Uncategorized

رواية ندبات الفؤاد الفصل الثامن عشر 18 بقلم زيزي محمد

 رواية ندبات الفؤاد الفصل الثامن عشر 18 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل الثامن عشر 18 بقلم زيزي محمد

رواية ندبات الفؤاد الفصل الثامن عشر 18 بقلم زيزي محمد

زفر سليم بحنق وهو يتجه مع يزن وزيدان للشقة التي استأجرها يزن لعدة أيام، ورغم أنه كان غير راضيًا بالمرة للجلوس معهما وذلك لأن قلبه مازال يحمل حزنًا لِمَ فعلوه مع شمس من خلفه..بالاضافة إلى تراكمات الماضي التي تقف حاجزًا منيعًا في تخطي مشاعره القاسية وذوبان قشرة الغضب التي غلف بها قلبه.
خرج من المصعد خلفهما وفمه لم ينبس بكلمة واحدة، وكأنه فقد الحديث فجأة، وحقيقةً هو لا يدرك أنه يوجد بينهما مواضيع مشتركة كي يتحدثوا بها..رغم أن زيدان ويزن لم يفصلا حديثهما منذ مغادرتهم لبناية شمس.
فتح يزن باب الشقة وأشار إليهما بالدخول قائلاً بترحيب:
– الشقة نورت والله يا جدعان.
دخل زيدان اولاً متمتمًا بحنق وعيناه تتجول في أرجاء المكان:
– هي كانت شقتك..ده أنت مأجرها يومين.
اغتاظ يزن منه فقال:
– ده بدل ما تشكرني انك منمتش في الشارع.
جلس سليم فوق أول كرسي والصمت كاد أن يقتله، شاعرًا بفضولاً رهيب كي يتذوق حلاوة الحديث معهم، انتبه إلى سؤال زيدان المتعجب:
– هي الاوضة دي مبتفتحش ليه!.
صمت يزن ثوان وهو يجلس بجانب سليم قبل أن يعود قائلاً بحنق طفيف:
– فيها برص كبير دخل من الشباك فأنا قفلتها عليه!.
ردد سليم خلفه بنبرة ساخرة لم يستطع منعها:
– فيها إيه؟!، برص.
رمقه يزن بضيق شديد لعلمه أنه سيكون مجالاً للسخرية الآن منهما، لن يتفهما بالطبع أنه يعاني من فوبيا الخوف والاشمئزاز من رؤيتهم أمامه.
– طب هات المفتاح..ادخل اموته.
قالها زيدان بنفاذ صبر، فصاح يزن بعصبية:
– بقولك إيه المفتاح كمان نزلته للبواب تحت الصبح..قولت مش هستخدمها اخليه معاه أحسن.
– ايوا أنت جايبنا هنا نعمل إيه!.
سأله سليم بنبرة هادئة متعجبة، فأجاب يزن ببساطة:
– تناموا..يعني أنا غلطان.
تقدم منه زيدان بضيق:
– ننام فين..احنا التلاته على سرير واحد!.
– وفيها إيه دي ليلة وهتعدي.
فرك سليم وجهه بإجهاد قائلاً:
– طيب انزل هات المفتاح يا يزن..واحنا هنتصرف ونموت البرص.
زفر يزن ثم اتجه صوب الباب متمتمًا ببعض الكلمات، بينما اتجه زيدان للنافذة يفتحها، كي يدخل الهواء العليل للشقة.
اغلق سليم عيناه وأرجع رأسه للخلف محاولاً التفكير بمرهقته التي اكتسبت شعاع التمرد، وتحولت من قطة وديعة إلى شرسة تلتمع عيونها بوميض العناد.
بينما دخل زيدان النافذة كي لا يضع سليم في موقف حرج، ربما لا يحبذ الجلوس معه..شاعرًا بالشفقة عليه قليلاً لما يمر به من مصائب ترهق النفس، وتمزق الروح وخاصةً أن شمس بمثابة مرفأه من ضلال عتي غمر روحه.
***
جلست شمس مع جارتها تستمع لمحادثتها مع الحاج محمد، حيث قدمت جميع الاعتذارات الممكنة عما بدر من سليم في حق ولده طه، والأضرار التي حدثت بالمكتبة..أغلقت الهاتف بعد محادثة تمت لاكثر من نصف ساعة.
فسألتها شمس بلهفة تحمل خوفًا من قرار الحاج محمد بطردها وله الحق بذلك فالضرر كان كبيرًا بالمكتبة وبولده:
-قالك إيه؟!
تجهم وجه ام رجاء تخبرها بعدم رضا:
– زعلان اوي والصراحة له حق..باين جوزك بهدل الدنيا.
هزت شمس رأسها وهي تتطالعها بأسف عما بدر منه..فقالت ام رجاء بابتسامة واسعة:
– بس أنا اعتذرت والراجل قدر الموقف ووافق يرجعك الشغل بس تتفهمي مع جوزك ميروحش تاني هناك.
بترت شمس حديثها بحدة طفيفة تعجبت لها الاخرى وهي تصحح بقولها:
– طليقي.. مش جوزي.
وكأنها تثأر لكرامتها بنبرتها المشتعلة تلك، حيث مازال الجرح الذي سببه بقلبها حينما طلقها بكل سهولة وكأنها لم تعني له شيء يستمر بنزيفه..إلى جانب أنها بدأت تشعر بأن كلمة الزواج هي تلك الغمامة التي تعيق حياتها وتجعله متحكمًا بشخصيتها دون أن يعطيها فرصة التعبير، فبدأت تشعر بحريتها بعض الشيء، رغم أن هناك مشاعر كانت تتراقص بالفرح حينما رآته أمامها بعد غياب طال لعدة أسابيع بينهما..فمازال القلب الاحمق ينبض لأجله.
انطلقت شمس تغادر نحو شقتها وهي تفكر في كيفية إبعاده عن عملها، فهو ليس بشخص عادي كي تتحدث معه بهدوء ويتقبل رأيها بصدر رحب، بل أن الحديث معه سيكون فاشلاً وبجدارة..
مالت برأسها نحو الوسادة وهي تتذكر تفاصيل اليوم فشعرت بانتفاخ صدرها بالفخر والثقة..وشجعت نفسها على المضي بهذا الطريق، مقررة أن تجعله يتذوق العذاب الوان حتى يعلم مدى الوجع الذي مرت به أثناء انتظارها كالحمقاء تتمنى عودته لها أثناء غيابه لأسابيع بعد انفصالهما.
***
فتح زيدان باب الغرفة ووجه محبب بالعرق الشديد قائلاً:
– ده برص ابن ****، عايز حد معايا يزق الدولاب علشان دخل وراه.
ابتعد يزن للخلف أكثر رافضًا دخوله بالمرة مشيرًا نحو سليم الجالس بهدوء مكانه:
-يلا يا سليم البرص مستنيك.
تنهد سليم بعمق متجهًا صوب الغرفة هو الآخر وقبل أن يدخل رمق يزن باستفزاز واضح، فأبعد الأخر نظره لا يريد الدخول في حرب كلامية أغلبها ستكون ساخرة في حقه.
اغلق يزن الباب خلفهما داعيًا الله أن يأكلهما البرص معًا في جملة ساخرة حاقدة عليهما.
بالداخل حاول سليم وزيدان تحريك الدولاب الضخم معًا واضعين خطة في قتله وانهاء تلك الليلة الغريبة…وقبل أن يحرك السليم التحريك الأخير أخبره في وجوم:
– أنا هحرك وانت بسرعة اضربه.
تشدق زيدان متهكمًا:
– والله اتمني ده كلب بيهرب من الواحد، بس يلا نحاول.
حرك سليم بالفعل الدولاب وحاول زيدان تصويب آلاته المختلفة من شبشب وعصاه وأشياءًا أخرى جهزها له يزن.. وبعد كل ذلك لم ينجح بسبب ضيق المسافة وفر البرص نحو سليم فأشار زيدان بصوت مرتفع..
– حااااااااااسب.
انتفض سليم هو الأخر ناظرًا حوله بتعجب:
– ايه يابني في إيه!.
– كان جاي عندك..كنت موته.
قالها زيدان بنفاذ صبر، فهتف سليم بحنق:
– ده انا هق’تلك انت..
حركا رأسهما اتجاه مكانه الجديد..فاستمع سليم ليزن المتسائل بنبرة متوترة:
– ايه اللي حصل يا سليم.
أشار سليم لزيدان بالصمت وأخرج نبرته جادة:
– طلع عندك يا يزن من تحت الباب.
استمعا لنبرة الفزع التي احتلت صوت يزن وهو يتسائل:
– ايه طلع هنا..قولتلكوا بلاش تدخلوا.
انفجر زيدان ضاحكًا، ليقول بعدها:
– الله يخربيتك..اقعد ساكت يا اهبل.
طرق يزن بيده على الباب بقوة مهددًا إياهم:
– بطلوا هزار ..اصل اطردكوا في الشارع زي الكلاب.
توسعت أعين سليم مشيرًا نحو نفسه قائلاً بزهول:
– زي الكلاب دي ليا.
هز زيدان رأسه بصمت والأسف المصطنع يتلاعب بعينيه..فتوعد سليم له بصوت خافت، واتجها مجددًا صوب البرص محاولين قتله وأخيرًا نجحت محاولاتهم وبعد عناء طويل بسبب قطع الاثاث المتناثرة في كل مكان.
اتجه سليم صوب البرص وأمسكه بمنديلاً ثم غمز لزيدان الواقف مندهشًا منه..فبدا مراهقًا يتصرف بصبيانية، والتمعت عيونه بشراسة الانتقام المشاكس..
خرجا معًا راسمين ملامح الانتصار..حتى توقف سليم أمام يزن يأمره بأن يفتح يداه، ففتح الأخر يده ظنًا منه أنه سيعطيه المفتاح، بسط كفيه بملامح هادئة، حتى انتابه الذعر حينما وجد البرص بيده، فرفعه لأعلى وانتفض عدة مرات للخلف مترنحً يمنيًا ويسارًا وسط ضحكاتهما.
– ايه الهزار البايخ ده ياعم.
اقترب منه سليم هامسًا باستفزاز:
– علشان متطولش لسانك معايا تاني.
هز زيدان رأسه بيأس متجهًا صوب الغرفة مجددًا كي يريح جسده فالاجهاد طاله بشدة، ولكن ما ان اقترب حتى شعر برائحة كريهة تنفذ من الفراش..شعر بالنفور قائلاً بصوت مرتفع موبخًا به يزن:
– أنت يابني ايه السرير المعفن ده.
التوى فم يزن بتهكم:
– ده اللي عندي، وبعدين قعدت اقولكوا بلاش الاوضة دي أصريتوا براحتكوا اشربوا بقا.
ضربه سليم بخفه فوق كتفه وهو يقول:
– انت مظبط حد في العمارة دي..أنا شامم ريحة مش لطيفة.
هز زيدان رأسه قائلاً باستحقار:
– أكيد..لازم يتنازل علشان يأجرها..وهو معندوش أغلى من قلبه الرهيف قدام البنات.
– خلصتوا هزار..أنا فعلاً ملقتش غيرها قريبة من مكان شمس علشان لو حضرتك جيت وعملت حاجة فيها.
ضيق سليم عيناه بتفكير، محركًا رأسه بالإيجاب عدة مرات وهو يتجه صوب الغرفة الأخرى..مشيرًا لزيدان بخفة بأنه يتبعه، حتى دخلا وقبل أن يدرك يزن تخطيطهما كانا أغلقا الباب بالمفتاح..
فضرب يزن الباب بعنف قائلاً بنبرة شرسة:
– افتحوا الباب أنا مش هنام في الصالة.
ومن خلف الباب هتف سليم ساخرًا:
– نام في الصالة علشان تبقى قريب من شمس يا حبيبي.
– دلوقتي بقيتوا حلفاء ضدي.
قالها بحنق، فهتف زيدان بنبرة هادئة وهو يتجه صوب الفراش يخفى نبرة توتره:
– عيل غبي هو احنا من امتى كنا اعداء.
رمقه سليم بتفكير شاعرًا به فلأول مرة تتقلص الفجوة بينهما منذ أعوام كانت تتوسع بالجفاء والصمت القاتل لمشاعرهما المترابطة في علاقة الاخوة، اتجه سليم هو الاخر صوب الفراش وهو يخلع الجاكت متمتمًا بصوت خافت ساخر:
– دايمًا بتسألني بهتم بيزن ليه..اهو علشان هو مش مسؤول عن نفسه.
رفع زيدان عينيه بصدمة لم يكن متوقعًا أن يتجرأ سليم ذات مرة ويخبره بسلاسة سبب قربه من يزن، اخفى اندهاشه سريعًا قبل أن يلاحظه سليم، وحرك رأسه متفهمًا والكلام يداعب طرف لسانه كي يفتح مجالاً للحوار معه، ولكنه خائفًا من رد فعل يزهق أمله المتجدد في تدمير البُعد بينهما..فالتزم الصمت سامحًا لمشاعره بتلذذ اللحظة الفريدة التي جمعتهما معًا منذ سنين في غرفة واحدة.
بينما دار يزن ذهابًا وإيابًا منتظرًا أن تنتهي مزحتهما ويفتحا الباب، فلن ينام فوق تلك الأريكة الصغيرة بجسده الكبيرة ويعود صباحًا بآلام يعاني بها ظهره وساقيه.
تذكر أمر البرص وأنه وُضع في يده، فشعر بالاشمئزاز وركض باتجاه المرحاض يمرر الماء والصابون فوق كفه باتقان شديد.
***
قرر سليم العفو عن يزن بعد طرقه المستمر على الباب كلاجيء حزين فقد المأوى فجأة، فتح الباب بعيون ناعسة هاتفًا بصرامة طفيفة:
– تدخل تنام مسمعش صوتك.
ازاحه يزن بيده متجهًا صوب الفراش دون حديث، رقد بجانب زيدان النائم وقام بإزاحته قليلاً فاندهش سليم لفعله الأحمق قائلاً من بين أسنانه:
– هتوقع اخوك يابني…
– واخد السرير كله..وبعدين أنا اطول منه عايز اخد راحتي.
هز سليم رأسه بيأس ثم رقد بجانبه فأصبح يزن بالمنتصف، وفور أن وضع رأسه فوق الوسادة حتى غرق في النوم…لقد قرر اعطاء عقله فرصة بالراحة بعدما اجهده لأيام، يكفي أنه اطمئن عليها وأنها بأمان.
لم يمر إلا دقائق بسيطة وشعر بيد يزن تحاوطه، تسرب النوم من عينيه ففتحهما سريعًا..يهبط ببصره حيث يد يزن الموضوعه عليه بتملك..حاول إبعاده عنه ولكنه متمسكًا به بطريقة جعلت القلق يسير في أوردته..
– انت ياله ابعد عني، انت بتحلم بمين بالظبط!.
همهم يزن بكلمات غير مفهومه، فتعجب سليم:
– لحقت كمان تتكلم وانت نايم.
هز رأسه بإيجاب، فضغط سليم فوق شفتاه وجذب الوسادة ثم القاها فوق رأسه بغيظ شديد، وقرر النهوض كي يجلس في الصالة أهون من النوم بجانب ذلك المعتوه.
***
صباحًا..
تنهد سليم وهو يتابع أشعة الشمس تدخل الشقة من النافذة بعيون ذابلة فاقدة للشغف، شاعرًا بضجيج يحتله..غير قادرًا على تحديد ما يريده في ظل هذا الضغط النفسي الذي يمر به.
انتبه على خروج زيدان من الغرفة، قائلاً بصوت ناعس يغلب عليه الأرهاق نتيجة لعدم نومه بطريقة مريحة بسبب عفو سليم عن يزن وادخاله في منتصف الليل كي يغفو بجانبهما…وبالطبع انفرد يزن بالفراش حتى أنه شعر بنهوض سليم وخروجه من الغرفة بعد محاولات عديدة كي يعتدل يزن بجسده…
– تور نايم على السرير..
وحين انتبه لجلوس سليم مسترخيًا على الأريكة…القى تحية الصباح عليه وهو يهندم ثيابه أمام المرآة..تعجب سليم له فقال متسائلاً:
– راجع القاهرة.
– اه رايح لشغلي.
أومأ سليم متفهمًا ثم التزم الصمت غارقًا في كيفية ترويض تلك الشرسة من جديد، يبدو أن الطريق أمامه صعب مع شخصيتها الجديدة التي يجهل حقًا متى تلبستها فجأة، وكعادته لا يريد أن يفرض عودتها له اجبارًا..تاركًا لها مساحة صغيرة كي توافق بإرادتها.
وقبل أن يغادر زيدان، توقف طالبًا منه الانتظار، مردفًا بصوت جاهد على إخراجه بعدما تفاقم كبريائه حد السماء بداخله رافضًا اللجوء إليه..ولكن عقليته تحتم عليه أن يطلب منه هذا الأمر..لانه الوحيد التي تتمثل به الثقة التامة في هذا.
– عايزك وقت ما تبقى فاضي تجبلي أنس هنا.
قطب ما بين حاجبيه متعجبًا:
– أنس ليه؟!، سيبه مع ماما وبابا افضل.
حك أنفه وهو يجيبه بلامبالاة تنافي مشاعره التي يخفيها بداخله حينما قرر استخدام أنس في تصحيح ذلك الجفاء الذي احتل عيناها من ناحيته..فالعاطفة دائمًا ما تحركها وواجب المسؤولية سيدفعها للرجوع إليه.
– ماما قالت انه بعيط باستمرار علشان أمه وأنا.
تفهم زيدان وأومأ بإيجاب، مقررًا المغادرة ولكن قبل أن يغادر استذكر ما فعله بعمته، فأخبر سليم به ظنًا منه أنه سيفرح لذلك ولكنه تفاجأ بقوله الحاد:
– وانت تروحلها ليه..مالكش دعوة بيها تاني.
– دي كانت بتحاول توقع ما بيني وبينك، لازم تقف عند حدها.
حرك سليم رأسه برفض قاطع..يخبره بصرامة:
– بردوا مالكش دعوة بيها ابعد عن شرها خالص..أنا كفيل بيها.
شعر بالضجر لإصرار سليم على معاملته كطفل صغير لا يقوى على المواجهة.
– أنا مش صغير يا سليم واعرف احمي نفسي كويس..
فقد سليم هدوئه ليقول بنبرة فاضت بمشاعره الخفية التي زلزلت كيان زيدان..واضطرب قلبه اشتياقًا لعناقه مثلاً.
– وأنا مش هستحمل تأذي حد فيكوا..عمتك ياما اذتني في الشغل..وشوفت منها اللي محدش شافه، ابعد عنها.
رضخ زيدان لحديثه كي يطفئ نبرة الخوف التي سيطرت عليه، فهدأ سليم بالفعل ولاشك أن التعجب طاله حينما وافق بكل سهولة.
***
تحركت ليال مع سيف للمغادرة من المشفى بعد ليلة قضاتها بالغرفة تنفيذًا لأوامر الطبيب.. وحقيقةً الجلوس في المشفى ساعدها بالتحسن بسبب آلام رأسها التي كانت ترفض التخلي عنها حتى تحت تأثير المسكنات، بالإضافة إلى خوفها من عودتها للشقة مرة أخرى، فلن تقدر على الجلوس بها وحدها..لقد مرت بتجربة مريرة افقدتها الامان…وبعد أن كانت شقتها ملجأها التي تحتمي بها من غدر الزمن، أصبحت لا تطيق الرجوع إليها.
شعر سيف باضطرابها اللحظي وهي تخطو معه باتجاه السيارة، وأدرك ما تحاول أن تخفيه عنه، فقال بهدوء يحسم خوفها البادي في ارتعاشة أصابعها:
– هتقعدي مع فاطمة النهاردة لغاية ما اشوف الشقة ونغير الباب.
– وأنت هتكون فين!.
وبنبرة باردة اخبرها:
– مالكيش دعوة.
رفضت قائلة ببرود مماثل:
– معلش وأنا مش هسمح ان تخرج من بيتك بسببي.
قاطعها حينما سألها بتهكم:
– وانتي مين سمحلك يا ليال..لازم تعاندي يعني.
– ده مش عناد يا بشمهندس، هو حضرتك مش ملاحظ انك بتتحكم في حياتي.
ردت بحدة، بينما أجاب بوجوم:
– هو لما نخاف عليكي نبقا غلطانين.
– مين انتوا؟!
قالتها بانفعال بات واضحًا عليها حينما شعرت بمراوغته..
فتح لها باب السيارة مجيبًا بنبرة ثلجية ساخرة:
– أنا وعم الحاج اللي هناك ده، والست اللي هتموت وتعرف احنا بنتكلم في إيه..
كانت تنتقل حيث يشير بعينيه بذهولاً لما يقوله، فاستطرد بحنق:
– متدخلنيش بتفاصيل والشمس هتحرقنا..يلا.
استقلت بضيق فلم تحبذ أبدًا أن ينهى الحوار بينهما هكذا..وحينما لمحته يجلس على كرسي القيادة، عقدت حاجبيها وهي تردف بإصرار:
– أنا أصلاً قررت انقل من الشقة والمنطقة كلها.
كانت تلقي الكورة بملعبه تنتظر تصريحًا واضحًا لمشاعره الغامضة اتجاهها، حيث لم تعد تعلم أهي من باب الإخوة أم الجيرة أم أن هناك مشاعر أخرى تكمن مثلاً في إعجابه بها…التفت برأسه نحوها فجأة يطالعها بعدم فهم:
– شقة إيه اللي تنقلي منها.
– شقتي.
أجابته ببساطة ولم تدرك انها بقولها هذا ستعيق ما يخطط له، أطلق عقله إنذارات الهمة كي يجري اتصالاً بعمها لينجز في مهلة تفكيره، فالأمر مع تلك العنيدة لن يجدي بنفع هكذا، وان لزم الأمر سيتزوجها دون حضور عمها.
بينما هي استدرات برأسها نحو الجهة الاخرى تراقب الطريق بعيون شاردة، غارقة في احزان وحدتها، ومشاعرها غير المفهومة نحوه..حتى الآن يحارب عقلها كلمة الحب التي كانت تندفع بين حين وآخر لها، بسبب مشاعرها المنجرفة نحو ذلك المتعجرف الذي استطاع أن يحظى على اهتمامها بالكامل.
***
انهى مهمة المراقبة لها بعدما كانت تساعد العاملين بمهمة تنظيف المكتبة من الفوضى التي طالتها بالأمس..انتظر خروجهم جميعًا وبقيت هي وحدها..فقرر الدخول متحدثًا معها بهدوء كي تتخلى عن أفكارها تلك التي لن تجدي إلا بالضرر لهما، فلن يتركها هو تعمل لدى أحدهم ولن يرضى أساساً بتعاملها مع رجال غرباء عنها، يكفي ما يشعر به الآن من ثوران لمشاعره والتي كانت تدفعه لاختطافها من أمامهم، غير قادرًا على تحمل نظراتهم حتى وإن كانت بريئة.
كانت تتحرك بنشاط وهمة ولكن ما إن لمحته تبدد الحماس لديها، وظهر تجهم ملامحها له، توقف عن الحركة للحظات وطالعها من بعيد، مندهشًا من ضيق ملامحها والذي ظهر له وكأنه هو الاستقبال الذي يستحقه فتبدل الحال بينهما..وأصبح هو المذنب بحقها وليست هي، تعاقبه بل تعامله بكره لرد فعل صدر منه بسبب ما كانت تخفيه عنه، غير مدركة أن الخطأ يقع على عاتقيها من الأساس.
– خير يا سليم، مش كفاية اللي حصل امبارح.
أشارت بيدها على الضرر الناتج عن عراكه مع طه..فقال ببرود ثلجي:
– اللي حصل ده انتي كنتي السبب فيه، لما رفضتي نتكلم لوحدنا.
تابعت بروده المتحكم به حتى أثناء محاولاته في انقاذ علاقتهما.
– ومن حقي ارفض، يبقى مكنش ليك الحق انك تعمل كده في مكان شغلي.
احتدت عيناه وهو يتابع إصرار كلماتها الأخيرة والتي لوحت له بعدم موافقتها بترك عملها من أجله.
– شغلك ده انتي هتسبيه يا شمس، وهترجعي معايا البيت.
عقدت ذراعيها أمامها وهي تطالعه بتهكم أشعل نيران الغضب داخله:
– ده لما تردني وتطلبني في بيت الطاعة مش كده!.
– أنتي عارفة كويس أن عمري ما اعمل حاجة غصب عنك، صح ولا لا..
تفهمت مقصده الذي رمى إليه بنهاية حديثه، يذكرها بموافقتها التامة في أي قرار اتخذه بحقها، فردت بشراسة لأول مرة يعهدها منها:
– تمام وأنا مش عايزة أرجعلك تاني.
سألها بهدوء استفز ثباتها:
– ليه يا شمس؟!
تجمعت الدموع بمقلتيها سريعًا وهي تنظر له غير مصدقة سؤاله البارد بحق ما عاشته معه:
– ياااه ليه ياشمس!، يمكن مثلاً علشان انت طلقتني..
بتر حديثها ملوحًا لها لحديثهت الذي جرح كرامته.
– كنتي أنتي السبب فيه لما قولتي كلام جرحني.
ضربت المكتب الزجاجي بيدها بعصبية:
– قصاد كام مرة انت جرحتني فيهم!.
تقدم منها بخطوات هادئة فتراجعت للخلف رغم أن المكتب يمثل حائلاً بينهما:
– أنا عمري ما جرحتك وانتي عارفة كده كويس، بدليل عمرك ما جيتي ولا واجهتيني بحاجة زي دي، أنا كنت بعاملك غير أي حد، وانتي قابلتي ده كله بانك حطتيني في خانة المغفل…
صرخت قائلة:
– مش مغفل على قد ما هو خوف منك.
ضحك متهكمًا:
– ليه هقت’لك..هضر’بك، قوليلي هعمل فيكي إيه!.
ابتسمت ساخرة له وهي تشير بيدها:
– كنت هتطلقني..أنا كنت بحاول احافظ على حياتي معاك اللي انت في لحظة بعتها.
ضرب صدره بيده مردفًا بغضب جامح حاول تحجيمه من أجلها:
– حطي نفسك مكاني، انتي خونتي عهد ما بينا…خالفتي رأي من ورايا، جرحتيني بكلامك وانتي عينك في عنيا، كنتي بتتحامي في زيدان مني، عايزني اعملك إيه اخدك في حضني.
جزت فوق أسنانها وهي تتابع حديثه بعيون باكية وأنفاس متقطعة لقد راقبت ضرباته بصدره، فقالت بصوت خافت يعبر عن اشتياقها لمشاعر افتقدتها حتى في وجوده:
– وماله..أنا طول عمري تحت ضلك مبعملش حاجة غير برأيك..كنت بالنسبة ليا الاب والاخ والسند كنت عاقبني بس متهدش حياتنا وراجع بعد ده كله تقف قصادي بكل غرورك تقولي ارجعي…لا مش هرجع.
خرجت نبرته خافته وهو يسألها بهدوء يخفي خلفه تهديد واضحًا لها:
– وأنس؟!
رفعت أصابعها تشير لها بالنفي القاطع، لتقول بنبرة ثقيلة كانت تثلج بها نيران مشاعرها المشتعلة:
– ابني هيفضل معايا..حتى لو غصب عنك انت شخصيًا..أنا مبقاش يهمني وهقف قصادك يا سليم لأخر نفس عمري.
اقترب منها اكثر هامسًا أمام عيناها التي ود أن يقبلهما من شدة اشتياقه لها..مرورًا بشفتيها التي تتوق لمذاقهما، ارتشعت اثر نظراته المتملكة لها…فأصرت هيي على إرسال نظرات القسوة والجمود له والا ترضخ لمشاعره كعادتها…فلن تقبل بمشاعره الصامته بعد ذلك، لدرجة أن حاسة السمع لديها افتقدت لسماعها كلمة من أبسط حروف الحب والغرام..فحتى هي كان بخيلاً بها..انتبهت على صوته يخبرها في تحدِ:
– وانتي نفسك قصير يا شمس، وهتشوفي.
القى بكلماته ثم غادر المكتبة وكأنه لم يثير زوبعة في مشاعرهما…ونيران أضرمت بعقولهما التي كانت تدفع كلاً منهما لتحقيق ذاته على حساب الآخر دون أن يتنازل الطرفان.
***
اطمئن سيف على وجود ليال بشقته مع فاطمة رغم اعتراضها والذي حقًا اجهده كثيرًا، مستخدمين كل الطرق في اقناعها حتى أنه لجأ لتخويفها من الشقة واللص الذي سيعود ثانية فرضخت بعد فترة وهي تلقي بكلماتها التي كانت تلوح بأمر انتقالها من المنطقة وعند هذا الحد انتفض قلبه بخوف ألا تتم خطته بالزواج منها..خطة وضعت اولى خطواتها وهي مقابلة عمها واقناعه بالمجيء كي يتتم عقد زواج هو جهل أساساً كيفية اقناع تلك المتمردة به.
زفر بحنق حينما تعقدت الأمور بينهما، فلو كانت مشاعرهما واضحة وصريحة لسهلت الأمر عليه، ولكن غموض أحاسيسها اتجاهه يجعله كالناجي من حرب خاضها مع نفسه كي يعترف بحب داهم قلبه ومن بعد ذلك قابل حصون قلبها المنيعة التي لم يقدر على هدمها..
– إن شاء الله اللي أنا حاسه من ناحيتها مش غلط، هي بتحبني بس معوقة في مشاعرها.
كان يهمس بها وكأنه يدفع نفسه المتخاذله من اتمام ما يريده..أمسك بالهاتف وقرر الاتصال بعمها، فأجاب الرجل عليه وأخبره بموافقته للمجيء وسيكون غدًا متواجدًا كي يتمم عقد القران.
اغلق سيف الهاتف ناظرًا أمامه بشرود كالذي فقد حواسه فجأة..فكل ما يدور بخلده هو كيفية اخبارها بأن زواجهما غدًا!.
___________
يتبع ……
لقراءة الفصل التاسع عشر : اضغط هنا
لقراءة باقى فصول الرواية : اضغط هنا

اترك رد

error: Content is protected !!