روايات

رواية سيد القصر الجنوبي الفصل الثاني 2 بقلم رحاب ابراهيم حسن

رواية سيد القصر الجنوبي الفصل الثاني 2 بقلم رحاب ابراهيم حسن

رواية سيد القصر الجنوبي البارت الثاني

رواية سيد القصر الجنوبي الجزء الثاني

رواية سيد القصر الجنوبي الحلقة الثانية

اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ربي، وأنا عبدك لمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله بيديك، والشر ليس إليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك.
صلِ على النبي 3مرات
لا حول ولا قوة إلا بالله 3مرات
بعدما مدّ الليل ستاره واصبحت السماء صفحةّ مظلمة مرصعة بالنجوم المحفورة بترتيب إلاهي عظيم، انتشر عبق غامض لتلك الليلة الليلاء، صمت يقول أن هناك شيء على بُعد خطوات سيحدث ويغير كل شيء!.
هكذا شعرت “سمر” وهي تختبأ في غرفة أخرى، بعيدة حتى عن تلك الغرفة الملاصقة لشرفته، وتدثرت بأغطية خفيفة على فراش وثير، وكأن عينيه تلاحقنها وتخترق المسافات والجدران، وابتسمت وكان في ابتسامتها شعورًا يحمل مختلف الخواطر وشوارد الذهن والفكر.
السعادة والحزن، الترقب والتغافل، الحنين ورغبة التجاهل، وأخيرًا العودة والرحيل.
كان يأرجحها ظهوره القوي بمختلف المشاعر، ولكن شعورًا واحد طفا عن ذويه، مد ذراعه عاليًا ليتحدث أولًا داخل نفسها الحائرة المنكسرة، فرض قوته بداخلها رغمًا عن تهربها منه وصم آذانها عنه، وهو الدفء والسكينة…!
نعم .. تلك الإبتسامة على ثغرها الآن وهي تختبأ كالطفلة المذنبة أسفل الأغطية تُعني أنها آمنة مستقرة النبض.
والغريب أنها قطعت شوطا طويل وأياما وليال وأزمات موجعة حتى وصلت لذلك المرادف.
ووصلت بعد رحلةً طويلة للوجهة الصحيحة، ولكن مع مشقة الطريق خدش قلبها بقسوة واصبح قلب يخاف من الحب!، ومن التجديف مجددًا ومواجهة الغرق.

 

 

وهنا تذكرت الطبيبة النفسية” مروة” الذي عرفها عليها دكتور ” وجيه” عندما لاحظ حالتها النفسية بعد طلاقها وتصميمها عن تقديم استقالتها بالمشفى.
وقررت الاتصال بها، فالأخيرة قد أوصتها بالإتصال بأي وقت ترغبه، فنهضت “سمر” للبحث عن هاتفها حتى وجدته، ثم أجرت الإتصال بلا تردد … لتجيب مروة بعد دقائق:
_ كنت منتظرة اتصالك يا سمر، أخبارك إيه ..؟
تنفست سمر بعمق، وكأنها ترتب الكلمات أولًا قبل النطق بها، فشعرت مروة بخبرتها أن هناك حديث طويل سيبدأ الآن، وحالة جديدة ستدخل ضمن قائمة لا بأس بها من مرضاها النفسيين، وأن كان الأدق أنهم ليسوا مرضى، بل ضحاياهم ..!، وضحايا الظروف والأوضاع الحياتية المؤلمة.
فقالت سمر بارتباك شديد:
_ أنا بخير، كنت عايزة اتكلم معاكي شوية.
ابتسمت مروة بلطف وقالت عبر الهاتف:
_ سمعاكي، ومش هقاطعك كتير…كأنك بتكلمي نفسك أو بتكتبي مذكراتك …!
بدأت سمر الحديث بصدق وقالت:
_ أنا حكيتلك في آخر مرة عن اللي حصل، وأزاي اتجوزت واتطلقت بعد شهر، لكن اللي أنا فيه دلوقتي أغرب حاجة كنت ممكن أصدقها في يوم من الأيام..!!
سألت مروة بفضول:
_ إيه اللي حصل ..؟!
اطلقت سمر تنهيدة عميقة ثم قالت :
_ اكتشفت النهاردة أن دكتور أمجد اشتغل في نفس المستشفى اللي بشتغل فيها دلوقتي، لكن الصدمة أنه كمان بقا جاري في السكن !! … أزاي وأمتى مش عارفة!، تفتكري تكون صدفة ؟!
قالت مروة عبر الهاتف وهي تبتسم بمكر:
_ أنتي حابة تكون مجرد صدفة ولا مقصودة ؟.

 

 

انتظرت سمر لحظات وشعرت بصعوبة الإجابة، ولكن فضلت أن ترد بصدق فقالت:
_ هضايق جدًا لو صدفة، وعلى قد فرحتي أنه يبقى قاصد على قد خوفي من نفسي وعليه..!، أمجد شاف كتير مني ومش حابة اجرحه أكتر من كده.
تحدثت مروة قائلة:
_ طالما جاوبتيني بصراحة يبقى أنتي قوية وهتعرفي تعدي الأزمة دي يا سمر، بس أنا شايفة أنك بدأتي تحبيه أو على الأقل اتعلقتي بيه، ومش هنسى أنك قولتيلي في آخر مرة اتقابلنا فيها أنك رفضتيه لما اتقدملك بعد ما عرف بطلاقك، عشان كنتي خايفة عليه من سوء حالتك النفسية وقتها.
طفرت دمعة بعين سمر وقالت:
_ دي حقيقة، كنت مشتتة ومكسورة ولا زلت، حسيت أنه يستحق انسانة احسن مني، انسانة تبقى فاهمة نفسها وعارفة هي عايزة إيه، مش واحدة تايهة ولا قادرة تفهم نفسها ولا تفهم اللي حواليها…!
اوضحت مروة بخبرتها:
_ أنسي اللي فات، المهم دلوقتي تبقي عارفة أنتي عايزة إيه ومحتاجة لإيه.
قالت سمر بحيرة :
_ أمجد مصمم يبقى في حياتي، وأنا خايفة أن مشاعري دي تكون وهمية، عشان أنسى بيها اللي حصلي، أمجد مايستحقش مني كده…!
فسرت مروة رأيها بالأمر وقالت:
_ نقطة انك خايفة عليه ده شيء إيجابي، والحيرة اللي أنتي فيها طبيعية بعد تجربتك، والحل الوحيد أنك تدي لنفسك الوقت والفرصة، ما تتسرعيش وتندفعي ورا مشاعرك لحد ما تتأكدي … لكن اللي هقدر أقولهولك أنك يوم ما تتأكدي أنه فعلًا بيحبك بجد وافقي يا سمر .. اللي بيتمسكوا بينا مع كل الظروف مش كتير.
قالت سمر بإعتذار:

 

 

_ أنا عارفة اني اتصلت في وقت ممكن تكوني مشغولة فيه، لكن كنت محتاجة اتكلم جدًا، أسفة أوي.
ضحكت مروة لتخفف عنها الحرج وقالت بمرح:
_ لا أنا عندي موهبة الاستماع، يمكن ده اللي خلاني اخترت مجال الطب النفسي اصلًا، اتصلي بيا في أي وقت ومن غير تردد.
شكرتها سمر وهي تحمل الكثير من الأمتنان والشكر، فـ بكلماتٍ بسيطة استطاعت وضع قدمها على الطريق الصائب، وبعدما أنتهى الإتصال قررت أن تعود للشرفة، وتتظاهر أنها تأخذ كوب قهوتها التي تركتها منذ دقائق .. ولكنها تريد رؤيته بالحقيقة…!
وهمّت بتنفيذ ما رغبت، وشعرت ببعض الحيرة بين أنها تخالف تحذير الطبيبة النفسية وتنجرف بالفعل خلف طيار مشاعرها .. أم أنها تريد التأكد من صدق مشاعره نحوها والعكس !!
ورغم بعض البرودة بالشرفة إلا أنه ظل بها واقفا يرتشف ببطء شديد كوب قهوتها وهو ينظر للسماء بابتسامة، حتى قالت هي :
_ لو خلصت القهوة، ممكن الفنجان بتاعي ؟!
اتسعت ابتسامة “أمجد” وهو يستدير ويلتفت لها ببطء متعمد ، ثم قال باستفزاز بعدما ارتشف رشفة من فنجان القهوة:
_ لسه شوية .. قهوتك تجنن، تسلم إيدك.
كافحت لتخفي ارتباكها وقالت :
_ شكرًا …
وابتلعت ريقها بتوتر قبل أن تسأله مباشرةً :
_ أنت سكنت في الشقة دي من أمتى ؟!
أجاب ببساطة:
_ من شهر تقريبًا.
شهقت سمر بذهول، ثم قالت :
_ من شهر أزاي ؟! .. أنا هنا من حوالي شهرين وماشوفتكش !..
نظر لها أمجد بعمق وأجاب بمرارة وقد ضاعت ابتسامته:
_ إيه الغريب يا سمر؟! … ما أحنا اشتغلنا في نفس المستشفى لسنين وعمرك ماشوفتيني !! … ده العادي بالنسبالك..!
ابتلعت سمر مرارة إجابته ونظرت بحزن وندم شديد لجهة أخرى بعيدة عن عينيه، وسألت نفسها لماذا نكتشف حقيقة الاشياء متأخرًا ! … حتى لاحظت أنه حمل كتاب كان على المنضدة الخشبية بشرفته ومد به يده لتأخذه، ولكن اللافت في الأمر هو عنوان الكتاب، فسألته وهي تأخذه وتردد الاسم:

 

 

_ “كيف تعرف نفسك” ..
ابتلعت غصة عالقة بحلقها وشعرت وكأن أفكارها اصبحت عارية تمامًا أمامه، هي حقا كادت أن تدمر حياتها لأنها كانت لا تعرف نفسها جيدًا، فسألته وكأنها لا تفهم المغزى :
_ هو في حد ما يعرفش نفسه ؟! … أحنا مش أطفال!.
ابتسم ابتسامة باهتة كأنه يعاتبها وقال:
_الأطفال اكتر فئة فاهمة هي عايزة إيه، عمرك شوفتي طفل بياكل أكلة مش بيحبها أو بيروح للعبة مش عايزها؟! شوفتي طفل بيضحك مع حد مش بيحبه ولا بيروح لحد ما بيحبهوش؟!
في كتير أوي والمفروض ناضجين مايعرفوش نفسهم، عشان كده بيقرروا غلط ويدمروا حياتهم بإيديهم، مش فاهمين الفرق بين احتياج الشعور واحتياج الأشخاص، بين الحب وظله.
رمقته سمر بحيرة، كأنها تكتشفه من جديد وسألته باهتمام :
_ تقصد إيه باحتياج الشعور واحتياج الأشخاص؟! ..
ابعد أمجد عينيه عنها ناظرًا للفراغ وقال وهو يضع يديه بجيوب بنطاله الرياضي الأسود في ثبات:
_ شعور الحب مثلًا، لما بنحتاجه ممكن نحب أي حد في طريقنا، لأننا محتاجين نحس بالحب، أو نحس أننا بنتحب، لكن احتياج الأشخاص حاجة تانية خالص، بيكون فيه الانسان محتاج لشخص معين في حياته، شخص واحد فقط مالوش بديل ومحدش هيعرف يملا مكانه.
تفتكري أي شعور فيهم الأصدق والأبقى ؟!
فهمت ما يقصده، وفهمت أنه لخص حياتهما في أسطر قليلة، هي حقا كانت تحتاج للشعور بالأمان الذي فقدته منذ وفاة والدها، واختارت زوجا عمره أقرب لعمر أبيها الراحل، وأنتهى الاختيار بمأساة.
فقالت هاربة من الحديث وهي تدفن الدموع التي تدفقت لعينيها:
_ هقرأ الكتاب، اكيد هستفاد منه.
قال أمجد بحدة ظهرت بصوته:
_ أتمنى تستفيدي منه، وتفهمي اللي بين السطور، واللي متقالش بشكل مباشر، وتشوفي الأمور بشكلها الحقيقي.
رفعت عيناها لعيناه الصارخة وقالت شيء لم تعرف لماذا قالته وكيف رتبته بتلك الثوان:
_ الحقيقة بتفرض نفسها قدامنا، حتى لو مش شيفاها لبعض الوقت، لكن في النهاية بشوفها كاملة، وبشكل مختلف، واحساس جديد بيها، احساس بيقولي أنه مجاش فجأة ولا صدفة، مش كده ؟
وكأنها تسأله عن سر وجوده هنا، فتدرجت الابتسامة على ثغره بأمل جديد وقال :
_ الحقيقة ماتعرفش الصدف يا سمر، كل حاجة فيها مقصودة .. كل حاجة فيها في كل لمحة بتعترف بمليون حاجة.
_محتاجة وقت كفاية .. للقراءة

 

 

قالت ذلك وعينيها تقول الكثير، وفهم هدف الكلمة وأجاب على خوفها وحيرتها:
_ مش هكدب وأقول أني مش ملهوف أعرف رأيك، بس هستناكي للآخر، خدي وقتك … في القراءة.
استخدم كلمتها الأخيرة لمراوغة الحديث، واغتاظت منه لذلك، فابتسم بثقة وقال وهو يعطيها فنجان قهوتها :
_ شكرًا جدًا على القهوة، وعازم نفسي على فنجان تاني بكرة في نفس الميعاد ده … تصبحي على خير.
وأختفى من أمامها وتركها فجأة، وشعرت ببرودة مخيفة ووحدة غريبة!، ورغبة قوية أن يأت مجددًا ويتابع الحديث، في أي شيء ، المهم أن يأتي إليها، وضمت سمر الكتاب لقرب قلبها، وابتسامة رافقتها وصحبتها حتى دخلت وتدثرت في فراشها الدافئ، وتنظر للكتاب بصمت وشرود ..
قرائته ليست لب الموضوع ، الأيام الآتية ستسرد الكثير من تلك القصة.
**********
وقف “فادي” يشاهد الحرس الخاص بشقيقه “زايد” وهما يقيدان هيثم ويدفعانه بداخل أحدى السيارات الخاصة بالعائلة، والآخر يحاول الخلاص منهما ولكنهما استطاعا بسهولة أن يفعلا ما أمرهما به فادي منذ دقائق ولت.
واقترب فادي إليهما بعد اتمام المهمة بنجاح وقال :
_ أرجعوا أنتم للحفلة .. وخلوا بالكم من أي حد يحاول يعمل مشكلة.
ثم توجه لهيثم المقيد داخل السيارة وقال بعدما غادرا الحارسان:
_ مش هسمحلك تعمل أي مشكلة النهاردة يا هيثم، مكنتش حابب أن ده يحصل، بس أنت اللي اضطرتني لكده.
وهنا صرخ هيثم بشقيقه في كراهية وغضب:
_ بقا أنت يا فادي اللي ورا اللي بيحصل ده ؟! .. مكنتش متخيل أنك تبيع أخوك عشان واحد مجنون ومجرم ! ..
نظر له فادي بعصبية وهو يستند على السيارة وينظر له من خلال النافذة الزجاجية:
_ زايد لا مجنون ولا مجرم وأنا متأكد، وبعدين زي ما أنت أخويا هو كمان أخويا !! …
صرخ هيثم بعنف في وجهه وهو يحاول فك يديه من القيد:
_ كنت بعتبرك عيل صغير وبكرة تكبر وتعقل وتفهم اللي حواليك ، لكن طالما خدت صفه يبقى تنسى أني أخوك، أنت من النهاردة زيك زيه، وماتلومنيش على أي حاجة هعملها، وماتفتكرش أن حتى لو النهاردة عدى أني مش هنفذ اللي في دماغي !!
وضحك هيثم وظهر كم مخيف من الحقد والغل الدفين بداخله وهو يقول :
_ أنا اللي مش هسمحله أنه ينجح في حياته أكتر من كده وهدمرله كل اللي فات، وفرحة دي ليها حساب كبير أوي معايا، اكيد هي اللي قالتلك مش كده ؟!.
ونظر له فادي بذهول وصدمة، ثم قال:
_ أنت وصلت بيك الغيرة والحقد للدرجة دي ؟! … مش ذنبه أنه ذكي وناجح ووصل للي وصله بمجهوده وتعبه، وكبر الشركة لحد ما بقينا في اللي احنا فيه! … أنت بقا عملت إيه ؟!
صممت تشتغل معاه وفشلت ! ..معرفتش تغلبه فصممت تاني تاخد نصيبك وتسافر وتشتغل بيه برا ، وبرضه فشلت وفلست ! .. ورجعت عايز حقك اللي المفروض خدته اصلا ! … لكن شوفت نفسك صغير أوي قدامه بعد ما كبر أكتر وبقا من حيتان السوق ، عشان كده عايز تدمره وتنهيه عشان مايكشفش انك فاشل وحقود ..!
ورماه فادي بنظرات احتقار قائلا:

 

 

_ عرفت أني كبرت وفهمت اللي بيحصل وكاشفك ! .. زايد كان دايمًا بيحميني من أي غلط أو خطر أقع فيه، بس النهاردة هاخد دوره وهقف في ضهره لأي حد يفكر بس أنه يأذيه ..
قال هيثم بضحكة ساخرة وقال:
_ معنى كلامك أنك هتقف قدام نوران هانم والدتك ؟! …
ضيق فادي عينيه بدهشة حتى اكد هيثم بحقد:
_ هي عارفة وموافقة على كل اللي ناوي عليه، لو هتحاربني يبقى حاربها هي الأول .. أنت بقيت نسخة تانية من المجرم زايد ، ومايشرفنيش أنك تبقى أخويا ..
كان يعرف فادي أن والدته تكره ابن زوجها ” زايد” ولكنه صدم في أشتراكها في تدميره!، فقال مكذبا هيثم:
_ كداب ومش هصدقك، وهاخدك دلوقتي بالعربية لأبعد مكان عن هنا لحد الفرح ما يخلص، وبعدها …
قاطعه هيثم بغضب مخيف:
_ بعدها أنا اللي هتصرف، موقفك ضدي هتندم عليه يا فادي، مش هسامحك عليه أبدًا وهعرف أزاي انتقم منك ..
لم يكترث له فادي وجلس بمقعد القيادة، ثم ابتعد بذلك الشيطان المقيد بالسيارة بعيدًا عن الحفل، ولكنه ترك بصمته السوداء الآثمة في نفوس بريئة ..
*********
بأحد الغرف المُلحقة بالمبنى المجاور للقصر الجنوبي والذي بات مقرًا ومستقرًا لـ ستون طفلًا من أطفال الشوارع ..
أتى شاندو راكضا لاهثا من الخارج كأن شيطانا يلاحقه، فتطلع به شامي بقلق، فـ مجيء صديقه بتلك العاصفة تحذر بوقوع كارثة، حتى وقف شاندو وهو يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة ثم قال :
_ الراجل هرب يا شامي ..
ووقع المحذور وسنّت سيوف الخطر أنيابها على تلك القلوب البريئة، فشحب وجه شامي بقلق، ليس على نفسه أو حتى أقرانه من الصبية والأطفال، بل على الضيفة والفتيات بالقصر ! .. ماذا سيفعلون مع مجرم خطر وربما كان قاتلًا أيضا إذ هجم عليهم وحاول فعل شيء ؟! .. فقال شامي بتوتر:
_ يبقى احنا لازم نراقب بوابة القصر لحد الزعامة يرجع.
قال شاندو بتوجس:
_ نتصل بالزعامة يرجع ونقوله على اللي حصل ولا نعمل إيه ؟! … أحنا ممكن منقدرش على المجرم ده خصوصا لو معاه سلاح !..
هتف به شامي وقال بعصبية :
_ لو عرف أن حد غريب دخل القصر هتبقى مصيبة ومش هيصدقنا في أي حاجة بعد كده، أنا مش عايز أرجع للشارع تاني يا شاندو، وكمان الضيفة دي مايصحش يعني نسيبها في الطريق لوحدها ونطردها ! … احنا هنحميها لحد ما نتأكد أنه الطريق سالك ومافيهوش حد ..
وافقه شاندو وقال:
_ عندك حق، ست ماينفعش نسيبها في الطريق لوحدها، بس أفرض الزعامة وصل فجأة ولقاها هنعمل إيه ؟
أجاب شامي بعدما فكر قليلًا :
_ الواد عصفور قال أنه سمعه بيكلم عم مغاوري وبيقوله هيوصل بعد كام يوم، بس لو وصل فجأة هنخبيها ونكمل اللي اتفقنا عليه ..

 

 

تدخل الطفل عصفور وقال مقترحا وهو يقف أمامهما بقامته التي لا تتعدى الـ ٥٠ سم:
_ لو وصل فجأة نخبيها وبعدين نخليها الواد هريسة صاحبنا اللي اشتغل في الأكل، مش المفروض شاندو راحله عشان يجيبه ؟!
صاح شاندو بابتسامة اعجاب للاقتراح وقال:
_ جدع يا عصفور، أنا كنت قولتله أني هجيب الواد هريسة يقعد معانا هنا ويكون مسؤول عن الأكل عشان بيعرف يطبخ حلو، وهو وافق ، يعني لو حصل ووصل فجأة مش هيشك في وجود حد غريب .. هنقوله أنها الواد هريسة.
اقتنع شامي بذلك الاقتراح وقال :
_ خلاص اتفقنا، لكن الخطة دي هتتنفذ بس لو هو وصل فجأة وهي هنا، يمكن نقدر نوصلها لبيتها قبل ما يوصل.
رفع شاندو يديه للدعاء وقال برجاء:
_ يارب يوصل بدري وتفضل الكيكة دي معانا .
تحدث عصفور باهتمام :
_ اكيد بتعرف تعمل أكل حلو، بدل الاسمنت اللي بناكله بقالنا كام شهر ..
قال شامي بغيظ:
_ أحمد ربنا أننا بقينا في مكان مقفول علينا وفي أمان بدل الشارع والبلطجية اللي كنا في وسطيهم ! ..
صاح شاندو بعجالة :
_ يلا يا شامي هات العيال وبينا على البوابة ..
وبدأ الصبيان في تنفيذ خطتهما في جمع الأطفال ومراقبة البوابة الكبيرة الخارجية للقصر وما يحيطه …
************
وبقاعة الحفل الضخم للزفاف.
كانت فرحة يبدو عليها الشرود والقلق والخوف الشديد، وبدا البعض يلاحظوا ذلك على العروس المحظوظة بذلك الشاب الوسيم والثري وحديث بعض الصحف بالآونة الأخيرة، ولكنها كانت بعالم آخر من الترقب والحزن والخوف من كل لحظة آتية…
حتى أن أخيها “حسام” اقترب منها وتظاهر أنه يباركها ولكنه همس لها بتساؤل وقلق عن سبب شحوبها هذا، فقالت فرحة مبتسمة ابتسامة باهتة:
_ ما تقلقش عليا، أنا بس مخضوضة من كم المعزومين وعددهم الكبير ده، أنت عارف أني بتكسف جدًا ..
ابتسم حسام بمحبة صادقة وضمها لصدره بحنان ورفق هامسا:
_ أنا عارف انك بتتكسفي، بس ابدأي اتعودي على التجمعات بالعدد ده، جوزك معروف في شغله وليه معارف كتير.
ختم جملته بمرح وشيء من الفخر، وبادلته الابتسامة التي شعرت وكأنها تترجاها لترتسم على ثغرها، حتى أخذها زايد لحلبة الرقص ليرقصا تلك الرقصة البطيئة على أنغام هادئة شاعرية، وكانت تتحرش عينيه بتورد خديها والتماع عينيها ببريق آخاذ، ويهمس بكلماتٍ كانت تمزج رجفتها الخائفة برجفة حياء وخجل شديد، وبدا رقصتهما كأنها مشهدًا خيالي من رواية عاطفية، وبعدها ختم الحفل بمزامير كثيرة وأصوات الموسيقى الصاخبة، ويديه لم تترك يديها طيلة الحفل تقريبًا ..
كان يبدو بأبهى وأجمل وأفضل حالاته، حتى أنها ما لاحظت عرج قدمه الا لحظاتٍ قليلة أثناء الرقصة.
وبعد الإنتهاء أخذها زايد لمكان جعله مفاجأةً لها، سيقضيا فيه ثلاثة أيام فقط قبل السفر لمدة أسبوعان لشهر العسل، ولكن قبل أن يحرك السيارة صممت أن يأتي احدًا بالهاتف الذي تركته بغرفة الاستعداد، وتعجب زايد بعض الشيء وقال:
_ تليفون إيه اللي عايزاه دلوقتي ؟!
ثم ابتسم بمكر واقترب ليهمس لها بشيء فصاحت فرحة بتصميم وعصبية غير مبررة:
_ عايزة التليفون قبل ما أمشي ، دقيقتين بس وحسام هيجبوا ..
وضحك زايد ضحكة ماكرة، واعتقد أنها تفتعل ذلك الأمر لشدة خوفها من الدقائق التالية، فاقتربت يده لتلمس أناملها في رقة وتفاجأ ببرودة شديدة ببشرتها، ورجفة عنيفة إثر لمسته، فنظر لها بقلق حقيقي وسأل :
_ أنتي خايفة مني للدرجة دي ؟!

 

 

وهزت رأسها بالنفي كاذبةً، فكانت بالحقيقة تريد الصراخ والاعتراف بأنها تعيش الرعب ذاته وليس مجرد خوف !، ولكن الوقت لم يأن لمواجهته، وأتى شقيقها بالهاتف، والذي تعجب منه لأنه ليس هاتفها! … ولكن لا سبيل للسؤال والمناقشة الآن ..
وتحرك زايد بسيارته للمنزل البعيد الذي اشتراه خصيصا ليقضيا به بعض الوقت بالعطلات، منزل صغير ولكنه مؤثث بفخامة، اختار موقعه بعناية بعدما ظل يبحث كثيرًا …
وظلت فرحة تنظر للهاتف بيدها في شرود ومعركة ذاتية، وعندنا بدأ يتحدث وهو يقود السيارة تظاهرت بالنوم …
ولمحها زايد بابتسامة حنونة وبعض الغيظ ، ولكنه أخيرًا تابع السير بابتسامة مرحة ..
حتى توقف بعد ساعة ونصف أمام منزل صغير من طابقين، ليس حوله من المبان الكثير، بطريق هادئ وراقِ، يوحي بالسلام النفسي ..
وهنا لمس أناملها برقة شديدة وهو يناديها، حتى فتحت عينيها بعد وقتً طويل من التظاهر، ونظر لعمق عينيها قائلًا بهمس اربكها:
_ وصلنا يا فرحة .. يا أجمل فرحة استنيتها عمري كله.
التفتت مبتعدة عنه وهي تبتلع ريقها وتحاول فتح الباب، حتى أوقفها بنظرة جادة وعاد همسه قائلًا:
_ لا استني ..
وخرج من السيارة ثم توجه نحوها وفتح الباب، وسحبها بلطف حاملًا إياها على ذراعيه وأغلق الباب بأطراف قدمه حتى المنزل ، الذي بعدما فتح بابه حملها مجددًا للداخل واغلق الباب بقدمه أيضاً، وكانت تحاول الخلاص منه والهرب وهي تتمسك بالهاتف الذي وكأنه دليل إدانته!..
وعندما أنزلها على الارض وهو يبتسم بمكر لخجلها ورجفتها الواضحة كاد أن يقول شيء ويقترب لها، حتى اندفعت مبتعدة عنه كأنه نفرا من الجن !، وأستوقفه ذلك الرعب المُطل من عينيها وقال بعتاب:
_ أنتي بجد خايفة مني للدرجة دي ؟! … هو أنا هموتك ؟!
حملقت فيه برعب ومن نطقه لتلك الكلمة وهي تبتعد عنه ، حتى ردد اسمها وهو يجذبها بقوة إليه وهمس :
_ مكنتش مُتخيل أنك خوافة بالشكل ده ! ..
وأرفق جملته بابتسامة ماكرة عادت لشفتيه وقال:
_ بس أنا متفهم خوفك، وعارف أن..
ابعدته عنها بدفعه قوية جعلته في دهشة منها، ثم فتحت الهاتف على مقطع الفيديو الخاص به ووجهته صوب عينيه ، عينيه التي اتسعت بروع وفزع مما شاهده ، وصوت صراخه الذي ملأ أرجاء المكان بهذا الصمت وعاد بسنوات من العذاب والألم ومحاولات الأنت*حار.
وراقبته فرحة ويدها ترتجف خصيصا عتدما انتفخت عروقه وأسودت عينيه، وعاد ذلك المخيف الذي رأته بأول لقاء .. حتى خطف الهاتف منها ودفعه بالحائط وبدأ بالصراخ وهو يصم أذنيه بيديه في نوبة عنيفة من الأنهيار العصبي .. وبدأ يهشم ما تطوله يديه من الأثاث والزجاج وهو يبك ويصرخ .. واختبأت فرحة خلف أحد المقاعد الكبيرة برعب وهي تنتفض بفزع مما تراه، ووجهه المخيف الذي لم تره من قبل، وتأكيدها بأنه بالفعل مريض نفسي وقاتل .. حتى اندفع المقعد المختبأة خلفه يمينًا وظهرت هي أمامه بعينيه الحمراء من الدموع، ووجه الذي أصبح مخيفا لدرجة الرعب … وبدا أنه على خطوة واحدة ويقتلع رقبتها من جسدها …
فقالت وهي ترتجف وتتسحب للخلف مبتعدة عنه :
_ يبقى اللي اتقال عليك مش كدب ، أنت مريض نفسي وأنت اللي ق…

 

 

لم تتابع حديثها فقد عاد يصرخ من جديد ويصمّ أذنيه بيديه صارخا بعذابٍ مخيف، ويتمتم بكلمات لم تستطع جمعها ولا فهمها، حتى نظر لها نظرة نارية كأنه عزم على التخلص منها، وطالت يده قطعة زجاجة حادة الطرف، وظنت أنه سيقتلها، فصرخت برعب وهي تنظر له، وضغط على أسنانه وكاد يسحقهما من فرط الغضب الذي انتشر بخلاياه، وضغطت يده بقوة على قطعة الزجاج كأنه يعقاب نفسه على الحب الكبير الذي يكنّه لتلك المخلوقة ، وسقطت قطعة الزجاج لقطع صغيرة بعدما أصبحت قبضة يده غارقة بالدماء إثر جرح عظيم …
فهرعت اليه فرحة فزعة وقالت :
_ ايدك بتنزف جامد و…
دفعها بعيدًا عنه وعينيه مليئة بالانكسار والدموع، كأنه خسر أمه من جديد، ثم تمتم وقال بضعف وكأنه يحكم على نفسه بالإعدام:
_ أنتي ..
وفجأة سقط أمامها مغشيًا عليه، بوجه شاحب كالأموات.
______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية سيد القصر الجنوبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *