Uncategorized

رواية وصية والد الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم علي اليوسفي

 رواية وصية والد الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم علي اليوسفي

رواية وصية والد الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم علي اليوسفي

أولا أيها السادة ، أودّ توضيح بعض النقاط ، يبدو أنها غابت عن البعض، أو أنني من فشل في إيصال المقصود بصورة فضلى، لذا اعذروا تقصيري أرجوكم، وأدعوكم دائما إلى قراءة مابين السطور.
كان مجد على دراية تامة بمرضه، لكن تشوّهه النفسي وقطعه العلاج ، ساهما في تفاقم أزمته وعدم اعترافه به ، خاصة مع خضوع كل من حوله له، واستجابتهم لكافة أوامره ، مما جعله يصدق الأوهام التي رسمها في عقله.د، بمعنى اخر، كان يتعامل مع الجميع كأنه ملك وهم حاشيته.
سبق واشرت، شعوره بالذنب تجاه ريما، أيضأ لاعتقاده بأنها ضعيفة ذات ندبة عاطفية، أي أنها حزينة لفقدها والدتها ، إضافة إلى الحنان والحب الذي تلقاه منها ، هذا كله ساهم في تعزيز رغبته بتعويضها عن ألم كان هو السبب به ، و تعزيز صورة حياة مثالية بالنسبة لمجد ، وليس هناك حياة أفضل من التي كان يحياها هو نفسه ، زوج محب كما كان والده، وعائلة سعيدة ؟؟!
اليس هذا التعويض أفضل أمر بعد حزن امتدّ طويلاً؟؟
ببساطه كل ما كان يريده مجد هو استعادة عائلته الأصلية في صورة أدهم وريما ، وتعويض ريما وإسعادها ، خاصة وأنه لم يعلم بكافة ملابسات زواجهما ، أضف إلى هذا كله خوفه من بقائه وحيدا لو انفصلا، فاحتمال الطلاق او الخيانة أساسا ليس موجودا ضمن قائمة خياراته، وهو دائما يسعى لحمايتها ومساعدتها ، حتى لو اضطره ذلك للتدخل في حياتهما ، لذا رأينا مثلا عندما عادت ريما في إحدى المرات باكية ، حينها سأل مجد شقيقه أدهم عن السبب ، وعما إن كانا قد تشاجرا ، وألحّ بالسؤال لدرجة جعلت أدهم ينتفض صارخا في وجهه ، كذلك عندما رأى أدهم يخرج بعد منتصف الليل ، واعتلال ريما في اليوم التالي ، مما استدعى دخوله إليها وسؤالها مباشرة عن السبب، وهلمّ جرّ….
وأعتقد أنكم لاحظتم ذكاء مجد ودهائه، لكن ليس فيما يخص حياة أدهم وريما ، ببساطة لأنهما استمرا دائما بالظهور أمامه بصورة الزوجين المحبين ، وإذعانهما الدائم له وامتثالهما لأوامره ، فهما إذا يتحملان مسؤولية جزء من تفاقم علته.
وسامحوني مجدداً أرجوكم……..
…………………………
سؤال للمشاركة…..
أيمكن للإنسان أن يكون ملاكاً وشيطاناً في الوقت ذاته ؟؟.
…………………………..
على سبيل السؤال، انا بخير.
وعلى سبيل الصدق، قلبي معك.
……………………………
جلسا في المقهى التابع للمطار ، كان كلاهما منكسٌ رأسه ، وفي حنجرته آلاف الكلمات المتعاقبة ، لكنها مختنقة داخله ، لم يعرف مجد كيف سيفتتح الحديث ، ببساطة لم يعتد يوما على الإعتذار ، تنفس بعمق قبل أن يحاول الكلام، بذات الوقت حيث فتح أيمن فمه يريد أن يتحدث أيضا ، ابتسم مجد بخفة قائلا: تحدث أيمن.
حرك الآخر رأسه بنفي هامساً بخفوت: لا مجد، تحدث أنت أولا.
أعاد ظهره للخلف ليرفع رأسه ناحيته ، وفي مقلتيه ندم وحزن ، ازدردم ريقه متحدثا ببعض التردد: اسمع أيمن أنا. …
قطع حديثه وقد ضاعت الكلمات منه ، ظل ينظر إلى عينيه للحظات لينطق بتلقائية: أنا آسف أيمن ، صدقا أعتذر لكل ماتسببتُ به لكما.
لم يفهم أيمن مغزى كلماته بالضبط، إلا أنه فعل عندما تابع مجد بغصة: لقد عرفتُ كل شيء .
حرك رأسه بتفهم ، وهو تقريبا لا يعي مقصد الآخر الجالس أمامه ، فقط يريده أن يتابع ، حسنا لقد عرف الحقيقة ، إذا مالذي يريده الآن ؟؟
شبك مجد كفيه ببعضهما ليضعها على الطاولة ، أخفض ناظريه إليهما ليتابع مغيراً مجرى الحديث، بنبرة المُجبر على الكلام : لماذا فسختَ شراكتنا أيمن ؟؟ لمَ تريد ترك كل شيء خلفك الهرب حتى بعد معرفتك للحقيقة ؟؟ أرجوك أخبرني.؟؟
لم يستطع أن يقابل عينيه وهو يسأل أيمن ، لأنه ببساطة يخاف أن يكون هو السبب، رغم يقينه من الإجابة ، لكن يجب أن يسمعها بنفسه ، كنوع من تعريف النفس بذنبها ، أو تهذيبها بمعنى أصح.
كان أيمن صامتاً يستمع له دون أي ردة فعل ، ابتسم حالما سمع سؤاله ليجيب بكل صدق: لن أكذب عليك مجد، نعم قد عرفت الحقيقة ، وعلمت أنك لن تقبل بأن نجتمع أنا وريما أبدا ،لذا…..
قاطعه بسرعة ولهفة ، وقد رفع رأسه إليه : وكيف علمت أنني لن أوافق ؟؟
رفع كتفيه بلا مبالاة مجيبا ، وهو يحرك رأسه للجانبين ، وقد زيّنت محياه بسمة بسيطة: لأنها الحقيقة؛ أليس كذلك ؟؟
ظلّ يرمقه بتفحص ليسأل بحذر: ماذا لو أخبرتك أنني ، موافق؟؟
قهقه أيمن بسخرية لم يقصدها، أخفض ناظريه إلى قدح قهوته الساخنة ، كأنه لم يصدق ماتفوه به مجد ، طالعه الأخير بحزن، وبعض الألم أصاب فؤاده ، لقد فقد أيمن الثقة به، إذا الأمر سيّان بالنسبة إلى أدهم والبقية، يبدو أن صورته قد اهتزت أمامهم ، بشكل كبير.
لا …..
يكفي ….
لن أشوّه اسمي أكثر من هذا، لم أخسر أحبائي وعائلتي بسبب عنادي، سأقاوم نزعة( الأنا ) داخلي، لستُ أنا في بداية هرم الحياة، ما أنا سوى حجر في هذا الهرم ، حجر صغير ، الجميع ضحّى من أجلي ، حتى من لايعرفني ، وقد حان دوري…..
اكتسبت تعابيره جديّة غير معهودة وهو يحدثه ، بنبرة لا تقبل النقاش: أنا لا أمزح أيمن .
وقف من فوره تحت نظرات أيمن المصدومة، مضيفا بنبرة حاسمة ، حملت بعض السخرية في طياتها: إلا لو كنت جبانا ، ولا تريد المحاربة من أجل من تحب.
كانت نظراته متحديّة قوية، قابلها أيمن بأخرى مشككة مستريبة، ماذا لو كان فخاً؟؟
لكن لمَ قد ينصب له مجد واحدا ؟؟
لم يفهم حقا، راقب مجد وقد تحرك خطوتين قبل أن يعود ليقف أمامه مردفاً كمن يضغط على نفسه: أعلم أنك فقدت ثقتك بي، فقط أمهلني بعض الوقت….
خرج بعد إلقاء تلك القنبلة ، التي هزت كيان أيمن ، وجعلته يتبع خطوات مجد المتعجلة ، حتى غاب عن مدى بصره ، كأن مجد قد تركه بين نارين، ماذا لو أنه بقي للمشاركة في معركة خاسرة؟؟؟ ألم يخسر نفسه مرتين؟؟؟
………………………………….
استقلّ مجد أول سيارة أجرة صادفته، أملى السائق عنوان وجهته التالية، استند على زجاج النافذة متطلعا إلى المناظر خارجا بشرود ، كانت الأشجار والمباني ماتزال تغتسل بالطلّ النديّ ، ومثل تلك المشاهد حقاً تعيد الروح إلى الجسد بعد مغادرتها ، إلا أن مجد لم يرى تفاصيلها ، لدرجة أعتقد السائق أن زبونه مغتربٌ عائد إلى الوطن بعد سنوات عجاف ، وللحق كان هذا أقرب وصف لحال مجد الآن ، فهو ، ورغم معرفته بسقمه ،إلا أن هناك جزء منه يرفض الاعتراف ، وهو الآن يعيش حربا ضارية داخله ، بين جزئين منه، كان شعورا مؤلماً لا كلمات تصفه، كمعركة بين شيطان وملاك، بين السلم والأمن ، بين الخير والشرّ.
أغمض مقلتيه وكوّر قبضته بألم، ليس من السهولة بمكان أن تعيش عمرا كاملا ، ليأتي ذلك اليوم الذي يخبرونك به بأن ماتعيشه هو مجرد كذبة، يقنعوك بأنك أخطأت ، ويجب أن تصلح خطأك بيدك….
ابتلع ريقه وهو يفتح مآقيه من جديد، شارداً في تلك الليلة، عندما فتحوا عيناه من حلمٍ كان هو هائمٌ فيه منذ أزل…….
…….. ………………
خرجت ريما خلف أدهم ، بعد صفعة مجد ورحيل آماليا ، كان مجد يجلس على فراشه ، وقد وقفت نور بعيدة عنه بضع خطوات ، و بان على محياها القلق.
مازال جسده يرتجف، نظر إلى يده المرتعشة التي لطمت آماليا ، أيعقل أنه فعلها؟؟ كيف؟؟
لم يصدق نفسه بعد، رفع رأسه إلى نور المبتعدة، والتي جفلت بخفة حالما التقطتها مقلتاه، شعر بفزعها منه ، مما آلم قلبه بشدة ، همس بنبرة نادمة وقد بأن الأسى واضحا فيها: أنا آسف ، لم أقصد أن….
قطع حديثه مع دخول أدهم إلى الغرفة، تقاسيمه كانت قاسية، مرعبة، حزينة في ذات الوقت ، إنها مزيج مخيف، وقد بان ضغطه المتواصل على فكيه، كأنه يمسك نفسه عن شقيقه غصباً.
نظر إلى عمق عينيه فلم يجد سوى الاتهامات المتتالية، تأنيب ولوم وتحميل ذنب، لم يجد في مقلتي أدهم الأمان ، الذي كان يجده دون البحث عنه ، ولو يعلم أن ذاك أقسى على قلبه الهش من أي حديث أو فعل؟؟
كاد مجد أن يعتذر لفعلته، لكن الكلمات دُفنت في حلقه ، وهو يرى شقيقه يوليه ظهره، خارجا من الغرفة بأكملها ، حقاً؟؟
٧
لم يصرخ في وجهه ؟؟ لم يعنفه؟؟ ولم يحاول أن يعتدي عليه كما حاول منذ قليل؟
تعلقت عيناه بالباب الأبيض ، وأدهم يصفقه من خلفه بقوة، رمشت عيناه بجزع ، ثم رفعهما ناحية نور المتصنمة مكانها، والتي قرأت الحزن في مآقي خطيبها، فابتلعت ريقها المرتعب ، واقتربت منه خطوة واحدة هامسة بتأنيب طفيف: لقد أخطأت مجد، أخطأت في حقي ، وحق أدهم و حق آماليا أيضا.
نكس رأسه بخزي ، وهو يعلم أن الحق معها ، كيف له أن يفعل ما فعل؟ ؟؟ فعلا لقد تخطى حدوده هذه المرة، ويعلم أن النتائج لن تكون حميدة البتة…..
…………………..
لا يعلم كم بقي على هذه الحال ، حتى إصراره على ترك المشفى قد خمد ، لكنه بالتأكيد ممتنٌ لنور لبقائها بجانبه ، كانت هي جالسة على كرسي ما لكنه بعيد عن فراشه ، تفكر فيما آلت إليه الأمور ، ولا تعلم تشفق على من بالضبط، حتى قطع تأملاتهم تلك دخول ريما بعد ان طرقت على الباب ، ومن خلفها كان الطبيب النفسي ، نظرت ريما إلى مجد الواجم ، وقد استشعرت حزنه وندمه، فهتفت ليرفع رأسه ناحيتها، وابتسامتها المتعبة حاضرة: مجد ، أودّ أن أعرفك إلى الطبيب رياض، يريد أن يتحدث معك في أمر.
لم يبدِ أي اعتراض، بل لم يتحدث أساسا ، كانت نظرته خاوية من أي معنى للحياة ، جلس الطبيب على كرسي آخر قريب من الفراش، ثم حدث مجد ببساطة: أهلا مجد، كيف حالك ؟؟
لم ينتظر رده لعلمه بأنه لن يجيب ، فأدار رأسه إلى نور مضيفا بوجه بشوش: مؤكد انك نور .
رفعت رأسها إلى الطبيب واكتفت بإيماءةٍ بسيطة ، وابتسامة صغيرة، بادلها الطبيب بأخرى ، قبل أن يعيد نظره إلى مجد ، ثم أردف: اريد ان أتحدث معك مجد.
وقفت نور تريد أن تغادر ، إلا أن الطبيب نادى: يجب أن تسمعي حديثي أيضا نور.
تلقائيا وجهت نظرها ناحية مجد ، أومأ برأسه فعادت لتجلس على كرسيها، بينما غادرت ريما مغلقة الباب من خلفها، وفي نفسها بعض القلق من القادم…
بدأ الطبيب حديثه ، عاقداً كفيه ببعضهما: أرجوكما، اسمعاني إلى آخر حديثي دون أن تقاطعاني.
أشار كلاهما بالموافقة، فيما كان مجد غير مرتاح أبدا لحديثه، فاستمع لكلمات الطبيب بنبرة حذرة : يجب أن تعرف يامجد، أن أدهم وريما متزوجان على الورق فحسب.
جحظت عيناه تزامناً مع تسارع أنفاسه ، كاد أن يتحدث لكن الطبيب أردف ، وهو يعلم نية مجد المسبقة: أرجوك لا تقاطعني، نعم كما سمعت تماما ، علاقة شقيقك وزوجته المفترضة ، لم تتعدى يوما إطار الأخوّة والصداقة.
ضغط مجد على أسنانه حتى صرّت بتوسل، وصوت نفسه يتعالى باضطراد ، ولم تكن نور بأقل صدمة منه ، فيما تابع الطبيب حديثه، سرد على مسامعهما حقيقة مايربط آماليا وأدهم ، كذلك أخبرهما عن قصة ريما وأيمن ، دقائق معدودة نسف فيها الطبيب كل معتقدات مجد، بل الحق أنه ضرب حياة كاملة عاشها الأخير عرض الحائط.
ساد صمت مريب ، لم يعرف كلاهما بماذا يعبر عن صدمته ، لم يتخيلا يوما بأن القدر بهذه القسوة ، أيقتلع الحب من جذوره؟؟ يشرده طول الأرض وعرضها، ثم يعيده مشوّهاً إلى تربته؟؟
كنورسٍ غادر شاطئه ، ولمّا عاد أنكره ؟؟
. …………..
رفع مجد رأسه إلى الطبيب الذي أضاف ، بتقاسيم سمحة : والآن مجد وقد عرفت الحقيقة ، مالذي يجب فعله؟؟
لم يجبه مجد، وهو حتى لا يعلم الإجابة ، قرأ الطبيب الحيرة والتيه في مآقيه، فتابع: لقد حكمت عليهم الظروف ، وفرضت عليهم أمورا لم يريدوها يوما ، وانت لم ترحمهم.
بدت كلماته قاسية، لكنه أحسن قولها لمجد، الذي بدأ ضميره يؤنبه مذ عرف الحق، تطلعت نور صوبه فتلاقت العيون، شعر وكأن نظراتها تجلده على مافعل مع آماليا ، لقد أهانها، جرحها، لم يكتفِ بكل هذا حتى صفعها، وهي كل ذنبها أنها عاشقة …..هائمة في دروب حب اختلسته الأقدار ، ودحره مجد ثم دفنه !!
أما ريما !!
المسكينة !! لم يمنحها يوما سوى الألم ، استذكر الآن كم مرة احرجها وأدهم ، كم مرة تدخل في حياتهما، حيث لا يجب أن يتدخل أبدا…
قرأ الطبيب اتجافة عينيه اللاإرادية، صدره الذي يعلو وينخفض بتأثر، ريقه الذي ابتلعه لأكثر من مرة ، قبضتيه اللتان كوّرهما فوق فخذيه، وأخيراً ضغطه المتواصل على فكيه وشفتيه، أدرك من كل هذا أن مجد يشعر بالذنب، يشعر بأنه أخطأ ، وهذا في حدِّ ذاته خطوة أولى إيجابية في طريق العلاج.
أخفى ابتسامته التي تشكلت على وجهه ، ثم قال وهو حريص على انتقاء كلماته: أنا عادة لا أخبر مرضاي بشكل مباشر عمّا يعانونه ، لكنك يامجد تعلم مسبقا أنك عليل ، وتعلم طبيعة مرضك…..
منذ أن نطق اول حرف علم مجد إلى أين يودّ الطبيب ان يصل، فقاطعه بجمود: لا تحاول أيها الطبيب.
صُعِق من رفضه بذلك البرود ، فمجد يعرف أنه مُعتلّ ، لكن المصيبة في رفضه العلاج، حاول التحدث ببساطة علّه يستجيب: مجد أنت لستَ أنانياً ، لستَ سقيما بمرض لا علاج له، أنت فقط تحتاج لمن يأخذ بيدك …….
وقف من مكانه ، ليصدح صوته بنبرة عنيدة اخرست الآخر: لقد قلتُ لا ، انا لستُ مريضاً ، ولن يجبرني أحد على شيء لا أريده.
فطن الطبيب إلى أن مجد ، ورغم إقراره لعلته في قرارة نفسه، إلا أنه لن يعترف بتلك السهولة ، قابله بجسده مربتاً على كتفه، متابعا ببسمة لطيفة: لن يجبرك أحد بالتأكيد ، لكن فكر مجد ، لأجلك أنت أولا ، ولأجل كل من ضحى بعقدٍ كامل من عمره لأجلك ، لا تخذلهم بني.
ألقى ناحية نور نظرة عابرة قبل أن يغادر ، كأنه يحملها مسؤولية إقناع مجد بقبول العلاج ، أسقط الأخير جسده على فراشه ، تزامناً مع سماعه لإغلاق تلك الكتلة الخشبية ، والتي تفصله عمّن يريدون قلعه من حياته التي اعتادها ، بان التأثر على محياه حتى احمرّ جلده، كأنه يخنق عبرته داخله، ليس الأمر بتلك السهولة ، لمَ لا يفهمون ذلك ؟؟؟؟
……………………………..
كانت إيناس قد غطت أثاث منزل شقيقها كله بأغطية قماشية بيضاء ، وأكياساً لتمنع عنه العثّ والغبار، كما أنها وضبت ملابس الطفلة الصغيرة ، والتي كانت جالسة على سريرها ، تنكس رأسها بحزن ، غادر والدها دون أن يأخذها معه ، زمّت فمها كأنها على وشك البكاء ، كلما تذكرت وعد والدها، وهي تدرك ، مع صغر سنها، أنه لن يفي بوعده ذاك، حاله حال وعوده المتكررة والتي لم ينفذ أغلبها ، إن لم يكن كلها !!!
أغلقت إيناس الحقيبة لتنظر إلى تلك الملاك الصغيرة، شعرت بالآسى حيالها ، كيف لوالدها أن يحزنها؟؟
، أغتصبت بسمة صغيرة على محياها وهي تقترب منها، حتى جلست بجانبها ، مسدت على شعرها الناعم بحنان، ثم تحدثت بهمس: هيا عزيزتي، يجب أن نذهب.
تنهدت ريما بتعب وهي تتطلع إلى أركان غرفتها، حتى نظرت ناحية عمتها ، ثم اردفت برجاء طفولي : هل ستدعينني ازور ريما كما وعدتِ والدي؟؟
اتسعت ابتسامتها الحزينة مشيرةً لها بالإيجاب ، ثم احتضنتها لتقبلها أعلى رأسها ، نفرت عبرة يتيمة من عينيها عندما اشتمّت رائحة اخاها في عبق ابنته، وفي حقيبتها تلك الورقة التي دوّن أيمن عليها رقم هاتف ريما وعنوانها، وقد أخبر شقيقته أن تتفق معها على نمط معين لترى الصغيرة، حينها فقط عرفت إيناس كم تعني تلك المرأة لأيمن ، أيعشقها لدرجة أن يترك جزءا ً منه ؟؟ قطعة من روحه هنا لأجلها ؟؟
حقاً ياله من عشق نبيل وذو أصل كريم !!
عشق ضاعت ملامحه السامية في زمننا هذا !!!
أغلقت مقلتيها لتكتم انفعالاتها ، ثم أشارت لها مجددا بالذهاب، قبضت الطفلة على كف عمتها ، ثم سارت بجانبها بعد أن البستها معطفها ، بينما حملت الأخرى حقيبة الثياب، ابتسمت للصغيرة وهي تترك كفها لتفتح الباب ، اتسعت عيناها وسقطت الحقيبة من يدها، تزامناً مع صراخ ريما بسعادة حالما رأت أباها ، يقف أمام الباب ويبتسم ببشاشة ، استغرقها الوقت بضع ثوان لتتيقن من أنها لا تتخيل.
تقدمت إلى أيمن الذي كان يحتضن ابنته بقوة، كأنما غاب لأدهر ، رفع الطفلة بين يديه ويده تمتد لتحتضن أخته، لكن الأخرى في عينيها الف سؤال ، إلا أن الإجابة كمنت في مَسرّة ابتسامته ، وعبرات البهجة التي احتلت مقلتيه ، اغتبطت إيناس لعودة أيمن إليها ، لا تهتمّ للسبب، المهم أن موج الحياة لم يكسر همة تلك السفينة، حتى أرفأت إلى مينائها ………….
………………………………
كانت ريما ترتب أحد فساتينها بالقرب من الواجهة الزجاجية ، كوسيلة تتخذها لإلهاء نفسها ، لتخفف عن روحها العليلة بعض الأنين ، كادت تتحرك قبل أن تلفت نظرها صورة تلك السيدة ، دققت النظر إلى انعكاس صورتها على واجهة الزجاج ، تلك السيدة لا تعرفها، تشبهها نعم لكنها ليست هي…
تلك أنثى باهتة كزنبقةٍ ذابلة، لا لون لها ولا رائحة ، عبقها قد اغتالته الأيام ، تلمست وجنتها وتحت عينيها بأصابعها ، محياها في ضمور وجسدها إلى الهزال، عسليتاها فقدت رونقها ، كأنها جثة مجهولة لا يُعرف جانيها !!
تنهدت بأسى وقد التمعت عيناها بالدمع، أظن أن أفضل اسم يليق بها هو ( أم دمعة) ، فسحابتيها تمطر في كل فرصة سانحة ، دون حتى الرجوع إليها….
لقد اشتاقت لمجد، تقسم أن فراقه أشقى قلبها في شهر ، ماناله من الوَصَب والوجد طيلة سنوات ، اما أيمن فهي لم تره منذ تلك الليلة ، رغم توق فؤادها للصغيرة ، إلا أنها قاومت واحتملت، لا تريد للطفلة أن تتعلق بها، فتقع هي الأخرى في فخ التعلق كمجد، لاتريدها نسخة جديدة عنه……
مسحت عبراتها المنهمرة مع سماعها لصوت الأجراس عند باب المدخل، أجبرت ابتسامتها الواهنة على الظهور على شفتيها الشاحبة عندما رأت أدهم ، طالعها الأخير بشفقة ولم يخبرها بشأن أيمن وما فعله ، بادرها بالحديث بمزاح: أتيتُ لأدعوك إلى الغداء ، شرط ان تدفعي نصف الفاتورة..
رفعت حاجبيها وكتفت ساعديها متسائلة بنبرة تخفي خلفها عَناها : وعلى أي أساس ادفع النصف؟؟
أجابها ببساطة رافعا كتفيه الأعلى: على أساس المساواة بين المرأة والرجل…
صدحت ضحكتها المزيفة، والتي يعلم أدهم أنها تداري خلفها شقاء لا يتحمله قلب ، هي الصدر الحنون الذي يلجأ إليه الجميع في أضعف لحظاتهم ،لكن ريما ميتة في قناع حيّ ، وهذا أقرب وصفٍ لها……
……………………………..
يوم رتيب آخر قد مرّ عليها، حاله حال الأيام الماضية، والقادمة على الأغلب.
خرجت آماليا من عيادتها بعد يوم شاق قضته مابين المشفى والعيادة، حتى إجازاتها استبعدتها من جدول حياتها ، كأنها تنهك نفسها عن قصد حتى لا تفكر به، لكن عقلها الأحمق يذكرها به على شكل أحلام تعيشها كل ليلة، أحلام تعلم يقينا أنها ستبقى طيّ النسيان…
حسنا لا يجب أن تجزع، لم يتبقَ الكثير، فقط بضعة أشهر أخرى وستهاجر ، سترحل ذهابا دون نية في الإياب ، نعم تعلم كم قلباً ستُحزن وتكسر ، لكنها كلها ليست أغلى عليها من فؤادها الدامي ، ذلك المسكين كم تحمل من الصبابة والوله؟؟؟؟
فليعنه الله على ما ابتلاه !!
أليس الحب داء وابتلاء ؟؟!
كانت تمشي بشرود ، واضعة كلتا يديها في جيبي معطفها ، متأملة منظر الشوارع حولها بعد وصلة معزوفة مطرية قصيرة .
أفاقت من شرودها على صوت مألوف لها ينادي باسمها، خفق قلبها بعنف وهي تلتفت للخلف بحركة عصبية ، جحظت عيناها وهي ترى مجد يقف خلفها، سانداً على معصمه مظلته ، وعلى مايبدو فقد خرج من المصحة؟؟
كانت قد سمعت بعض الأقاويل في المشفى عن نقل مجد إلى مصحة نفسية يعمل بها أحد الأطباء الذين تعرفهم ، لكن هل يعقل أنهم اخرجوه ؟؟
حقا آماليا ؟؟
أهذا مايشغلك حقاً ،؟؟
فكري أيتها الحمقاء ، لماذا يقف مجد خلفك الآن ؟؟ مالذي يريده منك بعد؟؟
الم يكتفِ بكل الاتهامات والاهانات التي تلقتها منه ؟؟
بلعت ريقها بتوتر وهي تراه يتقدم بخطواته بذبذبة واضحة ، كأنه يمشي على حبل معلق في الهواء بين جبلين ، محياه جامد الملامح ولا يستشف ما خلفه.
قبل أن يصل ناحيتها تمالكت نفسها، ثم تحدثت بنبرة مترفعة شابها بعض التهكم: مالذي تريده مني مجد ؟؟ ألم تكتفِ بكل مافعلته من قبل ؟؟
كان قد أصبح يقف أمامها ، وقد تضرجت وجنتيها بحمرة الغضب، وعيناها كانتا تقدحان شرراً ، أجابها مجد فورا: لقد عرفت كل شيء آماليا.
لم تهتم فعلا بمقصده من تلك الجملة ، ابتسمت بسخرية وهي تكتف ساعديها أمامها قائلة بلا مبالاة : حسنا، إذا بماذا أستطيع أن أخدمك ؟؟
طالعها بنظرات معتذرة، لم تقرأها لفرط غضبها ، أخفض رأسه لثانية قبل أن يرفعه ليقابل بحريها الغاضبين، ثم همس بحشرجة: أنا آسف آماليا.
اتسعت ابتسامتها الساخرة وهي تحل عقدة ساعديها، التفتت بجسدها للجانب ساخرة من اعتذاره ، إلا أن هذا لم يمنعه من مواصلة حديثه، بنبرة حازمة: أريد أن أصلح خطأي آماليا ، فهلّا ساعدتني؟؟
التفتت إليه من جديد بعنف ، زوت ما بين حاجبيها وضيقت عينيها ، نبرته ثابتة إذا هو واثق مما يريد ، لكن أكثر ما شغلها كانت جملته ، عن أي خطأ يتحدث؟؟؟٥
يتبع..
لقراءة الفصل الثاني والثلاثون : اضغط هنا
لقراءة باقي فصول الرواية : اضغط هنا
نرشح لك أيضاً رواية أنتِ لي للكاتبة سمية عامر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *