روايات

رواية امرأة العقاب الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب الفصل التاسع والخمسون 59 بقلم ندى محمود توفيق

رواية امرأة العقاب البارت التاسع والخمسون

رواية امرأة العقاب الجزء التاسع والخمسون

امرأة العقاب
امرأة العقاب

رواية امرأة العقاب الحلقة التاسعة والخمسون

رفع يده وطرق عدة طرقات على الباب وبعد لحظات انفتح الباب لتظهر من خلفه فريدة ! … اتسعت عيني الأخرى التي تشاهد ما يحدث من بعيد دون أن يراها أحد وصابتها الدهشة الممتزجة بالغضب والنقم عندما رأته يدخل معها ذلك المنزل بكل هدوء ويغلق الباب ليختفوا عن انظارها بشكل كلي !!! .
تجمد جسدها لبرهة وشعرت بجميع أطرافها قيدت .. فبقت مكانها تحدق بتلك الشقة مذهولة .. هل يعقل أن تصبح الشكوك حقيقة .. هل ستعاني للمرة الثانية والدائرة تعود لبدايتها مرة أخرى ! .
غلبتها مشاعر الغيرة والنقم للحظة فدفعتها لا إراديًا لذلك الباب ورفعت يدها وكانت على وشك أن تطرق فوقه بكل قوتها .. لكن بالحظة الأخيرة تراجعت وضمت كفها لتنزله ببطء وسط نظراتها المتألمة والمنكسرة .
لم تشعر بشيء حينها سوى أنها ستحط من ذاتها أكثر إذا فعلتها .. إذا كان متبقى لديها بعض من الكرامة المهدورة فهذه هي فرصتها للاحتفاظ بها ! .
تقهقرت للخلف وعيناها ممتلئة بدموع الخزي والشجن .. استدارت وسارت مبتعدة باتجاه الدرج دون أن تعطي أي ردة فعل مناسبة !! .
قررت الرحيل وستكون هذه نقطة النهاية المحتومة .. تخلت ولن يكون هناك مجالًا للعودة .. فقد وصلوا لنهاية الطريق ! .
                                    ***
استقرت نظرات فريدة المرتعدة على ذلك الذئب المتربص لفريسته أمامها .. بالتأكيد جاء ليخط نهاية قصتها بيده .. زيارته المفاجأة تضمر خلفها خفايا لو علمتها لفرت هاربة من أمامه كما تفرالفريسة من صائدها .
نظرات عيناه قذفت الرعب في قلبها فجعلتها تتراجع لا إردايًا للخلف متمتمة بارتيعاد :
_ إنت جاي ليه يا عدنان ؟!
بدا لها جامدًا تمامًا وهو يجيبها بنبرة مرهبة ووجه خالي من المشاعر :
_ تفتكري جاي ليه يعني !
سكتت ولم تجيبه بينما قدماها فظلت في التراجع عندما رأته يتقدم منها بتريث هامسًا ببسمة مخيفة :
_ كنتي فاكرة إنك هتعرفي تهربي مني كتير يعني .. أنا كنت سايبك بمزاجي عشان مش فايقلك ومش عايز اشغل بالي بواحدة **** زيك .. بس كدا كفاية أوي عليكي
ارتجفت أوصالها وردت بصوت مرتجف ونظرات زائغة :
_ هتعملَّي إيه ؟!
ظهر شبح ابتسامته الشيطانية وهو يجيبها :
_ خمني !
مظهره ارعبها وللحظة ظنت أنه سيقتلها .. فلم تجد.أمامها مفر سوى محاولاتها للفرار والاختباء منه بأى جزء بالمنزل .. لكن ردات فعلها كانت متوقعة بالنسبة له حيث أنها بعدما خطت بضع خطوات فقط وجدته يجذبها من شعرها بعنف لتنطلق من شفتيها صرخة عالية متألمة .. ثم سمعت صوت الرجولي المتحشرج في أذنها وهو يصرخ بها :
_ خدي هنا رايحة فين !! .. سبق وقولتلك إن المكان اللي تستحقي تكوني فيه السجن .. واوعدك يافريدة هخليكي تكملي بقية حياتك فيه .. أنا حقاني أوي وبحب كل واحد ياخد حقه وإنتي غالية اووووي عندي وعشان كدا هتوصى بيكي وهوصيهم عليكي جامد .. اطمني الجو هناك هيعجبك أوي
اتسعت عيناها بصدمة وفورًا راحت تصرخ بخوف متوسلة إياه :
_ لا ابوس إيدك ياعدنان متسجنيش .. سامحني أنا آسفة والله أنا معترفة بغلطي بس ارجوك متعاقبنيش العقاب ده .. معقول ههون عليك تسيبني في السجن بعد كل حبـ …….
قاطعها بصيحة نفضتها بأرضها من قسوتها :
_ الخيانة عندي عقابها الموت .. بس أنا مش هقتلك وهسيبك في السجن تتعذبي وتموتي بالبطيء
تململت بين يديه وانحنت تحاول التقاط كفه لتقبله متوسلة إياه ببكاء عنيف ورعب :
_ ابوس ايدك يا عدنان .. سامحني اعمل فيا اللي انت عاوزه .. عاقبني بأي شكل تاني بس وحياة هنا عندك متسجننيش
صفعها فوق وجهها بقسوة صائحًا بعصبية وهادرة :
_ بنتي سيرتها متجيش على لسانك ال**** ده .. أسمهان الشافعي كان عندها حق لما قالت الزبالة بتفضل طول عمرها زبالة بس أنا اللي حبيت أعمل منك بني آدمة
كانت ترتجف بين يديه رعبًا وبكاءًا اشبه بالنحيب حتى فجأة ارتفع صوت طرق الباب العنيف .. فشعرت بقلبها توقف عن النبض والدماء تجمدت بجسدها وتحول لون وجهها للأصفر من فرط الزعر .. وأكثر ما صاحبها بالجنون ابتسامته المتشفية لها قبل أن يقود خطواته الهادئة تجاه الباب ليفتحه ويظهر من خلفه ضباط الشرطة .. تمامًا كما توقعت ! .
راحت تبكي بعنف وهي تتقهقر للخلف رافضة أن يلمسها أحد ويأخذها لكن عدنان أشار للضباط بعيناه وثبات مريب بأن ينفذ مهمته التي جاء من أجلها .. وبالفعل رأت أحد العساكر يقترب منها ويجذبها من ذراعها معهم للخارج وسط مقاومتها وصراخها العنيف وهي تتوسل عدنان بصراخ هستيري :
_ عدنان متخلهمش ياخدوني .. عدنان سامحني
ثم حاولت دفع يده العسكري عنها صارخة به :
_ ابعد ايدك عني متلمسنيش أنا معملتش حاجة
احكم العسكري قبضته حولها وجرها معه عنوة وسط صراخها ومقاومتها الشديدة وهي لا تتوقف عن الصراخ والاستنجاد بجلادها الذي لن يرحمها مهما فعلت ” عدنان ” ! .
بقى ساكنًا مكانه يقف بكل هيبة وقوة دون أن يبدى أي تعابير وجه فوق وجهه الجامد .. يشاهدهم وهم يأخذونها وهي تترجاه دون أن تثير ذرة واحدة من شفقته .. كان صلبًا وشامخًا بشكل يثير الإعجاب .. وضع النقاط الناقصة فوق الحروف لينهي الحكاية ويبدأ بأخرى جديدة خالية من العوائق !!! .
                                    ***
كانت الصغيرة مستقلة بالمقعد المجاور لمقعد أمها بالسيارة وتتابع الطريق من الزجاج باستمتاع .. لا تفهم لما جاءت أمها اليوم بالأخص لتأخذها من دوامها وقبل موعد خروجها المعتاد .. لكنها لم تهتم وكأي طفلة سعدت بعودتها لمنزلها بسرعة .. وبعد وقت قصير التفتت تجاه أمها وسألتها بعفوية مبتسمة :
_ مامي احنا امتى هنوصل البيت ؟!
تمتمت جلنار بعينان دامعة دون أن تتطلع بابنتها :
_ احنا رايحين عند جدو ياحبيبتي مش رايحين البيت
ضيقت الصغيرة عيناها وردت بحيرة :
_ هو جدو تعبان ؟
هزت رأسها بالنفي وهدرت :
_ لا جدو كويس .. بس احنا هنقعد عنده
سألت بفضول طفولي طبيعي :
_ وبابي هيقعد معانا ؟
ضغطت الصغيرة على الجرح حين ذكرت والدها فالتفتت لها بوجه عابس واكتفت فقط بهز رأسها بالنفي ثم عادت مرة أخرى تتابع الطريق أمامها وهي تقود .. ودموعها تنهمر فوق وجنتيها بصمت .. بينما الصغيرة فبقت تطرح الأسئلة على نفسها وتزم شفتيها بضيق لحزن أمها الغريب ! .
بعد دقائق طويلة نسبيًا توقفت السيارة أمام منزل نشأت الرازي .. فتحت جلنار الباب ونزلت ثم تبعتها صغيرتها .. اسرع خلفها حارس البوابة يرحب بها بسعادة :
_ اهلًا وسهلًا يا جلنار هانم
جلنار بابتسامة منطفئة :
_ عامل إيه ياخالد ؟
_ بخير الحمدلله يا ست الكل
جلنار بلهجة لطيفة :
_ معلش ياخالد افتح شنطة العربية وهات الشنط اللي فيها ورايا على فوق
سكن للحظة حين ذكرت حقائب ملابسها لكن سرعان ما اماء لها بالموافقة وبوجه بشوش اسرع ينفذ طلبها .. بينما هي فسارت إلى داخل المنزل مع صغيرتها التي كانت تتحرك عابسة الوجه .
طرقت جلنار عدة طرقات خفيفة على باب المنزل ففتحت لها الخادمة بعد ثواني وفور رؤيتها لها رحبت بها بترحيب حار فابتسمت لها بعذوبة ودخلت موجهة حديثها لابنتها :
_ اسبقيني ياهنون يلا على الأوضة فوق ياحبيبتي وغيري هدومك لغاية ما اطلعلك
امتثلت لأوامر أمها دون اعتراض وصعدت الدرج للطابق العلوى متجهة إلى غرفتها الخاصة بمنزل جدها كما اعتادت .. بينما جلنار فتطلعت بالخادمة وسألتها :
_ بابا موجود يابدرية ؟
بدرية بنظرات حائرة من الحقائب التي رأت خالد يحملها ويسير بها للطابق العلوي :
_ لا خرج الصبح يا جلنار هانم .. هو حضرتك هتقعدي معانا إنتي والست هنا الصغيرة ؟
تنهدت الصعداء وتحركت نحو الدرج مجيبة عليها :
_ آه يابدرية
رغم تعجبها إلا أن اساريرها تهللت وردت بفرحة :
_ ده نشأت بيه هيفرح أوي
_ لما بابا يجي قوليلوا إني مستنياه في أوضتي فوق
_ حاضر من عنيا ياست الكل
أكملت جلنار صعودها الدرج ومنه إلى غرفتها القديمة بمنزلها التي نشأت وترعرعت به .. ظنت أنها لن تعود له مجددًا حين غادرته بعد زواجها لكنها عادت وهذه المرة دون رحيل ! .
                                     ***
( أنا حكيتلك كل حاجة ومهرة متعرفش إني هقولك الكلام ده .. حكيتلك عشان حسيتك راجل بجد وبتحبها فعلًا وخصوصًا بعد اللي عملته عشانها لما اتخطفت .. مهرة اغلى حاجة عندي وأنا وثقت فيك وقولتلك أسرارها اتمنى تكون قد الثقة دي ومتخذلنيش ولا تخذلها يابني )
تستمر كلمات العمة فوزية في التردد بأذنه دون توقف منذ أن غادر المنزل عندها .. حقائق لم يكن يدري عنها شيء كلها ظهرت أمامه الآن .. أدرك حماقته حين ظن بها السوء ولم يسمح لها بالدفاع عن نفسها حتى  .. كانت تعاني من كل هذا بمفردها دون أن تخبره .. ماذا ظنت تلك الساذجة أنه سيتركها ويتخلى عنها بعدما تخبره بتلك الحقائق .. هل ظنته أحمق ليسمح بماضي انتهى ولن يكون له وجود بحاضرهم أبدًا أن يدمر مستقبلهم وعلاقتهم .. هو ليس بغبي حتى يضحى بحبه لها من أجل ماضي مبني على قلة الخبرة والخطأ السخيف .. حتى لو صابته الحقائق بالدهشة وبعض الغضب لكن لو كانت أخبرته بنفسها كانت تأكدت حينها بنفسها أنه يعشقها فعلًا ! .
وصلت مهرة إلى المقهى الذى وصفه لها .. فقد ارسل لها رسالة أنه يريد مقابلتها بذلك المكان حتى يتحدثوا قليلًا ولم ترفض بل وجدتها فرصة حتى تتشجع وتشرد له كل شيء بنفسها ! .
وقفت عند مقدمة الطاولات تبحث بعينها عنه حتى رأته يجلس حول طاولة مكونة من مقعدين ، واحد يجلس هو فوقه والآخر فارغ .. أخذت نفسًا عميقًا وقررت أنها فور جلوسها ستبدأ فورًا بالتحدث وأخباره بكل شيء حتى لا تتوتر وتخاف فتتراجع في الأخير .
قادت خطواتها المضطربة إليه حتى وصلت أمام الطاولة فتسمرت مكانها دون أن تجلس تتبادل معه النظرات بصمت .. اربكتها نظراته الجامدة لكنها حاولت عدم التركيز وسحبت المعقد لتجلس فوقه وتمصمص شفتيها بارتباك وضيق متمتمة :
_ آدم إنت فهمت غلط أنا متجوزتش والله ولا يمكن أعمل كدا .. وأنا وعدتك في المستشفى إني هحكيلك كل حاجة وأعتقد ده انسب وقت
معالم وجهه كانت جامدة وصارمة لا يجيب ولا يتحرك .. رغم أنه عرف كل شيء من جدتها إلا أنه لم يمنعها عن سرد الماضي بنفسها .. أراد أن يسمع كل شيء مرة أخرى لكن منها هي ! .
كتمت أنفاسها لثواني ثم زفرت بتمهل واجفلت نظرها أيضًا تهمس بحزن وخنق :
_ عامر ده اتعرفت عليه وأنا في الكلية .. كنت بشتغل عند والده في المحل .. وكنت صغيرة ومعنديش خبرة ولا ناضجة كفاية وده اللي خلاني انجذب ليه بسهولة وهو استغل ده ولما لقيته هو كمان بيحاول يقرب مني افتكرته هو كمان معجب بيا ففرحت وموقفتهوش عند حده بل بالعكس الموضوع تتطور وبقينا نتقابل ونخرج من غير ما حد يعرف حتى تيتا مكنتش تعرف .. ضحك عليا وخلاني أصدق إنه فعلًا بيحبني وهيحي يتقدملي ونتخطب وأنا كنت فرحانة ومبسوطة جدًا .. لغاية ما في مرة لقيته متصل بيا بليل وبيقولي إنه عايز يقابلني أنا رفضت في البداية بس بعدين وافقت والمكان كان في بيت قديم .. فضل يقنعني إن المكان ده آمان وهو نص ساعة بس وبعدين هنروح عشان مكنش معاه فلوس نخرج ونقعد في مكان برا .. وللأسف أنا وافقت برضوا .. ولما روحت هناك بعدها بخمس دقايق فورًا لقيته بيقفل الباب علينا بالمفتاح و ……..
لم يتمكن من سماع بقية كلماتها بالأخص وهو يرى حالتها المزرية ودموعها التى تملأ وجهها وحتى يديها التي ترتعش .. فأوقفها بحزم هاتفًا :
_ خلاص يامهرة متكمليش كفاية !
سيطرت عليها حالة بكاء عنيفة وتابعت تهمس بألم :
_ فضل حابسني في اوضة ضلمة اسبوع كامل يا آدم وكل يوم كان بيحاول يقربلي وأنا كنت بهرب منه وببعده بأعجوبة .. لحد ما جه يوم وقدرت أسرق منه المفتاح وهربت و……..
قاطعها للمرة الثانية ولكن بحدة أشد وهو يحتضن كفها المرتجف ويتطلع في عيناها بعمق :
_ أنا عرفت كل حاجة يامهرة متكمليش خلاص
 استنرت في بكائها للحظات حتى أدركت حملتها فتوقفت عيناها عن ذرف الدموع وغضضنت حاجبيها لتتطلعه بحيرة وتسأله بصوت مبحوح :
_ عرفت إزاي ؟
لانت نبرته ونظرته ليقول برفق :
_ مش مهم دلوقتي عرفت إزاي .. رغم إني كنت حابب اسمع واعرف منك إنتي .. معقول كنتي متوقعة إني هغير نظرتي فيكي أو هبعد عنك بعد ما تحكيلي الكلام ده !!!!
تطرقت رأسها أرضًا بأسى لتشعر بقبضته تضغط فوق كفها أكثر ويقول بلهجة رجولية نابعة من صميمه :
_ مفيش حاجة تقدر تخليني ابعد عنك .. أنا بحبك بجد يامهرة ومش هسمحلك تسيبني أو تفارقيني
رفعت رأسها ورمقتها باسمة بعينان لامعة وسط دموعها وكأنه طوق النجاة التي عثرت عليه أخيرًا في أعماق الظلام بينما هو فابتسم لها بحب ورفع كفها لقمه يلثم ظاهره برقة متمتمًا :
_ ده ماضي وانتهى بنسبالك وبنسبالي كمان .. والمفروض دلوقتي نبدأ صفحة جديدة مع بعض .. بس بشرط توعديني متخبيش عني أي حاجة تاني .. تمام ؟
اتسع ثغرها بنظرات عاشقة ووجهها ممتلئ بالدموع إلا أنها أماءت له بالموافقة عدة مرات متتالية في سعادة ليضحك هو بخفة ثم يمد يده في جيبه سترته ويخرج ورقة مطوية .
ترك يدها وبيكيه الأثنين راح يفتح تلك الورقة ثم أدارها نحوها لتحدق بها مذهولة ثم يهتف هو باسمًا ببساطة :
_ مش هي دي الورقة اللي خلاكي تمضي عليها غصب وكانت قلقاكي ومخوفاكي !
انهى عبارته وراح يمزقها أمام عيناها إلى قطع صغيرة ويتمتم بخشونة :
_ ملهاش أي تلاتين لزمة .. وكأنها مش موجودة أساسًا
مهرة بصدمة :
_جبتها ازاي يا آدم ؟!
غمز لها بمداعبة وقال مازحًا :
_ إيه إنتي مستهونة بآدم الشافعي ولا إيه !
زفرت رأسها بعدم حيلة مبتسمة أما هو فقد القى بجزئيات الورقة الصغيرة في سلة القمامة بجوارهم مبتسمًا .. ليجدها تمسك بيده فجأة تحتضنها بقوة وتطلعه بامتنان وغرام وفرحة فيبادلها نفس نظرة الغرام الرائعة .
                                      ***
في تمام الساعة العاشرة مساء …….
كانت تكمن بغرفتها منذ الصباح لم تخرج حتى أن صغيرتها قضت معها تقريبًا اليوم كله دون الابتعاد عنها والأخير نامت فوق فراش أمها .
عيناها منتفخة من آثار البكاء .. كلما تتذكر مشهد الصباح وتتخيل ما الذى قد فعله معها داخل تلك الشقة ينزف قلبها دمًا .. ثم تعود وتعنف ذاتها الحمقاء .. هي من سمحت باستمرار تلك العلاقة .. رغم أنها محتوم عليها بالفشل منذ بدايتها .. هي من أصرت على خلق حياة جديدة وضحت بالكثير من أجلها ! .
كان عليها أن تدرك أنهم ثنائي كُتب له الفراق والنهاية الحزينة ! .. هو لن ينسى عشقه لزوجته السابقة وهي لن تتمكن من الاستمرار بمرتبة ثانية ! .. أخطأت حين سامحت وتراجعت عن الفراق والآن يجب أن تُصلح خطأها قبل فوات الآوان .
انتشلها من شرودها صوت طرق الباب ومن بعده دخول أبيها الذي اقترب منها وجلس بجوارها يهتف في حنو :
_ مش ناوية تقوليلي إيه اللي حصل ياجلنار بينكم ؟!
أردف بخفوت :
_ محصلش حاجة يابابا .. أنا بس أدركت إني غلطت لما كملت .. كان لازم افهم من البداية أننا مينفعش نكمل مع بعض تاني .. لأني مش هقدر انسى الماضي ولا هو هيقدر ينسى
نشأت باستغراب ونظرات دقيقة :
_ ومرة واحدة كدا ادركتي الكلام ده من غير سبب يعني !!
تطلعت لأبيها في قوة وقالت بثبات مزيف :
_ إنت مش وعدتني يابابا إني لو عايزة اتطلق هتطلقني منه وأنا دلوقتي بقولك عايزة اتطلق من عدنان .. أنا وهو مش هينفع نكمل مع بعض هو لسا بيحب فريدة وأنا مش هقدر استحمل
أردف نشأت بدهشة بعد جملتها الأخيرة :
_ لسا بيحب فريدة !
_أيوة يابابا أنا واثقة أنه لسا بيحبها .. مش قادرة اثق فيه أو إنه ممكن ميخذلنيش تاني .. خايفة أثق فيه ويجرحني .. مبقيش عندي طاقة إني اضغط على كرامتي  من تاني واستحمل .. كفاية أوي كرامتي اللي اتهدرت لسنين في الأرض .. مش هاجي على نفسي تاني اكتر من كدا
احتقنت أعين نشأت الذي هتف بلهجة صارمة وجادة كلها وعيد :
_ لو كلامك طلع بجد وهو لسا بيحب مراته ومش بيحبك سعتها مش هخليكي على ذمته ليلة كمان
هتفت بعناد وصوت مبحوح وسط عيناها التي تجمعت بهم الدموع :
_ بابا أنا تعبت عايزة ارتاح واعيش في راحة من غير تفكير وخوف وقلق .. تلت سنين وأنا بتعذب من الإهمال والوحدة والحزن .. محتاجة اتنفس شوية .. صدقني قرار الطلاق نهائي المرة دي ومش هتراجع عنه
رفع يده وملس فوق شعرها بدفء وقال :
_ طيب ياحبيبتي ارتاحي انتي النهارده وبكرا نبقى نتكلم وخليكي واثقة إني هكون جمبك ومعاكي في قرارك مهما كان أنا مبقيش في حاجة تهمني غير راحتك دلوقتي
ابتسمت له بحب ومالت عليه تعانقه بقوة مردفة في رقة وحزن :
_ شكرًا يا بابا !!!
                                     ***
فتح عدنان باب المنزل ودخل ثم قاد خطواته الهادئة إلى الدرج حتى يصعد للطابق الثاني ويتجه لغرفته .. السكون الغريب يغيم على المنزل رغم أن تلك هي العادة إلا أن الليلة شعر بشيء مختلف .. لكنه تجاهل ذلك الشعور وأكمل طريقه للأعلى .
اتجه أولًا لغرفة ابنته حتى يطمئن عليها فلم يجدها بفراشها .. غضن حاجبيه بتعجب ثم غادرت غرفتها واتجه إلى غرفته بعدما ظن أنه سيجدها نائمة بجوار أمها في فراشهم .. لكنه تسمر مكانه حين دخل ولم يجد لهم أثر أيضًا .
راح يبحث عنهم بأرجاء المنزل كله وهو ينده بصوته المرتفع دون أن يحصل على إجابة .. تسلل الرعب لقلبه من أن يكون صابهم مكروه في غيابه وراح يمسح على شعره بقوة في قلق ثم أخرج هاتفه وبدأ يجرى اتصالاته به التي انتهت كلها بعدم الرد .
اندفع مرة أخرى لغرفته وأثناء مروره من جانب الخزانة لمح الباب مفتوحًا فاقترب وفتحه على آخر لتصيبه الصدمة الثانية بعد رؤيته للخزانة فارغة من ملابسها .
قذفت بذهنه ذكرى واحدة في تلك اللحظة وهي عندما عاد للمنزل بنفس المعاد منذ شهورًا ووجد خزانتهم هي وابنته فارغة بهذا الشكل حينها كانت قد هربت بصغيرته وحرمته منهم لشهرين كاملين ! .. فيعود ويجيب على ذكرياته بالنفي فهي لن تفعلها مجددًا .. لم تعد علاقتهم سيئة كالسابق حتى تدفعها لهجره من جديد ! .
وبينما كان منشغل بالتفكير الذي كاد رساله عقله لمح ورقة صغيرة فوق الفراش اسرع والتقطها يقرأ ما دوَّنته فوقها وكان ” أنا وهنا عند بابا ” .. جملة صغيرة غامضة لم تزيده سوى حيرة وتطرح المزيد من الأسئلة في عقله ! .
تجاهل تلك الأسئلة التي ليس لها معنى طالما علم بمكان وجودهم الذي هدأ من روع قلبه المزعور قليلًا .. وغادر المنزل شبه ركضًا ليستقل بسيارته وينطلق بها يشق طريقه  إلى منزل نشأت الرازي …..
وصل بعد دقائق طويلة من القيادة وتوقف بالسيارة أمام المنزل ثم نزل وتحرك للداخل بخطوات شبه سريعة .. وقف عند الباب وطرق طرقتيتن متتاليتين ففتحت له الخادمة بعد دقيقة لتبتسم له بتوتر بسيط بينما هو فدخل وسألها فورًا :
_ جلنار فوق ؟
بدرية بإيجاب :
_ أيوة في أوضتها ياعدنان بيه
فور سماعه لجملتها اندفع للأعلى مسرعًا ومن الدرج لغرفتها الذي وقف وطرق مرة واحدة ثم فتح الباب ودخل  فوجدها جالسة فوق فراشها وبجوارها صغيرته النائمة .
هدأت أنفاسه المتلاحقة وتنفس الصعداء براحة بعدما رآهم فلوهلة ظن أنه فقدهم من جديد وكان سيفقد عقله من بشاعة التفكير فقط ! .
انتفضت واقفة بفزع جلنار بعدما لمحته فجأة بغرفتها وخرجت همسة مدهوشة من بين شفتيها :
_ عدنان !!
اغلق الباب ببطء حتى لا يوقظ ابنته وتحرك نحو جلنار متمتمًا بغضب ملحوظ :
_ ممكن تفهميني إيه اللي بيحصل ولميتي هدومك إنتي وهنا وجيتي هنا ليه !!!
التزمت الصمت لوقت قصير قبل أن تتطلع بعيناه في ثبات وقوة تليق بها لتهمس :
_ فاكرة لما قولتلك إني نهاية القصة محتومة من بدايتها يا عدنان وإن هتكون نهايتها فراق
كانت تتحدث بالالغاز ولم يفهم شيء منها لترى علامات الاستفهام والريبة تعلو معالمه وهو يسألها :
_ نعم ! .. فراق ونهاية ايه بظبط !!!
اشتعلت نظراتها غيرة وسخطًا فور تذكرها لمشهد الصباح وحقيقة مشاعره المحفوظة لزوجته حتى الآن فهتفت بحدة :
_ كفاية لحد هنا يا عدنان .. أنا تنازالت كتير ومكنش ينفع اتنازال .. احنا من البداية مكناش هنكمل مع بعض بعد كل اللي حصل ده وجه وقت الفراق خلاص
بدأت الصورة تتضح قليلًا له لكن الحروف الناقصة صابته بالجنون حيث هتف منفعلًا :
_ فراق إيه !! .. في إيه ياجلنار !
ارتفعت نبرة صوتها قليلًا وهي تصيح به بعصبية :
_ في إنك لسا بتحب فريدة ياعدنان ومتحاولش تنكر .. أنا متأكدة وشوفت بعيني
_ بحب فريدة !!! .. إنتي مدركة اللي بتقوليه !
أغلقت على ذهنها ولم تسمح بسماع أي شيء .. غيرتها وغضبها من الماضي ومنه لم يتركوا حلًا لعلاقتهم أو حبهم حتى  .
خرجت منها الكلمة التي كانت بمثابة صاعقة فوق رأسه :
_ عايزة اتطلق ياعدنان !
استحوذ الذهول عليه لبرهة لا يستوعب ما يحدث وما تسمعه أذنيه .. هو حتى لا يفهم شيء ولا يدري ماذا حدث ليدفعها لطلب الطلاق منه ! .
تابعت بصوت تجاهد في إخراجه طبيعيًا :
_ وصلنا لنهاية الطريق خلاص والانفصال هو افضل حل لينا !
رفع يده يمسح على وجهه متأففًا بنفاذ صبر وعصبية ليجيبها بعينان بدأت تأخذ شكل مريبًا قليلًا :
_ طيب أنا مش فاهم إيه اللي بيحصل بس لو بتطلبي الطلاق بسبب شكوكك وإنك فاكرة إني لسا بحبها فتبقي غلطانة جدًا .. فريدة انتهت بنسبالي
ابتسمت ساخرة في عدم ثقة .. فلم تعد تصدقه بعد ما رأته بالصباح .. لم يعد هناك مجالًا للتبريرات لديها .. حيث ردت بجفاء :
_ أنا مصممة ياعدنان المرة دي واخدت قراري خلاص .. صدقني ده افضل حل لينا
أثارت جنونه فراح يصيح بها بنبرة مرعبة من حدتها :
_ افضل حل إيه إنتي عايزة تجننيني .. لو الانفصال حل بالنسبالك فأنا بنسبالي لا .. انا همشي واسيبك النهارده ترتاحي وتهدي كدا شوية وبعد كدا نتكلم بكرا على رواق وبعدين ترجعي بيتك .. وياريت بكرا مسمعش كلمة طلاق دي تاني مفهوووم
_ أنا مش هرجع ياعدنان وقولتلك ده قرار نهائي .. كفاية لغاية هنا
رمقها بنارية وقال منفعلًا :
_ سمعتي أنا قولت إيه ! .. قولت ارتاحي الليلة دي وبكرا نبقى نتكلم .. وقرارك مش هيتنفذ ياجلنار .. إنتي عارفة إني مش هطلقك
جلنار بهدوء غريب :
_ هتطلقني !
كتم غيظه بصعوبة وهو يصر على أسنانه فتلك الكلمة هي أكثر من تصيبه بالجنون .. الانفصال بند مرفوض تمامًا ولن يسمح بتنفيذه .. تركها واقترب من الفراش لينحنى على رأسه ابنته النائمة يلثمها برفق ثم يبتعد ويعود لها ليقول بهمس في أذنها أثناء مروره من جانبها :
_ ومتنسيش كمان إني قولتلك يومها الحكاية دي أنا اللي بدأتها وأنا اللي هنهيها .. والفراق محصلش في البداية ومش هيحصل في النهاية .. العُقاب مش بيتخلى يارمانة
انهى عباراته واندفع لخارج الغرفة وهو يستشيط غضبًا وغيظًا .. تستفزه بنقطة ضعفه وهي ابتعاده عنها وفراقهم المفروض !! ….
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية امرأة العقاب)

اترك رد