روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل السادس والعشرون 26 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل السادس والعشرون 26 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت السادس والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء السادس والعشرون

ما بين الألف وكوز الذرة

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة السادسة والعشرون

صوت أنفاسها وصوت قرع الكرة الضخمة بالأرض هي ما يمكن أن تسمعه في ذلك المكان الواسع، الاضواء خافتة والأجواء ساكنة، هدوء يخفي بين طياته صرخات وانفجارات لو تُرك لها العنان لهدّمت الجدران من حولها .
كانت تمسك الكرة الضخمة بين أصابعها تحملها لأعلى ثم تلقيها ارضًا بقوة كما لو كانت تلقي بحجر، ثم تنحني وتحمل الكرة لتكرر نفس الأمر مرة أخرى في حركات رياضية معروفة، لكن هي ما كانت تفعلها لأجل صحتها أو جسدها كما اعتادت، بل كانت تفعلها لأنه الشيء الوحيد الذي تخرج به كامل طاقتها السلبية .
لكن حتى ذلك لم يساهم بقدرٍ ضئيل في تخفيف ما بداخلها ولو لجزء صغير .
حملت الكرة مرة أخرى ترفعها وتفرد جسدها لأعلى، ثم ألقتها باقوى ما عندها وهي تصرخ بصوت مرتفع، صوت صرخاتها بدأ يعلو مبددًا ذلك الصمت الكئيب حولها .
ومع صوت صرخاتها كانت تسمع أصوات جاءت من الماضي تلاحقها، اصوات تترد في المكان حولها حتى كادت تعتقد أن هناك من يضع مسجل صوت في الإرجاء وقد وضع به شريط بكل احاديث سعيد لها، سعيد الذي أحبته وسلب لُبها ..
” أنا جبتلك الورد ده عرفت أنك بتحبيه، سألت صاحبتك وهي قالتلي ”
” زهرة هو أنا لو اتقدمت ليكِ توافقي ؟؟ مش دلوقتي يعني قصدي بعدين، على فكرة أنا ..أنا عامل مشروع مع اتنين صحابي وهينجح أنا متأكد، بس محتاج ..محتاج تطمنيني أنك هتستنيني ”
” زهرة استني …زهرة أنتِ ما اخدتيش ورد انهاردة ”
” الأمن كل شوية يطردني من الكلية عشان أنا مش طب، بس أنا بدفعلهم وبدخل عادي عشانك بس ”
” لما نتجوز هبقى افتحلك اكبر عيادة، وهكون أنا المريض الوحيد ليكِ، مجنون زهرة ”
” يا زهــــرة، أنا جايلك من الحرم الجامعي مشي على فكرة يعني أقل حاجة تسمحيلي اشوفك من بعيد حتى ”
صرخت زهرة صرخة عالية تحاول أن تبعد كل تلك الأصوات عن رأسها، صوت سعيد يتردد في عقلها وهو يناديها ويدللها بحب، تراه أمامها، وهو يبتسم لها ويقفز أمام عيونها كل ثانية يحمل ورود أو طعام تحبه .
سقطت زهرة ارضًا في غرفة التمارين داخل أحد النوادي التي ترتادها، حبست نفسها في أحد أركان الغرفة تحاول أن تتنفس من بين شهقاتها، لكن فشلت فشل ذريع حينما شعرت أنها لا تقوى حتى على إخراج صوتها ..
بكت بصوت مرتفع وهي تقول بقهر :
” يا رتني ما شوفتك يا سعيد، يا ريتني ولا شوفتك ولا عرفتك، يا ريتني شوفك وأنت مجرد مريض بس ”
دفنت رأسها بين قدمها تحاول أن تتحكم بغصات بكائها، لكن فشلت في ذلك مجددًا .
فجأة سمعت صوت رنين الهاتف الخاص بها يشاركها الضوضاء في تلك الغرفة، نظرت بعيدًا حيث الطاولة التي يقبع عليها الهاتف..
ترددت في النظر له، لكنها رغم ذلك تحركت وامسكت به لترى اسم سعيد ينير شاشته، وهذا ما شعرت به وصدق حدسها، ابتلعت ريقها وشعرت برغبة عارمة في سماع صوته، سماع تبريرات قد تحسن من صورته، تبريرات قد تخبرها أنها ليست بذلك البأس لتعشق مجرمًا .
وضعت الهاتف أعلى أذنها وصمتت، وهو على الجانب الآخر كان يقف في نافذة غرفته يراقب بأعين شادر الأحصنة تتسابق في الاسفل ..
” زهرة ”
تقهقرت زهرة ارضًا تضم الهاتف بقوة صوب أذنها وكأنها تشعر بفقدانها للسيطرة على اطرفها، فخشيت أن تتهدل يداها وتُسقط الهاتف ارضًا ..
ابتسم سعيد على الجانب الآخر بسمة صغيرة وقال :
” عارف إني المفروض بعد اللي قولته ميكونش ليا عين اتصل، بس …بس انا بجح يا زهرة، بجح من ايام ما كنت برجع امشي وراكِ في الجامعة بعد ما تقوليلي معملش كده تاني ”
خرجت شهقة من فم زهرة دون أن تتحكم بها، ليشعر سعيد بمدى حقارته وما وصل له مما فعل، حقًا ماذا جنى من كل ذلك؟! سؤال سيظل يطرحه حتى يجد له إجابة، ولا يظن أنه سيفعل يومًا .
” زهرة أنا …أنا آسف… أنا…أنا خلاص هصلح كل ده، مش أنتِ طلبتي مني اصلح حياتي وارجع ليكِ، لو صلحتها فعلًا ..هـ هتقبلي ترجعي ليا ”
أطلقت زهرة ضحكة صاخبة تقول بعدم فهم لتلك الجرأة التي جعلته يطالبها بما لا تقوى عليه :
” هسأل سؤال يا سعيد ”
صمتت ثم قالت بجدية :
” لو واحد زيك حب نيرمينا، كنت هتقبل بيه يكون زوج ليها ؟؟”
صمت سعيد وقد تفاجئ من سؤالها ليشعر بالوجع يدرك أن إجابته ستكون نفيًا قاطعًا، لن يسمح لأحد مثله أن يقترب من جوهرته الصغيرة، بل يمكن أن يصل به الحال لقتل من يحاول ذلك، لكن هل يستطيع قول كل ذلك لزهرة ؟؟
صمت ولم يجب، لتقول زهرة بدموع وكلمات شبه مستحيلة :
” اكيد لا صح ؟؟ طب …طب يا سعيد أنا ممكن اوافق، أنا عندي استعداد اوافق، بس تصلح كل ده وترجع الحقوق لصحابها، وتوعدني أنك بعد الجواز مش هتعمل فيا نفس اللي كان جاد بيعمله مع والدتك ”
شعر سعيد بصدمة قوية تصيبه وجسده بالكامل يتيبس، وقد انقطعت أنفاسه لثواني يتذكر ما فعل جاد لوالدته، يتخيل نفسه مكانه وزهرة هي ضحيته .
شعر بموجة غثيان تصيبه، وزهرة على الجانب الآخر تدرك جيدًا كل ما سيمر به جراء كلمتها، لكن شخص كسعيد لن يتم علاجه إلا بهذه الطريقة، بالضغط على جروح قديمة وإخراج الصدى منها، وارعابه من فكرة أن يكون ذلك الشخص الذي كانت والدته تبكي منه .
” أنا… أنا عمري ..زهرة أنا عمري ما أعمل كده، أنا مش جاد، لا لا أنا مش ممكن اوصل لكده يا زهرة أنا آه كنت بشتغل معاه بس …بس انا عمري ما اعمل كده ”
شعرت زهرة أنها على الطريق الصحيح لتقول دون تفكير :
” بس أنت سبق وعملت كل بلاويه يا سعيد، ولو سبت لشيطانك التحكم أكثر مش بعيد تعمل اكتر من كده، وقتها عقلك الباطن مش هيقولك إن ده غلط، وهيقولك اني استحق اتعذب زي ما والدتك اتعذبت، نفس المبدأ اللي أنت استعملته مع الكل، شوفت أن الكل لازم يعاني زيك ”
تقهقر سعيد بقوة للخلف وهو يشعر بصدمة كبيرة، هو لم يفكر في تلك النقطة سابقًا، هو بالفعل كان يحاول أن يباري جاد، بل إنه عمد ليتجاوزه في فساده، لم يشعر بأي ندم، بل كانت نشوة هي ما تغمره حين يرى أمامه ما جنت يده، لم ينظر للأمر من ذلك المنظور أبدًا ..
شعرت زهرة بالتردد للاكمال خوفًا أن تسوء حالته، لكن سعيد يحتاج لذلك، هو حتى هذه اللحظة لا يزال جزء منه مؤمن أنه لم يخطأ، ما يزال جزء منه مسكونًا باشباح جاد، وإلا ما كان تحدث معها ببساطة عن إصلاح ما حدث دون ذرة ندم .
” سعيد أنت متقمص دور المتعدي، تقمصت دور جاد عشان تلغي جواك شعور الضحية، عملت اللي بيعمله وتجبرت زيه عشان مش حابب تبقى قدام نفسك ضحية، حابب أنك تبقى قوي، لكنك هش يا سعيد ”
جلس سعيد على الفراش خلفه وقد شعر أنه تعرى أمامها، شعوره الداخلي كُشف لها وشعر بمدى دنائته ..
” طب ..طب أنا… أنا ممكن ..ممكن اتعالج يا زهرة صح، أنا قولتلك اساسا إني هتعالج، زهرة أنا خايف ابقى زيه وأذي نيرمينا أو أئذيكِ”
تنفست زهرة بصوت مرتفع تمسح وجهها، ثم قالت :
” الرحلة طويلة اوي يا سعيد، طويلة اوي وأنا هكلم الدكتور اللي قولتلك عليه قبل كده، وأنت محتاج تتابع معاه باهتمام، وكمان محتاج تصلح حياتك، عشان نفسك وعشان نيرمينا ”
قاطعها سعيد بلهفة :
” وأنتِ يا زهرة ؟!”
وزهرة نفسها لم تجد إجابة لذلك السؤال، تقسم أنها لا تعلم ما يحدث معها، تحب سعيد الذي كان يمثل لها رمز النقاء والحيوية، وتكره سعيد الذي أظهر لها جانبًا سوداويًا .
هي مريضة، تشعر أنها أصبحت مريضة نفسية مثله فقط لأنها تحبه، ما تزال تحبه رغم معرفتها بكل ذلك، ما تزال حمقاء تبحث داخله عن سعيد البرئ، تنتظر أن يظهر من بين تلال سواد ذلك السعيد، هي لن تستطيع أن تحيا معه بهذا الشكل، ستكون حمقاء وغبية إن فعلت، لن تلقي بنفسها بين جحيم سيعاني هو منه قبلها، لن تلقي بنفسها في حياة ستدمرهما سويًا، فلن يستطيع ايًا منهما نسيان كل ذلك .
لكن رغم كل ذلك قالت ساخرة من نفسها قبله تدرك استحالة ما تقول:
” لو رجعت ليا سعيد القديم بكل طيبته وبرائته، فأنا هكون معاك يا سعيد ….”
____________________
” مش فاهم يعني ماله سي زفت ده ؟!”
بكت رانيا بقوة تتمسك بيد محمد متوسلة المساعدة، صوت صراخ وسباب صالح تنبأها أنه يواجه شيئًا مجهولًا لها، وسيئًا له.
” هو…هو كان بيكلمني ”
ارتفع حاجب محمد في حركة تدل على غضبه الشديد واستياءه مما تقول، كانت ملامح عدم الرضى واضحة على وجهه :
” بتكلميه ؟؟ مش معنى اني عملت نفسي عبيط يبقى تسوقي فيها يا رانيا، الولد ده انا اساسا مش طايقة و..”
قاطعته رانيا بسرعة كبيرة وهي تقول متوسلة :
” كان جاي في الطريق هنا عشان يقابلك وفيه عربية طلعت عليه وشكلهم ناس مؤذية ”
ابتسم محمد بسمة واسعة وقد شعر فجأة بالراحة الشديدة جراء تلك الأخبار، ها هو القدر يزيح صالح من أمام وجهه دون أن يلوث يديه بقطرة دماء واحدة .
مال محمد يقبل وجنته رانيا بحب، ثم ربت أعلى رأسها:
” طيب يا قلبي الحمدلله هم وانزاح، يلا ندخل نتصل بعبدالله يجيبلنا اكل حلو ونحتفل كلنا سوا ”
وكاد بالفعل يطبق كلماته بالاتصال بعبدالله، لكن رانيا قاطعت كل ذلك وهي تصرخ من بين دموعها بغيظ شديد :
” محمد أنا مش بهزر، بقولك فيه ناس هتأذيه، صالح هيتأذي ”
ربت محمد أعلى كتفها ببسمة :
” وده المطلوب ..”
وقبل أن يتحرك خطوة أوقفته رانيا تقاطعه بشر وبصوت مرتفع وكأنها ورثت منه صفاته، يرى محمد نفس غضبه يتمثل أمامه في هيئة أنثوية قصيرة وصغيرة، ورانيا ترفع إصبعها في وجهه صارخة :
” محمد أنت لو مساعدتش صالح، أنا في حياتي دي كلها مش هكلمك ولا هكلم حد منكم ابدا ….”
تخيل أن تُجبر فتاة ضئيلة الحجم طويلة اللسان أربعة رجال بأجساد كاجسادهم على فعل ما لا يطيقونه، أمر مقيت مزعج بحق صحيح ؟؟
وهذا ما حدث فبعد نصف ساعة تقريبًا توقفت سيارة محمد بالقرب من سيارات متجمعة على بداية اسكندرية والأربعة داخل السيارة يدعون أن تكون العصابة قد انتهت من ذلك الصالح .
هبط جبريل من السيارة يحرك لسانه على الجزء الباطني من خده يخلع نظارته بحنق :
” قولتلكم نسوق على ١٠، ادينا وصلنا بسرعة، وهو لسه عايش ”
تحركت انظار الجميع صوب صالح الذي كان يقف أمام ثلاث رجال يتحدث معهم ببرود وكأنهم يجرون اجتماعًا أو ما شابه .
فرك محمد خصلاته بتفكير :
” أنا شايف أنه هو كويس ولسه عايش، معتقدش وجودنا هنا له لازمة ”
وافقه الجميع وكادوا يتحركون صوب السيارة، لولا ارتفاع فجأة صوت صرخات مجددًا، وسباب نابية من كلا الطرفين، ولا أحد يفهم ما يحدث .
تحدث عبدالله يراقب تحرك صالح صوب سيارته، ثم عودته بمدية يلوح بها في الهواء :
” طلع مبيهزرش لما قال معاه مطوة ”
وعبدالجواد أضاف بحنق شديد :
” طب مش هنروح ولا ايه ؟؟ عايز انام ”
نظر محمد لاحتدام الشجار الذي لا يدري سببه أو عما يدور وقال بحنق يرفض الاعتراف بذلك :
” اعتقد أننا مجبرين نساعده …”
وعند صالح بدأ الأمر أنه هبط من سيارته وتحرك نحوهم ليرى ثلاث رجال يهبطون من سيارتهم وأخذ أحدهم يتحدث بكلمات غير مفهومة له ..
” فرد علينا والاحسن تكون على الجنب بتاعنا بدل ما تخسر في الآخر ”
وصالح لم يفقه شيء مما يريد ذلك الرجل، لكنه أدرك من حديثه أنه هو المقصود وليس صلاح، فهذا الرجل ذكر شيئًا حول تشريح جثة وتقارير عليه أن يزور نتائجها :
” بص يا غالي هو أنا مش عارف أنت مين ولا عايز ايه، بس شكلك كده جايلي أنا صح ؟؟”
نظر له الرجل بعدم فهم ليبتسم صالح موضحًا :
” اللي بعتك يعني بعتك ليا أنا صالح؟؟ قالك روح للدكتور ؟؟ ولا للتاني ابو بدلة ؟!”
” مش أنت الدكتور صالح بتاع الطب الشرعي ؟!”
اومأ له صالح :
” أيوة أنا يا حبيبي، قولي بقى عايز ايه عشان أنت مأخرني على نسايبي ”
قال الرجل بجدية كبير وهو يشرح له الأمر منذ البداية للمرة الثانية :
” فيه جثة اتسلمت انهاردة ليكم عشان التشريح وعرفنا أنك أنت اللي توليت تشريحها ”
” والله وكان معايا صاحبي، يعني مش فاهم سبتوه وجيتوا ليا أنا ليه ؟؟ مع أنه هو يعني اسهل هتلاقي لازق في مخبز جنب المستشفى وممكن تجبله علبة بسكوت نواعم هيديك عينه ”
والرجل لم يهتم بكل تلك التفاهات التي أصدرها صالح وقال بجدية كبيرة :
” احنا بقى مش طالبين منك غير أنك تلعب في تقارير الجثة دي، يعني مش عايزين حاجة توصل للبوليس ”
” معلش عشان أنا فهمي على قدي شوية، بس أي جثة بالضبط عشان أنا فيه ١٠٠ جثة بشرحها، يعني المرحوم مثلا معندوش حاجة مميزة افتكره بيها ؟؟ حسنة أو وحمة مثلا؟؟”
شعر الرجل أن صالح يستهين بهم ويسخر منهم لذلك قال بتحفز :
” صدقني اللي بتقوله ده مش في مصلحتك، اللي في مصلحتك أنك تبقى زي الشاطر كده تساعدنا ”
ضرب صالح كف بالآخر :
” هو أنا قولت حاجة؟؟ أنت بتكلم دكتور تشريح، يعني بيمر عليا جثث اكتر ما بشوف احياء، فمتجيش تقولي اطمس كل الأدلة بتاعة الجثة، وأنا اعرف منين الجثة دي ؟؟ هي من باقية عيلتي ؟؟”
أخرج الرجل صورة من بين ثيابه، ثم تحرك صوب صالح الذي ترقب وصوله ونظر للصورة ليجد أنها هي نفسها الجثة التي شرحها صباح اليوم وكانت بلا أية أدلة توضح سبب الوفاة :
” ده انا مشرحها انهاردة الصبح، لحقتوا تجمعوا بعض وتجيبوا طقم بدل سودة وعربية جيب آخر موديل؟! بسم الله ما شاء الله ”
صمت ثواني ثم أشار لها بجدية :
” مرسيدس دي ؟؟”
اشتعل غضب الرجل وقد أدرك أن صالح ليس من ذلك النوع الذي سيساعدهم على ما يريدون ليأمر الجميع بالتحفز وهو يصرخ في وجه صالح .
ابتسم له صالح وعاد صوب سيارته يخرج منها مديته العزيزة ويعود لهم :
” لا بقولك ايه علو الصوت ده ميمشيش معايا و…”
توقف حينما وجد البعض منهم يرفع عليه السلاح، نظر لهم يحاول الخروج من ذلك المأزق بأقل الخسائر، فهو ليس ذلك الغبي الذي الذي يحارب الأسلحة بمدية مسكينة..
“طب نتفاهم من الاول ..”
لكن الرجل أمامه قد بدا أنه فقد صبره تمامًا واشتعل غضبه، حيث أمر رجاله بالقتال والانتهاء منه ورميه بنفس الطريقة التي ألقوا بها الجثة، وصالح لم يستسلم أو يخضع لهم، بل هجم يمسك الرجل الذي كان يتحدث معه وينكب عليه بالضربات، وقبل أن يتكالب عليه الباقيين وجد أربعة أشخاص يتدخلون ممسكين إياهم وهبطوا فوق رؤوسهم بالضرب .
وصالح كان يشعر أنه هو من تلقى ضربة فوق رأسه حين رؤيته للاربعة يحاربون على طرفه، ولولا أنهم يحاربون على جانبه لخمن أنهم هم من أرسلوا هؤلاء الرجال .
كان عبدالله هو أكثر الأربعة مهارة في الضرب وذلك فقط لأنه يحترف أحد الفنون القتالية، يليه جبريل الذي كان يمسك رجلًا منهم يكاد يخرج روحه بين كفيه .
و عبدالجواد يمسك الاخير لمحمد الذي كان يضرب بقوة مغتاظًا من وقوفه على طرف صالح .
اقترب منهم صالح :
” والله ما مصدق عيني، أنتم جايين تساعدوني، ولا بتعملوا كده عشان خايفين حد يخلص عليا قبلكم ؟؟”
نظر له محمد بشر يضرب الرجل لكمة قوية، ثم استدار لصالح يقول بحنق شديد :
” لأجل الورد يُسقى العليق بقى ”
ابتسم له صالح بسمة جانبية ساخرة :
” كرمكم ده اخجلني والله ”
في تلك اللحظة ترك جبريل من بيده يسقط ارضًا خائر القوى لينتبه إلى آخر يتحرك صوب محمد الذي كان يجاور صالح، ركض له سريعًا ورفع يده في الهواء، ثم ودون أي تفكير هبط بها فوق وجه ذلك الرجل، لكن ولحسن حظه وسوء حظ صالح أدرك الرجل ما يفكر به وافلت منه لتصيب يده صالح الذي مال صارخًا :
” اه يا زبالة ”
نظر له جبريل وهو سعيد يرى صالح يعتدل في وقفته رامقًا إياه بغضب ليبرر هو سريعًا :
” مكانش بقصد والله ”
وبمجرد انتهاء جملته تبعها بلكمة وضع بها كل حنقه وغضبه وغيظه من ذلك الشاب وهو يقول ببسمة :
” دي كانت بقصد ”
رفع صالح وجهه ونظر له بشر وفي ثواني تحول القتال من بين صالح والرجال، إلى صالح وجبريل، حيث هجم الاثنان على بعضهم البعض وقد تدخل عبدالله ليبعد عنهم وكذلك عبدالجواد، بينما محمد وقبل أن يفعل شيئًا جاءه اتصال، لم يحتج كثيرًا ليخمن هوية المتصل.
” أيوة يا رانيا. ”
تحدثت رانيا بشهقات مرتعبة و جوارها يجلس والدها يحاول تهدئتها :
” أيوة يا محمد، لقيتوا صالح ؟؟ هو كويس ؟؟ اوعى يكونوا قتلوه ”
نظر محمد أمامه حيث الشجار بين أخيه وصالح :
” لا متقلقيش مقتلهوش، بس جبريل هيقتله ”
انتفضت رانيا برعب :
” ايه ؟؟ بتقول ايه يا محمد ؟! وهو جبريل ماله بصالح، هو عمله ايه ؟؟ ”
وفجأة توقفت عن الحديث قبل أن تطلق شهقة مرتفعة :
” محمد اوعوا تكونوا أنتم اللي بعتوا الناس دي عشان يأذوا صالح، والله قلبي كان حاسس، عشان كده قولتلي أقوله يجي ”
أطلق محمد صوتًا ساخرًا من فمه :
” وهو احنا فاضيين لسي صالح عشان نقعد نجمع في ناس مخصوص عشانه ؟؟ ده احنا نخلص عليه بنفسنا اسهل، بعدين أنا قولتلك تقوليله يجي، ايه يعرفني أنه جاي انهاردة ؟؟ ”
مسكت رانيا وجهها بتعب وخوف :
” طب الله يخليك يا محمد ما تخلي جبريل يأذيه لاحسن والله صالح مسكين وطيب ومش بيعرف يعمل حاجة، هو بس لسان”
رفع محمد وجهه صوب صالح الذي تسبب في سقوط جبريل ارضًا، ثم انكب عليه بالضربات بكل غضب وجنون، وجبريل يحاول دفعه بقوة، لكن صالح كان كالثور الهائج.
ابتسم محمد ساخرًا :
” واضح فعلا أنه لسان، ده قرب يخلص على جبريل، اقفلي يا رانيا أما اشوف الاتنين دول عشان أنا جبت اخري من لعب العيال ده ”
ختم حديثه يتحرك صوب الاثنان يرفع صالح عن جبريل ملقيًا إياه لعبدلله :
” خد ده دخله عربيته واتحرك بيه للبيت ”
ومن ثم ساعد جبريل على النهوض يدفع به صوب سيارتهم، والاخير يلعن ويسب ويتوعد لصالح، بينما صالح كان ينظر له ببسمة واسعة ينفض ثيابه :
” اتمنى اللي حصل ده ميأثرش على رأيك فيا يا ابو النسب، احنا عيلة وأهل ودي مجرد مشاكل صغيرة ”
أطلق جبريل سبة عالية ليبتسم له صالح بسمة أوسع :
” ده العشم يا حبيبي، يلا في أمان الله سوق على مهلك لاحسن العربية تتقلب بيكم والجوازة تتأجل بسببكم ”
وبمجرد انتهاء كلماته صعد السيارة جوار عبدالله الذي بدأ يتحرك بها قبل أن يفلت جبريل من قبضة محمد.
تنفس صالح بصوت مرتفع وبراحة شديد :
” والله أنت اللي فيهم يا عبدالله ”
نظر له عبدالله ثواني قبل أن يعود بنظره للطريق، فابتسم صالح وقال :
” الله يكرمك والله، شكلنا هنبقى صحاب اوي ”
ابتسم عبدالله بسمة جانبية، بينما صالح عاد برأسه للخلف يتنفس بعمق شديد، قبل أن يبصر هاتفه الذي على رنينه باسم رانيا …
___________________
تحرك صوب السيارة التي توسطت الممر الصخري أمام المنزل، مال بنصف جسده العلوي يمد يده من النافذة، ثم أخذ يطلق زمورها بقوة شديد والضيق يعلو ملامحه .
أبصر اقتراب الاثنان منه، كلٌ يتوسط ظهر فرسه وهو يقف هنا ينتظرهم للعودة إلى المشفى :
” والله عال، أنا بولع والأساتذة عايشين حياتهم ”
زفر بقوة يضغط بكامل يده على الزمور وهو ما يزال ينظر لهما بشر يجبرهم على العودة بسرعة، لم ينزع سعيد كفه عن الزمور وهو مصر على إصابة الجميع بالصمم ..
وعلى بعد قصير منه كان صلاح يتحرك مع ميمو صوب الاسطبل لربط الخيل، قبل أن يسمع الاثنان فجأة صوت قوي صادر من الجهة الأمامية للمنزل، نظر صلاح لميمو التي ابتسمت وهي تتحرك بالفرس تقول بسخرية :
” سعيد هيفضل سعيد، اللي مبدأه في الحياة، إن لم تستطع إسعاد نفسك فعليك بإفساد سعادة الآخرين ”
أنتهى الاثنان مما يفعلان وعادا صوب السيارة المصفوفة أمام المنزل، ورغم رؤية سعيد لهما إلا أنه لم ينزع يده عن السيارة، بل زاد من حدة الصوت، ليسير صالح بخطوات واسعة صوبه وبلا مقدمات كان يهبط بكفه على يد سعيد التي تطلق الزمور كما لو كان يوبخ طفلًا :
” عربية ابوك هي ؟؟ ايه خلاص مرة وسمعنا مش حوار هو”
نظر لهما سعيد بضيق شديد :
” كنتم فين ؟؟ عايزين نرجع المستشفى نشوف الدكتور ونيمو ”
اقتربت منه ميمو تقول بضيق :
” ما ترجع يا سعيد هو احنا ماسكينك ؟؟ بعدين يعني هو أنت لا منك ولا كفاية شرك؟! ”
اعتلى الحنق ملامح سعيد الذي شعر بالغضب منهم، تحرك صوب إحدى السيارات الخاصة به وهو يقول بغضب شديد لا مبرر له :
” أنا هروح لنيرمينا اللي عايز يجي يجي ”
أنهى حديثه يفتح باب سيارته بغيظ شديد يصعد إليها وهو ما يزال يتمتم بكلمات غاضبة غير مفهومة وغير مفسرة، وكل ذلك كان صلاح يتابعه بعدم فهم :
” هو ماله ده ؟؟ عامل زي العيل اللي غيران على أمه من جوزها الجديد ”
نظرت له ميمو ثواني، ثم انفجرت في الضحك تتحرك صوب سيارته تستقر في مقعدها جوار مقعده :
” لا متقلقش أنا وسعودي العلاقة بينا مش ودودة اوي كده، احنا لو في ظروف تانية كان اتحزم ورقص في نص البيت عشان هيخلص مني، هو بس تلاقي حد نكد عليه، والحد ده مش هيكون غير واحد من تلاتة، أنا … وأنا كنت معاك، نيمو …ودي في المستشفى مكسورة الجناح…واخيرًا زهرة ….وهي المرشح الأقوى بينا ”
نظر لها صلاح ثواني قبل أن يقول بجدية :
” رغم اني مش بحب اعترف بكده، لكن أنتِ فعلا عاملة كأنك ام سعيد زي ما بيقول صالح ”
رفعت ميمو حاجبها للأعلى ثم غمزته بمكر :
” وماله أبقى أم سعيد، المهم يتربى ”
استقر صلاح في المقعد المجاور لها، يجهز سيارته للانطلاق :
” امممم، بس متطوليش في الموضوع لأني مش طايق سعيد اساسا، وأكيد مش حابب إن اللقب ده يكون ملازم ليكِ ”
” ليه يا لذوذ ده حتى سعيد بدأ يتعدل اهو ”
انطلق صلاح بالسيارة يطلق صوتًا ساخرًا عليها :
” ميمو مش عارف أنتِ واخدة بالك ولا لا، بس سعيد اللي بتتكلمي عليه كأنه البيبي بتاعك هو عبارة عن راجل ثلاثيني أكبر منك ومني أنا شخصيًا ”
نظرت له ميمو ثواني قبل أن تقول بهدوء :
” ما تقول إنك غيران من سعيد ”
” تمام، أنا غيران من سعيد ”
منحته بسمة واسعة تقول بكل بساطة :
” مش محتاج تعمل كده يا صلاح، لأنك في كفة والعالم كله في كفة ”
أبعد صلاح نظره بصعوبة عن الطريق يحدق في عيونها يستشعر جمال تلك الجملة التي أصابت مضغته، ابتلع ريقه يقول بجدية كبيرة :
” بجد ولا مبالغة عشان انسى اللي بيحصل حواليا ؟؟”
” والله عيب عليك يا لذوذ، وأنا من امتى ببالغ في وصفك أو وصف شيء يخصك ؟؟ أنت فعلا في كفة لوحدك .”
صمتت ثواني، ثم أضافت بمزاح :
” بس يعني ممكن نادر يكون معاك في نفس الكفة على جنب كده، مش هياخد مكان كبير فيها ”
انطلقت ضحكات على كلماتها ثم غمز لها:
” نستحمل نادر لأجل أخته يا ميمو ”
ابتسمت له ميمو بحب وهو اغمض عيونه لها مُطمئنًا إياها:
” متقلقيش هنعدي النفق ده قريب …قريب اوي يا مقدس ”
__________________
ضرب بقوة أعلى مكتبه وقد كانت ملامح الغضب تزين وجهه بشكل مريب جعل رائد يتجهز للقادم، ثواني وسمع صوت اللواء يصرخ كعادته، حتى أنه ربما نسي كيف تكون نبرته دون صراخ .
” أنا الكلام ده ميمشيش معايا يا حضرة الظابط، أنت فكرك كلامك عن آخر قضية خال عليا ؟؟ أنا عارف كويس اوي أنك معاك معلومات تقدر تفيدنا لي تحديد ”
ولم يتحدث رائد بكلمة واحدة فقط يقف باحترام شديد يرفع رأسه واضعًا يديه خلف ظهره منتظرًا أن ينتهي قائده من تقريعه .
وحدث ذلك بعد دقائق قليلة، حيث قال رأفت ببقايا غضب :
” ممكن اعرف كنت فين وقت ما اتصلت بالبوليس عشان العملية الأخيرة؟ ايه اللي عرفك بوجود حد في المستشفى دي ؟؟”
نظر له رائد باستفسار، لكنه رغم ذلك قال أول ما خطر في باله :
” المستشفى على الطريق يا فندم للقاهرة وأنا كنت مسافر مع صاحبي في الوقت ده، ولمحت انوار في المستشفى وفجأة سمعت صوت زعيق عالي فدخلت اشوف فيه ايه، لكن كان الكل هرب يا فندم ”
” هربوا ازاي وليه ؟؟”
اجابه رائد دون تفكير :
” معنديش علم بالأمر يا فندم، أنا عملت اللي شوفته صح وقتها وهي اني كلمت القوات ”
نظر له رأفت بشك، ثم نهض عن مكتبه يتوجه صوب رائد الذي ظل ثابتًا دون أن يهتز مجرد هزة صغيرة، توقف رأفت أمامه يحدق به، ثم قال بجدية :
” تعرف يا رائد لو طلعت بتعمل حاجة بدون أوامر رسمية هيكون عقوبتك ايه ؟؟”
قال رائد بصوت جاد :
” هتحول للتحقيق يا فندم ”
هز رأفت رأسه وقال ببساطة :
” بالضبط، ووقتها أنا هحرص أنك متخرجش من التحقيق إلا على بيتك ”
كان وجه رائد كما لو نُحت من صخر، لم يتأثر ولم يتحرك خطوة أو تتغير أي ملامح به، ليبتسم رأفت بسمة باردة صغيرة :
” اتفضل يا حضرة الظابط على مكتبك ”
تحدث رائد باحترام شديد ودون أن يحيد بعيونه عن نقطة أمامه:
” أيوة يا فندم بس أنا لسه باقيلي يوم في اجازتي ”
سخر منه رأفت وقال :
” تمام يا رائد اتفضل كمل اجازتك ومن بكرة تكون قدامي عشان المهمة الجديدة ”
أدى رائد تحيته العسكرية باحترام وخرج من المكتب كليًا يبتسم ساخرًا مما يحدث معه :
” اكيد حد من العيلة اتزنق في تريقة وجاي ياخدها على قفايا ”
صمت وقد شكر ربه أن استمع لحديث صلاح ولم يخبرهم كل ما اكتشفه، لا يدري نهاية ذلك الطريق، لكنه يعلم جيدًا أن صلاح لم يخذله يومًا ولن يفعل ..
خرج رائد من المركز الخاص بعمله يبحث عن سيارته التي ترك بها تسبيح بعد استدعائه بأمر طارئ للعمل ..
اقترب من السيارة ليبصر أحد العساكر الذي يقفون أمام المركز يضرب على زجاج نافذته صارخًا :
” مين صاحب المخروبة دي ؟؟ يعني عامل مخالفة وراكن قدام القسم ؟؟ يا بجاحتك يا اخي ”
كانت تسبيح تنظر له من الداخل خائفة، لا تدري هل تفتح الباب وتعتذر أو تنتظر حتى عودة رائد ؟؟
وكأن الاخير خرج من أفكارها وتمثل أمام عينيها، تراه يربت على كتف العسكري يقول بهيبة وهدوء شديد :
” دي عربيتي أنا يا طارق ”
تراجع المدعو طارق سريعًا للخلف يؤدي التحية لرائد :
” لا مؤاخذة يا باشا فكرت حد تاني ”
هز له رائد رأسه يصعد للسيارة مودعًا إياه، ثم تحرك بها بملامح مقتضبه جعلت تسبيح تشعر بوجود خطب فاقتربت منه تقول بجدية :
” رائد أنت كويس ؟؟”
نظر لها رائد ببسمة يطمأن على كتفها ورأسها اللذين عالجهما قبل حضوره هنا :
” أنتِ اللي بخير ؟؟”
هزت رأسها بالإيجاب، فابتسم لها وقال :
” يبقى أنا كمان كويس يا توتا ”
ابتسمت له تسبيح ليربت على رأسها بحب، يساعدها على التمدد عن طريق تحريك المقعد لوضعية مريحة :
” ارتاحي وريحي نفسك يا تسبيح لغاية ما نوصل، وانا هعمل لينا اكل كويس ونقعد ناكل ونتكلم سوا باقي اليوم، حابب اقضي معاكِ اليوم كله ”
ودون أن يتنفس حتى بعد انتهاء حديثه سمع رنين هاتفه باسم صلاح، ليلوي شفتيه قائلًا بحنق :
” ده لو الاستاذ صلاح سمحلنا ومكانش عنده مانع يعني”
__________________
” يعني ايه ؟! أتجوز اخوكِ ازاي ؟؟”
كانت نيرمينا لا تعي ما سمعته منذ ثواني من فم ميمو، تحاول أن تفهم ما تقصده أنها ستتزوج شقيقها، نظرت خلفها صوب سعيد الذي كان يقف بعيدًا عنهما يراقب ما يحدث بأعين قلقة، ما يزال يأبى الاقتراب منها خوفًا أن يرى في عيونها نظرة كره أو بغض .
لكن فجأة انتفض قلبه بسعادة حينما نادته بنفس نبرتها القديمة، لا كره فيها ولا اشمئزاز، نفس النبرة البريئة التي اعتادها منها :
” سعيد…”
اقترب منها سعيد بسرعة كبيرة يلتقط يدها الممتدة بحب شديد :
” قلب سعيد، ايه يا نيمو حاسة بوجع ؟!”
ابتسمت له نيرمينا بحب تضغط على يديه بحب كبير :
” لا أنا كويسة، أنا بس … أنا مش فاهمة ايه اللي حصل عشان تجوزوني اخو ميمو، هو أنا بقيت تقيلة عليك يا سعيد ؟! ”
تأوه سعيد بقوة ينحني على يد نيرمينا يقبلها بكل الحب والحنان الذي يحفظه في صدره لأجلها، شدد من ضم يديها لصدره وهو يقول بلطف كبير :
” اوعي في يوم تقولي كده يا نيمو، أنتِ عمرك ما تكوني تقيلة عليا، أنا هشيلك في قلبي يا نيرمينا ولا اشتكي يوم واحد ”
ابتسمت له نيرمينا تقول بوجه منكمش حزنًا :
” طب ليه عايزين تجوزوني لحد معرفوش، أنا والله ما هزعج حد أبدًا، أنا بس بحب اقعد معاكم أنتم الاتنين ولو مش فاضيين هقعد مع مختار هو بقى صاحبي ”
نظر سعيد بعجز صوب ميمو التي ربتت على كتفه تبعده عن نيرمينا تداعب خصلات شعرها بحنان اموي كبير رغم الفرق الصغير في العمر بينهما، لكن نيرمينا حجزت لنفسها داخل قلب ميمو مكانة الابنة، كما فعل نادر وأصبح بمنزلة طفلها الاول ..
” نيرمينا مش أنتِ بتحبي مختار ؟!”
اشتعل وجه نيرمينا بالخجل فجأة ولا تدري ما تريد ميمو من خلف تلك الكلمة، هل تقصد حب كذلك الحب بين شاب وفتاة، أم تقصد راحة معه، حاولت نيرمينا أن تتحدث بأي كلمة تخرجها من حالة الخجل تلك :
” هو …هو مختار اللي قالكم تجوزوني عشان يخلص مني ؟؟ هو لسه مش حابب يكون صاحبي ؟!”
ضحكت ميمو على تعليقاتها الغريبة تجلس على الفراش جوارها تقول بجدية كبيرة :
” أيوة يا نيمو، مختار جه واشتكى ليا وقالي أنه مبقاش حابب يكون صاحبك ”
شهقت نيرمينا بحزن شديد وقد شعرت بقلبها يتصدع، هي كانت تشك من البداية في الأمر، هو قال ما قاله فقط شفقة على حالتها ذلك اليوم حينما أُصيبت في رحلتها، لذلك أشفق عليها من أن تتوسله الصداقة ويرفض .
” أنا…أنا ممكن اسيبه في حاله، بس …بس هو كان ”
صمتت ولم تدري ما تقوله، هل تخبرهم أنها لا تريد تركه، لا تشعر بالأمان في غيابه ولا تستأنس لسواه، خمس سنوات، خمس سنوات ليست بالوقت القصير لتتجاهل شخص مثل مختار، أو تنكر مكانته لديها ..
ابتسمت ميمو لكل تلك الملامح التي التقطت ما تحمله من مشاعر لاخيها، مشاعر لا تدري نيرمينا عنها شيئًا، وربما لا تعلم لها اسمًا ..
” نيمو ..”
” نعم ؟!”
قالت ميمو بحنان شديد :
” مختار مش عايز يبقى صاحبك، هو حابب يكون جوزك، مختار عايز يتجوزك يا نيمو موافقة ؟؟”
فجأة انفجرت نيرمينا في بكاء حار ومازالت الكلمات التي نطقت بها ميمو لم تصل لعقلها، هي فقط توقفت عند جملتها الاولى لتقول بوجع من بين شهقاتها :
” أنا والله ما عملت حاجة تزعله، أنا كنت بحب اقعد واتكلم معاه بس، هو ليه مش عايز يبقى معايا ؟؟”
كانت تتحدث واضعة يديها على جانبها الأيمن تشعر بوجع ينبض هناك، ولم تستوعب بعد أنها فقدت كليتها ولم تجد وقتًا حتى لتتساءل به عما حدث حتى باغتها الجميع بأمر زواجها .
في تلك اللحظة اقتحم مختار الغرفة وقد سأم من البقاء في الخارج تحت حراسة صلاح ..
تحرك بسرعة صوب نيرمينا التي كانت تبكي بقوة وهي تقول كلمات مبعثرة حول أنها تحب البقاء معه، وهي لم تزعجه، وأنها ستحسن التصرف .
كانت نيرمينا من الهشاشة والضعف وقلة الثقة التي تجعلها تشعر أنها غير مرغوبة ممن حولها، أنها ثقيلة على الجميع .
اقترب مختار منها بسرعة لتبتعد ميمو عنها تاركة له المجال ليعبر عما يريد، جلس مختار على ركبته ارضًا يشير لها بيديه كي تنتبه له .
ونرمينا انتبهت له لتقول من بين شهقاتها ودموعها :
” مختار والله ما هزعجك تاني، أنا آسفة والله اني كنت برخم عليك وأنا عارفة انك مش بتحب افضل انط ليك بس …بس ”
صمتت تحاول إكمال حديثها، لكن مختار سارع وأخرج هاتفه يكتب عليه بعض الكلمات لها، ثم نظر لها يجبرها على قرائتها وعيونه قلقة من ملامح الرفض الظاهرة على وجهها، شعور قتله ..
” نيرمينا أنتِ مش حابة تتجوزيني ؟؟”
كانت نيرمينا تنظر للكلمات من بين دموعها بصدمة، تقرأها مجددًا علها اخطأت المرة الأولى، رفعت رأسها ببطء صوب نادر :
” اتحوزك أنت ؟؟”
هز نادر رأسه بخوف أن يلاقي رفضًا من عيونها، لتطيل نيرمينا النظر به قبل أن تشير صوب سعيد ونيرمينا باكية :
” بس هما عايزين يجوزوني اخو نيرمينا يا مختار، أنا مش عايزة اتجوز واحد معرفوش، أنا معرفش اساسا إن ميمو ليها اخ، أنا …أنا هتجوزك أنت”
اتسعت بسمة نادر لا يصدق ما سمعه، شعر بقلبه يقفذ معلنة إقامة احتفالات بعد سنوات وسنوات من الحداد .
ابتسم بسمة واسعة ثم أشار لها بأصابعه وقد انسته السعادة أنها لا تفهم شيء منه :
” أنا أخو ميمو اللي عايز يتجوزك ”
نظرت له نيرمينا ببلاهة، لتقترب منها ميمو تقول بجدية وحنان شديد :
” بيقولك أنه هو اخويا اللي عايز يتجوزك يا نيرمينا ”
ونيرمينا من صدمتها تناست كل شيء ولم تنتبه سوى لأمر واحد :
” أنتِ فهمتيه ؟؟”
ضحكت ميمو بصوت مرتفع وقد ابتسم سعيد على كلمات شقيقته يقترب منهم يقول موضحًا لجميع الأمور :
” نيمو حبيبتي، مختار يبقى هو نفسه نادر اخو ميمو الصغير ”
” نادر ؟؟”
رددت نيرمينا ذلك الاسم بشرود تحاول تذكر أين سمعته، أو بالأحرى أين قرأته، لتعود لها تلك الذكرى المشوشة منذ ساعات، ذكرى ظنتها حلمًا، فلماذا سيجبرها مختار على قراءة جملة ( بحبك يا نادر ؟) ومن ثم يخبرها هو أنه يحبها ؟! مختار لا يحبها، أو هل يفعل ؟!
نظرت فجأة جوارها صوب نادر الذي كان يبتسم لها بحنان يهز رأسه موافقًا على كل ما يظهر أعلى وجهها، لتشعر نيرمينا بالحيرة من كل تلك المعلومات لكنها فقط قالت :
” يعني دلوقتي مختار هو اللي عايز يتجوزني ؟؟”
هز لها نادر رأسه بلهفة لتبتسم نيرمينا دون شعور وتتساءل بأمل:
” أنت عايز تتجوزني يا مختار، محدش اجبرك ؟؟”
هز نادر رأسه بقوة وقد لمع الاصرار في عيونه لتبتسم له نيرمينا وقد كانت بسمتها اكبر دليل على موافقتها.
ولم تمر سوى ساعة حتى كانت زغاريد ميمو ترتفع في الغرفة وهي تسمع صوت نيرمينا قد نطق أخيرًا بخجل شديد :
” موافقة ”
ومازالت المسكينة لم تستوعب شيء مما يحدث حولها، لا سبب وجودها هنا ولا حتى كيف انتهى الأمر بزواجها من مختار الذي هو نادر شقيق ميمو، كل ما تدركه أنها أصبحت زوجة لمختار الذي كانت أقصى أحلامها أن يوافق على مصادقتها لدقائق يوميًا ……
__________________________
توقفت السيارة أمام المنزل ليتعجب عبدالله جلوس رانيا أعلى الدرجات الداخلية والتي حينما أبصرت قدوم سيارة صالح، انتفضت بقوة تتحرك نحوه والخوف قد ملء صدرها عليه .
توقف أمام السيارة ليهبط منها صالح يقول ببسمة :
” اتأخرت عليكِ ؟؟”
ابتسمت رانيا بقوة وسعادة تراه يقف أمامها وهو بخير، اقتربت منه ببطء تتنفس واخيرًا الصعداء، قبل أن تقف أمامه مباشرة:
” حمدالله على سلامتك ”
” الله يسلمك يا رانيا ”
وما أجمل اسمها الذي خرج منه بنبرة محبة حنونة وليس بتلك المستفزة المغتاظة، ابتسم صالح على ملامح رانيا الخجل ليعود بخطوات قصيرة صوب السيارة يميل بنصف جسده العلوي يحضر حقيبة مجهولة يعطيها لها ..
نظرت لها رانيا بتردد لا تفهم ما تحتويه تلك الحقيبة أو ما تخفيه لها، لكنها رغم ذلك اخذتها حينما قال صالح بهدوء :
” دي حاجة ليكِ يارب تعجبك ”
أمسكت منه رانيا الحقيبة تضمها لصدرها في حركة معتادة منها، قبل أن تمنحه أكبر مكافأة قد ينالها على مبادرته تلك، وهي بسمة ممتنة منه، بسمة تخبره أنها تقبلت هديته بكل الحب حتى وقبل أن تدري ما تحتويه …
فجأة انتفضت رانيا على صوت عبدالله الذي نست أنه موجود والذي كان يستند على السيارة بهدوء شديد يتابع ما يحدث دون كلمة، فقط لأنه يعلم أن شقيقته ستسعد من هدية ذلك الشاب .
” ممكن تدخلي جوا يا رانيا عشان ثواني وهيكون الكل هنا”
نظرت له رانيا وهزت رأسها قبل أن تنظر لصالح نظرة أخيرة وتتحرك لتقبل وجنة عبدالله بحب شديد هامسة له بامتنان اكبر :
” شكرًا يا عبده، أنا بحبك اوي على فكرة ”
ابتسم عبدالله لها بسمة حنونة يربت على رأسها:
” وأنا بحبك يا قلبي وكلنا بنحبك ومعندناش اغلى منك، بس يمكن كل واحد عنده طريقة معينة للتعبير عن حبه فمتزعليش من حد فيهم ”
ابتسمت له رانيا وقالت :
” لو هزعل من الدنيا كلها عمري ما هزعل منكم، أو من صالح ”
همست بكلمتها الأخيرة في صوت هامس خافت، لكنه وصل لمسامع صالح الذي ابتسم بسمة واسعة لها، وجعلت عبدالله يضرب جبهتها بإصبعه في خفة قائلًا :
” طب ما تزيديش فيها عشان هتلاقيني قلبت على محمد دلوقتي ”
ضحكت رانيا ضحكة جعلت أعين صالح تخرج قلوبًا حمراء، بعدما كانت تخرج في العادة صخرًا ونيرانًا ..
” لا أنت حلو وأنت عبدالله”
انتهت من حديثها ثم رمقت صالح مرة أخيرة وركضت سريعًا صوب المنزل في الوقت الذي لمحت به سيارة محمد تدخل لساحة المنزل الأمامية ..
تنفست الصعداء حينما دخلت المنزل وسمعت صوت والدها :
” اطمنتني خلاص ؟!”
ابتسمت رانيا تشير بابهامها :
” تمت العملية بنجاح يا فندم ”
____________________
كان الجميع يجلس في الشقة التي سبق وكانت مقرًا لاجتماعهم عند تحضير أي خطة للتخلص من كارثتهم المسماه سعيد، والآن يجلسون مع كارثتهم شخصيًا لمساعدتها .
وملامح رائد الحانقة توحي جيدًا بمقدار عدم رضاه عما يحدث، لكن صلاح يحرك له عينيه كي يهدأ ..
وعيون سعيد تتحرك في المكان بأكمله وكأنه يبحث عن شيء ضائع، قبل أن تتثبت عيونه على ميمو يقول متأففًا :
” أنا شايف نجتمع في بيتنا احسن بعد كده ”
ابتسم صلاح يربت على كتف سعيد بحركات خشنة بعض الشيء كما لو أنه يتحين أي فرصة فقط ليتخلص منه :
” حبيبي يا سعيد صدقني المكان ده وشه حلو علينا، ده ياما شهد معانا اخبارك الزبالة، وحطينا فيه خطط كتير عشانك ”
منحه سعيد نظرة مستفزة وبسمة أكثر استفزازًا :
” عشان كده ولا خطة نجحت ”
نظر له صلاح بسخرية لاذعة ليندمج سعيد في الحديث بكل استفزاز، لا يريد أن يمنح الراحة لذلك الحقير الذي لطالما اذاقه مرارة العيش، لطالما جعله يركض حول نفسه ليزيل آثار التخريب التي ألقاها في حياته .
” صدقني أنا بتكلم عن علم ومعرفة، البيت ده عشان صغير فهيسبب عدم راحة نفسية ليكم، وده هيأثر على وظايف المخ، ومش هتعرفوا تفكروا كويس ”
أطلق صلاح صوتًا ساخرًا تبعه بضحكة صاخبة جعلت سعيد يندمج في الحديث وهو يقول بجدية كبيرة :
” أنا بتكلم عن علم زي ما قولت، اللي قدامك ده كان بيحضر محاضرات في الطب النفسي اكتر من الدكاترة النفسيين اساسا ”
أنهى حديثه ليمد له صلاح يده بكوب عصير يضعه أمامه ثم ربت على كتفه :
” اشرب يا سعيد العصير بتاعك واسكت عشان أنا مانع رائد عنك بالعافية ”
ختم حديثه بالاشارة إلى رائد الذي كان يجلس متحفزًا في انتظار همسة واحدة من سعيد تجعله يخرج سلاحه ويتخلص منه، هو ليس بمرونة صلاح ليجلس وجهًا لوجه مع مجرم ويتحدث معه بكل بساطة كما يفعل الآن ..
رفع سعيد كوب العصير الخاص به، يرتشف منه بتمهل وبرود شديد مستمتعًا بكل ما يدخل جوفه، مستثيرًا بذلك استفزاز كل من حوله .
والأعين جميعها عليه حانقة غاضبة، حتى شعر فجأة سعيد بضربة قوية أعلى كتفه وصوت ميمو يخرج غاضبًا :
” ما تخلص يا سعيد بدل والله اسيبك تتعفن في السجن، أو تتعدم ”
نظر لها سعيد بحنق شديد وقد سأم تصرفات تلك المرأة:
” والله اعفن في السجن ارحم من قعدتي في وشك، ده أنتِ كرهتيني في عيشتي، والله كنت عايز اطفش من البلد بسببك ”
وفجأة تلى كلماته ضربة أخرى من ميمو وهي تصرخ في وجه بحنق وغضب شديد حتى كادت عروق رقبتها تنفجر :
” والله لولا ماما زينب الله يرحمها أنا كنت سيبتك تبكي وتشكي، أنا اساسا مش عارفة بساعدك ليه ؟؟ ”
ابتسم سعيد فجأة وقد ارتخت ملامحه ومال بجانب رأسه يقول بلطف شديد :
” عشان قلب الام يا امي ”
أطلقت ميمو سبة جعلت أعين صلاح تتسع بتعجب لقدرتها على معرفة مثل تلك الكلمات النابية، وميمو التي استوعبت فجأة ما قالت وضعت يدها أعلى فمها تنظر حولها ببسمة خجلة، لا تدرك حقًا كيف خرجت تلك الكلمة منها، هي سبق وسمعتها في حارتها وكانت تنفر منها ومن كل الكلمات القذرة المماثلة، والآن سعيد بكل ما فيه أجبرها على إحراج ما كانت تنفر منه .
أطلق سعيد ضحكات عالية رنت في المنزل بأكمله جعلت ميمو تزداد خجلًا وغضبًا ..
لكن سعيد قال بهدوء يحاول التنفس :
” معلش يا صلاح اصل بنتنا لسانها زفر شوية، متربتش بعيد عنك ”
امسك سعيد يدها يجذبها كأم توبخ ابنها :
” بس يا حبيبتي فضحتينا هتطفشي الراجل واحنا ما صدقنا حد يعبرك ”
جذبت منه ميمو يدها وهي ما تزال مذهولة مما حدث، لكنها أفاقت على كلمات صلاح الذي ملّ كل تلك الألعاب وقد اكتشف أن ذلك السعيد ليس من النوع المخيف الذي كان يظنه، هو احمق غبي وجاهل للعديد من الأمور، على الأقل هذا هو الجانب الذي ظهر منه، أو بالأحرى الجانب الذي يظهر مع ميمو فقط …
تنفس بصوت مرتفع يقول :
” رائد هيساعدنا نوصل لاشخاص ممكن يساعدونا داخل الشرطة، وسعيد هيسلم نفسه ليهم بس كشاهد ملك، ومقابل معلومات تقدر أنها تخفف شوية عنه من الحكم اللي هيلبس فيه ”
صمت ينظر لسعيد الذي استعاد ملامحه الباردة وأصبح يولي لهم كامل انتباهه، فاكملت ميمو بجدية كبيرة :
” بس طبعا مش أي إنسان نقدر نسميه شاهد ملك يا سعيد، أنت عشان تبقى كده محتاج تدي للنيابة والشرطة معلومات مهمة اوي ودقيقة وكمان متكونش طرف أساسي في العملية وحاجات تانية هما هيبلغوك بيها ”
كان سعيد شاردًا بعض الشيء في كلماتهم، يدرك أن الأمر ليس بتلك السهولة واليسر الذي يتحدثون به، حتى سمع صوت رائد يضيف :
” أنا اتواصلت بنفسي مع صاحب ليا في النيابة وهو هيساعدنا نوصل لسلطة أعلى، الناس اللي أنت هتبلغ عنهم مش شوية ومش مجرد عيال صغيرين، وعشان كده مساعدتك لينا هتخفف كتير من حكمك ”
نظر سعيد لميمو بجمود وقال :
” وأنا ايه المطلوب مني دلوقتي ؟؟”
نظرت له ميمو ثواني قبل أن تبتسم وتقول :
” الحاج ابو غانم، مش كان صفقتك الأخيرة هتتسلم ليه ؟!”
اومأ لها سعيد لتبتسم هي بسمة غريبة فهمها صلاح الذي كان يعلم جيدًا ما تنتويه وأكمل عنها :
” يبقى تتصل بالحاج تشتكيله أن عمليتك الأخيرة باظت بسبب ابنه، وأنك حابب تعوض خسارتك فهتدخل معاه شريك في صفقة وتشتروا من ابنه غانم بس من غير ما يعرفه أنك معاه ”
بدأت الأمور تضح أمام عين سعيد ليقول بهدوء شديد وتوقع للقادم :
” ويوم التسليم ….”
رسم صلاح ملامح مريبة على وجه وقال باسمًا :
” الله ينور عليك، بالضبط كده .”
________________________
كانت تجلس أمام الفراش الخاص بها تراقب هدية صالح لها، والتي جعلت أعينها تتسع بقوة وقد ارتسمت العديد من القلوب الحمراء داخلها، احضر لها حلواها المفضلة، العديد والعديد منها .
أمسكت رانيا العلبة وهي تلتقط منها قطعة حلوى تلوكها بتلذذ شديد، وقد زادت لذتها بلمسة صالح المحبة .
” اصابع الست ؟؟ هو عرف منين …”
صمتت ثواني قبل أن تبتسم وتقول بتخمين :
” أكيد عبدالله ”
أخفت رانيا سريعًا علبة الحلوى وتحركت سريعًا صوب الخزانة الخاصة بها تضعها فيها، ومن ثم خرجت من غرفتها وهبطت الدرج ليصل لها صوت محمد يتحدث بنبرة باردة لكن عالية بعض الشيء :
” تمام، يبقى نفضها سيرة الجوازة دي ”
نظر صالح صوب رؤوف الذي كان يقرأ الجريدة ببرود شديد وهو يتحدث له بصوت منخفض :
” قوله ماشي وريحه يا بني، هو كده عفريته حضر ”
زفر صالح وقد بدأ يفقد هدوءه :
” وكل ده ليه ؟؟ عشان رافض اعمل فرحي بعيد عن اهلي في البلد ؟؟”
” وأنا وضحت ليك أننا كمان لينا اهلنا هنا ولازم الفرح يكون هنا ”
اغمض صالح عيونه بقوة يحاول أن يصبر على ذلك الرجل، يدرك جيدًا أن كل ذلك ما هو إلا حجج واهية غبية فقط ليبعده عن رانيا، لكنه لم يحزر .
ابتسم صالح ببرود شديد وقد عاد للساحة :
” تمام يا محمد أي طلب تاني، قول اعملهولك على عيوني”
تعجب محمد تغيره وتغير رأيه بهذه السرعة :
” وافقت ؟؟”
” اكيد وافقت أنا عندي كام محمد يعني ؟؟”
رفع محمد حاجبه ساخرًا من تلك الجملة الودودة، لكن صالح لم يعطه تلك الرفاهية ليستمتع باحترامه وعذوبة لسانه وهو يكمل :
” هو محمد واحد ومكدر عيشتي ومش طايق نفسي بسببه ”
ابتسم له محمد ساخرًا ولم يتحدث، بينما تدخل جبريل وقال :
” هنعمل الفرح في اكبر فنادق اسكندرية، دي اختنا الوحيدة ”
” وماله يا حبيبي اعملهولك في استاد برج العرب لو تحب، أي أوامر تانية ؟؟ ”
نظر صوب عبدالجواد :
” حابب تقول حاجة يا عبدالجواد ؟! يعني مش عايزين المعازيم تيجي في طيارات خاصة ولا عبدالله حابب البوفيه تحت إشراف الشيف بوراك ؟؟ ”
نظر له محمد وقد كانت نظرات غامضة مريبة بعض الشيء :
” لا بس أنت اعمل اللي احنا طلبناه الأول ”
هز صالح رأسه، ثم نظر صوب رؤوف، لكن فجأة انتبه لوقوف رانيا على باب الغرفة فابتسم لها وقد نسى كل حنقه وغيظه من الجميع حينما رأى نظرتها المتوسلة له أن يمرر الجلسة تلك ..
تنهد صالح بصوت مرتفع وقال بجدية كبيرة :
” أنا مستعد اعمل أي شيء عشان رانيا، هي تستحق كل شيء اساسا ”
كان يتحدث وهو ينظر صوب الباب بحنان لرانيا التي منحته بسمة محبة، لكن فجأة وقف محمد في وجهه بشكل جعل ملامحه تتغضن وتنكمش بملل وضيق شديد :
” خير ؟! عايزين ايه تاني ؟؟ يا رب نخلص ”
ربت محمد على كتفه بجدية يقول :
” عايزين تلم نفسك وتحترم أنك قاعد في بيتنا ودي اختنا”
نظر صالح لرؤوف فجأة وقال بهدوء وبسمة :
” عم رؤوف ممكن اقعد مع رانيا لوحدنا لو سمحت ؟!”
نهض رؤوف يطوي جريدته واضعًا إياها أسفل ذراعه، وهو يتحرك صوب باب الغرفة صوب البهو المواجه للغرفة :
” خد راحتك يابني البيت بيتك ”
وقبل أن يخرج أوقفه صالح الذي حرك حاجبيه بعبث :
” وخد معاك عيالك الله يكرمك يا عم رؤوف عشان بيبصوا عليا بشكل غريب كأني أكلت منابهم ”
نظر لهم رؤوف بحزم :
” سيبوا اختكم مع خطيبها ”
اعترض جبريل بقوة على تلك التسمية المرفوضة لهم :
” خطيبها ايه ؟؟ هو لسه بقى خطيبها ؟؟”
قال صالح باستفزاز شديد :
” يوم و١٠ ساعات يا حبيبي وهكون خطيبها، ابقى نورنا في الخطوبة ”
فتح جبريل فمه وكاد يتحدث لولا كلمات والدهم :
” قولت اخرجوا وسيبوا اختكم لوحدها ”
رمى الجميع صالح بنظرة أخيرة مرعبة، ثم تحركوا واحدًا تلو الآخر عدا عبدالجواد الذي رمقه بنظرة غامضة غريبة ومن ثم خرج ..
واخيرًا أصبح معها وحدهما …
” الهدية بتاعتك بجد جميلة اوي اوي يا صالح، مش عارفة اشكرك ازاي، أنت كل الهدايا اللي جبتها ليا حلوة اوي ”
أشار لها صالح لتجلس يقول بجدية كبيرة مبتسمًا :
” سعيد أنها عجبتك، وخلاص بعد كده كل ما اشوفها هجبلك علبة منها، ولو فيه حاجة تاني بتحبيها قوليلي، عشان أنا …أنا مش بعرف اتصرف مع البنات أو اجيب هدايا بحس الموضوع معقد، يمكن صلاح بيفهم شوية بس هو مش فاضي، فأنتِ لو حبيتي حاجة قوليلي وانا اجبلك، تمام ؟؟”
كان يتحدث كطفل يرتجي من والدته مساعدة لاختيار شيء يريده هو، ابتسمت له رانيا وقد شعرت بمشاعر غريبة تتفاعل داخلها، أن يحاول لاجلك شخص، أن يفعل ما لم يعتدعاى فعله فقط لأجل اسعادك، أن يتصرف عكس طبيعته ويحاول مراضاتك بشتى الطرق، لهو افضل شعور قد تشعر به يومًا، من قال أن الحب مع شخص كصالح سيكون معقدًا مملًا وبلا مشاعر ؟؟!
بالله أن صالح خُلق ليكون رائدًا في الحب _ بطريقته الخاصة_ يجيد الحب ويجيد التدليل، لكنه يعتمد أساليبه هو؛ تلك الأساليب التي جعلتها تنظر له نظرة العاشقة …
” لا يا صالح، أنا عايزة هدايا من بتاعتك، أنا حبيتهم كلهم، من اول الكشري والحواوشي ومرورا بالصاعق والبخاخ وحتى الحلويات، أنت بجد شخص مبدع في الهدايا وأنا حبيتهم اوي شكرًا ليك ”
ابتسم صالح بسعادة كبيرة وقد شعر فجأة بالإنجاز، كلماتها تلك دفعت داخله ثقة كبيرة بعدما كان يظن نفسه مجرد احمق لا يفقه في الحب سوى أن ضربات قلبه تزداد بقوة حين اقتراب رانيا، وتضطرب حين رؤية بسمتها، تمامًا كما تفعل الآن…
” رانيا أنتِ عايزة حاجة معينة للفرح ؟؟”
نظرت له بعدم فهم ليوضح ما يقصد :
” يعني كله اتكلم في الفرح وهو ميخصهمش، هو فرحك أنتِ تفصليه على مزاجك، يعني عايزة حاجة تكون موجودة هناك؟؟ ”
ودون أن تشعر ولأنها انغمست في حالة الهيام التي أحاطت بهما قالت بخجل شديد وبسمة واسعة :
” أنا يكفيني أنك هتكون موجود جنبي وقتها ..”
توتر صالح فجأة وشعر بقلبه يقفز فرحًا واحتفالًا بتلك الكلمات، بحث في رأسه فورًا عن رد مناسب على كلماتها، واستمر البحث ثواني قبل أن تتسع عينه ويبتسم حينما أدرك ما يجب قوله، لكن وقبل أن يفعل اقتحم عبدالجواد الغرفة وهو يقول بجدية :
” بقولك ايه محتاجك في خدمة كده ….”
_______________________
” يابني يعني كنت قولي قبلها بشوية، ينفع يعني تجرني بالشكل ده عند الناس، ده أهم حاجة هو الانطباع الاول ”
أجاب محمود والده وقد ابتسم باتساع لغياب صالح وانشغاله في أموره وهذا ما سيسهل عليه أن يضلل ياسين فيما يخص هويته وما حدث معهم سابقًا .
ضغط ماجد على جرس المنزل ينتظر إجابة وجواره يقبع محمود الذي كان يحمل بين يديه وردًا وشوكولاتة ..
ثواني وابتسم بسمة واسعة حينما أطل عليهم ياسين الذي كان في انتظارهم وحدق في وجه محمود ثواني بشكل غريب قبل أن يبتسم وينزاح جانبًا مشيرًا له بالدخول :
” اتفضلوا نورتونا …”
دخل محمود يتبعه والده زمن، ثم اغلق ياسين الباب وأشار لهم صوب غرفة الضيوف ليستقر بها الاثنان وقد ابتسم ماجد بسمة واسعة يضع ما احضر من هدايا على الطاولة .
جلس أمامهم ياسين يرحب بهم :
” نورتوا البيت والله …”
نظر صوب محمود يقول بملامح مقتضبة بعض الشيء :
” عاش من شافك …يا دكتور محمود ”
_________________
كان يجلس معهم يستمع لكل الكلمات التي يتحدثون بهم وينصت لخطتهم حول الإمساك بجميع الاوغاد الذين يعلمهم ..
لكن فجأة سمع صوت رنين هاتفه الذي جعله يجيب وقد أخذ الهاتف حجة جيدة ينسلخ بها عن ذلك الحوار لأخذ أنفاسه بعيدًا عن الجميع .
” هرد على التليفون ”
تحرك سعيد بعيدًا عنهم جميعًا ليجيب على الهاتف تاركًا خلفه ميمو تضع وجهها بين يديها تحاول أن تتنفس فقط لتمرر تلك اللحظات ..
لتشعر أنها غير قادرة على التنفس؛ لذا تحركت خارج الغرفة بأكملها صوب شرفتها الحبيبة التي كانت تقف بها كلما جاءت لصلاح .
وقفت تستنشق بعض الهواء، في حين أن رائد استغل الأمر للذهاب إلى تسبيح في شقتها يطمأن عليها وأنها اخذت الأدوية الخاصة بها .
فجأة وأثناء وقوفها سمعت صوت صلاح يقول بهدوء أثناء استناده بكتفه على باب الشرفة يراقبها بهدوء :
” تحبي اعملك نسكافيه ؟!”
ابتسم له ميمو ترفض عرضه بلطف :
” لا شكرًا مليش نفس دلوقتي ”
تحرك صلاح صوبها يقول بجدية وهو يرى ملامح الهم تعلو وجهها :
” متقلقيش كل شيء هيعدي وهيكون بخير، وأنا معاكِ ”
ابتسمت له ميمو بسمة واسعة :
” وده اللي مطمني يا صلاح ”
راقبها صلاح ببسمة وملامح حنونة قبل أن يعرض مجددًا عليها رغبة في إخراجها من تلك الحالة:
” متأكدة مش عايزة تشربي نسكافيه ؟! أنا اتعلمت اعمله بطرق كتير مختلفة عشانك، قضيت يوم كامل قدام التليفون ببحث عن عشر طرق لصناعة النسكافيه بشكل يعجب مقَدس ”
أطلقت ميمو ضحكات خافتة وهي تقول بشرود :
” فكرتني بأول مرة عملت فيها نسكافيه، كان وقتها كارثة، لكن آخر مرة عملته كان رائع ”
قالت الكلمة الأخيرة بنبرة غريبة جعلت صلاح يتعجب تحدثها بهذا الشكل عن كوب مشروب دافئ، لكن ميمو لم تكن تعني كل ما فهمه، بل شردت وهي تقول بنبرة مخيفة :
” آخر مرة عملت نسكافيه كانت لجاد، وكانت آخر حاجة يشربها”
صمتت، ثم نظرت له ببسمة خبيثة تقول :
” تحب تعرف عملت النسكافيه ازاي ؟؟؟؟؟؟”

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك رد

error: Content is protected !!