيطانية ووقاحة .. اشتعلت نظراتها وصاحت منفعلة فور تذكرها أنه أجبرها على شرب مشروب غريب ومن بعده فورًا فقدت وعيها :
_ إيه اللي شربتهوني ده يا ****
ضحك ببرود وتقدم منها متمتمًا :
_ متقلقيش يا حبيبتي كلها كام ساعة وتقدري تتحركي من تاني .. اعتبريه شلل مؤقت
احتدمت عيناها وارتجف قلبها رغمًا رعبًا لكنها أبت أن تظهر له ضعفها فصاحت بشجاعة وغضب :
_ إنت مريض ومجنون .. والمرة دي مش هسيبك تنفد بعملتك زي المرة الفاتت صدقني ياعامر هخليك تعفن في السجون يا ***
اقترب من الفراش وجثى أمامها ثم مد يده لشعرها يلمسه كما اعتاد أن يفعل ويهمس باسمًا بنظرة مريبة ليست طبيعية :
_ مجنون بيكي يامهرة .. والمرة دي مش هتعرفي تهربي مني تاني
إصابتها رعشة وحالة هيستريا مقلقة فور لمسته لشعرها فصاحت باعلى صوت لديها :
_ متلمسنيش ياحيوان يا مريض .. متلمسنيش
تراجع بيده فورًا خوفًا من انفعالها وقال في محاولة لتهدئتها :
_ خلاص مش هلمسك تاني .. اهدي
انهمرت دموعها الحارقة لا إرديًا ومن ثم اشتد  بكائها القوى ليضيق هو عيناه بحزن ويقول بلوعة :
_ متعيطيش يامهرة .. صدقيني أنا مش هأذيكي المرة دي أنا عايزك تكوني معايا وبس ونكمل حياتنا مع بعض .. مش قادر اعيش من غيرك
رمقته بنظرة نارية كلها غل ونقم وهتفت :
_ يبقى موت ياعامر .. موووت
ظهر الخنق البسيط عليه لكنه تغاضى عن جملتها وتجاهلها ليسألها بحقد :
_ مين اللي بتركبي معاه عربيته ده دايمًا واللي كنتي شغالة عنده
ذلك المعتوه يراقب كل تحركاتها وعلى علم بكل شيء يخصها ! .. ثبتت نظرها في عيناه بتحدي وقالت متعمدة :
_ بحبه وهو بيحبني وهنكون لبعض
لم تخشاه ولم تتعجب عندما رأت قسمات وجهه احتقنت بالدماء وعيناه أظلمت وبدا وكأنه يرتجف رجفًا من فرط الغضب والغيرة .. وباللحظة التالية بالضبط كان يقبض على خصلات شعرها ويجذبها منهم هاتفًا بصياح هادر وتحذير مرعب :
_ إنتي بتحبيني أنا ومش هتكوني لحد غيري فاهمة ولا لا
تمردت وأبت الخضوع أمامه فتعالى صوت صراخها الهستيري وهي تطلب النجدة عل أحدًا يسمعها وينفذها من بين براثن ذلك المعتوه .. ثم صاحت به :
_ ابعد عني يا *****
_ احذري يا مهرة ومستفزنيش وياريت كمان تتكلمي معايا بأسلوب كويس .. أنا بحبك فعلًا لكن إنتي قربتي تستنفذي طاقة صبري عليكي
طالعته شزرًا بصمت ورأته يستقيم في وقفته ثم يستدير ويغادر الغرفة فعادت تحاول النهوض من جديد لكن باءت محاولاتها كلها بالفشل لتصرخ بضعف وينهمر شلال دموعها العاجزة وسط همسها الوحيد باسمه ” آدم ” !! .
                                  ***
بمكان آخر ، مختلف تمامًا ……
داخل شرفة واسعة وعريضة يجلس فوق مقعد وثير هزاز  ويستند برأسه على ظهر المقعد وعيناه متعلقة بالسماء يتأملها بشرود وعبوس .
قطع العهود مع نفسه أن لا مزيد من الهروب والاستسلام لكنها أجبرته على الإخلاء بوعوده .. يمكنه تحمل أي تصرف منها لكن قلبه وكبريائه لن يسمح له أن يكون قريب منها وعقلها وقلبها مع آخر .. لا يستطيع فرض عشقه ووجوده بقلبها .. هو ليس رجلًا من هذا النوع ! .
كلما تخطر على ذهنه وتقذف صورتها أمامه يؤلمه داخله المسكين .. الغيرة تأكله بقسوة وصدره يضيق ويخنقه أكثر مع مرور الدقائق و الساعات وكأن هناك حملًا تقيلًا يكتم أنفاسه ويمنعه من العيش براحة ! .
يسمع هسيس خافت في أعماق عقله العنيد يصرخ بكلمة واحدة ( عُد ) ! .. أما قلبه فقد انسحق واهلكته الهموم واليأس .. فقط يضخ بالدماء لأداء وظيفته الطبيعية ويحاول تضميد جروحه العميقة لكن دون جدوى ! .
رغم كل شيء فمازال ذلك القلب البائس ينتظر كلمة واحدة تعيده للحياة مجددًا .. ولا يمكنه إنكار حقيقة أن الشوق ينهيه أكثر من حزنه .. يود بشدة أن ينهض ويذهب لها ثم يجذبها بين ذراعيه عنوة ويخبرها عنادًا أنه سيحبها حتى لو لم تبادله نفس الحب ، لكن هيهات !! …
جذبه من بحر همومه القاسي صوت رنين هاتفه فأمسكه وأجاب على شقيقته بصوت مختنق :
_ أيوة يا ألاء
ألاء بحزن :
_ عامل إيه يا هشام ؟
تنهد بعمق ورد بالإجابة التقليدية :
_ كويس .. إنتي وماما محتاجين حاجة ؟
ألاء ببعض الجدية :
_ لا .. بس إنت هترجع امتى ياهشام ؟!
_ معرفش
كانت إجابة مختصرة منه جعلتها تزفر بعدم حيلة وتهتف :
_ زينة كلمتني الصبح
سمعت تنهيدته البائسة ومن بعدها وصلها صوته الثابت :
_ عارف
_ عرفت إزاي ؟!
_ عشان ده المتوقع يا ألاء .. إنتي قولتليها إيه ؟
ألاء بلطف ملحوظ في نبرتها :
_ فضلت تترجاني عشان اقولها مكانك أو اخليها تعرف تتواصل معاك ومش مصدقة إنك سافرت .. عايز الحق هي صعبت عليا .. حسيتها للحظة وهتعيط في التلفون من كتر خوفها وزعلها عليك وبالأخص بعد ما قولتلها إنك سافرت
المه قلبه وأخيرًا عاد يلح عليه أن يعود لها لكن عقله عاد وذكره بالحقيقة المؤلمة فقال بأسى :
_ زينة حاسة بالذنب وألم الضمير بس يا ألاء
زمت شفتيها بجهل وردت ببعض الثقة :
_ مش عارفة بس أنا محستهاش كدا خالص يا هشام
رفع يديه ومسح على وجهه متأففًا بخنق ثم رد عليها بصوت تخنقه العبارات :
_ سلام يا ألاء دلوقتي أنا تعبان وعايز أنام
عبست وردت بحنو عليه :
_ ماشي تصبح على خير
_ وإنتي من أهله
انهى الاتصال واستقام واقفًا ثم استدار وقاد خطواته للداخل تحديدًا إلى غرفته .. يسير بصعوبة ويسعى للبقاء صامدًا رغمًا عن كل الظروف والآلآم التي تطيح به للهاوية ! .
                                          ***
مرت ساعتين وأكثر دون أن يتوقف عن البحث عنها لكن لا أثر لها ..  الوساوس تنهش عقله نهش ، يشعر لأول مرة بقلبه يرتجف خوفًا عليها .. وسط الآف الأسئلة التي تدور في حلقة واحدة من ذهنه ولا يجد لها إجابة .
توقف أمام سيارته تحديدًا أمام المكتبة بعدما قضى ساعات يبحث عنها وعاد بائسًا من دونها بالأخير ! .. استند بظهره على السيارة ورفع هاتفها الذي بيده يتطلع إليه بقلق ويتمتم :
_ روحتي فين بس يامهرة !
دقائق معدودة ورأى سيارة الشرطة على مقدمة الشارع وبعد ثواني توقفت أمامه وترجل منها الضابط أولًا .. انتصب آدم في وقفته وتقدم من الضابط ليمد يده ويصافحه بحرارة ثم رفع الضابط يده ورتب على كتفه متمتمًا :
_ متقلقش يا آدم مش هترجع الليلة دي من غيرها
ابتسم له بود وقال دون رسمية بسبب صداقتهم القديمة :
_ اتمنى يا ياسين .. لا يمكن تتخيل أنا قلقان إزاي وخايف عليها دلوقتي
رمقه ياسين بنظرة مطمئنة وواثقة ومن بعدها بدأوا في تحركاتهم وعملية بحثهم الدقيقة المختلفة تمامًا عنه وكان هو يقف معهم لا يبتعد للحظة واحدة ! ….
                                  ***
على الجانب الآخر من تحديدًا بروما عاصمة إيطاليا ……..
خرجت جلنار من المطبخ وهي تحمل فوق يديها صحن ضخم ممتلئ بالحلوى المفضلة لابنتها وله أيضًا .. وصلت إليهم بالخارج فتسمرت قدماها بالأرض عندما وقعت عيناها عليهم وسمعت أصوات ضحكهم بوضوح .. والصغيرة وسط ضحكها القوى تهتف متوسلة أبيها أن يتوقف عن دغدغتها وهو لا يكترث لها ويبادلها الضحك ! .
بقت ساكنة تتابعهم بنظرة دافئة وعاشقة .. لا يوجد شيء تعشقه أكثر من رؤية لحظاته المميزة مع صغيرتهم .. يكون شخصًا مختلفًا تمامًا مع ابنته .. هي حتى لم يسبق لها ورأت عشق وتعلق كتعلق عدنان بابنته !! .
عقلها لم ينسى المواقف والأيام الجميلة التي شهدتها معه بعد ولادة ابنتهم .. يمكنها الاعتراف أنها شهدت على اهتمام لم تكن تتخيله منه أبدًا منذ بداية حملها وحتى بعد الولادة .
قضى أسبوعين كاملين بالمنزل معهم ولم يكترث لعمله .. اهتم بابنته مثلها تمامًا وكان لا يتركها من بين ذراعيه من فرط سعادته وحبه لها .. تتذكر أيضًا الليلة المشؤومة التي مرضت بها ” هنا ” بشدة .. لم يتركها للحظة واحدة والليل كله لازمها بالفراش يهتم بها ويعالجها .
كان يدهشها كل يوم باكتشاف صفة مختلفة بشخصيته ومازال حتى الآن يدهشها ! .
انتشلها من شرودها صوت الصغيرة وهي تصرخ بسعادة بعدما رأت صحن حلوتها المفضلة :
_ الله
ابتسمت لهم بحب ثم تحركت إليهم بهدوء ووضعت الصحن على الطاولة الصغيرة أمامهم .. وسط نظراته الرقيقة إليها دون أن تلاحظها .
وبتلك اللحظة اعتدلت هنا وجثت على ركبتيها لتقترب من أذن والدها وتهمس بخبث طفولي وحماس :
_ بابي يلا نعمل لمامي زي ما كنت بتعملي
حدقها عدنان متعجبًا ليراها تغمز بعيناها في لؤم فتنطلق منه ضحكة مرتفعة رغمًا عنه جعلت جلنار تنقل نظرها بينهم بحيرة بينما هو فتطلع بزوجته ثم بابنته وقال بغمزة لئيمة مثلها :
_ تصدقي فكرة حلوة برضوا
تللهت أساريرها ” هنا ” ورمقت أمها بنظرة حماسية ثم وثبت من مكانها واسرعت إليها لتدغدغها من أي مكان تطوله يديها الصغيرتين .. ضحكت جلنار بقوة على تصرفها العفوي والجميل .. لكن حين رأت عدنان يهب واقفًا تراجعت لا إراديًا للخلف وقالت ضاحكة وهي ترفع سبابتها محذرة :
_ لا إنت لا .. أنا مبحبش الحركة دي .. عدنان خليك مكانك!
كانت نظراته متلذذة وغرامية بنفس اللحظة .. غير مباليًا بها أبدًا وحين استدارت لتحاول الفرار كان هو أسرع منها وجذبها إليه من ذراعها ثم حملها عنوة وهو يضحك بخفة بينما ” هنا ” كان صوتها السعيد والضاحت يملأ المنزل بأكمله وبمجرد ما وضع أمها على الأريكة مثلما يفعل معها تمامًا غارت عليها وهي تستهدف هذه المرة الأماكن الأكثر حساسية حتى تضحك كما يفعل أبيها .. فتعالت ضحكات جلنار الممتزجة بصراختها البسيطة والمغتاظة منهم .. لم تكن أصابع صغيرتها البرئية كيديه الوقحة ! ..  ومن بين ضحكها كانت ترمقه شزرًا متوعدة وهو يضحك باستمتاع ويستمر في لمساته الجريئة لها عمدًا !! .
وبعد دقيقتين أخيرًا تمكنت من الفرار من بينهم لكن فور وقوفها .. تقلصت عضلات بطنها فجأة واحست برغبتها في التقيء فاسرعت للحمام مهرولة وأغلقت الباب خلفها .
لحق بها عدنان بقلق وهنا كانت خلفه .. طرق على الباب بقوة في قلق بعدما سمع صوت تقيأها القوي وقال بجدية :
_ جلنار إنتي كويسة ، افتحي الباب !!
بعد لحظات وصله صوتها الخافت من الداخل :
_ أنا كويسة ياعدنان .. دقيقة وهطلع
وقف عند الباب مغلوبًا وانتظرها لبرهة من الوقت حتى خرجت وهي تمسك بيدها منشفة صغيرة تجفف بها وجهها .. فاقترب منها ومد أناملها لخصلات شعرها التي فوق عيناها يبعدها بلطف ويهمس :
_ مالك .. إنتي كويسة ؟!
هزت رأسها بالإيجاب ثم انتبهوا لصوت هنا التي قالت باهتمام طفولي جميل :
_ اجبلك مايه يا مامي ؟
أجاب عدنان على ابنته دون أن يحيد بنظره عن زوجته :
_ روحي ياحبيبتي هاتي لمامي مايه
أماءت الصغير واستدارت ثم هرولت راكضة للخارج بينما هو فسألها باستغراب :
_ إيه اللي حصل مرة واحدة كدا ؟!
جلنار بهدوء :
_ معرفش جايز اكون اخدت برد بسيط أو ممكن من اللي عملتوه فيا ياغدارين
ابتسم بلطف ثم مال عليها ولثم وجنتها هامسًا بغمزة ماكرة :
_ تيجي نجرب تاني بس المرة دي من غير هنا !
خجلت ولكزته في كتفه بخفة تجيب بضحكة ناعمة :
_ بلاش قلة أدب بقى الله
رد باسمًا بنظرة جريئة :
_ هو في احلى منها
تلونت وجنتيها بحمرة الخجل الحقيقي ولم تجيب فقط اكتفت بنظراتها المدهوشة والمستحية لتراه يضحك بقوة ويضمها لصدره مقبلًا شعرها …….
                                     ***
كانت جالسة فوق مقعدها الخاص وبيدها كتابها المفضل تقرأ به بتركيز .. حتى صك سمعها صوت رنين جرس الباب المرتفع .. فرفعت نظرها عن الكتاب وحدقت ناحية الباب بتدقيق تتساءل عن هوية الطارق بهذا الوقت .. وحين رأت بدرية تسبقها لتفتح هي فقالت بحزم :
_ أنا هفتح يا بدرية ارجعي إنتي خلاص
التفتت لها وهزت رأسها بالموافقة متمتمة :
_ حاضر يا ست هانم
تابعتها أسمهان حتى توارت عن انظارها داخل المطبخ فاستقامت واقفة وقادت خطواتها تجاه الباب .. امسكت بالمقبض وإدارته ثم جذبت الباب إليها فاصابتها الصدمة فور رؤيتها لهوية الطارق .
تجمدت بأرضها مدهوشة وبقت تتطلع إليها بصمت حتى قطعت هي الأجواء الصامتة وقالت باسمة بسماجة :
_ ازيك يا أسمهان هانم !
فاقت من صدمتها وتلفتت حولها بخوف خشية من أن يراهم أو يسمعهم أحدًا ثم هدرت بغضب وصوت منخفض :
_ إنتي بتعملي هنا أيه وعرفتي عنوان البيت من فين
_ أخص عليكي يا هانم مكنش العشم برضوا .. ده بدل ما تقوليلي اتفضلي وتضيفيني حاجة في المملكة اللي عايشة فيها دي الله أكبر .. ده احنا في بينا حتى خـ ……
قاطعتها أسمهان بعصبية وقالت :
_ عايزة إيه .. إنتي مش حسابك اخدتيه من زمان وخلصنا الموضوع
اجابتها مبتسمة ببرود :
_ حصل .. بس أنا جاية متعشمة في كرم الست هانم أسمهان الشافعي وعايزة منها خدمة
أسمهان بنفاذ صبر :
_ اخلصي قولي عايزة إيه قبل ما آدم يجي !
اختفت ابتسامة الأخرى وقالت بثقة وجحود :
_ عايزة 15 ألف جنية
أسمهان بصدمة :
_ نهارك أسود .. إنتي مجنونة أنا هديكي 15 ألف جنية !
ابتسمت الأخرى بخبث ثم اقتربت منها وهمست بنظرة شيطانية تلقى بكلماتها في الهدف تمامًا :
_ ألا صحيح يا أسمهان هانم .. هما ولادك الباشا عدنان وآدم ميعرفوش باللي عملناه أنا وإنتي ولا إيه ؟ .. متفهمنيش غلط لا مؤاخذة ولا حاجة أنا بطمن بس عشان مغلطش بالكلام واقول كلمة كدا ولا كدا لو شوفتهم بالصدفة مثلًا .. إنتي عارفة المواضيع دي مفيهاش هزار دي فيها ااااا…….
فهمت أسمهان تلميحاتها الخبيثة .. تهددها بشكل غير مباشر وللأسف هي ضعيفة وعاجزة أمامها هي بالأخص فتلك الأسرار لو خرجت للعلن لن تتسبب في خسارتها لأبنائها فقط بل ستنهيها هي تمامًا ! .
صاحت بها تمنعها من استكمال كلامها وتقول منفعلة باقتضاب :
_ خلاص عايزاهم ليه ؟!
ردت الأخرى بابتسامة انتصار وثقة :
_ أصل الولا سيد اتمسك في حتتين حشيش بعيد عنك ولازمله كفالة عشان يخرج .. وأنا مقدرش استغنى عنه إنتي عارفة بقى ياست الكل
أسمهان ساخرة بغيظ :
_ وهي الكفالة ب15 ألف جنية برضوا !!
ضحكت وردت بنبرة مستفزة :
_ الباقي لزوم الإجراءات بقى و…..
قاطعتها للمرة الثانية بقرف وخنق هاتفة :
_ طيب طيب روحي إنتي وأنا هبقى ابعتلك الفلوس بكرا الصبح
_ لا مهو مش هينفع .. لازم دلوقتي عشان اعرف أخرجه يا هانم
ضغطت أسمهان على كفها بقوة وصرت على أسنانها في غيظ ثم ابتعدت وقادت خطواتها إلى مكتب عدنان … وبعد ثلاث دقائق خرجت وهي تمسك بيدها ظرف أبيض ممتلئ بالنقود ثم وضعته بيد السيدة  بغضب وقالت منذرة :
_ خدي ومتورنيش وشك تاني فاهمة ولا لا
فتحت الظرف وحدقت بالنقود في عيون لامعة بالجشع ثم رفعت نظرها لأسمهان وقالت بابتسامة مستنكرة :
_ تصبحي على خير يا هانم
تابعتها أسمهان بعيناها حتى رأتها غادرت المنزل بأكمله فاغلقت الباب وهتفت متأففة بخنق وعصبية :
_ كانت نقصاكي إنتي كمان دلوقتي !!
                                   ***
عودة إلى روما …….
كامنة فوق فراشها وترفع كفها الأيسر أمام عيناها وبأنامل كفها الأيمن تعبث بخاتم زواجها حول بنصرها .. تتأمله بملامح جامدة حتى شردت فجأة بذهنها تتذكر ليلة نكاحهم .. لم تبتسم بذلك اليوم ولو لمرة واحدة فقط .. بقت عابسة وبائسة وهي تجلس بجواره وينهون مراسم زواجهم التي انتهت بإعلانهم زوج وزوجة من مأذون النكاح بعد اتمام زواجهم على الطريقة الشرعية وسنة الله ورسوله .
 القى بها والدها من الهاوية ولم يبالي ليتركها تعاني هي وحدها من زوج لم يحبها .. حطم أحلامها كأي فتاة تمنت أن تتزوج من فارس أحلامها أو الرجل الذي تريده .
 حرية الاختيار لم تكن رفاهية تتمتع بها وقتها ! .
عودة إلى وقت سابق قبل أربع سنوات ……..
فتح عدنان باب المنزل وتنحى جانبًا حتى يفسح لها الطريق للدخول أولًا .. دخلت بخطوات مرتبكة وتجولت بنظرها في أرجاء المنزل الذي تراه للوهلة الأولى ويبدو أنها ستعيش به من الآن وصاعدًا .. كانت الوان الحوائط كلها من إحدى درجات اللون الأبيض المميزة والأثاث فخم ومثير للإعجاب .. رغم كل شيء يحدث معها حتى الآن إلا أنها اعجبت بالمنزل حقًا .
 انتبهت لصوته الخافت من خلفها وهو يقول :
_ لو في حاجة مش عجباكي وحابة تغييرها .. براحتك ده بيتك واعملي فيه اللي تحبيه
التفتت له برأسه وطالعته بصمت وخنق ثم ابتعدت وقادت خطواتها إلى الدرج تصعد للطابق الثاني ثم دخلت لأول غرفة وجدتها أمامها .. ولحسن حظها أنها كانت غرفة نومهم أو نومها بمنظورها هي .. جلست فوق الفراش وراحت تتلفت حولها تتفحص الغرفة بفتور وبؤس .. وبلحظة امتلأت عيناها عندما تخيلت أنها ستعيش هنا مع ذلك الرجل .. كيف ستسمح له بلمسها من الأساس وهي تعلم جيدًا سبب تقربه منها إذا فعل ! .
دفنت وجهها بين كفيها وأخذت تبكي بحرقة وصوت مرتفع وصل لأذنيه بالخارج عندما كان في طريقه إليها .. فأسرع في خطاه إلى الغرفة وفتح الباب ثم دخل .. وقف للحظة مكانه يتطلعها بصمت ثم تنهد الصعداء وتقدم منها بهدوء حتى جلس بجوارها ورفع يده يلمس ذراعها بلطف متمتمًا :
_ مالك يا جلنار ؟!
ارتجفت على أثر لمسته وكأن عقرب لدغتها فابتعدت عنه فورًا لحافة الفراش تقول بغضب :
_ متلمسنيش !
ضم ذراعه له وأجابها بنظرة ثاقبة ولينة :
_ جلنار أنا مستحيل اذيكي ولا يمكن المسك أو اقربلك أبدًا وإنتي رافضة .. اطمني ومتقلقيش أنا مش هقربلك
اشاحت بوجهها عنه للجهة الأخرى وقالت بصوت مبحوح تخفي دموعها عن أنظاره :
_ أنا عايزة أنام .. ممكن تطلع برا
تنهد بخنق وعدم حيلة وبداخله توعد لنشأت فلو كان يعلم أنها لا تريده بهذا الشكل لم يكن ليكمل الزواج أبدًا .. لكن أبيها خدعه وأجبر ابنته على الزواج منه ! .
استقام واقفًا وقال بنبرة دافئة :
_ طيب تصبحي على خير .. أنا هنام في الأوضة التانية لو احتجتي حاجة اندهي عليا
لم تجيبه ولم تنظر له بل تجاهلته تمامًا كأنه نكرة وحين سمعت صوت الباب يغلق من جديد عليها فانهارت في البكاء من جديد لكن هذه المرة بصمت حتى لا يسمعها مرة أخرى …..
عودة للوقت الحاضر …………
انتشلها من بحر ذكرياتها .. نفس الصوت .. صوت عُقابها ! .. اعتدلت في نومتها والتفتت له مبتسمة بهدوء ليدخل بجوارها في الفراش ويسأل باستغراب :
_ سرحان في إيه ؟!
عادت وحدقت بالخاتم في تنهيدة طويلة وقالت :
_ بفتكر يوم جوازنا وأول يوم لما دخلت البيت
سكت وعبست ملامحه يستعيد أحداث تلك الليلة بالتفصيل ثم أردف ببحة مميزة :
_ كنت متعصب جدًا وتاني يوم روحت لنشأت واتخانقت معاه إنه مبلغنيش إنه غضبك وإنك رافضة الجواز مني ومش عايزاني
جلنار باسمة ببعض الاستنكار :
_ وإنت كان هيفرق معاك في إيه !
رمقها متعجبًا ببعض الدهشة من ردها وقال بخشونة :
_ هيفرق طبعًا ياجلنار مكنتش هجبرك تتجوزيني ومكنتش هقبل يعني كنت هلغي الجوازة تمامًا لو كنت اعرف
اعتدلت حتى أصبحت مواجهة له مباشرة وقالت بنظرات ثابتة في عيناه وبقوة :
_ طيب ما أنت أجبرتني ياعدنان ورفضت تطلقني لما طلبت منك الطلاق
لم يتردد للحظة في إجابته حيث قال دون تفكير في نظرة عميقة :
_ ده عشان حبيتك بعد كدا ياجلنار واتعلقت بيكي فمكنتش قادر أتقبل فكرة إني اسيبك أو ابعدك عني
توقف للحظة ثم تابع بعاطفة ونبرة كالحرير :
_ أنا قولتلك قبل كدا إني إناني في حبي للأسف .. يعني لما بحب برفض فكرة الفراق تمامًا .. عايزك تكوني ليا لوحدي وبس ومفيش جنس مخلوق يبصلك .. ولو اقدر اخبيكي في قلبي من عينهم هعمل كدا .. عشان كدا مش بتخلى ورفضت اتخلى عنك واطلقك
ابتسمت ثم قالت بترقب لرده :
_ طيب نفترض إني طلبت منك تسيبني في مرة عشاني أو إني مش عايزاك أو ……..
منعها من استرسال حديثها وقال بحزم واستياء بسيط في نبرته :
_ مستحيل يا جلنار .. وعايزك تفهمي حاجة واحدة احنا مخلوقين لبعض يارمانتي يعني مفيش حاجة هتقدر تفرقنا .. نهاية الحكاية محتومة من بدايتها
طالت النظر إليه بعشق ثم ارتمت عليه وعانقته بحرارة وقوة .. ليبتسم هو بحب ويضمها إليه أكثر وبعد ثواني معدودة اخترقت همستها أذنه بالكلمة المنتظرة والتي يتوق قلبه لسماعها :
_ بحبك ياعدنان !
يتبع…..
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية امرأة العقاب)

اترك رد

error: Content is protected !!