روايات

رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الثالث 3 بقلم مريم محمد غريب

 رواية وقبل أن تبصر عيناك الفصل الثالث 3 بقلم مريم محمد غريب

رواية وقبل أن تبصر عيناك البارت الثالث

رواية وقبل أن تبصر عيناك الجزء الثالث

رواية وقبل أن تبصر عيناك الحلقة الثالثة

~¤ مُحرمة عليك ! ¤ ~
بيّد أن لا أحدٌ هنا.. لم يتوقع ذلك بما أنه تلقّى الأوامر قبل مغادرته و سمع أبيه يشدد على أنه سيكون بانتظاره مع إبنة عمه حتى بصفي الخلاف الحرج الذي نشب بينهما في أول لقاء
كانت الشقة التي يسكن بها “سالم الجزار” بمعزلٍ عن بقية العائلة، على رأس المنزل المشترك.. حيث هجر الجميع إلى هذه الخلوة المريحة للأعصاب، حتى زوجته “هانم” لا يسمح لها بالدخول إلى هنا.. فقط أبناؤه إذا كان الأمر عاجلًا، أو إذا طلب هو أحدهم للمثول أمامه
و ها هو “رزق” يلج بنسخة المفتاح التي حصل عليها من والده، مضى للداخل باحثًا بعينيه.. رغم الهدوء لكنه إستعد لرؤيتها معه بأيّ مكانٍ هنا
إنما خاب ظنّه.. عندما تناهى إلى سمعه صوت “سالم” منبعثًا من جهة المضافة الواقعة على بعد أمتار قليلة خلفه
إستدار “رزق” متجهًا إلى هناك دون ترددٍ، كانت دهشته تزداد مع كل خطوة، إذ ميّز لهجة أبيه المغايرة للعادة.. فهو قلما يسمعه يتحدث بكل هذا القدر من الود و اللطف
ربما تأكد الآن بأنه لا يتحدث إلا لها هي …
لكنه تفاجأ كليًا حين وقف عند عتبة الباب المزدوج و أكتشف بأنه لم يكن يتحدث إلا لصغيرته.. و أخته هو بنفس الوقت !
كان “سالم” يجلس فوق مقعده الوثير الأشبه بكرسي العرش، و كانت إبنته “سلمى” البالغة من العمر ثلاثة عشر عامًا تجلس فوق قدمه تبكي بحرقة بينما يهدئها و يقبل رأسها و يربت على كتفها بحنانٍ …
-خلاص بقى يا سلمى. عشان خاطر بابا كفاية عياط.. هاتشوفي هاعملك فيهم كلهم إيه !
تمخطت الفتاة الرقيقة في منديلًا قدمه لها والدها، لتقول ردًا على كلماته بصوتٍ كالأنين :
-محدش من إللي تحت عمل معايا حاجة.. هو مصطفى بس. مصطفى مسكني من شعري جامد و زقني. و زعقلي و كان هايضربني بس أمي لحقته ..
زم “سالم” شفته و هو يستعرض السبب الذي دفع إبنه الأوسط لفعل ذلك بأخته، و بما أنها لاقت التعنيف المناسب فلم يشأ أن يزيد عليها.. فواصل إسلوبه السلس معها و قال بتفاهمٍ :
-طيب يا حبيبتي مش أنا قلت قبل كده اللبس ده ماينفعش تظهري بيه قصاد حد تاني ؟!
و أشار إلى فستانها عاري الكتفين و القصير …
-حتى لو وسطنا هنا في البيت.. إنتي مابقتيش صغيرة يا سلمى. و آه هنا إنتي وسط إخواتك و عمامك. لكن ماتنسيش إن في “علي”. إبن عمك.. مايصحش يشوفك كده. إنتي صغيرة أنا عارف و هو مايقدرش يبصلك بصة مش كويسة. بس لازم تتعودي على كده عشان لما تكبري أكتر و تبقي أنسة حلوة كده محدش يقدر يبص عليكي و لا يشوف حتة منك حتى
إزدردت الصغيرة لعابها و هي تفكر بكلام والدها، ثم صاحت فجأة و كأنها تلقي عليه بحجة :
-بس إنهاردة أنا شوفت ليلة بنت عمي ناصر الله يرحمه لما جت.. كانت لابسة فستان ضيق و عريان.. كانت مغطية كتفها بس
إنقلب تعبير وجهه في هذه اللحظة عندما تذكر الصورة التي رآى عليها إبنة أخيه… تمهل للحظاتٍ قبل أن يقول لها بحزمٍ :
-ليلة كانت عايشة في مكان مختلف عن البيئة بتاعتنا.. بس طالما جت هنا كل إللي إتعودت عليه هايتغير. و هاتشوفي بنفسك !
ثم إبتسم باللحظة التالية بخفةٍ، و قال و هو يمسح لها بقايا دموعها :
-خلاص بقى إحنا إتفقنا إننا هانسمع الكلام و مش هاتلبسي الهدوم دي تاني.. أما بالنسبة لمصطفى ف حسابه معايا و الليلة مش هاتعدي إلا و هو جاي يبوس على راسك و يتأسفلك يا ست البنات.. يا حبيبة أبوكي إنتي
نجح بسهولة أن يضحكها بمداعبته الحنونة، فتلقائيًا رمت ذراعيها حول عنقه و ضمته بشدة.. فبدوره عانقها و هو يضحك بوقارٍ
في جهة أخرى كان “رزق” لا يزال هناك… على مقربة منهما يراقب ما يجري في صمتٍ.. وصولًا إلى ذلك الحد
تنحنح بخشونةٍ، فتباعد كلًا من الأب و الإبنة.. نظرا معًا نحو “رزق”… ليقول “سالم” داعيًا إياه بصلابة :
-خش يا رزق.. تعالى !
إنصاع إلى أبيه و دخل بخطواتٍ ثابتة، كان يبتسم لأخته.. ما إن وصل قريبًا منها حتى إنحنى ليقبلها على خدها قائلًا :
-لوما.. وحشتيني. بقالي يومين مش بشوفك !
ردت الفتاة لأخيها الابتسامة و قالت برقةٍ :
-إنهاردة كان أخر يوم إمتحانات و كنت بذاكر لوحدي في الأوضة
-إممم. عشان كده متشيكة و لابسة فستان يعني.. بس ده فستان مايتلبسش حتى في أوضتك يا لوما. عيب يا حبيبتي. مش عاوز أشوفك بحاجة زي كده تاني إتفقنا ؟
أومأت له بوداعة، فغمز لها تلك الغمزة المزدوجة بعينيه …
-طيب يا ست سلمى ! .. قالها “سالم” متنهدًا و هو ينزل إبنته عن قدمه
أعجبته ملاحظة “رزق” المترفقة بأخته، فكر أنه لو كان فعل “مصطفى” مثله لكان أفضل.. لكنه ما لبث أن تجاوز الأمر كله و تخطاه قائلًا :
-يلا بقى على تحت.. إنزلي غير فستانك ده و شوفي هاتعملي إيه. أنا كمان شوية و نازل عند تيتة دلال. إبقي تعالي أقعدي معانا يا حبيبتي
أذعنت الفتاة لوالدها و إنطلقت تعدو بتوثبٍ
ليبقى “رزق” الآن بمفرده.. وجهًا لوجه مع أبيه …
-هاه ! .. لقلق “رزق” محطمًا الصمت و هو يهز كتفيه بحؤكة تنم عن الحيرة
حتى الآن لم يبدو على محيا الأخير سوى المعالم الجوفاء.. إلى أن هب واقفًا فجأة و هو يدفع بطرف الشال الثمين الذي يغطي كتف عباءته الداكنة …
-إقلع ! .. هتف “سالم” بوجومٍ دون يرتد له طرف
علّق “رزق” مشدوهًا :
-نعم ! أعمل إيه ؟!!
كرر “سالم” بصوتٍ أكثر حدة و صرامة :
-بقولك إقلع هدومك يالا !!!
كيف له أن ينقلب هكذا بلحظة ؟ … رباه.. علام ينوي أبيه بالضبط !!!
-هو في إيه بس يابويا ؟! .. تساءل “رزق” باقتضابٍ
سالم بجمودٍ مهدد :
-مش هاكرر الكلام ده تاني !
إنه لأول مرة يأنس من والده تصرفات كهذه.. حرفيًا كان هذا وجهًا يراه للمرة الأولى… لكنه مع ذلك لم يخافه.. لم يكن يفقه معنى كلمة خوف أصلًا و كله بفضل أبيه
تنفس “رزق” بعمقٍ و إتخذ وجهه تعبيرًا قاسيًا.. مد يده اليسرى لينتزع الساعة أولًا، ثم رفع أنامله الصلبة و شرع يفك أزرار قميصه.. خلال لحظة كان قد خلعه و ألقاه أسفل قدمه، لم يحيد بناظريه عن عيني والده ثانية واحدة
و عندما جاء ليسحب طوق خطره أشار له “سالم” حتى يتوقف :
-بس.. كفاية كده !
تصلّبت يداه فوق إبزيم الطوق و ظل يحدق في أبيه بسكونٍ هكذا …
ليتقدم الأخير صوبه على مهلٍ و هو يقول :
-لحد إمتى ؟!!
قطب “رزق” حاجبيه جاهلًا ما يرمي إليه والده… بينما يقف الآن أمامه مباشرةً، كان يمسك بيده عصى ثمينة يتوكأ عليها أحيانًا.. رفعها فجأة و وكزه برأسها المدبب بصدره المليئ بالكدمات المتفرقة
كتم “رزق” آنة متألمة و هو يشد على فكيه بقوة، فكما إعتاد.. مهما بلغ به الألم يتحمله، بل و ينشده في كثير من الأوقات …
-أنا عاوز أعرف أخرتها إيه في إللي بتعمله في نفسك ده !!!
كان السؤال الذي طرحه “سالم” مدخر منذ وقتًا طويلًا، و ها هو يفصح عنه الآنه بكل فضولٍ و إلحاح …
-جاوبني يا رزق.. أنا عمري ما سألتك عن حاجة بتعملها. بس إللي بيحصل ده زاد عن حده. الخطر إللي بركبه و بتسيب نفسك له ده.. إنت كده بتنتحر. عاوز إيه يعني ؟ عاوز تموت ؟!!!
كانت إشارة صريحة لإتحاته فرص النيل منه وسط حلبة المصارعة… يعلم “رزق” أن الجميع لديه نفس التساؤلات حول تلك العادة الغريبة.. لكنه نوى منذ البداية أن يحتفظ بالأسباب لنفسه …
-مش غريبة ! .. قالها “رزق” مغمغمًا بسخرية، و أردف بنفس الاسلوب :
-خايف عليا و أنا بلعب على الحلبة.. و مش خايف لما بتبعتني مشاوير الشغل. في الحالتين فيها موتي يا معلم سالم …
-رزق !!! .. صاح “سالم” زاجرًا إياه بتحذيرٍ
ليرد الأخير بعينٍ قوية :
-إيه بقول حاجة غلط.. إنت مش سامع نفسك يابويا ؟ جايبني و مذنبني زي العيال الصغيرة و بتحاسبني على تفاهات. كان ممكن أسمع منك لو ماكنتش سقط في قاع اسوأ و أقذر من كده. هايحصل إيه أكتر من إللي أنا شوفته معاك و في شغلك.. ما ترد ؟؟!!!
يصمت “سالم” في المقابل متفاجئًا بردود إبنه.. لم يتخيّل بيوم أن يسمع منه ذلك و أن يلقي بوجهه بكل الحقائق بهذا الشكل… حتى أنه يعجز الآن على قول كلمة واحدة.. فقط بقى يرمقه بغرابةٍ هكذا
يفرج “رزق” عن ابتسامة مريرة و هو يستطرد لما طال السكوت :
-أنا عمري ما فتحت بؤي.. عمري ما حسستك إني ناقم على الحياة دي. بالعكس. قبلتها و إختارتك من الأول.. ماتردتش لحظة و أنا بختارك …
-قول بقى إنك ندمان ! .. قاطعه “سالم” بحدة
-صحيح كنت لسا عيل صغير.. بس دلوقتي يا رزق. لو ظهرت في حياتك تاني و خيّرتك هاتختارها هي صح ؟
لم يترك له فرصة الرد عليه و تابع بتهديدٍ و ذلك الألق الشيطاني يبرق بعينه :
-و لا ليه تستنى لما تظهر و جايز مايحصلش.. تحب أدوّرلك عليها ؟ لو قلت آه أوعدك بكرة خبرها هايكون عندي !
أحتقن وجه “رزق” إنفعالًا، ذكّره بعنفٍ مكبوتٍ :
-إنت وعدتني.. مش هاتتعرضلها طول ما أنا جمبك !
إنزوى فم “سالم” بابتسامة خبيثة و قال بلهجة مستخفة :
-ماتخافش. أنا عند وعدي. سالم الجزار مايقولش كلمة ألا و ينفذها لو على رقبته !
و لفت نظره ما يتدلى من قلادة “رزق”.. نظر فإذا به يرى خاتم، على الفور تعرف عليه، ذلك الخاتم الذي يعود لزوجته الثانية و حب عمره، كان قد سقط من يدها في تلك الليلة المشؤومة و عثر عليه “رزق” و ما يومها يحوزه …
-لسا محتفظ بده ؟! .. قالها “سالم” و هو يرفع كفه ملامسًا الخاتم
لكنه و قبل أن يمسَّه قبض “رزق” على معصمه بقوةٍ مغمغمًا من بين أسنانه المطبقة بشدة :
-ماتلمسش ده.. إوعى تلمسه !!!
و تبادلا نظرة تحدي شديدة الوطأة دامت للحظاتٍ طويلة، خال أحدهما الآخر بأن المنزل كله سينفجر من حجم التوتر المتفاقم بينهما.. لكن ما لبث “رزق” أن أتفصل عنه فجأة
يحني جزعه ليلتقط قميصه، ألقى به فوق كتفه و سحب ساعته.. رمى والده بنظرة غضبٍ يغلفه خذلان عميق، ثم قال كلمته الأخيرة :
-فلوس بضاعتك تحت في شنطة العربية.. و أنا إنهاردة Off. سلام يا كبير !
و أولاه ظهره ماضيًا إلى الخارج …
سرعان ما تلاشى من أمام ناظريّ “سالم”.. مع ذلك بقى بمكانه حتى سمع باب الشقة يصفق بعنفٍ كبير، تيبست ملامحه بمسحة ألم مجهول المصدر
كل شيء إلا هو.. كل شيء إلا “رزق”… ماذا فعل ؟ ماذا قال و كيف نطقه.. بعد كل الذي مرا به.. لا يمكن أن يخسره بأيّ شكل… لا يمكن أن يخسر الإبن و الرجل و الصديق و العمر الذي يتمثل فيه كليًا
ما فائدة حياته دون “رزق” ؟.. ما من فائدة على الإطلاق !
يتبع…..
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على (رواية وقبل أن تبصر عيناك)

اترك رد