Uncategorized

رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس عشر 15 بقلم زيزي محمد

 رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس عشر 15 بقلم زيزي محمد
رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس عشر 15 بقلم زيزي محمد

رواية ندبات الفؤاد الفصل الخامس عشر 15 بقلم زيزي محمد

– الحق يا سليم أنا في مصيبة.
توقف سليم على جانب الطريق واستمع لسيف صديقه بتركيز شديد، فتحولت ملامحه إلى العبوس، زافرًا بحنق مرددًا خلفه:
– لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا في اسكندرية، اكيد هاخد وقت لغاية ما اسافر تاني القاهرة.
– وانا كمان مسافر والعربية عطلت بيا في المكان اللي أنا فيه.
هتف بها سيف بنبرة حائرة، لا يجيد التصرف في هذا المأزق، فرد سليم بنبرة هادئة بعدما توصلت إليه فكرة جيدة بالنسبة لسيف ولكن ستجعله يضغط على كرامته وهو يقوم بها:
– أنا هتصل بزيدان يحل الموقف كله لغاية ما ارجع، خليك انت وانا هاخلص كل حاجة.
أغلق معه الاتصال زافرًا بضيق شديد وهو يبحث عن اسم أخيه، أرسل له رسالة نصية يخبره بكل التفاصيل لعدم قدرته على الطلب منه بصورة واضحة أكثر كاتصال هاتفي مثلاً فمازال يعاني من بعض الامور يصعب التخلي عنها بهذه السهولة، جاءه الرد بعدها بثوان من خلال كلمة واحدة ” حاضر”.
زفر بقوة ثم القى الهاتف بجواره وحول مساره عائدًا مرة أخرى للقاهرة.
***
أما زيدان فانطلق سريعًا خارج الكافية يضع متعلقاته بجيبه، وقفت نهى أمامه بعيون باكية:
– لا أنت زعلان مني!.
– خلاص يانهى، قولتلك خلاص مش زعلان، امك أنا ليا تصرف تاني معاه.
– اتصرف معاها زي مانت عايز، بس أنا متزعلش مني.
قالتها بلامبالاة وهي تمسح دموعها، فتعجب زيدان لتكونيهم الفريد، فالعائلة جميعها تمتاز بالنذالة المفرطة، هز رأسه موافقًا ورسم ابتسامة صغيرة قبل أن يودعها ويغادر متجهًا إلى قسم الشرطة كي ينقذ أخت سيف من ورطة وقعت بها.
***
في أحد اقسام الشرطة التابعة للمنطقة التي تقطن بها فاطمة..جلست فاطمة على أحد الكراسي تبكي بانهيار، لقد سحبت الدماء منها وخاصةً حينما وضع الحديد بيدها كمتهمه، حاولت تعديل حجابها الممزق ليغطي شعرها الاشعث..لمست كدمة بوجهها بغير قصد، كتمت آلامها بصعوبة، فنصف وجهها متورمًا من شدة الصفعات الموجه لها من قبل والدة زوجها وصديقاتها الوقحة.
همست من وسط بكائها الحار:
– يارب تيجي بسرعة يا سيف.
أغلقت عيناها برعب حينما جال أمامها ناهيتها كمتهمه في أحد السجون النسائية، دائمًا يحذرها سيف من فرط انفعالها، وتهورها غير المحبذ في بعض المواقف، وهي لا تستمع له بل كانت تجادله بكبرياء..وها هي تتذوق مرارة اندفاعها، تذكرت ما حدث فشعرت كأنها فأر زج في مصيدة بعدما نصبت له كــ فخ.
***
هبطت منيرة وصديقتها درجات السلم ببطء مدروس، وعندما وصلوا للطابق التي تسكن به فاطمة غمزت منيرة لصديقتها وبدأت الاخرى بالزغاريد عندًا بفاطمة، وعندما أنهت الاخرى وصلتها بدأت في التفوه ببعض الجمل المتفق عليها من قبل:
– يا الف نهار مبروك يا ست منيرة، شكلها عروسة حلوة.
– طبعًا امال دي نقاوة ايديا..مش أحسن من المبقعة اللي كان مختارها.
قالتها منيرة بسخرية وأنهت حديثها بضحكة مرتفعه، فقالت الاخرى:
– والله احسن حاجة انكوا خلصتوا منها، دي كانت جايبه الهم والنكد.
وعند هذا الحد خرجت فاطمة من الشقة، وبصوت مرتفع قالت باستنكار:
– أنا مبقعة…وجايبة الهم والنكد، ياولية يا قراشنة.
شهقت منيرة بصدمة وهي تحدج بها:
– أنا قراشنة، طب تعالي بقا..
وفي لمح البصر كانت تجر فاطمة لمنتصف السلم، تتشاجر معها بالايدي، تجمهر السكان وحاول فض هذا العراك ولكن لم يقدر أحد على التدخل بينهما..في نفس الوقت هبطت ليال درجات السلم بسرعة تنفي تهمة التصقت بها بسبب أفعال تلك المرأة غير المفهومة، فوجدت شجار حاد بين فاطمة ومنيرة التي كانت تدفع فاطمة نحو السلم كي تسقط، حاولت تخطي السكان وخرج صوتها ينهرهم لموقفهم السلبي، حولت بصرها مرة أخرى نحو الباب فوجدت توته تقف تبكي بانهيار تردد اسم والدتها بلا توقف.
وفي لحظة لم يعلم بها أحد ما حدث وجدوا منيرة تتوسط الارض تسيل الدماء من رأسها، والسيدة المصاحبة لها تصرخ وتشير نحو فاطمة:
– زقتيها يا مفترية حرام عليكي، عايزة تموتيها ليه، يالهوي الحقونا.
هتفت فاطمة بذعر:
– مزقتهاش والله مازقتها.
وضعت منيرة يدها على رأسها تتحس الدماء وما إن رآتها حتى صرخت:
– دم…دم، يالهوووي.
ومن بعدها سقطت فاقدة للوعي.
تجمهر السكان حولها وقبضت صديقتها فوق يد فاطمة بعنف:
– مش هسيبك الا في القسم.
***
عادت فاطمة لشرودها على صوت دخول منيرة للباب المؤدي لغرفة التحقيق، وهي تستند على يد صديقتها، فرمقتها بحقد قبل أن تدخل وتفوهت بصوت مرتفع:
– ان شاء الله هاخد حقي منك.
أغلقت فاطمة عيناها بنفاذ صبر، بعدما لعب الخوف بها، وصور لها أشياءًا مريبة قد تصدر بحقها، فهي حقاً لم تدفعها، ولا تعلم ما حدث بالضبط.
حولت بصرها نحو ليال الواقفه بعيدًا، رمقتها بغضب وكره، توسعت أعين ليال ولم تفهم لِمَ هذه النظرات القاسية، تقدمت منها بشجاعة ثم جلست بجانبها وبصوت خافت:
– بتبصيلي ليه كده؟!
– جاية تقعدي جنبي ليه، ادخلي اشهدي مع حماتك ضدي.
فتحت ليال فاها بصدمة، وهي تشير نحو الغرفة باشمئزاز:
– حماتي!، دي تبقى حماتي أنا، مين قالك؟!
سخرت فاطمة منها:
– امال الزغاريد دي تبقى إيه!.
– ولا حاجة دول اتنين مجانين فجأة ليقتهم بيخبطوا على باب بيتي واول ما فتحت زغرطوا.
رمقتها فاطمة بشك، ثم أردفت بترقب:
– وبعدين!.
– مفيش دخلوا وجاية تقولي ابنها لسه مسافر السعودية من فترة، ومعرفش إيه..وبيقبض كام وشوية كلام أهبل بس أنا وقفتها ورفضت كلامها، مش عاجبها كلامي ومُصرة بردوا وقالتلي هسيبك تفكري رغم أن انا قولتلها ان رافضة ونزلت بردوا تزغط.
نظرت فاطمة أمامها تفكر بشرود:
– قصدها إيه باللي عملته ده!.
– قصدها تغيظك بس أنا كنت فاكرة انك فاهمة اللي هي بتعمله.
أجابتها ليال بوضوح، فارتعشت أيدي فاطمة بقلق:
– طب هيحصلي جوا، وسيف كان لازم يسافر النهاردة.
سألت ليال بفضول كاد أن يقتلها:
– هو مسافر فين؟!
– معرفش..معرفش.
ثم انهارت بالبكاء مجددًا، فحاولت ليال تهدئتها:
– متخافيش أنا معاكي، وعلى فكرة الست صاحبتها هي اللي زقتها أنا شوفتها بعيني وهشهد معاكي جوا.
تمسكت فاطمة بيدها قائلة بعدم تصديق:
– بجد هي اللي زقتها، أنا متأكدة والله ان مزقتهاش دي هي اللي كانت عايزة توقعني على السلم.
صوت أنفاسها الخائفة كان يشبه أنفاس غريق يحاول التمسك بأي شيء ينقذه من هلاكه.
وبعد مرور ثوان أخرى اندفع زيدان للردهة يبحث عنها حتى رآها مكبلة الايدي، فزعق بالعسكري وأمره بفك اصفاد الحديد.
ثم حول بصره نحوها:
– أنا زيدان اخو سليم صاحب سيف ومتقلقيش من أي حاجة.
هزت رأسها تابعًا تخبره بمعرفتها له:
– أيوا أنا شوفتك قبل كده، اهلاً بحضرتك.
أشار إليها نحو الغرفة قائلاً بجدية:
– اتفضلي ادخلي..
تشبثت بالارض تهتف بعيون باكية وصوت مختنق:
_ انا والله ما زقتها..حتى ليال جارتنا شاهدة على كده.
اندفعت ليال خلفها تؤكد:
– ايوا انا شوفتها بعيني، وام محمود شافتها كمان واقفه هناك مستنيه ينادوا عليها..
أشار للعسكري قائلاً:
– دخلهم كلهم..يلا، ومتخافيش مفيش حاجة هتحصل.
تنفست الصعداء وتحركت خلفه بقلب بدأ خفقه المضطرب يختفي تدريجيًا..
***
اتسعت ابتسامة شمس بعدما جلست فوق الكرسي خلف مكتب صغير بإحدى المكتبات التابعة للحاج” محمد ” حيث وافق وابدى ترحيبه الشديد من أجل السيدة ام رجاء، واعطاها وظيفة مؤقتة بائعة في مكتبة لبيع الادوات المدرسية…لم تهتم شمس كثيرًا لمكانة الوظيفة، فاشتعال قلبها بالخوف على طفلها جعلها توافق على أملاً بايجاد وظيفة تليق بها كما وعد الحاج محمد السيدة ام رجاء في تهذيب..حيث اعترضت الاخرى بشهقة تنم عن صدمتها وهي تخبره بمكانة شمس، متحججة بأن الظروف هي من دفعتها لذلك.
راقبت أجواء المكتبة بهدوء، وشعرت بسكينة تسيطر عليها بعد توتر عاشته لمدة يومين، نظرت لهاتفها المغلق وترددت في فتحه، تريد الاطمئنان على أنس وفي نفس الوقت تخشى من اتصالات سليم، فبالتأكيد علم بأنها غادرت المنزل، وثارت ثائرته لذلك، فهمست بشرود:
– أنا لسه مش جاهزة ارد عليه لو اتصل.
بعد تفكير دام لدقائق حسمت أمرها
بألا تفتحه مؤقتًا، وقررت تنظيم وقتها وتعيد ترتيب اولوياتها ومن بعدها تسافر لأخذ طفلها.
تنهدت بعمق وحاولت تنظيم أفكارها المتدفقة التي قد تدفعها للجنون هي ومشاعرها المتناقضة، لمحت هاتف بالمحل فلمعت برأسها فكرة وقررت الاتصال هاتفيًا بمنال حتى تطمئن على أنس، رفعت الهاتف المثبت بجهاز اخر وضربت الارقام التي حفظتها من قبل، وانتظرت الرنين بفارغ الصبر حتى آتاها صوت منال:
– الو ايوا يا ماما..اخبارك إيه واخبار انس.
وصلها صوت صياح منال الفرح:
– شمس، الحمد لله انك اتصلتي، قافله تليفونك ليه!.
ردت شمس بخوف:
– في حاجة حصلت لانس.
– لا لا..هو كويس، بس..بس سليم عرف انك مشيتي.
قالتها منال في تردد خوفًا من ردة فعلها، ولكن فاجئتها شمس حينما قالت بلامبالاة:
– اممم…المهم انا متصلة علشان اطمنك عليا، واطمن على أنس واقولك قريب هاجي واخده.
تقطع صوت منال بحزن شديد:
– لسه مُصره تبعدي أنس عننا يا شمس، طيب وسليم يابنتي مش هيقدر يبعد عنكوا.
اغلقت شمس عيناها وهي تصر على مبادئها فلن ترضخ من أجل أحد مرة أخرى:
– ايوا، عن اذنك علشان هقفل دلوقتي، وهرجع اتصل بيكي تاني.
اغلقت شمس الهاتف بقلق وخوف، وبدأ تفكيرها يدفعها نحو ردة فعل سليم..هل سيكون مسالمًا ويعيطها طفلهما دون مقاومة منه؟..او سيستخدم أساليبه في الضغط عليها!، هل سيحترم قرارها من الاساس؟، ام أن هجومه البدائي سينفجر بوجهها وبالنهاية تتعرقل بأفعاله العدائية لها، ولوهلة شعرت بالندم لترك طفلها، ولكن ما بيدها وهي لا تملك المال الوفير لتنظيم حياتها مع طفلها المعتاد على حياة كريمة ورفاهية دائمة.
انتبهت لاحد الزبائن فنفضت افكارها القلقة وقررت أن تنهض بحماس لم تشعر به من قبل حتى عندما اقدمت على الرسم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالأمر هنا يختلف كليًا، تشعر كأنها حرة طليقة، فلم يدفن قلبها في واد الخوف، ولا يمر عقلها بمرارة الكذب.
سرعان ما اندمجت شمس مع الرجل وزوجته وساعدتهما بحماس في اختيار الادوات المدرسية الخاصة بطفليهما، فأمور البيع والشراء كانت أسهل بكثير مما هي تظن.
***
قاد يزن سيارته متجهاً صوب اسكندرية، بعدما استخدم أساليبه الخاصة في الضغط على والدته كي يعلم مكان شقة شمس بالتحديد، ورغم أن والدته رفضت رفض قاطع في اخباره بناءًا على طلب شمس منها، حيث كانت لا تريد مواجهة أي أحداً منهما قبل الاستقرار وإعادة هيكلة تماسكها مجددًا، إلا أنه اخبرها بعلم سليم بمكان شمس ويجب عليه الاسراع في الوصول إليها قبله كي لا يفتعل شجار معها ويدمر كل حبال الوصل بينهما..فرضخت والدته بعد عناء بذله من ناحيته، وقررت اخراج ورقة صغيرة مدون بها العنوان قد احتفظت بها من قبل.
***
بعد مرور عدة ساعات..
خرجت فاطمة من قسم الشرطة مع ليال وزيدان، بعد انتهاء أمر البلاغ المقدم ضدها من قبل والدة طليقها، لقد سوا زيدان الأمر ودياً بينهما، بعد تهديد طفيف لمحه لصديقتها، والاخرى حينما شعرت بذلك دفعت منيرة للتنازل وتسوية الأمر، ومما ساعد ايضًا في اغلاق البلاغ، هو مكالمة طليق فاطمة لوالدته لمدة نصف ساعة كاملة، يحثها على التنازل من أجل طفلته..وبالأخير رضخت منيرة للأمر على غير مضض.
ضغطت فاطمة فوق رأسها بألم بسبب صداعها المستمر، فيبدو أن احدى الضربات التي سددت لها بقوة في رأسها هي السبب في ذلك، وبالطبع لن تخرج إلا من تلك الظالمة ذات الغل الشديد منيرة.
هبط سليم من سيارته وتقدم منهم هاتفًا بترحيب يتخلله القلق بسبب اتصالات سيف التي لم تنتهي أبدًا:
– أخبارك يا مدام فاطمة، انتي كويسة، حد اتعرضلك.
هزت رأسها بخجل واخفضت بصرها ارضًا:
– لا لا تمام.
حول سليم بصره لزيدان الواقف بجانبهم بصمت يرمقه بتفكير حيث ولاول مرة يدخل في حيرة أصابت عقله، فالأمر دومًا محسوم بقرارته اتجاه سليم بالاخص..ولكن هذه المرة لم يعلم لِمَ يصاب بعجز فكري..
– خلصت كل حاجة يا زيدان..
أومأ زيدان مردفًا بثقة:
– طبعًا…وقولتلها لو عايزه نسجنها مفيش مشكلة!.
أنهى حديثه بابتسامة بسيطة، فسارعت ليال بالتحدث..وخرجت نبرتها حاقدة بعض الشيء:
– ياريت والله…اسجنوها لو ينفع.
رمقها بسليم بتفكير للحظات، ثم سألها بنبرة خبيثة، بعدما تأكد من تهورها الواضح له، فحكايات سيف عنها كونت لديه صورة مستقبلية قبل رؤيتها، وها هي تترسخ بذهنه عندما رآها، معطيًا العذر لصديقه عما يمر به معها:
– أنسة ليال مش كده!.
ضيقت ليال عيناها وهي ترمقه بقلق لمعرفته باسمها، فحدثت نفسها بتعجب:
– عارف اسمي منين ده!.
ارتفع رنين هاتف سليم، فأجاب وهو يخبر سيف بالتفاصيل، قطبت ليال ما بين حاجبيها والفضول كاد أن يقتلها، فهمست لفاطمة تسألها:
– هو سيف اخوكي فين؟!.
رفعت فاطمة احد حاجبيها، تجيب في تهكم:
– أنتي مش ملاحظة انك سألتي كتير عنه.
– أنا!.
أشارت نحو نفسها باستنكار زائف، فهزت الاخرى رأسها بصمت، وردت ليال بنبرة متلعثمة من فرط احراجها:
– لا يعني، أنا بس مستغربة، ينفع يسيبك كده.
حولت فاطمة رأسها أمامها تهتف بشرود ممزوج بالخوف من لقاء سيف لها:
– كده احسن، سيف لو شافني هيبهدلني..
سارعت ليال بتقديم مساعدتها، وبررت ذلك من واجب صداقتها مع فاطمة، وليس للاطمئنان على سيف أبدًا:
– تحبي افضل معاكي، وادافع عنك، أنا بردوا يعني شوفت اللي حصل.
تمسكت فاطمة بيدها قائلة:
– ياريت يا ليال..أصله ممكن من كتر عصبيته مش هيصدقني.
قاطع سليم حديثهما الخافت، مشيرًا نحو سيارته:
– اتفضلوا ..هوصلكوا للبيت علشان سيف لسه في الطريق.
تقدمتا معًا وتركا زيدان مع سليم وحدهما، حك سليم مؤخرة رأسه بتوتر جلي، ثم تشجع قائلاً:
– سيف بيشكرك!.
ابتسم زيدان بتهكم:
– قوله على إيه احنا اخوات..
ورغم ان ذاته اعترفت بفضل أخيه في انهاء تلك المعضلة، التي لولا وجوده ما كانت ستنتهي لصالح اخت صديقه، إلا أنه مازال في حالة من الانكار وظهر ذلك بوضوح حينما استطرد:
– أنا لو كنت هنا في القاهرة كنت حلتها، بس مشوار اسكندرية عطلني شوية.
عقد زيدان حاجبيه متسائلاً بتعجب زائف، بعدما قرر تجاهل باقي حديثه الذي نم عن تصغير دوره:
– اسكندرية!.
– اممم بدور على شمس، بس ملقتهاش.
حرك زيدان رأسه بإيجاب وسبح ضميره في حيرته، انتبه على صوت سليم يخبره بعجرفة كعادته:
– مكنش له لزوم تبعت التسجيل ده.
سأله زيدان بترقب:
– انت سمعته كله!.
أجاب بلامبالاة ظاهرية:
– لا، مالوش لزمة، أنا نهيت الموضوع معاك.
سخر زيدان بداخله، حانقًا على قلبه الذي كان ينتظر اعتذارًا من أخيه عما بدر منه، ولوهلة شعر بالشفقة لِمَ يعانيه من تناقض واضح بشخصيته، حتى أنه لو نظر فقط لفعل واحد يصدر منه لوقف متعجبًا من نفسه، وكعادته كتم أمنيته الضائعة بسبب كبرياء أخيه الذي لن ينتهي بل سيظل عائقًا بينهما.
راقب مغادرة سليم له دون أن يودعه، وكأنه عامل لديه..فأقسم قائلاً لنفسه لو كان عاملاً لعامله سليم بلطف أكثر من ذلك، ولكن ما جعله يقف مشدوهًا هو سؤال سليم له غير المتوقع من شخص مثله:
– هو انت لو عرفت مكان شمس هتقولي صح!.
مازالت حيرته تعرقل عقله في حسم قراره، وتصيبه بحالة من الجمود الفكري، ولكنه فكر لِمَ لا يعامله بنفس طريقته، حتى إن شعر بالخذلان منه مرة ثانية لن يصيبه بالحزن، فأجاب بنبرة غامضة:
– أكيد.
التفت سليم مغادرًا ولكنه توقف حينما صدح صوت زيدان طالبًا منه بنبرة هادئة لم يهتم لها سليم كثيرًا:
– ياريت تسمع التسجيل كله يا سليم، أنا كده هرتاح أكثر.
لم يجيب سليم بل استمر بالسير اتجاه سيارته، مؤجلاً طلبه لوقت آخر يشعر فيه بالهدوء حتى يستطيع تحمل قدرة عمته على الكذب، وطريقتها الحقيرة في زعزعة العلاقة بينهما، ناقمًا على نفسه بسبب تسرعه الذي دفعه لاول مرة لأمرًا لم يحبذه فيما بعد..ولكنه رجح اندفاعه بسبب حالته غير المستقرة هذه الفترة.
***
ليلاً…
صعدت شمس درجات السلم بعيون كادت أن تغلق وتغرق في سبات بسبب شدة تعبها اليوم، فكان يومًا عصبيًا بدأته منذ الصباح الباكر مرورًا ببحثها عن العمل في مناطق مختلفة بإسكندرية حتى أخيرًا استقرت بعملاً مناسبًا لها ولكنه مرهقًا قليلاً عليها فوقع مسؤولية المكتبة كاملة على عاتقها .. كانت تشرد بوضعها الحالي أثناء صعودها السلم، فشعرت بالفزع حينما وجدت يزن يتوسط السلم المؤدي لشقتها جالسًا عليه بأريحية تامة..فقالت بنبرة خافتة مذعورة بعض الشيء:
– يزن..أنت هنا بتعمل إيه!
رفع يزن وجهه بعدما كان يعبث بهاتفه بملل فقرر الانتظار أمام شقتها بعدما لم يجدها حيث دار حوار بسيط مع ام رجاء جارتها وأخبرته فيه بعملها الجديد:
– مستني حضرتك.
صعدت بحرج مشيرة إليه نحو شقتها:
-كان نفسي اقولك اتفضل جوا بس…
قطعت حديثها بخجل واضح، فرد بحزم.
– فاهم طبعا.
أشارت برأسها بالايجاب، وجلست على السلم مبتعدة عنه بقدر الامكان، ثم بدأت بسؤاله حيث شعرت بالدهشة بسبب تواجده السريع:
– انت هنا ليه بقا؟!
– علشانك…علشان اقولك تعالي ارجعي البيت تاني.
ضحكت ساخرة مشيرة نحو نفسها:
– أنا، ارجع تاني، لا طبعا استحاله.
– ليه يا شمس؟!
– علشان مفيش حاجة ارجعلها تاني هناك، أنا حياتي الجديدة هتبتدي هنا.
رد بمكر يلعب فوق اوتار عاطفتها:
– لا فيه طبعا علشان أنس وسليم كمان.
خرجت نبرتها شرسة كقطه تجاهد من أجل الحفاظ على صغيرها:
– أنس هرجع واخده تاني يا يزن غصب عن عين أي حد.
احتدت نبرتها بعض الشيء ولكنه أعطها عذرًا، وتجاهل حدتها منتقلاً لأمر اخيه الضائع من غيرها والذي كرث حياته للبحث عنها:
– طب وسليم؟!
خرجت نبرتها مجروحة تحمل حجم الانكسار الذي ذاقته بسبب ما فعله:
– انتوا بتضحكوا على نفسكوا يا جماعة، سليم مين اللي ارجعله..ده واحد طلقني بكل بجاحة ازاي اقعد في بيته!.
رد بنبرة هادئة:
– لاحظي انه كان متعصب!.
قاطعته شمس بحدة مفرطة:
– مش سليم اللي لما يتعصب يهد حياته فقول معلش ده متعصب رغم ان ده كمان مش مبرر، هو كان قاصد كده وبراحته بقا، اصلا ميفرقش معايا، أنا مبقتش محتاجه له في حياتي اساسًا..
اطلق يزن صفيرًا صغيرًا وهو يشاكسها:
– استرونج اندبندنت وومن اوي في نفسك.
فلتت منها ضحكة صغيرة قائلة:
– متضحكنيش لو سمحت وانا مضايقة!.
هز يزن كتفيه بلامبالاة مؤقته، ليقول برزانة:
– على عموم خدي وقت، محدش فينا هيغصبك على حاجة، وبالمناسبة مبروك على شغلك الجديد.
ردت بابتسامة صغيرة:
– الله يبارك فيك يا يزن، المهم ايه رأيك في اسكندرية!.
– معرفش ليه مكنتش باجي هنا كتير، اسكندرية دي طلعت حلوة اوي اوي اوي.
أنهى حديثه بغمزة طفيفة من عيناه، فردت بنصف عين تشاكسه:
– اسكندرية بردوا…ولا بنات اسكندرية..
رفع يده لاعلى قائلاً بطريقة تمثيلية:
– توبت يابنتي، ده انتوا كرهتوا الواحد في كل حاجة، وبعدين مبقتش فاضي بعد ما جوزك…
صححت له برأس شامخ ونبرة صارمة:
-طليقي لو سمحت!.
– امممم..بعد ما طليقك ساب كل حاجة فوق دماغنا.
ابتسمت له وردت دون أن تعي:
– اعترفوا انكوا من غيره متسووش حاجة.
نهض وهو يرتب ثيابه اثر جلوسه، قائلاً:
– اممم، عمري ما شفت واحدة بتدافع عن طليقها، انتي وسليم بشوف منكوا العجب.
نهضت أيضًا وهي تتابع حديثها مبررة له بعد زلة لسانها:
– آآ…أنا بدافع عن الحق.
– المهم أنا قاعد يومين هنا..لو عايزة حاجة كلميني.
عقدت حاجبيها بتعجب، وسألته:
– ليه؟، سافر شوف شغلك.
اخفى سبب إقامته القصيرة بالقرب منها والذي كان يندرج تحت خوفه من تصرف أخيه المتهور حينما يعثر عليها، فأجاب بنبرة غامضة تتحلى بالمشاكسة:
– واسيب حلاوة اسكندرية لمين؟!
ضحكت عقب حديثه، ولكنها لم ترتاح له قط، يبدو أن يزن يحاول فرض حصونه حولها من سليم الذي شارف على الوصول إليها..ولكنها لم تعد تهتم أو تشعر بالخوف لذلك..بل كانت تتوق لرؤيته لها وهي ترسم حياتها الجديدة بدونه، وتتلذذ بنظرة الغيرة حينما يعلم بأمر عملها، فقد يصاب بجلطة لقد كان مغلقًا عليها في عشه كطير يخشى تحليق صغيره متمردًا عليه..
***
حرك سيف نفسه خلف المقود بتعب، فلم يشعر بانهاك هكذا مثل اليوم، بداية من قراره المفاجيء بزيارة شخص مهم، لتحديد مستقبله الذي شارف على الوقوع في حافة الهاوية، بسبب عدم قدرته على حسم الجدال القائم بين قلبه وعقله، ورغم أنه مر بحالة صراع قوية بالاعتراف بما يريده قلبه، إلا أنه
خضع لشرارة الحب وركض خلفها كالمجنون يحقق ما آلت إليه نفسه الضائعة بدونها، تاركًا مخاوفه التي تتجسد أمامه لتوقعه شكل العلاقة بينهما تحت رابط رسمي!.
قبض فوق المقود حينما قرب على الوصول إلى القاهرة، عازمًا على تهذيب فاطمة لِمَ فعلته اليوم.
– أنا هوريكي يا فاطمة!.
***
أما سليم فجلس في سيارته في احدى طرق القاهرة، لا يجيد التفكير السليم بعدما فقد هدوئه وسيطر عليه نيران غضبه، وبدأ قلبه بالاتقاد من شدة قلقه عليها، رغم طلاقه لها إلا أنه لم يتصور بُعدها عنه واختفائها عن مرمى بصره، لم يتوقع تمردها.. لدرجة أنه لم يستطيع فك شفرات تفكيرها، وكالعادة لم يساعده أحد..حتى عائلته مازالت تقف ضده، تأججت مشاعره التي يصعب البوح بها حتى لنفسه، وشعر بخيوط الماضي تنسج شباكها حول عنقه، تخنقه بضراوة…خارت قواه في محاربتها..وأصاب بالخمول الفكري لاول مرة بسبب مرهقته، فأحس كأنه داخل دوامة تطيح به هنا وهناك، استسلم لاجهاد جسده وارجع رأسه للخلف مغلقًا عيناه بتعب.
_________
يتبع ……
لقراءة الفصل السادس عشر : اضغط هنا
لقراءة باقى فصول الرواية : اضغط هنا

اترك رد