روايات

رواية أزهار بلا مأوى الفصل الثاني 2 بقلم نورا سعد

رواية أزهار بلا مأوى الفصل الثاني 2 بقلم نورا سعد

رواية أزهار بلا مأوى البارت الثاني

رواية أزهار بلا مأوى الجزء الثاني

رواية أزهار بلا مأوى الحلقة الثانية

ما يكمن بداخلهم”
ـ الولد فقد النطق لما عرف أنه لسه عايش!
ـ إيه! طفل حاول ينتـ ـ ـحر! وفقد النطق لما عِرف إنه لسه عايش!
هكذا هتفت “ليلى” متعجبة بِما وقع على مسامعها، كانت نظرات
“سلمى” لا تختلف عنها كثيرًا، كانت مديرة الدار مُتفهمه صدمتهم، ولكنها لم تمتلك وقتًا، نظرت لساعة يدها ثم عادت لهم من جديد وأردفت:
ـ ده اللي حصل، والمشكلة أن من يوم اللي حصل ده والولاد كلهم متوترين، كلهم بيسألوا إيه اللي حصل بشكل متكرر وبإلحاح شديد.
ـ هو الولد ده عنده قد إيه؟
كان هذا سؤال “ليلى” للسيدة، نظرت لها وأجابتها:
ـ 13 سنة.
أومأت لها ولم تعقب، لكن “سلمى” هي من سألتها قائلة:
ـ وقلتي إيه للولاد؟
هكذا سألت “سلمى” مُستفهمة، ولكن “سهام” نظرت للأسفل وقالت بآسف:
ـ قلنا لهم أن “مالك” أتعوّر غصب عنه ووديناه المستشفى، بس…
ـ بس إيه؟
ـ الولاد الكبيرة اللي في سن “مالك” وخصوصًا صحابه مصدقوش.
عقدت “ليلى” حاجبيها بتعجب وسألت:

 

ـ ومصدقوش ليه؟ وأصلًا ليه قولتوا أنه أتعوّر، ما كنتوا قولتوا أنه كَلّ حاجة بايظة مثلًا!
جلست “سهام” مرة أخرى على المقعد المقابل لهم وأردفت موضحة:
ـ مكنش ينفع، “ياسين” صديق “مالك” هو اللي بلغ العنبر كله باللي حصل “لمالك” أصلًا! هو اللي لِحقّ “مالك” ولولاه كان زمانه….
تنهدت بِثُقل وهي تطأطأ رأسها للأسفل، فزعت “ليلى” مما سمعته، هل عملية الأنتـ ـحار هذا حدثت أمام جميع الأطفال! أطفال في بداية حياتهم يكتشفون بمفردهم أنه يوجد أناس يريدون أن ينهوا حياتهم بتلك البساطة؟ ولكن مهلًا.. الكارثة الأكبر هو الضحيّة المسكينة، ذلك الطفل الذي كان يريد أن يقضي على حياته قبل أن تبدأ بعد! خرجت ” ليلى ” من مستنقع أفكارها السوداء على صوت ” سلمى” وهي تهتف قائلة بعملية:
ـ يبقى دلوقت أحنا لازم نقعد مع كل طفل ونفهم منه بطريقة غير مباشرة اللي بيدور في دماغه، عشان الموضوع ده ميتكررش تاني.
أيدّتها ” ليلى” ثم أضافت قائلة:
ـ ولازم نعملهم دورة جماعية عن حب الذات والنفس، وكمان لازم نفهمهم أن اللي حصل لصاحبهم ده كان شيء غلط، عشان محدش فيهم يقلده مثلًا!
نهضت السيدة ثم هتفت قائلة:

 

ـ بس خدوا بالكم أن الولاد الكبيرة اللي زي “ياسين” هيتعبوكم شوية، وخصوصًا “ياسين” أنتوا هتيجوا معايا دلوقت تتعرفوا على الأطفال، ولازم تكونوا مستعدين لأي سؤال أو أي رد فعل منهم.
كانوا يفهمون كلماتها جيدًا، أومأوا لها وهي ترجلت خطوتين للأمام وهم خلفها ثم دارت لهم في حين غرة وقالت لهم:
ـ خدوا بالكم في حاجات كتير أوي لسه هنتكلم فيها تخص الولاد، بس خلينا دلوقت في النقطة الأساسية.
نهت حديثها ثم ترجلت للأمام من جديد، نظروا لبعضهم وشعروا أن المهمة كبيرة بحق وليس كما كانوا يتوقعون بالمرة! تابعوها في الخطوات حتى خرجت من مكتبها وذهبت معهم لغرفة أخرى مساحتها أكبر ولا يوجد بها أثاث غير مقعدين فقط، تفحصوا المكان جيدًا بأعينهم وقبل أن يتفوهوا بشيء كانت “سهام” تهتف قائلة:
ـ دي غرفة الاجتماعات الخاصة بالأولاد، فاضل خمس دقايق والجرس هيرن والولاد هيجوا.
أومأوا برؤوسهم ولم ينطقوا، ظلوا ينظرون للباب في انتظار هؤلاء الأطفال!
༺༻
ـ رحبوا معايا يا ولاد بِمِس “ليلى” ومِس “سلمى”.
هكذا هتفت” سهام” وهي تُشير على الفتايات ببسمة واسعة، صفقوا الأولاد بحرارة تدل على ترحيبهم بالأعضاء الجُدد الذين كانوا في انتظارهم منذ مدة قريبة وها هم انضموا لعائلتهم الكبيرة، كان الأولاد يقفون في صفوف أمام بعضهم، و”ليلى” و”سلمى” يقفون أمامهم وبجانبهم مديرة الدار، كانتا الفتاتان مُرتبكتين من الموقف، حثّت ” سهام” الأطفال بالتقدم طفل تلو الأخر لكي يُعرّف نفسه لهم، وبالفعل تقدموا الأطفال وبدأوا في التعريف عن أنفسهم واحد يليه الأخر، مر الوقت حتى انتهوا من جميع الأطفال، ولكن كان يتبقى طفل واحد فقط ولم يكن سوى “ياسين” ابن الأثنى عشر عام، تقدم منهم وعرّفهم على نفسه، وقبل أن يغادر فاجأهم بطرحه لسؤاله المباشر قائلًا:
ـ هو أنتوا مين؟ شكلكم مش زي مِس “عبير” ومِس “ابتسام” يبقى أنتوا مين بقى؟ وبأنهي صفة هتنضموا للعيلة بتاعتنا؟!
تلكّما الفتاتان من سؤاله، هم بالفعل ليسوا مُربين لهم كما مَن ذكرهم، ولكن كيف عُلم بذلك والسيدة “سهام” لم توضح هويتهم لهم؟ فاقوا من شرودهم على صوت “سهام” وهي تقول له بكُل سلاسة ووضوح:

 

ـ دول أخصائين يا “ياسين” جاين عشان لو حد منكم حاسس أن عنده مشكلة ومش عارف يحلها، أو عايز يتكلم مع حد يجي يتكلم معاهم، هما بيسموا وبيحلوا المشاكل، أحنا طلبنا منهم أنهم يجوا لينا عشانكم يا “ياسين”.
نهت كلماتها وهي تداعب خصلات شعره بلطف، لكن الآخر لم يرق له حديثها، تجهم وجهه وزمجر قائلًا:
ـ وكانوا فين دول قبل ما” مالك” يعمل في نفسه اللي عمله ده؟ ودول يعني هيمنعونا أننا نعمل زي ما “مالك” عمل؟
تنهد ثم واصل بحِدة أكثر وانفعال:
ـ على فكرة أنا عارف أن “مالك” متعوّرش لوحده، وأن هو اللي عمل كده في نفسه.
صُدموا مرة أخرى! ولكن هذه المرة تدخلت “ليلى”، سحبته من معظمه ناحيتها وانحنت لكي تصل لقامته ثم قالت له بِلُطف:
ـ هو ممكن أتكلم معاك شوية؟
لم يرد عليها، فقط نظر “لسهام” لكي يستنبط منها أجابة، وبالفعل حثته على الحديث وهي تقول له:
ـ هستناك في مكتبي يا “ياسين” ماشي؟
أومأ لها وعاد بنظره “لليلى” من جديد، ابتسمت له وحثّت صديقتها على الجلوس بعيدًا عنهم لكي تعطيه أحساس بالحُرية والأمان، وبالفعل فهمت الأخرى وجلست بعيدًا عنهم، أعطت له كامل تركيزها ثم ابتسمت وسألته:
ـ ممكن أعرف بقى أنت إيه اللي مضايقك؟
نظر لها بدون تعابير مميزة، فقط رفع كاتفيه للأعلى وقال:
ـ معرفش، بس أنا مش متضايق!
ـ طب أنا خدت بالي أنك بتقول أن صاحبك كان متضايق صح؟
أومأ لها بالإيجاب واستطرد هي قائلة:

 

ـ طب تعرف كان متضايق ليه؟
هُنا وتحوّلت تقاسيم وجهه، تجهم وجهه كُليًا وزمجر بغضب طفيف:
ـ معرفش معرفش! هو المفروض أنا اللي أعرف! مش لازم كل اللي حوالينا يكونوا واخدين بالهم مننا! الدار هي اللي مسؤولة عن رعايتنا، يبقى لازم تاخد بالها إيه اللي ممكن يأذينا!
حديثه جعل لسانها يُعقد! كيف على طفل مثله يستطيع أن يعبر بهذا الشكل! يتحدث وكأنه على علم بكل ضيق يمُر بهِ الإنسان، كأنه على يقين أن كل إنسان بحاجة لشخصٍ يسمعه ويساعده ويمد له يد العون، يتحدث وكأنه يَلوم كل من حوله على أنهم لم يفهموا كل تلك الأشياء البديهية بالنسبة له! والكارثة الأكبر أنه كان على حق!
فاقت من شرودها على صوت الطفل وهو يهتف لها من جديد:
ـ أنا معرفش “مالك” كان ماله، بس اللي أعرفه أنه كان متضايق، أنا عارف أن اللي بيحاول يقــ.. ـتل نفسه بيكون متضايق، أنا مكنتش أعرف وقتها، مش عشان أنا وحش؛ بس عشان أنا صغير، “مالك” كان عايز حد كبير ياخد باله أنه زعلان!
انتهى من حديثه وغادر المكان وهو على مشارف البُكاء، كانت مُشتتة بسبب ما سمعته! كيف عليه أن يتحدث على كل تلك الأشياء! هو حتى لا يعطيها المجال للحديث أو للتبرير! طفل صغير لا يتعدى التسع سنوات ويعلم كل شيء يحدث حوله!
انتشلتها من مستنقع أفكارها صديقتها، انضمت لها وهي تقول لها بعملية:
ـ الطفل ده غريب، أنا توقعت أن ممكن يكون مشيّل نفسه ذنب صاحبه مثلًا عشان كده متضايق، لكنه يبقى فاهم أن ده مش ذنبه عشان هو طفل، ويبقى مُدرك أن دي مهمة الناس اللي بترعاهم؛ يبقى بجد أحنا قدام طفل إدراكه مش طبيعي بجد!
صمتت لثوانٍ ثم هتفت من جديد:
ـ ولا أحنا اللي كنا عيال هبـ ـلة؟
استطاعت أن تخرجها من الحالة التي كانت بها، نظرت لها وهي تضحك على كلماتها ثم هتفت قائلة:
ـ بصي ممكن يكون الولد ده هو اللي دماغه أكبر من سنه، لازم نتكلم مع حد تاني من الولاد الكبار، بس المرة دي نحاول نفهم منهم هما بيفكروا في إيه دلوقت، بلاش نسألهم على صاحبهم خالص.
أيدتها “سلمى” على أقتراحها، نهضت سريعًا ثم قالت لها:

 

ـ أنا هروح للمديرة وهخليها ترشح لي طفل أتكلم معاه، وأنتِ روحي حاولي أتكلمي مع الأطفال عامةً وصاحبيهم وأكتبي ملاحظاتك، ونتقابل بالليل عندي ونشوف وصلنا لأيه.
أومأت لها ونهضت هي الأخرى، كل واحدة منهما ذهبت لمكانٍ مختلف، كانت وجهة “سلمى” هو مكتب “سهام”، ترجلت لمكتبها ولحسن حظها أن”ياسين” كان انصرف من مكتبها منذ لحظات، طلبت منها أن ترشح لها طفل لكي تتحدث معه، وبالفعل رشحت لها طفل ابن عشرة سنوات، واُرسلت له لكي يأتي لها، وبعد دقائق أتى لهم، كان الطفل يُدعى”سمير” رحبت بهِ “سهام” بوجهةٍ بشوش ثم قالت له:
ـ مِس “سلمى” عايزة تتكلم معاك شوية، أنا هاسبكم مع بعض شوية، أتفقنا؟
ابتسم لها الطفل ثم تركتهم وغادرت المكتب، جلست “سلمى” على المقعد وحثّت الطفل على الجلوس أمامها، ابتسمت له ثم عرفته بنفسها وعلى محياها ابتسامة لطيفة ثم بدأت في حديثها معه قائلة:
ـ قولي يا”سمير” أنت في حاجة مضايقاك؟ أو… أو خايف من حاجة.
صمت الولد قليلًا، دار بعيناه في المكان ثم قال وهو شِبه شارد الذهن:
ـ خايف لصحابي يعملوا في نفسهم زي “مالك” أنا عارف أن “مالك” لو مكنوش لحقوه كان هيمـ.. ـوت، أنا معرفش هو ليه عمل كده، بس أكيد كان في سبب عشان يعمل كده، دايمًا بسمع أن لو حد حاول يقتـ… ـل نفسه؛ يبقى أكيد وراه سر كبير أو… أو ده كان وجعه أوي!
قال أخر جملة له وهو يُشير لموضع قلبه، حزنت “سلمى” لِما وصلوا له هؤلاء البراعم الصغيرة، ابتسمت بملامح حزينة ثم هتفت قائلة:

 

ـ متخفش يا حبيبي، محدش هيعمل كده تاني من صحابك، وصاحبك أكيد كان وقتها مش عارف يفكر كويس، عشان لو كان فكر كان عرف أن اللي بيعمله ده حرام، حرام أن حد يقرر يتخلص من حاجة مش بتاعته.
ـ واللي بيحصل فينا ده مش برضه حرام.
هكذا زمجر بغضب غير مُبرر، عقدت حاجبيها بتعجب ثم سألته بنبرة مُتعجبه من تحوله المُفاجئ:
ـ بيحصلكم إيه؟؟
صمت الطفل ولم يتفوه بشيء، كل ما فعله أنه نهض وقال لها وهو يتسعد للرحيل:
ـ مفيش حاجة، بعد أذنك أنا عايز أمشي.
أومأت له بهدوء وهو رحل، تركها وغادر بعدما شتتها أضعاف عن ما سبق، ماذا يحدث لهم؟؟ هل ما يحدث لهم هو السبب في محاولة أنتـ ـحار الطفل؟ رأسها تدور بها، تشعر أنها على وشك الاختناق، أخذت نفس عميق ثم نظرت لساعة يدها، كانت دقت ساعة الانصراف، نهضت وهي تُلملم أغراضها لكي تستعد للرحيل.
༺༻
بعد وقت انصرافهم كانتا كلٌ من الفتاتين ذهبت لمنزلها، كانت وصلت “ليلى” للتو، دلفعت لمنزلها وهي تبحث عن أي شيء يدل أن زوجها العزيز أتى وانصرف من جديد ولكن لا يوجد أي شيء يدل على هذا، قلقت عليه بِشدة، تصورت أن يكون حدث له مكروه، خاصةً أنها لم تحادثه بعد مشاجرة اليوم الماضي، أخرجت هاتفها واتصلت بهِ فات أول مكالمة ولم يُجب؛ مما ضاعف قلقها أكثر، ولكن في المكالمة التالية كان استجاب لها، وبِلهفةٍ كانت تسأله:
ـ إيه يا “عامر” أنت فين؟ ليه مرجعتش البيت؟
وبنبرة غير مكترثة للهفتها، كان يرد عليها بعجالة قائلًا:
ـ جاتلي سفرية مفاجأة يا “ليلى” هقفل عشان أنا في أجتماع سلام.

 

لم يعطيها فرصة للرد، لم يقدر نبرتها القالقة عليه، غير مقتنع أنه متزوج ويوجد أمرأة لها حق عليه! فهو دائمًا هكذا، عمله هو أول شيء وأخر شيء في حياته، دائمًا يتعامل مع تلك المسكينة على أنها شيء مُهمش في حياته؛ فعلى سبيل المثال خبر مثل سفره هذا لم يعطها الأهمية بأنه يخبرها أنه سافر! هو رحل يواصل عمله، وتنحرق تلك المرأة التي لا تعلم شيء عن زوجها العزيز!
بعد إغلاق الهاتف معه جلست شاردة الذهن في أمره؛ فهي حقًا ملّت من مثل هذه حياة؛ فهي تريد أن تشعر بأبسط حقوقها، وهو الأمان من شريك حياتها! حتى هذه الأمنية أصبحت صعبة المنال بالنسبة لها، مثلها مثل كل أمانيها التي تتحطم أمام عينيها وهي مُكتفة الأيدي!
نهضت من مكانها ومسحت دموعها بعنف، سحبت حقيبتها من أعلى المنضدة ثم رحلت من منزلها وكانت وجهتها عند صديقتها “سلمى”.
༺༻
ـ تعالي يا “ليلى” أدخلي.
هكذا رحبت “سلمى” بصديقتها في منزلها، كانت “ليلى” وصلت لها للتو؛ فالمسافة بينها وبين منزلها ليست كبيرة.
بعدما جلسوا وتناولوا مشروب بارد يرويهم من طقس الصيف الحار، جلسوا اثنتيهم في ردهة المنزل يتسامرون عن ما حدث اليوم، وكل منهم يطرح ملاحظاته التي دوّنها، أخذت “سلمى” شهيقًا عميقًا ثم هتفت قائلة:
ـ متهيألي الولاد الكبار وراهم حكايات كتيرة، لازم نفهمها، والموضوع مطلعش زي ما كنا متخيلين أن شوية خوف ورهبة من الموقف لا، الموضوع شكله في مصايب!
أيدتها صديقتها بعدما تنهدت بعمقٍ تحاول أن تصب كامل تركيزها في العمل الآن، وتُريح عقلها في التفكير في أمورها المعقدة، نظرت لها وهي تمسح وجهها بكف يدها وتضيف لها قائلة:
ـ أنا خدت بالي فعلًا من اللي أنتِ قولتيه ده، أنتِ مشوفتيش كلام “ياسين” معايا كان عامل أزاي! ده كأنه رجل عجوز وقرب يشيخ مثلًا!

 

ـ أزيكم يا بنات عاملين إيه؟
هكذا أقتحمت جلستهم والدة “سلمى” بكلماتها، ابتسموا لها اثنتيهم وردوا السلام، ثوانٍ ثم هتفت السيدة “رغد” وهي تجلس بجانبهم على الأريكة:
ـ مش ناوية بقى يا “سلمى” تقابلي العريس؟
دحرجت الأخرى عينيها بعيدًا بملل، للمرة المئة تتحدث معها في ذات الموضوع! من الواضح إنها لم تكِل! تأففت بملل وهي تهتف بملامح ممتعضة قائلة:
ـ هو أحنا مش قفلنا على الموضوع ده؟
غضبت السيدة من حديث ابنتها؛ فزمجرت بغضب وهي تُشيح بيدها في الهواء قائلة:
ـ لا مقفلناش حاجة، أحضرينا أنتِ يا بنتي، عريس ميعيبوش حاجة، والهانم رفضاه من الباب للطاق ده اسمه كلام برضه؟
وهنا فقط سمحت “ليلى” لحالها التدخل في الحديث، اِلتفت لصديقتها وسألتها بتعجب:
ـ ورافضة ليه بدون سبب؟
ـ يا ستي مش هتجوز أنا بالطريقة دي!
هكذا هتفت بتذمر، بينما الأم نهضت وهي تقول لها بضيق:
ـ بصي أنا هسيبك تتكلمي مع صاحبتك شوية يمكن تعقلي، بس خدي بالك؛ اللي في دماغك مش هيحصل أبدًا.
نهت حديثها وهي تعطيهم ظهرها وترحل من أمامهم بملامح معترضة، انتظرت “ليلى” حتى اختفت والدة صديقتها من المكان ثم بدأت تتحدث معها بهدوء قائلة:
ـ هو ممكن أعرف إيه السبب؟
ـ مش عايزة، مش عايزة يا ناس، مش هتجوز أنا صالونات!
هكذا هتفت بعصبية، بينما الأخرى ربتت على كتفيها بهدوء وقالت لها بحُزنٍ دفين:

 

ـ بلاش تلاكيك يا “سلمى”، بلاش تعملي زيي لحد ما الفُرص كلها تروح مننا!
تنهدت وهي تتذكر ما حدث لها بسبب عِندها الغير مبرر، ابتسمت بحزن ثم استطردت قائلة:
ـ بلاش نقعد نتأمر لحد ما العمر يعدي علينا ونتضر في الأخر ناخد أي حد، أي حد عشان قطر الجواز ميفوتناش!
كانت “سلمى” تنصت لها جيدًا، ولأول مرة تلاحظ ما تفعله، هي بالتقريب تفعل كل ما كانت تفعله صديقتها، انقبض قلبها عندما تخيلت حالها دون بيت وأسرة، أو أنها وقعت في سجن زوج لا يقدر مشاعرها ولا وجودها من الأساس، شردت في سبب رفضها لذلك العريس ولكنها لم تعثر على إجابة واضحة؛ فسبب رفضها هو أنه عريس “صالونات” كما يقولون، وهي لا تحبذ تلك الطريقة، وكأن “ليلى” كانت تقرأ أفكارها، فقفزت صديقتها سريعًا وكأنها تجاوب على ما يدور في عقلها عندما قالت لها:
ـ متفتكريش أن كل الصالونات وحش، في جواز صالونات كتير بيكون حلو وبيجي بعدين الحب، بلاش يا “سلمى” تقعي نفس وقعتي.
هي مُحقة بالفعل ليست جميع الزيجات بهذا الشكل تكون سيئة، بالعكس تمامًا؛ فأغلب الزيجات الناجحة تتم بهذه الطريقة، كما الزيجات عن حب تمامًا؛ فلديها نموذج للزواج عن سابق معرفة وهو زيجة صديقتها “ليلى” أينعم وافقت بهِ وقتها لأن سن الزواج كان على وشك أن يغادرها للأبد حسب معاير المجتمع والطبيعة، ولكنه يظل أنه كان زواج عن سابق معرفة، وليس زواج “صالونات” وعلى الرغم من ذلك فهو فشل وبجدارة، هم فقط يواصلون حياتهم لأن كل منهم يمتلك أسبابه الخاصة، أسباب تخص كل طرف منهم ولا يوجد سبب واحد مشترك بينهم! فاقت من شرودها على صوت “ليلى” وهي تقول لها:
ـ همشي أنا ونتقابل بكرة، وفكري تاني في الموضوع ده.
نهت حديثها وهي تنهض لكي تستعد للمغادرة، ودعت صديقتها ثم غادرت المكان، وقبل أن تترجل “سلمى” لغرفتها ذهبت لغرفة والدتها، اقتحمتها دون سابق أنذار وهي تقول لها:
ـ أنا موافقة أني أقابله، ظبطي معاد وقوليلي.

 

هكذا بلغت والدتها بموافقتها، قابلت السيدة الخبر بتهاليل وابتسامة واسعة، كانت “سلمى” راضيه عن قرارها؛ فهي لست مستعدة لكي تعيش بمفردها، أو في نهاية المطاف تقبل بأي عابر سبيل لكي لا يتحقق الاحتمال الأول! ولا تنسى أن عمرها مازال في التقدم؛ فهي أصبحت ذات خامسة وثلاتين عام، نعم لم يظهر على ملامحها ذلك السن إطلاقًا ولكن في نهاية الأمر هذا سنها ويُعد عامل كبير في قِلة فُرص زواجها، ولم يتبق لديها فُرص كثيرة لكي تنتقي من بينهم؛ فكلما تمر بها السنوات كلما قلّت فُرص زواجها! هكذا حدثت نفسها وبهذا أقتنعت أيضًا!
༺༻
ـ ألحقينا يا “ليلى” في عيلة جاية عشان تتبنى “ياسين” وهو مش راضي يقابلهم وعمال يزعق ويقول لو قابلتهم هطردهم.
كان هذا حديث السيدة “سهام” في يوم عمل جديد “لليلى” في دار “أزهار المستقبل” استقبلت “ليلى” فزع المديرة بهدوء وهي تقول لها برزانة:
ـ براحة بس، هو طبعًا الولد من حقه يُفزع من الوضع، أزاي عيلة ميعرفهاش تيجوا تقولوله يلاا هتروح معاهم؟ كان لازم طبعًا الموضوع يتعامل بطريقة غير دي و..
ـ يا بنتي أنتِ بتقولي إيه بس.
هكذا قطعتها السيدة بهدوء، وقبل أن تنفجر “ليلى” فيها مُدافعه عن وجهة نظرها الحتميّة بالنسبة لها كانت”سهام” تستطرد حديثها قائلة:
ـ “ياسين” يعرف العيلة دي بقاله شهر ونص تقريبًا، كل اسبوع كانوا بيجوا يقضوا سوا وقت مش أقل من 3 ساعات في اليوم، وده قانون عندنا قبل ما عيلة تقدم ورق التبني بالطفل، أنها تاخد فترة تعارف على الطفل اللي عايزه تتبناه، وثم تقدم الورق ولما يتوافق عليه تكلم الطفل.

 

صُدمت من ما سمعته، جلست على المقعد من جديد بعدما كانت نهضت بغضب، نظرت لها بتعجب ثم سألتها:
ـ وليه الورق الأول؟ أفرض الطفل رفض!
تنهدت الأخرى وجلست أمامها، أخذت الصعداء لكي تُهدئ أعصابها التي فورّها لها ذلك الطفل ثم أردفت:
ـ عشان في الغالب الطفل مش بيرفض، وعشان مينفعش تقول للطفل وفاجأة يحصل مشكلة في الورق وده بيحصل كتير جدًا، وقتها بيحصل معانا مشكلة أكبر من مشكلة رفض الطفل وهي أن الطفل بيحِس بالرفض، هو مش بيفهم أن الورق أتعطل، هو بيتخلِد في ذهنه أنه أترفض وبس.
أومأت لها “ليلى” مُتفهمة حديثها، ثم همّت سريعًا بسؤالها لها:
ـ و”ياسين”محدش قاله قبل كده؟
ـ قولناله.
صمتت لثوانٍ ثم واصلت:
ـ الأم قالتله الزيارة اللي فاتت، ووقتها أتعصب وغضب وسابها و مِشي، ورفض الموضوع، وبعدها حصل موضوع “مالك” ومكناش بنستقبل زيارات والنهاردة لما اتصلوا قولتلهم يجوا الزيارة بتاعت النهاردة، بس “ياسين” رافض حتى يقابلهم!
تفهمت “ليلى” المشكلة، طلبت منها أن تتحدث مع “ياسين” بمفردهم قليلًا، لبّت “سهام” لها طلبها، وطلبت من “ياسين” أن يأتي لها المكتب، وبالفعل جاء لها، وعندما وقف أمامها نهضت وهي تقول له بعتاب ظهر جليًا في صوتها:
ـ مِس “ليلى” هتتكلم معاك شوية يا “ياسين” ياريت تسمعها وبلاش تنشِف دماغك.
نظر لها بنظرات خاوية ولم يرد، رحلت عنهم وتبقى “ليلى” والطفل فقط، كانت تجلس على المقعد وهو يقف أمامها متهجم الوجه ومُكتف الأيدي، أشارت له أن يقترب منها وبالفعل أستجاب لها، تقدم لها وظل يحملق فيها في انتظار أن تلقي على مسامعه قصيدة عن لذة التبني والسعادة التي سوف تغمره عندما يكون وسط عائلة، ولكنها هدمت جميع توقعاته، هي لم تقل له كما أعتاد أن يسمع؛ بل هي سألته سؤال صريح قائلة:

 

ـ مش عايز ليه تعيش معاهم؟
ـ عشان مش عايز.
أجابها دون أهتمام رغم تعجبه من السؤال، ولكن الأخرى ابتسمت له وقالت ببساطة:
ـ للأسف مفيش حاجة اسمها كده، في حاجة اسمها أنا رافض عشان كذا كذا، زي ما أنا مينفعش أقولك أنت هتعيش معاهم عشان أنا عايزة وبس.
ـ بس أنا اللي هعيش مش أنتِ ولا هما، أنا الوحيد اللي أقدر اقرر القرار ده مش حد تاني!
صدمها من جديد! دائمًا رده يكون غير متوقع بالنسبة لها، وكأنه كهلًا كبير شاخت رأسه وليس طفل ابن تسع سنوات! ولكن مهلًا، إذا كان يتسخدم معها ذلك الأسلوب؛ إذن الحل الأمثل معه هو الاستفزاز! تحوّل وجهها من هادي وغير مبالي لوجه آخر متعجب ونبرة هجومية تُشبه خاصته قائلة:
ـ وإيه اللي يخليك مش عايز يكون ليك أسرة؟ عجبك حياتك وأنت بدون عيلة؟ عجبك حالك وأنت بتصاحب شخص وتتعلق بيه وتيجي عيلة تاخده وفاجأة تلاقيه أختفى؟ مش عايز يكون ليك أخوات وأشخاص ثابته؟!
استفزته بكلماتها، تجهم وجهه بشدة، تخلى عن عقد يداه، تقدم منها خطوة ثم زمجر بغضب في وجهها قائلًا:
ـ و أنتِ تعرفي إيه عن الأسر دي بقى؟؟ تعرفي إيه أنتِ عن اللي بيعملوه لينا واللي بنشوفه عندهم! أنتِ سطحية زيك زيهم كلهم، شايفة الموضوع من برا، عمرك ما شوفتيه من جوا هو عامل أزاي، ولا عمر حد فيكم هيفهم هما بيكونوا عايزين طفل يعيش معاهم ليه ولهدف إيه! تفتكري هما هيقدموا لينا حياة كريمة بدون مقابل؟ في حد دلوقت بيقدم أي شيء بدون مقابل؟
تلكّم لسانها، نهضت من مكانها وتقدمت نحوهُ سريعًا، انحنت على ركبتيها ثم سألته وهي تقبض على ذراعيه بهدوء:
ـ قصدك إيه؟ إيه اللي بيحصلكم يا “ياسين”؟ أتكلم.
نفض يدها من عليه بعنف، ابتسم لها بأصفرار ثم قال لها:

 

ـ معنديش حاجة أقولها، بعد أذنك.
نهى كلماته وهو يتحرك من أمامها بسُرعة الصاروخ ويتجِه نحو الباب يُريد الفرار من هنا، ولكن عند فتحه للباب ظهرت من خلفه “سهام” ابتسمت له وجعلته يدخل من جديد على مضض، أخذته من يده ووقفت أمامه وهي تقول له ببتسامة هادئة:
ـ يا حبيبي طنط “ماجدة” بتحبك أوي، هي نفسها أنك تعيش معاها.
هُنا وفاض بهِ الكيل، تقدم منها خطوة وصاح فيها والعبرات تتجمع في عينهِ قائلًا بحُزن ظاهر جليًا على تقاسيم وجهه:
ـ تاني يا مِس “سهام! ” تاني نفس الأسلوب اللي اتستعمليه مع “مالك؟ ”
صمت لثوانٍ وهو يلتقط أنفاسه ثم صاح بغضب والدموع تنهمر من عينيهِ رغمًا عنه قائلًا:
ـ هتكوني مبسوطة لو أنتـ… ـحرت زي ما عمل”مالك” بسببكم!
شهق بعنف ثم صاح من جديد بنهيار:
ـ ولا أنتوا مصلحتكم زيهم أننا نمـ… ـ ـوت يا مِس؟؟

يتبع..

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *