روايات

رواية الأربعيني الأعزب الفصل الثالث 3 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب الفصل الثالث 3 بقلم آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب البارت الثالث

رواية الأربعيني الأعزب الجزء الثالث

الأربعيني الأعزب
الأربعيني الأعزب

رواية الأربعيني الأعزب الحلقة الثالثة

كظم غيظه بصعوبةٍ، فوزع نظراته بينها وبين ما تحمله بيدها، فإنحنى ليجذب أدواتها العظيمة التي ظنت بأنها ستحميها في وقتٍ لجأت به للنومٍ من الأساس، وضع “عاصي” ما بيدها جانباً، ثم أخفض يديه أسفل قدميها ليحملها، وقف محله مشدوهاً للحظاتٍ، فأخر من حملها بين ذراعيه كانت معشوقة قلبه، حينما وجدها ساكنة كالجثة الهامدة بغرفتها، قاوم “عاصي” ما يهاجمه من ذكرياتٍ مؤلمة، ثم إتجه لباب الشقة، فتطلع لمن يقف أمامه بضيقٍ، فشل “عمر” بفهم ما يريد، فإتجهت نظراته تجاه الباب، ففتحه على الفورٍ وهو يردد بسخريةٍ:
_نفتحه حاضر.
هبط بها “عاصي” للأسفل، ليجد سائقه الخاص في إنتظاره، ففتح باب السيارة الخلفي فور أن رأه، فوضعها بالمقعد الخلفي بحرصٍ شديد، ثم عاد ليجلس جواره بالأمام، خطف السائق نظرات خاطفة لمن تقبع بالخلف بدهشةٍ، فلأول مرة يصطحب سيده أحد النساء، فإحتدت نبرة “عاصي” وهو يشير إليه بغضبٍ:
_هنفضل واقفين كده كتير.
إعتدل في جلسته الغير متزنة، ثم أسرع بالسيارة على الفور..
*******
أغلق “عمر” باب الشقة بعدما تأكد من رحيله، فوجد زوجته تتمدد على الأريكةٍ بتعبٍ بدى له مصطنع للغاية، وتأكد حدثه حينما قالت وهي تمسد بيدها على بطنها المنتفخة بصوتٍ تصنع الوهن:
_”عمر” نضف المكان لإني تعبانة أوي ومش قادرة أقف.
رمقها بنظرةٍ منزعجة، ثم إنحنى ليجمع الكؤؤس وبعض الأطباق، ليحملهما للمطبخ، وعاد مجدداً حاملاً لأحد الأكياس، فجمع به المهملات ثم أعاد ترتيب الصالون والردهة، وحينما إنتهى عاد ليجلس جوارها، ثم جذب ريموت التلفاز ليلهي نفسه قليلاً، وخاصة حينما وجدها مشغولة بقراءةٍ إحدى الكتب، تفاجئ “عمر” بها تضع قدميها على قدمه، ثم تخبره بدلالٍ:
_تدليك بقا لحسن الحمل تعبني أوي.
ألقى الريموت لجواره بتعصبٍ أخرجه من سكينته:
_وبعدين معاكي بقا يا “إيمان”.. هو مفيش حد في العالم حامل غيرك!
أغلقت الكتاب ثم تركته جانباً، لتستقيم يجلستها قبل أن تهاجمه بكلماتها:
_كل ده عشان بتساعدني شوية ما أنت طول الليل بره البيت وسيبني هنا زي أي جهاز موجود في الشقة، وبالرغم من كده عمري ما اتكلمت.
إبتلع ريقه الجاف بصعوبةٍ، فعلى ما يبدو بأنه فتح لنفسه باب من جحيمٍ، لذا كان عليه أن يسرع في إغلاقه، فجذب”عمر” ساقيها، ثم أخذ يدلكها برفقٍ، وهو يردد بإبتسامةٍ واسعة:
_وعلى أيه يا روحي الطيب أحسن.
عادت لتسترخي بجلستها، ثم جذبت الكتاب لتعود لرحلةٍ قراءتها، هامسةٍ بغرورٍ:
_ناس مبتجيش غير بالعين الحمرا.
*********
عاد بها “عاصي” لمنزله، فصعد للطابق الأعلى ثم إختار أحد الغرف ليضعها على فراشها، كان قريباً منها بدرجةٍ أربكته، فإبتعد عنها سريعاً حينما إنتصب بوقفته، فأبت عينيه التخلي عن تأملها، إبتسم حينما وجدها تحتضن الوسادة بطفوليةٍ غريبة، ثم فردت ساقيها على طول السرير الضخم، وكأنها في معركةٍ حاسمة تخوضها بنومها، فخرجت نبرته المنخفضة ساخرة:
_مش طبيعية أكيد مجنونة!
ثم غادر لغرفته بعدما أغلق الضوء وتركها تنير ذاك الجانب البائس من قصره الذي إعتاد على صحبته هو فقط.
رفع الليل جلبابه الأسود القاتم، فكان لشروق شمس هذا اليوم إختلافاً عن المعتاد كثيراً، وكأن بوجود تلك الفتاة ذات الثلاثة والثلاثون عاماً جعل القصر الكئيب مفعم ببريقٍ من الأملٍ، فتسللت أشعة الشمس لداخل الغرفة بحريةٍ وكأنها تعلن عن بداية يوماً هام، وخاصة مع بداية استيقاظ تلك الفتاة التي يصغرها شكلها رغماً عن سنها المعترف به، عبثت “لوجين” بعينيها وهي تحارب نومها العميق الذي يسحبها بأحضانه، فأتكأت بمعصمها على الفراش الناعم حتى استقامت بجلستها، فركت عينيها بعبثٍ وهي تتلفت بالمكانٍ باستغرابٍ، فحاولت بقدر الإمكان تذكر ما حدث بالأمس، مر على مخيلاتها هروبها من الحفل بصحبة ذلك الرجل الوسيم، وبقائهما بمنزل شقيقته من أجل احتفاله بعيد ميلاده الأربعون، تذكرت كيف غفلت على الأريكة ومن ثم وجدت ذاتها هنا، فربما وضعها بأحدى الغرف، نهضت عن الفراش ثم اتجهت لباب الغرفة ففتحته وخرجت لتتصنم محلها في ذهولٍ تام، حينما وجدت نفسها بقصرٍ ضخم ، يملأه الأثاث الوثير والانتيكات الباهظة، أغلب ما يشمل لونه الكحلي الداكن، مشطت بيدها خصلات شعرها وهي تردد بحيرةٍ:
_أنا فين؟ وهما راحوا فين!
_صباح الخير يا أنسة.
انتبهت “لوجين” لصوت الخادمة القادم من خلفها، فانتفضت بفزعٍ، ومن ثم هدأت من روعها لتجيبها بلهفةٍ:
_قوليلي أنا فين؟
لمست من تعابير وجهها القلق، فقالت:
_إهدي بس، إنتي هنا بقصر الباشا “عاصي سويلم”.
ارتسمت ابتسامة حالمة على وجهها:
_بجد!
هزت الاخيرة رأسها بتأكيدٍ، ثم قالت باهتمامٍ:
_هحضرلك الفطار..
قالت بلهفةٍ:
_ياريت بسرعة لحسن أنا واقعة من إمبارح ومحدش سأل فيا.
ضحكت وهي تهم بهبوط الدرج الضخم، فلحقت بها “لوجين” للأسفل وهي تتطلع لكل ركناً بزواية القصر بإهتمامٍ، فجذب انتباهها الصور الموضوعة بكل مكانٍ بباحته له ولفتاةٍ غريبة بملامح هادئة، جدائل شعرها الاسود منسدل على ظهرها بخفةٍ، عينيها كحبات الزيتون اللامع، وعلى ما بدى لها بأنها زوجته، خاصة بوقفتها لجواره بحريةٍ كبيرة، أفاقت “لوجين” من شرودها على صوت الخادمة وهي تخبرها:
_إتفضلي الأكل جاهز .
سألتها ويديها تشير على الصورة:
_هي مين دي؟
راقبت الخادمة الطريق من حولها قبل أن تجيب على السؤال المطروح بحزنٍ ظاهر:
_دي “هند” هانم زوجة “عاصي” باشا سابقاً.
ضيقت “لوجين” عينيها بذهولٍ، فلم تشبع إجابتها المختصرة فضولها، لذا عادت لتتساءل من جديدٍ:
_يعني أيه سابقاً هما إنفصلوا؟
هزت رأسها بالنفي، ثم قالت بتوضيحٍ:
_توفت قبل الفرح بأسابيع، لأنها كانت بتعاني من مرض خبيث عفانا الله.
حزنت لما استمعت إليه، فرفعت رأسها تجاه الصورة مرة أخرى، لتردف بلهجةٍ مختنقة:
_وجع الفراق محدش يعرفه غير اللي عاش معاه، اللي مخليني مستغربة في اللحظة دي هو إزاي قدر يتجاوز كل ده بالبساطة دي!
ردت عليها الخادمة بشفقةٍ تجاه سيدها:
_للأسف مقدرش يتجاوزه، من اليوم اللي توفت فيه والقصر ده إتحول لسجن إتحبس جواه طول السنين دي، حتى إنه مفكرش في الجواز من بعدها.
استندت بذراعيها على مقدمة المقعد المقابل لها، لتهيم بحديث الخادمة الذي زرع الإعجاب بقلبها تجاهه، أعجبت بتفانيه بحبها حتى بعد وفاة من أحبت، وبشهامته واصراره على مساعدتها رغم استغلالها له وكذبتها المتعلقة بأمر حبيبها، وُلد بداخلها رغبة بسماع كل شيء يخص هذا الأربعيني الوسيم، فلامست بيدها خصلات شعرها المتدلية على وجهها،وعينيها تراقب ملامحه المتغيرة، فعلى ما يبدو بأن تلك الصورة منذ أعواماً والذي أثار دهشتها جاذبيته التي ازدادت كلما كبر عاماً، فهمست بصوتٍ غير مسموع:
_هو العمر بيتقدم معاه ولا بيرجع لورا سنة، غريبة!
قطع حساباتها المعقدة وحالة صدمتها المؤثرة صوت البيانو القادم من إحدى الغرف بالطابق الأسفل، تتبعت “لوجين” الصوت كالدمية المسحورة التي تحركها الساحرة الشريرة، حتى وصلت لأحدى الغرف المغلقة، حررت بابها بربكةٍ غامضة تطرق أبواب قلبها لأول مرة، وخاصة حينما وجدته يجلس على البيانو، يحرك أصابعه على أزراره بحرافيةٍ ومهارة، حتى وعينيه مغلقة، وقفت مقابله تراقبه وتستمع لعزفه الساحر بصمتٍ، مظهره المرتب ببذلته الرمادية الآنيقة، حتى تصفيفة شعره المرتب وعطره الذي يتسلل إليها بالرغم من المسافةٍ بينهما،وكأنه يضع الزجاجة بأكملها، ظنت ببدء الأمر بأنه لم يراها لذا استرقت النظر إليه باستمتاعٍ لعزفه المميز، فكسر صوته الرخيم قواعد الصمت المخيمة بالغرفة:
_لو خلصتي مراقبة تقدري تدخلي وتقعدي على الكراسي بدل ما رجلك توجعك من الواقفة.
انفرجت شفتيها بصدمةٍ، فبللتهما لتمنحها ترطيب بعد أن جفت مثل حلقها، ثم قالت بارتباكٍ:
_آآ.. أنا كنت بدور على مكان المطبخ لإني جعانة فبالصدفة سمعت صوت البيانو وبصراحة العزف الرائع اللي جذبني لهنا.
أغلق باب البيانو الصغير، ثم نهض ليقترب منها، قائلاً بهدوءٍ:
_تعالي ورايا.
إنصاعت إليه، فاصطحبها لمطبخ القصر الرئيسي، ثم أشار بعينيه لأحدى الخادمات، فأتت مسرعة حاملة صينية دائرية الشكل، تحوي أنواعاً متعددة من الطعامٍ الشهي، فوضعتها على الطاولة المستطيلة الموضوعة بالمطبخ، فجلست تتناول طعامها وعينيها تراقبه، فجذب “عاصي” أحد المقاعد المقابلة لها، ثم جلس يتطلع لها بنظراتٍ ثابتة، قضمت أحدى الشطائر ثم بدأت بالحديث الذي لم تكف عنه منذ أن راته:
_أنت عايش هنا لوحدك؟
رفع حاجبيه ساخراً:
_لازم يعيش معايا حد!
ردت عليه بمرحٍ:
_أكيد طبعاً.
وتطلعت للخادمة المنشغلة بإعداد للقهوة ثم أشارت بيدها له بأن يقترب ليستمع لما تود قوله، ابتسم “عاصي” على طريقتها الطفولية، ثم قرب وجهه منها، فهمست بخوفٍ اتبع صوتها:
_سمعت إن الأشباح بيسكنوا الأماكن اللي زي دي وبالذات لو قصر كبير وقديم، فأنت لازم تأخد بالك وتجيب حد يحصنلك المكان.
رفع حاجبيه متصنعاً الدهشة:
_معقول!
أومأت برأسها عدة مرات، ثم استكملت حديثها:
_إسمع أنت لازم متنامش لوحدك في القصر الكئيب ده ، أنصحك إنك تتجوز عشان مفيش واحدة من الجنيات تعشقك وساعتها مفيش حد هيعرف يخصلك.
أخفى ضحكاته، وبدى جادياً:
_ومين اللي هتقبل تتجوز صاحب القصر المسكون؟
وضعت طرف الملعقة في فمها وهي تفكر قليلاً، فارتسمت على وجهها ابتسامة واسعة وهي تجيبه:
_إحنا ننظم حملة دعايا نطلب فيها عروسة تناسبك.
ضحك بصوتٍ مسموع ولأول مرة، فتابعه الخدم بصدمةٍ، أظلمت ابتساماته مع ظلام ذاك القصر المظلم وها قد أضاءتها تلك الفتاة مجدداً، نقل نظراته لساعة يديه، ثم جذب الجاكيت الموضوغ خلف مقعده، ليشير لها ساخراً:
_هسيبلك حرية التصرف لإني عندي إجتماع مهم كمان ساعة، عن إذنك..
واستكمل طريقه للخارج، وقبل أن ينهي خطاه تجاه الرواق إستدار تجاهها يذكرها بما قد غفلت عنه:
_ومتنسيش معتش ليكي غير يومين بس، استغليهم كويس ودوري على سكن يكون مناسب ليكي
وضعت الملعقة عن يدها، ثم قالت بتأففٍ:
_نفسي إتصدت.
غادر “عاصي” والابتسامة التي صنعتها على وجهه مازال يتحلى بها، حتى إنه لم يستغل وقت القيادة للعمل بالحاسوب مثلما يفعل كل يوم، بل صفن بها طوال الوقت.
*********
بشقة “غيث”
على الرغم من حزنها الشديد وإنكسار قلبها، الا أنها ولأول مرة تحظى بفترة مريحة من النوم الذي حرمت منه، وكأن بوجودها بغرفته، وبفراشه جعلها تشعر بأنه لجواره يحتضنها ويمنحها الأمان الذي حرمت منه، فرائحته مرتبطة بكل شيء تلامسه بالغرفةٍ، حتى الوسادة التي تضع رأسها فوقها، فتحت “عائشة” عينيها بتكاسلٍ حينما شعرت بحركةٍ خافتة جوارها، فتعلقت نظراتها بمن يقف أمام الخزانة يرتدي قميصه الأبيض، وجرفاته الأسود ثم جذب الجاكيت أخيراً ليرتديه على عجلة منه، ثم وقف أمام المرآة ليستكمل إستعداده للرحيل، فرآها تختلس النظرات إليه عبر صفحة المرآة التي تريه إنعكاس ما يحدث خلفه بصدقٍ، حاول التعايش مع هذا الإحساس الرائع القصير، ولكنه جلد نفسه فأفاقها قبل أن تذوب بعشقها الذي بات إليه مخادعاً، فأجلى أحباله الصوتية:
_الأكل في التلاجة والدوا عندك خديه بإنتظام.
إرتبكت حينما علم بأنها مستيقظة، فرمشت بعينيها بتوترٍ، وخاصة حينما إستدار ليكون مقابلها، ليقطع عليها مفرها بالهروب، جلست باستقامة على الفراش، فإنسدلت خصلات شعرها الأسود من أسفل حجابها الغير مرتب، تعلقت عينيه بها لدقيقةٍ، إسترجع بها نفس المشهد المعتاد كل صباح كانت تستيقظ به وخصلات شعرها تنهمر خلفها كالشلال، جز على أسنانه بغضبٍ لمجرد السماح لنفسه بتذكر شيئاً متعلق بها، فاستدار مجدداً ليلهي نفسه بتصفيف خصلات شعره، ثم قال بحدةٍ لازعة اتبعته:
_ياريت محدش يحس بوجودك هنا وبالأخص ماما.
نهضت “عائشة” عن الفراش، ثم دنت منه وهي تتساءل بإستغرابٍ:
_إزاي ده!
أجابها بصرامةٍ:
_زي ما سمعتي، لو حد رن متفتحيش الباب، ومتفتحيش شباك أو تخرجي في بلوكونة.. أظن إن كلامي مفهوم ومش محتاج توضيح.
لمع الدمع بعينيها، فأومأت برأسها بإنكسارٍ وهي تراه يغادر لعمله، يعاملها وكأنه تزوجها بالسر، وليس زواج رسمي حضره المئات من الأهل والأصدقاء، تعلم بأنه يفعل كل ذلك لأجل إرضاء والدته التي كانت سبباً فيما تعانيه الآن، ولكنها ليست مستعدة لخوض مجادلة منتقصة، يكفيها قربها منه بالبدايةٍ وحينما سيحين الوقت الذي ستجده مناسباً ستتحدث معه وتخبره الحقيقة التي مازال لا يصدقها.
*****
بالشركة..
كان “عاصي” شارداً أغلب الوقت، لا يعلم كيف أنهى إجتماعه الذي إستغرق ثلاث ساعات كاملة ، وبالكد حصل على فترة استراحة بمكتبه، ليجد هاتفه يضيء بعدد مكالمات تصل لعشرون مكالمة جميعها من “عمر”، فحرر زر الاتصال به، ولكنه وجده يكنسل مكالماته جميعاً، فعلم بأنه بطريقه إليه..
*******
بالخارج..
وصل”عمر” للشركة، فتوجه لمكتب “غيث” أولاً، وما أن أعلمته السكرتيرة بوجود رفيقه حتى سمح له بالدخول على الفور، فما أن ولج “عمر” للداخل حتى صاح بمشاكسةٍ:
_مساء الخير على العالم اللي مبتسألش ولا كأن في عيش وملح جمعهم في يوم من الأيام.
إبتسم “غيث” كعادته حينما يرى صديقه المرح الذي يزرع الإبتسامة والبهجة دوماً على وجهه، فمد يديه ليبادله السلام وهو يجيبه:
_أنت عارف المشاغل والظروف اللي بمر بيها، فالمفروض دلوقتي مين فينا اللي يسأل يا دكتور!
جلس على المقعد المقابل له، ثم قال بمكرٍ:
_أمال أيه سبب وجودي هنا وفي الوقت ده.
رفع حاجبيه بشكٍ، فاستطرد “عمر” بمرحٍ:
_أنت سبب من أسباب زيارتي النهاردة.
تساءل “غيث” بفضولٍ:
_وأيه السبب التاني؟
أشار بعينيه تجاه الحائط:
_أخينا اللي جنبك.
قال بعدم فهم:
_ماله “عاصي”؟
طرق المكتب بيديه وهو يصيح بإنفعالٍ:
_جايلي البيت إمبارح مع بنت بيقولك خطفها من حفلة خطوبتها.
ظهرت إبتسامة ساحرة على وجه”غيث” وهو يقول:
_تقصد “لوجين”.
ضيق عينيه بذهولٍ:
_أيه ده؟ إنت تعرفها.
هز رأسه وهو يضيف:
_مهو أنا كنت معاه في نفس الحفلة وشريك معاه في عملية التهريب دي.
جحظت عينيه بدهشةٍ:
_هربتها معاه! ده بدل ما تعقله.
ضحك وهو يراقب انفعالاته التي سرعان ما هدأت وإتبعها نصيحة وإنذار زرع بحديثه:
_هو حد بيعرف يعقل” عاصي” لما يطلع في دماغه حاجة يعملها.
إرتخت ملامح وجهه تدريجياً، فردد بإحباطٍ:
_على رأيك.
ثم استطرد بجديةٍ تامة:
_الكلام أخدنا ونسيت أكلمك في الموضوع اللي جايلك عشانه.
لمح “غيث” فتيل ذاك الموضوع الهام الذي أتى به إلى هنا، فقال بنفورٍ:
_لو هتفتح نفس الموضوع اللي مفيش غيره يبقى وفر مجهودك.
ثار عليه منفعلاً:
_وأخرة عنادك ده أيه يا “غيث”،” عائشة”بتحبك وأنت عارف كده كويس.
ببسمةٍ تهكم أجابه:
_واللي يحب حد يهين والدته بالشكل ده!
رد عليه “عمر” بعد فترة من الصمتٍ:
_أحياناً اللي بنشوفه بيكون خادع بالدرجة اللي تخلينا منقدرش نشوف الحقيقة يا “غيث”.
عقد حاجبيه وهو يتساءل بتشتتٍ:
_قصدك أيه؟
كان صريحاً في رده:
_قصدي إن في حاجات بيحاول “عاصي” و”إيمان” يوصلوهالك بس مش بيقدروا لأن والدتك بالنهاية تبقى خالتهم.
كاد أن يتساءل عما يقصده مجدداً، فقاطعه “عمر” بعدما أوضح مقصده:
_والدتك مكنتش موافقة على جوازك من “عائشة” في البداية، لانها متربية في ملجئ وأنت حاولت معاها لحد ما في النهاية رضخت ليك ووفقت، ده ميدلكش أي شك إنها مثلاً مكنتش متقبلاها من البداية وبتحاول بكافة الطرق تبعدكم عن بعض!
هاجت العواصف بحدقتيه الرومادية التي سيطرت عليها حمرة لا تنذر بالخير، فنهض عن مقعده وهو يصيح به:
_”عمر” أنا مسمحلكش إنك تتكلم عن والدتي بالطريقة دي، وبدون أي دليل.
وقف مقابله ثم قال:
_دليلك هو كلام مراتك اللي هتلاقي فيه الحقيقة اللي مبتحاولش تتقبلها.
أعمته قسوة قلبه فجعلته كالبركان المشتعل، فقال بعد صمت قاده لتفكيرٍ أعمق:
_أنا ممكن أخمن من كلامك ده إنها إتكلمت مع “إيمان” مراتك وحكيتلها اللي بيحصل في بيتي ودي جريمة أبشع من قبلها!
لم يصدق ما بات عليه رفيقه، فخرج عن هدوئه حينما قال بغضبٍ:
_إنت بقيت مش طبيعي، عنادك وغرورك دول هيقضوا عليك وعلى الحب اللي بنيته في سنين، وبكره هتندم على كل ده لما تلاقي ابنك وحيد، وأكيد في يوم من الأيام هيحملك نتيجة قرارك ببعده عنك أو عنها.
وتركه وتوجه للمغادرة، فأسرع “غيث” خلفه حينما شعر بجفاء أسلوبه، فجذبه وهو يشير إليه بإبتسامةٍ صغيرة:
_طب ممكن تسيبنا بقا من الكلام في الموضوع ده وتقعد نتكلم شوية.
منحه نظرة متعصبة قبل أن يجيبه:
_لا معلش،ورايا شغل كتير النهاردة هعدي على “عاصي” قبل ما أرجع العيادة.
وقبل أن يخرج من مكتبه وضع يديه على كتفه ثم قال بحزنٍ:
_راجع نفسك يا “غيث”، قبل فوات الأوان… كلنا بنواجه حروب شبيهة من دي بس الذكي اللي يقدر يكسب أمه ومراته في نفس الوقت.
وغادر من أمامه ليتركه في دوامة تعصف به، ما بين حديثه وحديث”عاصي” الذي مازال يلاحقه.
********
بمنزل “عاصي”.
قضت أغلب يومها في إستكشاف القصر، فراق لها كثيراً غرفة مكتبه الخاص، لونها كان مثيراً، وضخامة المكتب الخشبي الموضوع بمنتصف الغرفة منحها هيبة خاصة، تحركت”لوجين” تجاه المقعد الخاص به، فجذبته لتجلس عليه بإريحيةٍ تامة، ثم حررت ساقيها التي تلامس الأرض لتدور به وصوت ضحكاتها يسود بالأرجاء، توقفت عن الدوران حينما تعلقت نظراتها بدفتر غريب موضوع على حافةٍ المكتب، فجذبته بإعجابٍ شديد، فكان جلده سميك للغاية ومصنوع من الجلد البني، وبالأسفل يحمل نقوش لأحد الخيول الأصيلة، ودت لو تمكنت من إلقاء نظرة للداخل، فلم تستطيع كبت فضولها وفتحت أول صفحاته، فوجدته يكتب بأول صفحاته.
«عاماً أخر مضى بدونك “هند” ، ولست أعلم كيف سأتخطى ألم الفراق الذي يمزق قلبي؟ أتعلمين حبيبتي مازالت أتذكر هديتك المميزة لي في عيد ميلادي، كنت تختارين دفتر مميزاً وتقدمينه لي حتى أبدأ من بعدها بتدوين ما حدث لي بالعام الجديد الذي أختبره، لا تعلمين ما أتحمله من وجعٍ حينما أذهب لشرائه بنفسي، ولكن لا بأس مازال هناك قوة تدفعني للمضي قدماً، وربما سر تلك القوة ذكرياتك التي حفرت بقلبي البائس، فبات يدون اليأس بين السطور، وربما فتيل الأمل سيشعل قريباً حينما ألتقي بكِ.. أعلم بأنكِ تحترقين شوقاً لتلك اللحظة التي سيجمعني الله بكِ، فأنا لم أطلب شيئاً بدعائي سواكِ حبيبتي…»
طبعت دمعاتها على الصفحات البيضاء، فحملت تذكار لشخصٍ ثالث يشهد على قصة عشقهما، أزاحت “لوجين” دمعاتها وهي تردد بتأثراً:
_معقول في حد بيحب حد بالطريقة دي!
_في يا “لوجين”.
انتفضت من مكانها بفزعٍ فور سماعها للصوت القادم تجاه الباب الخارجي، فإلتقطت أنفاسها على مهلٍ حينما وجدتها” إيمان”، فأغلقت الدفتر ثم أعادته محله قائلة بحرجٍ:
_أنا بعتذر لوقاحتي، بس شكل الدفتر عحبني أوي وغصب عني لقيت نفسي بفتحه.
إقتربت منها “إيمان”، بخطواتٍ متهدجة حتى باتت تقف مقابلها، فرفعت يدها على معصمها ثم قالت بإبتسامةٍ صغيرة:
_مفيش داعي تعتذري، أنا عارفة إنك مكنش قصدك حاجة.
ثم أشارت لها على الأريكة القريبة منها، فجلسوا سوياً لتبدأ بالحديث بصوتٍ مختنق بالدموع:
_”عاصي” كان بيحب “هند” جداً، وكان بيحلم باليوم اللي هتتزفله بالأبيض، بس يا قلبي مكنش متوقع إنها هتتزف لقبرها.
إنسدلت دمعات “لوجين”، وهي تستمع بتركيزٍ لما تخبرها به” إيمان” وخاصة حينما قالت:
_إكتشفت بعد كتب كتابها إنها عندها كانسر في المخ، وبالرغم من كده “عاصي” رفض إنه يتخلى عنها، وكان بيحارب معاها وجواه أمل إنها هتخف وهتبقى كويسة بس للاسف الأمل ده اتدمر لما الأجهزة وقفت والروح فارقت جسمها.
وسحبت نفساً مطولاً قبل أن تستكمل ببكاءٍ:
_من وقتها وحياة “عاصي” واقفة، كأنها أخدت كل حاجة معاها، فرحته وقلبه وحياته، عشر سنين ولسه مملش من حبها ولا من الوحدة اللي هو عايش فيها.
وتطلعت تجاهها وهي تشير إليها باسمة:
_عملت كل حاجة ممكن تتخيليها عشان أقنعه بالجواز بس هو رافض الموضوع من الأساس.
كسرت حزن وجهها وبكاء عينيها بإبتسامةٍ رقيقة تتبعها قولها المتعجب:
_يا بختها بحبه ليها، شخص بالإخلاص ده نادر الوجود فعلاً.
إبتسمت “إيمان” ثم أزاحت العالق بأهدابها وهي ترد عليها:
_نادر فعلاً ومش بعيد متلقيش نسخة متطابقة أساساً.
أجابتها بمشاغبةٍ:
_ده الواحد من دول ما بيصدق مراته تتكل عشان يجدد ويعيش حياته، بصراحة أخوكي ده راجل جنتل عشان كده أنا هساعدك وهشوفله العروسة المناسبة.
زارتها فرحة عارمة، فقالت بعدم تصديق:
_بجد يا “لوجين”.. طب إزاي!
ردت عليها بإبتسامةٍ خبيثة:
_لا دي تسبيها عليا ومتحمليش هم.
ضحكت على طريقتها بالحديث، ثم جذبت حقيبتها ونهضت قائلة:
_خلاص سبتها عليكي.
نهضت”لوجين” خلفها وهي تتساءل بضيقٍ:
_أيه رايحة على فين؟
قالت وهي تغلق حقيبتها الصغيرة:
_أنا كنت عند الدكتورة بشوف هتحددلي معاد الولادة ولا لا، وأنا راجعة قولت أعدي عليكي أشوفك لسه هنا ولا رجعتي لخطيبك.
انكمشت تعابيرها بغضبٍ:
_متجبليش سيرة المدلوق ده، أنا أموت نفسي ولا إني أرجعله.
تعالت ضحكات “إيمان” لتعصبها الشديد، فقالت وهي تلوح لها:
_خلاص أنا همشي عشان إتاخرت وهبقى أجيلك يوم بحاله تقعدي وتحكيلي عن المدلوق ده.
ودعتها بمحبةٍ، على وعد جمع الإثنتان باللقاء قريباً.

يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية الأربعيني الأعزب)

اترك رد

error: Content is protected !!