روايات

رواية غير قابل للحب الفصل الثاني عشر 12 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب الفصل الثاني عشر 12 بقلم منال سالم

رواية غير قابل للحب البارت الثاني عشر

رواية غير قابل للحب الجزء الثاني عشر

غير قابل للحب
غير قابل للحب

رواية غير قابل للحب الحلقة الثانية عشر

اجتاحني فيضــان الخوف الممزوج بالحنق بعد أن سمعت جملته الأخيرة التي نطقها بشكلٍ هادئ، كأنما يلقي على مسامعي خبرًا عابرًا، لذا طلب مني ادعاء فقدان الوعي، لكونه يعلم جيدًا مدى الهياج الذي سأصبح عليه حين أعلم بالأمر. انتفضت بجسدي بين ذراعيه أتلوى بكل قوةٍ محاولة الإفلات منه، وأنا أهدر في عصبيةٍ جمة:
-أيها اللعين، كنت تعلم بذلك.
لم يعلق علي، وأكمل سيره وهو يشدد من إمساكه بي، قاضيًا بلا عناءٍ يُذكر على أي مقاومة مني، بالكاد وصلنا إلى إحدى سيارات الدفع الرباعي التابعة لجماعته، فرحتُ أصرخ بصوتٍ مرتفع:
-لن أدع شقيقتي مع جماعتك، لن أتركها.
في سرعة أرخى ذراعه عن ركبتي لينزلني على قدمي، لكنه لم يتركني أمضي في سبيلي، بل طوق بذراعه الآخر عنقي، ليحاصر وجهي، ثم كمم فمي ومنعني من الصياح، كما كان أيضًا يحول بظهره بيني وبين شهود القبور من خلفه، فلا يتمكن أحدهم من رؤية ما يحدث بيننا من شدٍ وجذب، لم يكن بحاجة لفعل ذلك فطوله الفاره كان كفيلاً بإخفائي عن الأعين. أحكم السيطرة على انفعالي، وقيد معصمي بيده فحجم ذلك من حركتي، بات لصيقًا بي للغاية، فكنتُ أغوص في كتلة عضلات صدره الصلبة، لا أستطيع الفكاك منه، سمعتُ صوته يأمر أحدهم:
-هيا أعطها المهدئ، لا نريد إثارة المشاكل.
وصل إلى مسامعي ذلك الصوت المألوف الذي أمقته كثيرًا:
-من دواعي سروري.
شعرت بأنفاس “لوكاس” قريبة من صدغي، وتأكدت من هويته عندما خاطبني بهسيسه الشامت:
-سأتولى تخديرك ككل مرة…

 

 

تخشب جسدي أكثر، وتقلصت مع ضحكاته الماجنة وهو يضيف من وسط ضحكه المستفز:
-ربما أجعل منكِ مُدمنة!
نهره “فيجو” في صرامة:
-هيا، أسرع!
نظرتُ للأخير من موضعي، كان يُطالعني بتعابير جامدة، لا تعرف الرأفة أو التسامح، انكتمت أصوات صراخي المستغيثة تحت يده، وشعرت بحرارة أنفاسي المكتومة تحرقني، حاولت بجهدٍ جهيد الإفلات من قبضته؛ لكنه كان كمن يلصقها بالغراء، فلم تتجاوز صرخاتي عن بضعة تأويهات مبهمة خافتة، غير مسموعة في الهواء الطلق. استمر “لوكاس” يُكلمني بما استثار أعصابي على الأخير:
-سأحرص على الاستمتاع مع شقيقتك.
تلويتُ أكثر في جنونٍ، فأكمل بتلذذٍ:
-تُرى هل هي شرسة مثلك أم…
بترت عبارته عن عمدٍ ليضمن اقتحام الخيالات المفزعة لعقلي، وقال بعد ضحكةٍ سريعة:
-دعيني أكتشف بنفسك.
هدر به “فيجو” لمرة ثانية في صبرٍ نافد:
-كفى ثرثرة فارغة.
شعرتُ بوخزة لاذعة في عنقي، جراء هذه الإبرة التي غرزها في جلدي، دمدمت بصوتٍ مكتوم، وأنا أشعر بالسائل يتدفق في دمائي:
-اللعنة عليكما.
أرخى “فيجو” قبضته عن فمي بعد أن أحس بتراخي أطرافي، ومخامرتي لحالة الإغماء الإجبارية، هتفتُ بصوتٍ واهن، ونظراتي قد زاغت:
-احترقـا في الـ …
أكمل “لوكاس” باستمتاعٍ باقي جملتي:
-الجحيم عزيزتي!
كان آخر ما التقطته أذناي قبل أن أسبح في دوامات الظلام:
-أتمنى لكِ كوابيسًا سعيدة.
…………………………………………………
الصمتُ مطبقٌ حولي من جديد؛ لكنه بدأ يتشتت بصوت أنفاسي المصحوب بأنينٍ متقطع، كما أن الظلام قد أخذ في الانقشاع، لأبدأ بعدها في الاستفاقة من سباتي الإجباري، فتحتُ عيناي على اتساعهما، لأجد نفسي محدقة في السقف الأبيض، وتلك الثريا الضخمة تتدلى منه، رمشت بجفوني لعدة مرات حتى أطرد آثار المخدر وثقله من رأسي، كنت أخشى حقًا كما قال “لوكاس” أنه سيجعلني مـــدمنة جراء تكثيف إعطائي لمثل هذه الأدوية. انتفضت معتدلة في رقدتي، لتجتاحني موجة من الصداع القاسي، قاومته قدر المستطاع، ورحتُ أطوف بنظراتي بعجالةٍ في هذه الغرفة الغريبة التي أقبع بها لاستكشفها، كانت تختلف عن منزل الضيافة الذي أقمت به مع والدتي في اليومين المنصرمين، كانت الغرفة أكثر اتساعًا، وأكثر امتلاءً بالأثاث الفاخر، لكن لونه يميل لدرجة العاج. تساءلت بلا صوتٍ في عقلي:
-ما هذا المكان؟ وأين أنا؟
لم أجد من يُجيبني، رفعت يدي على جبيني لأفركه، وعندئذ تأملت نفسي، كنت لا أزال أرتدي ثوب العزاء الأسود، ذاك الذي يصل إلى ما بعد ركبتي بمسافةٍ بسيطة، وكان حذائي موجودًا في قدميّ، فقط تم انتزاع قبعتي عن رأسي دون تحرير الكعكة التي أعقصها من أسفلها. اقتحم عقلي ذكرى آخر كلماتٍ سمعتها من خصمي اللدود “لوكاس”، حينئذ نهضت من موضعي، لأتجه نحو باب الغرفة، للغرابة وجدته موصدًا، وكأن أحدهم قد تعمد احتجازي هنا، أخذتُ أطرق على الباب بقبضتي التي كورتها في عصبيةٍ، وأنا أصرخ عاليًا:
-افتحوا الباب، من تظنون أنفسكم؟

 

 

ظللتُ أدق على الباب في غيظٍ وقوة بيدٍ، وبالأخرى جاهدت لتحريك المقبض في عنفٍ، رغم يقيني بأن ما أفعله ما هي إلا محاولات فاشلة لا تسمن ولا تغني من جوع، لن ينفتح الباب، ولن أخرج من هنا، طالما أنها ضد رغبة من يحتجزني. واصلت الصراخ الهادر:
-لن أبقى حبيسة هذا المكان للأبد، سأخرج، وستندمون!
قلتُ كلمتي الأخيرة وأنا أركل الكتلة الخشبية بقدمي، فتألمتُ. توقفت عن الطرق لأذهب نحو النافذة، أزحتُ الستائر، وحاولت فتحها؛ لكنها كانت موصودة، صرخت في يأسٍ، وأطلقتُ اللعنات:
-أيها الملاعين!
أمعنت النظر فيما تطل عليه النافذة، في البداية أدركتُ أني في واحدٍ من الطوابق العلوية، نظرًا للارتفاع بين ما أراه، وبين الأرضية، وعندما تأملت ما أبصره وجدت مساحات خضراء، ممتدة إلى ما لا نهاية، على مدى البصر، كما رأيتُ عددًا مهولاً من الرجـــال المدججين بالسلاح، منتشرين في نقاط محددة، يتحركون في كل الاتجاهات بروتينٍ ثابت، تجولت بنظري على باقي هذه المساحة الشاسعة، لأجد مقاعدًا متاثرة، دققت النظر فيمن يجلسون عليها، فارتجف قلبي، نطق لساني من فوره في جزعٍ:
-إنها “آن”.
أخذت أضرب الزجاج بيدي في خوفٍ كبير، وأنا أصرخ بأقصي ما أستطيع:
-“آن”، أنا هنا، “آن”، هل تسمعيني؟
وكأني أحادث الفراغ، لا صدى لصوتي إلا جدران هذه الحجرة الواسعة، توقفت عن الصراخ والدموع تنساب من عيني في عجزٍ حقيقي، طوقت قبضتي من جديد وضربت بها الزجاج وصوتي المجروح يردد:
-ليتكم تموتون، ليتكم تحترقون!
…………………………………………………..
خارت قواي فجــأة بعدما استبدت بي مشاعر الخوف والإحباط، كنت محتجزة في سجنٍ وإن كان مملوءًا بريش النعام، انهرتُ جالسة على ركبتي وأنا استعد للانخراط في نوبة بكاءٍ تعبر عن هزيمتي. قبل أن أفعل ذلك سمعتُ حركة تأتي من الخارج، فقمتُ واقفة، واستدرتُ مرة واحدة لأواجه الباب بنظراتي عندما تأكدت من سماعي لصوت المفتاح يُدار في قفله، تأهبتُ في وقفتي، لأندفع في الوقت الملائم ناحيته عندما يُفتح، لئلا يتمكن محتجزي من إيقافي. كما خططت انطلقت بحنقي وغضبي في اتجاهه بمجرد أن تم تحريكه، حيث ظهرت فُرجة بسيطة بين اللوح الخشبي وإطاره، كانت كافية لمروري؛ لكن “فيجو” سد علي الطريق بجسده، ومنعني من الخروج، ضربته بقبضتي في صدره بكل ما يهيج في داخلي من غضبٍ، فلم يتأثر، بل إنه أمسك بي من ذراعي، وسحبني للداخل بعد أن دفع الباب بيده الأخرى ليصفقه بقوةٍ، ثم استطرد متسائلاً في تهكمٍ:
-أين تظنين نفسك ذاهبة؟
لويت عضدي لأتحرر منه، وصرخت في حدةٍ:
-ابتعد عن طريقي!
لم يتركني، ظل ممسكًا بي، كأني مقيدة به بلا أصفاد، وجرجرني لمنتصف الغرفة وهو يعلق ساخرًا:
-وإلا ماذا؟ هيا أتمي جملتك!
هدرت في انفعالٍ، وقد تلونت بشرتي بحمرة ساخنة:
-وإلا سأقتلك، صدقني سأفعل، ولن أتردد في هذا.
عندئذ ترك ذراعي، كأنما يتحداني لأفعل ما تفوهت به، رمقني بنظرة غامضة احتوت استخفافًا مبطنًا، قبل أن يقول وهو ينتصب في وقفته السامقة:
-جيد، ستصبحين مثلي.
سألته في صوتٍ متعصبٍ، وقد كورت قبضة يدي:
-أين تحتجزني هذه المرة؟
جاوبني دون إضاعة وقتٍ:
-في قصر العائلة.
الآن عرفت سبب كل ذلك التأمين الرهيب، فليس المكان كسابقيه، إنه كما أفهم بيت الزعـــامة، اختطفني من سرحاني السريع، وأعادني للواقع المرير حين تابع كلامه بسخريةٍ محسوسة:
-ربما سأصحبك في جولة لاحقة لتتفقدي أجزائه على مهلٍ، حين لا تكوني مخدرة.

 

 

دمدمت في كدرٍ وأنا أشعر بالخجل من تذكر المرات التي فقدت فيها الوعي رغمًا عني:
-أنت وقريبك الحقير تتعمدان ذلك.
علل ببساطةٍ لجوئه لذلك:
-الظروف تدفعنا لتهدئتك قسرًا؛ لكن لا تقلقي، فالقليل من المهدئ لا يضر.
ثم مد يده نحو وجنتي يريد لمسها، فارتددت خطوة للخلف محذرة إياه بغلظةٍ:
-لا تلمسني!
لم تتبدل ملامحه الهادئة، أعاد ذراعه إليه، واضعًا كفه في جيبه وهو يرد بنبرةٍ ذات مغزى، ونظراته الجريئة تطوف على مفاتني:
-أستطيع أن أفعل ما أريد في أي وقت، ولا يتضمن ذلك اللمس فقط!
شعرت وكأن نظراته تجردني من ثيابي، وتنفذ إلى داخلي، فتراجعت خطوة أخرى للخلف مهاجمة إياه لفظيًا:
-أنت وغد، ووقح.
ابتسم ابتسامة مقتضبة، وعلق في ثقة مغترة:
-وقـــاتل، لا تنسي هذا!
ارتعشتُ من الداخل قبل الخارج، وذكرى نحــر عنق خالي تصدح في خيالي، أخفضتُ بصري، وهتفت فيه بصوتٍ آمر سعيتُ ألا يكون مرتبكًا:
-أريد الذهاب إلى شقيقتي الآن.
كدتُ أخطو للأمام لأتجاوزه؛ لكنه تحرك في نفس التوقيت معي من زاويته، ليسد عليّ الطريق بجسده، فتلبكتُ وزاد الخوف في بدني، كنتُ أشعر ببرودة عجيبة تجتاح جسدي، رغم أن الطقس بالخارج كان معتدلاً، أله كل هذا التأثير المرعب على شخصي؟ أحتاج للصمود في مواجهته، لئلا انهزم سريعًا. نظرتُ إليه بتعابيرٍ عابسة حاولت أن أخفي ورائها فزعي، فقال بهدوءٍ أجفلني:
-ليس قبل أن نتفق.
غالبتُ مخاوفي، وخاطبته في حدةٍ:
-لقد أعطيتك وعدتي، وأنت خالفته بإحضارك إياها إلى هنا.
زم فمه للحظةٍ، وعلق:
-حسنًا، لنقل أني أعدتُ ترتيب الأوراق، من أجل صالح الجميع.
هرائه لم يقنعني، فصحتُ محتجة في تحيزٍ واضح:
-لا تتحدث عن الجميع، إنه أنت فقط، أنت تريد ملك الكون بمن فيه.
شدَّ من كتفيه، ليبدو أكثر طولاً، ورمقني بتعالٍ قبل أن يخبرني بعنجهيةٍ:
-وما المانع؟ أنا وُلدتُ لأكون الزعيم.
اغتظتُ من سمة الغرور السائدة فيه، وقلتُ مهاجمة إياه:
-من تظن نفسك؟
نظر إلي مليًا، بلا ملامح تُبين ماهية ردة فعله، لم أكترث، وواصلتُ صراخي به:
-من أنت لتتحكم بمصائر البشر؟ هل نصبت نفسك إلهًا علينا؟
سكوته المريب عزز إلى حدٍ كبير من جرأتي لمتابعة هجومي السافر عليه، لعلي بذلك أكسب جولة في معركتي معه، وإن كانت كلامية. رددتُ بغير احترازٍ بعد أن خطوت خطوة للخلف لأنأى بنفسي من أي خطرٍ متوقع من ناحيته:
-أنت لا شيء بدون كل هذا.
هدر بصوتٍ جعل شعيرات جلدي تنتصب:
-احذري!

 

 

وكأن دمائي الحانقة قد رفضت أن تحط وتعود إلى مكانها، فأضفتُ:
-هيا اقتلني، فذلك ما تجيد فعله.
أخرج يده من جيبه، ورفع إصبعه في وجهي قائلاً:
-لا تتحدثي كملاكٍ طاهر هبط لتوه من السماء، فأنتِ مثلنا غارقة في الظلام، لم تولدي في مجتمع مثالي.
رمقته بنظرة مزدرية قبل أن أرد:
-على الأقل أحاول البقاء بعيدًا عن بشاعته.
قست نبرته أكثر وهو يكلمني بنبرة تحولت للتهديد:
-ليس بإرادتك.
كنتُ على وشك الاحتجاج عليه، فدمدمت بأول كلمة في عبارتي:
-أنا…
لكنه تحرك من موضعه ليدنو مني، ثم أطبق بيده على فكي، ضغط بقساوةٍ عليه، فشعرت بعظامي تئن من أسفل قبضته غير الرحيمة، قرَّب رأسه نحو عيني ليناظرني عن مسافة أكثر قربًا، جعلتني لا أرى سواه في المدى، ثم هسهس من بين أسنانه:
-اسمعيني جيدًا، لا أحب الثرثرة الفارغة، لقد أتيتُ بشقيقتك البريئة لأقبع تمردك الكامن بداخلك قبل أن يندلع.
برزت عيناي في محجريهما من حنقي المكبوت، إنه يسعى لتسيير حياتنا وفق أهوائه، لا وفق ما نريده، يُجبرنا على أن نصبح بشكلٍ أو بآخر تحت إمرته، كعبيدٍ أو إماء. حدجته بنظرة نارية وهو يتابع قوله بلمحةٍ ساخرة:
-وهي هنا لأتأكد من إتمام الزواج دون مشاكل، كما أن صورة العائلة الحزينة المجتمعة لوداع “رومير” لا يصح أن تكون كاملة بدونها.
استخدمت كلتا قبضتي لأحرر فكي من يده أثناء كلامه، ونجحت بعد شحذ كامل قواي، ابتعدت عنه وهدرت فيه بغيظٍ:
-أيها الوضيع، أنت تبحث عن مصالحك فقط.
هذه المرة لم أره وهو ينطلق صوبي، كان في أوج قوته، وأنا في حالة من الذهول، دفعني بخشونةٍ نحو النافذة، ثم أمسك بمعصمي، ورفعهما فوق رأسي، ثبتهما بقبضتيه صائحًا بأنفاسٍ شبه هادرة تحمل الإنذار الشديد:
-مرة ثانية إن تفوهت بإساءة لي، سأجعلك تندمين.
لم أملك من المقاومة ما أستطيع بها مجابهة كتلة الشر المتجسدة في شخصه، نظرتُ إليه بذعرٍ وهو يقول:
-أنتِ لم ترِ بعد الجانب المظلم مني.
قلتُ بغير احترازٍ؛ كأني أسخر منه:
-أي جانب مظلم تتحدث عنه؟ لقد رأيتك وأنت تقتل خالي بلا تردد.
جمع يدي معًا في قبضةٍ واحدة، ليتمكن من استخدام يده الأخرى، حتى مع قبضة واحدة، لم أستطع الإفلات منه، كان قويًا للغاية، يُجيد تقييد الآخرين. دنا بوجهه مني، ففطنتُ إلى ما يرغب في فعله، أشحتُ برأسي للجانب مُبدية رفضًا صريحًا لمحاولته التودد إلي بالإكراه، لمحتُ بطرف عيني إصبعه وهو يلف خصلة من شعري عليه، اقشعر كل ما في، واعتراني خوفًا مُضاعفًا، لا أعرف إن كان سببه اقترابه الحميمي، أم رهبتي مما قد يقوم به على غير إرادتي. لسعت أنفاسه الحارقة وجنتي، فشعرتُ بها تلتهب عندما كلمني:
-هذا لا شيء مقارنة بما أفعله عادةً، ولا تتوقعي مني التساهل مع أي فرد من عائلتك.
كدتُ أذوب من شدة خوفي عندما احتضن بكفه ذقني، لكن بغير ألم، طاف في فكري كل ما هو مؤلمٌ ومخجل، فأمثاله يعرفون أساليب الإيـــذاء البدني والنفسي، مما قد يعجز عقلي عن التفكير بها، وأنا فقط اختبرت جزءًا بسيطًا حين تم اختطافي في وقتٍ ليس ببعيد. أجبرني “فيجو” على الاستدارة معه، فأصبح صدره لصيقًا بظهري، أشعر بحرارته تجتاح برودتي المتزايدة؛ لكن قبضته ظلت مقيدة لرسغي، أدار بيده الأخرى الممسكة بذقني وجهي إلى نقطعة بعينها، وأمرني:
-انظري هناك.
تأملت بغير تركيز الفضاء الفسيح، فقال كنوعٍ من التوجيه:
-أليست تلك شقيقتك؟
تلقائيًا انتقلت نظراتي الهلعة نحو “آن”، وارتفع وجيب قلبي المضطرب، خاصة وهو يوضح بفحيحٍ هامس:
-والعزيزة “صوفيا” إلى جوارها.
وجدتُ أنفاسي تتقطع، وصدري ينهج، كأني ألهث، سألني في هدوءٍ مميت:
-أليستا رائعتان معًا؟
أصابني رجفات ورعدات جعلت ما اعتلاني من تحديات تتبدد في لحظة، هتفت أتوسله والدموع قد راحت تتجمع في مقلتي:
-أرجوك، لا تؤذيهما.

 

 

كأنه لم يسمع توسلي العاجز، أدار وجهي في بطءٍ بعيدًا عنهما، وهو يكلمني بصوت النافذ إلى أذني:
-هيا، حولي ناظريك.
أرشدني للبقعة التي يريد مني تدقيق النظر بها، وقال:
-تطلعي إلى الجانب الآخر، هل ترين “لوكاس”؟
انخلع قلبي من موضعه، وأحسستُ باقتلاع روحي من أعماقي، وأنا أرى هذا الوغـــد يتطلع إلي رغم ابتعاده عني بعشرات الأمتار وهو يلوح لي بيده القابضة على الخنجر، كأنما يتعمد أن أبصره معه، توقفت عن التنفس بشكلٍ كامل عندما همس “فيجو”:
-إنه مستعد لقتل الاثنتين بطعنة خنجر.
تهدمت آخر حصون صمودي، وانفجرت باكية صارخة فيه بحرقةٍ:
-أنت بلا قلب.
حينئذ اشتدت قبضتاه على رسغي، وكذلك فكي، ألصق فمه بأذني، وأخبرني:
-من يملك قلبًا لا يصمد في عالمنا.
كان محقًا في وصفه، فعالمنا غارق في الظلام الملوث بدمـــاء الآثمين والأبرياء على حد السواء. تهرأتُ من بكائي المفطور، وهو ما زال يتكلم:
-بالمناسبة إنه ذاك الذي نحرت به عنق الخائن “رومير”.
غمرتني أمواج الارتياع والفزع، فأطحت بكل ما تبقى من سلامٍ بداخلي، استمر على همهمته الهامسة:
-لن يكون حادًا عندما يمس عنقيهما.
توسلته من بين بكائي الحارق:
-لا تفعل.
أراح رأسه على كتفي، فشعرتُ بأطنان من الثقل تسحقني، ليس ظاهريًا، وإنما معنويًا. لم أعد أرى بوضوحٍ بسبب كثافة دموعي، سمعته يكلمني:
-لن تستطيعي منعي إن أردتُ ذلك.
رددتُ في قهرٍ:
-اللعنة عليك، أنا أكرهك.
شعرتُ بعضلات وجهه تشتد، قبل أن يزيح رأسه، ويستقيم واقفًا، ليرخي بعد ذلك قبضتيه عني مخاطبًا إياي ببرودٍ:
-وأنا لم أطلب منك أن تحبيني.
اندفعت لألصق راحتي بالزجاج كأني آمل أن أخترقه لأذهب إلى والدتي وشقيقتي، جاءني صوته من خلفي يطلب مني بلهجةٍ بدت آمرة:
-عليكِ طاعتي فقط…
لم أتحرك من موضعي، ولم أنظر إليه، أبقيتُ ناظري عليهما؛ لكنه بقى يُحادثني باستحقارٍ:
-ففي نهاية الأمر أنتِ الطُعم المناسب، ليس لإغوائي فقط.
كلماته اقتصرت مهمتي على شيءٍ بعينه، تسليته الجسدية، وإمتاعه، وعاء لإفراغ شحناته المكبونة، لا لمشاركته المشاعر السامية، أو العواطف الجياشة، لم أهتم بوصفه لطبيعة علاقتنا في المستقبل، فقد أطلقت العنان لدموعي المقهورة لتغرق بشرتي، أمرني بصوتٍ يحمل الجدية:
-استعدي لزفافنا خلال الأيام القادمة.
سمعت خطواته تبتعد لتتجه نحو الباب، فصحتُ رغم شعور الانهزام المسيطر علي:
-يومًا ما سأقتلك!
قال بعد لحظاتٍ من الصمت، كأنما يمنحني إذنه:
-وأنا أترقب ذلك .. بشغف.
صوت صرير الباب كان واضحًا وهو يخرج، ليعقبه توديعه السمج:
-وداعًا زوجتي العزيزة.
ما إن أغلق الباب حتى هدرت لاعنة في حرقةٍ، ونوبة بكاءٍ جديدة قد لاحت في الأفق:
-ليتك تحترق حيًا.
………………………………………………………….

 

 

كثرتُ الشواغل من حولي بمجرد أن تم إعلان الطوارئ والاستعداد لحفل زفافي خلال فترة وجيزة، انقضى ما يزيد عن ثلاثة أسابيع منذ آخر محادثة حامية دارت بيني وبين “فيجو”، من وقتها لم أره إلا في مراتٍ عابرة، كان يتجنب اللقاء معي، أو الأحرى أني كنتُ حريصة على عدم الظهور في محيطه قدر المستطاع، اكتفيت بالبقاء في هذا الجانب من القصر الضخم، حيث الجزء المخصص للضيوف والزائرين لساعات طويلة.
كنت أشعر بالراحة لغيابه، وألتاع من الخوف لمجرد تخيل كيف سأكون معه منفردة. لم أستطع دفع فزعي عني كلما تذكرت أني على وشك التجرد من حيائي لإرضائه، هكذا كانت تخبرني “صوفيا” طوال الأيام السابقة، كأنها تعطيني وصاياها الهامة، حيث يجب أن أصبح أكثر من مجرد زوجة عادية، يُحتم علي أن أكون كعشيقة متمرسة في الفراش لأكسبه، وهذا ما أصابني بالنفور والاشمئزاز، فكيف أمنح جسدي بلا حب أو انجذاب لآخر ينهل منه دون ودٍ؟ ناهيك عن تأثير الذكريات السيئة التي عشتها سابقًا، كانت تُفسد علي أي تخيلاتٍ حالمة.
الغريب أن والدتي عادت لحماسها، وراحت تعمل بكامل طاقاتها لتتأكد من إكمال النواقص، لازمتها السعادة، واقترنت بها، وكأن الحزن قد أنهى مآربه معها فهجرها، وحط بي وبشقيقتي التعيسة، لأجد الأخيرة قد واظبت على تجهمها بشكلٍ ملحوظ، رافضة إظهار فرحة زائفة لتزويجي. تنهدتُ بعمقٍ، وخرجتُ إلى الشرفة لأجلس معها، فكانت كعادتها صامتة، نظراتها نحوي تحمل اللوم والضيق، أبعدتها عني، لتنظر في الأفق، توقعت أن تثرثر معي؛ لكنها احتفظت بصمتها السخيف، لهذت سألتها لأبدد الصمت بيننا:
-هل وجدتي ثوبًا يناسبك؟
زفرت قبل أن تجاوبني:
-“صوفيا” تكفلت بالأمر.
ضغطت على شفتي، وتأملتها قائلة ببسمة صافية:
-الوردي يليق بكِ.
فاجأني تعليقها الغائم:
-كنتُ أفضل الأسود، فهذه ليست بزيجة، وإنما حكمًا بالمـــوت.
هي أعطت الوصف الملائم لحالتي هذه، أنا مقبلة على الموت المحتوم لا على السعادة الأبدية، ومع ذلك كان لزامًا أن أدعي البهجة والسرور، وأخفي الوقائع المريرة، اجتهدتُ لأبقي ابتسامتي لطيفة رقيقة عندما تكلمت إليها:
-“آن”، أنتِ ما زالتِ صغيرة، قد لا تستوعبين ما يدور، فهناك بعض الأمور المعقدة.
قامت واقفة، ونظرت بعينين حادتين إلى الخضرة الممتدة أمامنا قبل أن ترد:
-كل ما أفهمه أن بقائك هنا يعني موتك، لقد اتفقنا منذ الصغر ألا نتزوج من قـــتلة، وها أنتِ تلقين بنفسك في أحضان زعيمهم.
نهضتُ بدوري لأبرر قبولي:
-الظروف أقوى من أمنياتنا.
اكفهرت تعبيراتها بشكلٍ مريب للغاية، وقالت بعد ثوانٍ في زفيرٍ حانق:
-انظري لهذا الوغد، لا يكف عن مضايقتي، وأنا سأصبح قـــاتلة بسببه.
فتشتُ بعيني سريعًا عمن تقصد، فرأيت المقيت المزعج الذي تعنيه، نطق لساني مع استشاطة نظراتي:
-“لوكاس”!
غمغمت ببرطمة غير مفهومة، فسألتها في توجسٍ متزايد، وقد دارت برأسي الهواجس:
-ما الذي يفعله لك؟
تجاهلت منحي الرد، وحدجته بنظراتٍ نارية، كأنما تتوعده، فتضاعف هلعي، وضعت كلتا قبضتي على ذراعيها أسالها في شحوبٍ يشوبه الغضب:
-أخبريني؟
نفضتهما عنها، وهتفت في وجومٍ:
-أريد الرحيل.
استوقفتها قبل أن تغادر بالإمساك بذراعها، وتحركت لأقف قبالتها متسائلة بقلبٍ يدق في تخوفٍ عظيم:
-“آن”، هل تعرض لكِ؟ من فضلك أجيبي!
لمحت الدموع تترقرق في حدقتيها عندما أجابتني:
-وهل ستقدرين على صده إن اشتكيتُ إليكِ؟
طار صوابي في لحظة، وقتئذ توقعت كل ما هو سيء، أظلم قلبي، قبل روحي، ربما استغل “لوكاس” الفرصة وتوقف عن إيذائي، لينقل شروره وبغضه لشقيقتي، فأقحمها في ثأره المزعوم، لهذا اختفى هو الآخر عن المشهد. هرولت مغادرة الشرفة وغضبي يسبقني، ظللت أردد في وعيدٍ حاقد:
-لن أدعه من يدي، سيرى.
لم تلحق بي “آن”، وبقيت متجمدة في مكانها، في حين نادت علي “صوفيا” في دهشةٍ عندما مررت من جوارها بسرعة:
-“ريــانا”! أين ستذهبين؟ نحتاج لأخذ قياسك.
تجاهلتها واتجهت صوب الباب؛ لكني عدتُ أدراجي لأقف بجوار مصممة الثوب، كانت الأخيرة ترمقني بغرابةٍ وتحير، ظلت تتكلم وأنا لا أسمع حرفًا واحدًا مما تتفوه به، تركتها لحيرتها، وانحنيتُ لألتقط أداة عملها، سمعتها تقول:
-هل تحتاجين إليه؟
لم أجبها، فبريق المقص المغري نجح في أغوائي بشكلٍ كبير، تخيلتُ نفسي وأنا أغرز مقدمته الحادة في صدر “لوكاس”، أحكمت قبضتي عليه، واندفعت بعنفواني إلى الخـــارج، صوت والدتي لاحقني في تساؤل مندهش:
-لماذا تأخذين المقص معك؟
أجبتُ بلا صوتٍ، وكلي عزم على أن أطيح به، حتى لو أتبع ذلك هلاكي، المهم ألا يُمس أحبائي بسوء:
-سألقنه درسًا قاسيًا!
……………………………………………………………

 

 

سموم الحيات يمكن التخلص منها؛ لكن ماذا عن سموم النفس؟ هل لها ترياق؟ ابتلعني غضبي الأعمى، وراح يوجهني نحو الانتقام الأهوج، لم أجد صعوبة في الوصول إلى مكان الحقيــر “لوكاس”، كان في الحديقة الرئيسية، حوله عدد من الرجــال، يوليني ظهره، وصوته الآمر يصيح بهم:
-أرسلوا لهم حاصدوا الأرواح، انتهت مهلة سداد الرهانات.
لمحني أحد الرجــال المحيطين به، فسدد لي نظرة قوية مستنكرة، هدرت به في حدةٍ منفعلة:
-أفسح عن طريقي.
التف الجميع ناظرًا إلي بدهشة واستغراب، وعلى رأسهم “لوكاس”، حيث حول حضوري إلى مسرحية هزلية بمزاحه اللزج:
-الكنة المستقبلية نزلت من برجها العالي لتحنو على عامة الشعب.
أشهرت المقص عاليًا ليراه، وأخبرته بشراسةٍ متفشية في كل أوصــالي:
-نعم، جئتُ لأقتلك.
أتبعتُ تهديدي بطعنة قوية كادت تلمس كتفه؛ لكنه تفاداها باحترافية، ونجا منها بإرجــاع جسده للخلف في مرونةٍ، ضحك في استثارةٍ وعلق:
-كان ذلك وشيكًا.
تحفز الرجـــال من حوله، وبدا أحدهم على استعدادًا للانقضاضِ علي؛ لكنه حذرهم بإشارة من كفيه المفرودين في الهواء:
-لا أحد يتدخل، دعوني استمتع مع عزيزتنا المقاتلة.
امتثلوا دون نقاشٍ لأمرهم، وأفسحوا لي المجــال لأتحرك بحريةٍ، رأيتُ “لوكاس” وهو يفرك كفيه معًا قائلاً بتشجيعٍ:
-هيا، أريني مهاراتك؟
ادعى ركضه لينطلق في الحديقة الشاسعة، ليزيد من التحدي المثير، كان يتوقف تارة ويهرول تارة وهو يضحك في استمتاع مستفز، استشيطت أعصابي على الأخير، ونعته في غيظٍ ويدي تلوح بالمقص في الهواء:
-أيها الحقير، أتجرؤ على الاقتراب من شقيقتي.
كدت أن أصل إليه، فلت بأعجوبة من إصابة وشيكة في عضده، لف ذراعيه خلف مؤخرة رأسه، وأبدى إعجابه بمهارتي قائلاً:
-أوه، لقد تطورت قدراتك، أنا مبهور.
كررت المحاولة، وقلتُ بتصميم:
-سأقتلك.
من جديد لم أصبه، فعنفني في تأفف مصطنع:
-أتعبثين معي؟ كفي كلامًا وأحسني التصويب، لن أضيع يومي في الركض هربًا منك.
شتمته بصوتٍ زاعق:
-نــــذل!
قال ليستفزني أكثر:
-هل سأُقتل بالسَّب أم بالضحك على تسديداتك الخرقاء؟
توقفت في مكاني لألتقط أنفاسي اللاهثة، فعزوفي عن ممارسة الرياضة لفترة طويلة جعلني أنهك في وقت وجيز، تحرك “لوكاس” ببطءٍ تجاهي، جال ببصره علي مقلصًا المسافات، وسألني هازئًا:
-هل استسلمتي بتلك السرعة؟
انحنيت للأمام لاستند بكفي على ركبتي، فأنفاسي كانت ناهجة، لاهثة، تحتاج للضبط. وقف قبالتي، وأخفض من رأسه قليلاً ليتطلع إلى وجهي المحتقن بانفعالي من عند هذا القرب، ضحك في سخريةٍ، وعبث هاتفًا في وقاحةٍ فجة:
-أتوقع أن تفعلي المثل في الفراش.
لحظةٌ واحدة، كانت مثالية لي، جاءتني على طبقٍ من ذهب، حيث غفل فيها عن حذره، متوقعًا خوار قوتي، انتهزتها دون ترددٍ، أحكمت قبضتي على المقص بعد فتحه، لأوجه نصله الحاد نحو صدره، وشَجَجْتُه بكل عنفٍ وأنا أهدر في شراسةٍ:
-تبًا لك يا لعين ……………………………………………………. !!

يتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *