روايات

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والستون 61 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش الفصل الحادي والستون 61 بقلم نرمينا راضي

رواية يناديها عائش البارت الحادي والستون

رواية يناديها عائش الجزء الحادي والستون

يناديها عائش

رواية يناديها عائش الحلقة الحادية والستون

قويّ التوكل لا يُهزم، والله إذا كلَّف أعان.
******
تعجبت عائشة من معرفة تلك الفتاة الغريبة بالنسبة لها اسمها، فتساءلت في تعجب
” أنتِ تعرفيني ؟ ”
ترددت ” روان ” في البداية إخبارها بالحقيقة، حقيقة أنها واقعة في غرام ابن عمها الذي بسببها هو الآن عاجز..
لم تكن عائشة على معرفة سابقة بـ روان، تلك هي المرة الأولى التي تراها فيها، أما بالنسبة
لـ ” روان” فقد رأت الحساب الشخصي الخاص بها بتطبيق الفيس بوك من خلال حساب
” سيف الإسلام” وشاهدت بعض الصور لها، لكنها لم تحادثها أبدًا، غير ذلك.. كانت عائشة تذهب لبعض المدرسين المختصين بالمرحلة الثانوية، و بما أنها تكبر روان بعام واحد، فأحيانًا كانت روان تراها دون أن تُبادر بالحديث معها.
لكن ما جعل روان تجهل معرفتها عندما رأتها، أن عائشة تغيرت كثيرًا عن ذي قبل، فآخر صور رأتها لها روان كانت ببنطال و بلوزة قصيرة و نصف شعرها مكشوف من الحجاب، أما تلك الماثلة أمامها الآن، فتاة محتشمة لا يظهر منها شيء ملفت سوا ملامحها الفاتنة التي تجعل كل من يراها يذكر الله مخافة أن تصيبها عين.
“شكلك أحلى من الصور بكتيـر”
قالتها روان بتلقائية، أو أنها كانت تفكر بصوت عالي.. تبسمت عائشة بخفة و أردفت
” شكرًا.. بس أنتِ شوفتيني فين ؟ ”
ترددت أن تخبرها بعلاقتها بسيف قبل إصابته، فلا الوقت ولا المكان يسمح بذلك.. ردت ببساطة
” يعني.. شفتك كذا مرة في شارع الدروس.. بيقولوا أنك أجمل بنت في دفعة السنة اللي فاتت.. كنت أنا في تانية ثانوي و أنتِ في تالتة وكنتِ بتاخدي عربي عند نفس المستر اللي باخد عنده ”
أومأت عائشة متفهمة، و قالت بلُطف
” أنتِ اللي جميلة.. حلو أوي الخِمار ده.. قوليلي اسم المحل اللي اشترتيه منه لأني لبسته قريب ومعنديش كتير ”
اتسعت ابتسامة روان العفوية لتقول
” أنا كمان لبسته يعني يمكن من تلت شهور كده.. عارفة.. أنا مكنتش محجبة.. بس الحمدلله ربنا تاب عليا.. أنا بجيب أخمرة من عند *** خامته نضيفة و مريح في اللبس ”
اندمجت عائشة معها في الحديث، فقالت بابتسامة صافية
” أنا كمان مكنتش بلبس كويس الأول.. و الحمدلله ربنا تاب عليا برضو وبقيت ألبس واسع و اختمرت ”
لم تستطيع روان الصبر و كتمان علاقتها بسيف، كادت أن تسألها عنه، و لكن والدة رحيم جاءت في تلك اللحظة و جلست بجانب عائشة لتقول بنبرة حزينة
” دي عمرها مزعلت حد منها.. مين بس اللي عمل كده فيها.. حسبي الله ونعم الوكيل ”
تساءلت عائشة في قلق وخوف
” هي تيته خرجت ولا لسه؟ ”
” الحمدلله.. دخلوها أوضة تانية.. بس للأسف جالها غيبوبة .. إن شاء الله مش هتطول و هتبقى كويسة.. ربك كريم ”
هبت عائشة واقفة و الفزع يملأ صدرها، ظلت لدقائق تتنفس بخوف.. ‏بهت وجهها، و راحت تجهش بالبكاء دون أن تقول شيء، فلم يعد الأمر قابلاً للشرح، لقد وصل بها التعب لأعلى ذروته، كل شيء تتعلق به يتناثر كذرات التراب في الهواء، إنها مأساة.. دوامة من الحزن و الابتلاءات ضربت عاتقها دُفعة واحدة، مثل الذي يركض بكامل لهفته تجاه الأشياء، ثم يعود بخيبة شعوره الفذّ، يعود خاويًا وحزينًا.. بكت بشدة و بين شهقة و الأخرى تهمس بـ ” تيته ” ثم تلتقط أنفاسها و تعود لتبكي بقوة شاهقة ” بـدر ” و تبكي و تهمس بمرارة ” بابا ” معتش ليا أهل.. أنا لوحدي.. بقيت لوحدي..
انفطر قلب روان و أم رحيم عليها، فقاما في الحال يسارعان في تهدئتها.. ضمتها أم رحيم لصدرها قائلة ببكاء هي الأخرى
” بلاش تقدمي البلاء قبل وقوعه.. ادعيلها و هتبقى كويسة.. متعيطيش أنا معاكِ أهو.. اعتبريني زي تيته بالضبط..
هتفت عائشة بصوت مبحوح أثر البكاء
” لا أنا عايزه تيته.. عايزه تيته ”
لم تتردد روان في مد يدها لتمسح دموعها برفق قائلة بنبرة على وشك البكاء هي الأخرى، فقد تأثرت بحالتها
” هتبقى كويسة وهتفوق متقلقيش.. تعالي معايا نصلي وندعيلها.. في مسجد قريب من هنا.. قومي يلا تعالي..
” يلا و أنا هاجي معاكم ”
قالتها ” أم رحيم” و ساعدت عائشة في النهوض برفقة روان، و سارت عائشة معهما دون أن تدري لأين تذهب، فهي ما تزال تبكي و لا تشعر بأي شيء يحدث حولها، فقط بالها مشغول مع جدتها لأبعد حد.
كان رحيم يقف عند باب المشفى، و عندما رآهم على مقربة منه و لاحظ عيون عائشة المنتفخة من البكاء، شعر بالقلق عليها و تساءل في فضول و لهفة
” هو في ايه.. رايحين فين؟.. هي مالها ؟.. بتعيط كده ليه ! حد زعلها ؟ ”
ردت أمه بحزن على حالتها
” بتعيط عشان ستها يا عيني.. ربنا يقومهالها بالسلامة ”
” طيب و أنتم رايحين فين دلوقت ؟ ”
” هنروح المسجد اللي جنبنا ده.. مش هنغيب.. روح أنت ادفع فلوس المستشفى و إسألهم ينفع حد يبات معاها ولا ايه ”
حول بصره ناحية روان متسائلًا
” أنتِ قريبة عائشة ؟ ”
” ميخصكش”
قالتها روان وهي تنظر له ببرود، فلم يرتاح له قلبها، و بطبيعتها لا تحب التعامل مع الأشخاص الذين لم يرحب بهم قلبها.
تفاجئت أم رحيم من رد روان الفاتر على ابنها، لكن لم تعقب بشيء، اكتفت بالصمت احترامًا للوضع الذي هم عليه.
رد رحيم ببرود مماثل عليها
” أيًا كُنتِ مين.. فأنتِ شكلك بت باردة أصلًا ”
” المشاعر متبادلة ”
قالتها بنظرة احتقار، ثم أخذت عائشة من يدها ترافقها أم رحيم، باتجاه المسجد.
رن هاتف روان، و كان المتصل والدها الذي قلق عليها عندما خرج من المشفى ولم يجدها..
ردت بهدوء
” ايوه يا بابا.. معلش يا حبيبي متزعلش مني..البنت اللي أنا كنت قاعدة جنبها وبتعيط دي.. تعبت فخدناها للجامع وبالمرة قلت أصلي المغرب قبل العشا متأذن عشان فاتني”
” طيب يا روان.. خلي بالك من نفسك يا بنتي ”
“متقلقش عليا يا حبيبي.. مش هغيب.. مع السلامة”
وصلن لمُصلى النساء في المسجد، و اتجهت عائشة للوضوء بمساعدة روان التي لم تترك يدها.
توضأت عائشة و هي منهارة تمامًا، حتى أنها غسلت وجهها مرة واحدة، فغسلته عنها روان رفقةً بها، أخبرتها أن تعيد غسل وجهها وهي تضع الماء عليه برفق و عائشة تمسح عليه، و كذلك الأمر مع شعرها، و بعد أن انتهت توضأت روان هي الأخرى رغم أنها كانت على وضوء، بجانبها أم رحيم تتهيء للصلاة، ثم تركتهم عائشة و اتجهت في زاوية وحدها لتُصلي ركعتين لله تبث فيهما حاجتها و تشكي إلى الله الدنيا و همها.. في حين أن روان صلت فرضها الفائت، و صلّت العشاء برفقة أم رحيم بعد أن أذن مؤذنًا لها.
تمت الصلاة، و جلسن ثلاثتهم يسبحون الله وكل منهن بداخلها دعوات تتوسل لله أن يجيبها.. عائشة تدعو بحُرقة أن تصبح جدتها بخير، و روان تدعو أن تفيق جدة عائشة فقد أشفقت عليها لكثرة أنينها، و تدعو أيضًا أن يهدي والدتها و يغيثها من فساد زوجها، و هناك دعوة لا تبرح مجلسها بعد أي صلاة قبل أن تدعو بها، و هي أن يشفي ” سيف الإسلام” و يرزقه صلاح الحال و يجعله زوجًا لها إذا كان خير، أما ” أم رحيم” دعت أيضًا لجدة عائشة والتي تعدها أكثر من أخت، ولم تنسى أن تدعو لابنها بالزواج؛ لأنه تغاضى عن فكرة الزواج تمامًا.
______
خرجت ” الطبيبة شمس” من غرفة العمليات وهي تنزل القناع الجراحي و تتجه نحو مكتبها، و قبل أن تطأ قدميها المكتب استوقفها ” رحيم” قائلًا بابتسامة صافية
“شكرًا يا دكتورة..تعبناكِ معانا”
استدارت له لتبادله الابتسامة قائلة
” لا شُكر على واجب.. أنت أخبارك إيه.. تعالى اتفضل ”
دلف معها للمكتب، ثم جلس على الكرسي أمامها و أخرج قداحة و علبة السجائر، وقبل أن يشعل واحدة، هتفت شمس بنبرة استياء
” رحيم بعد إذنك متشربش سجاير هنا.. و بعدين خف شوية سجاير.. ده أنت حريقة فيها.. بجد ايه ده !
” سيجارة واحدة معلش أنا آسف ”
أشعل سيجارته، و أخذ يهز قدميه في توتر مُخرجًا زفيرًا قويًا بضيق، ثم قال
” أنا مستحيل أخلي قلبي يميل لواحدة تاني.. لا يُمكن أحب تاني.. ملعون أبو الحُب ”
عقدت شمس حاجبها في استغراب دون التعليق بكلمة، فهي تعرف القصة كاملة.. قصة قسوة قلبه و نبذه للحُب، بعد أن كان يُطلق عليه شبيه
“روميو” في الحُب، و لكن جوليت خاصة رحيم كسرت قلبه و جعلته في أبغض صورة، لم تخونه فقط.. لقد خانت وطنه أيضًا !
هربت عشيقته و فشل هو في البحث عنها للانتقام، وعندما لم يجد لها أثر قرر المضي قدمًا في حياته دون الالتفات للماضي، لقد كان قويًا في التخطي، ولكنه لم ينسى أبدًا أنها غفلته و قامت باستغلاله للوصول لمُبتغاها، لقد عاهد قلبه ألا يقع في الحُب أبدًا، و لكن في يوم واحد فقط جاءت “عائشة “من العدم لتوقظ دقات قلبه ثانيةً، لا يُنكر أنها أعجبته و استطاعت أن تدخل قلبه بعفويتها و جراءتها، برغم ما فعلته به و لكنه أحب قوتها في الثأر لنفسها من أي شخص يجرح كبريائها، و هذا قد تسبب في غضبه من نفسه، أن قلبه عاد لينبض بالحُب من جديد !
و كانت ” شمس ” على علم بقصته مع محبوبته الهاربة؛ لأن رحيم أيضًا كان من أقرب أصدقاء ” البراء” خطيبها، و يعتبر شمس أخته، فكان يحكي كل شيء للبراء في وجود شمس دون أن يشعر بأي سلبية..
هتف بضيق صدر
” مش عارف ليه هي بالذات اللي دخلت دماغي ”
” هي مين ؟ ”
تساءلت شمس في تعجب، فقال وهو يطفئ سيجارته بغِل تحت حذائه
” عائشة.. البنت اللي جدتها دخلت غيبوبة ”
” يمكن صُعبت عليك مش أكتر ! ”
هز رأسه بنفي ليقول
” لا يا شمس.. أنتِ عارفة كويس إن مبيصعبش عليا حد و إن قلبي بقى أقسى من الحجر.. بس لما شفتها بتغرق قدامي حسيت إن أنا روحي اللي بتطلع.. يعني أول مرة أشوفها انهارده و مفيش بينا أي معرفة سابقة، يبقى ايه الشعور الغريب اللي حسيته ده من ناحيتها ؟! ”
أخذت نفسًا عميق متذكرة ” بدر” ثم قالت مُحدثة نفسها بصوت مسموع
” نفس اللي حصل معايا لما شفته..
تساءل بعدم فهم
” تقصدي ايه ؟ ”
” كان عندي واحد الصبح عمل حادثة و خيط ليه الجرح، و أنا بعالجه افتكرت البراء الله يرحمه.. شبه أوي.. نفس الطول، السمار، الشعر، العينين.. كأن البراء واقف قُدامي.. حسيت بحاجة غريبة ناحيته.. حسيت إني مش عاوزاه يمشي أبدًا.. و إني عاوزه أشوفه دايمًا قدامي ”
اغمض رحيم عينيه بحزن متذكرًا صديقه و رفيق عمره، تمتم باشتياق له
” الله يرحمك يا براء.. وحشتني أوي يا صاحبي”
هزت شمس رأسها بأسى و غمغمت بدموع
” و وحشني أنا كمان.. الله يرحمه و يغفر له ”
صمت خيم للحظات عليهما، قطعته شمس قائلة
” بلاش توتر نفسك على الفاضي.. أنا من رأيي تنسى اللي فات و تبدأ صفحة جديدة في حياتك.. والبنت دي لو عجباك بجد.. متترددش تروح تتقدملها.. يمكن تكون هي طوق النجاة بالنسبة ليك من ذكريات الماضي.. أنا مخدتش بالي منها أوي بس شكلها بنت لطيفة و كويسة.. انتهز فرصة إن جدتها في غيبوبة و حاول تكسب قلبها و قرب منها.. و إن شاء الله ربنا يقدم اللي فيه الخير ”
تساءل في حيرة من أمره
” يعني أنتِ شايفه كده ؟ ”
” أي حد هيقولك نفس اللي قولته.. ادي نفسك فرصة تانية يا رحيم.. جايز تكون دي أنسب فُرصة ليك في الحياة ”
أومأ بموافقة وهو يعيد ترتيب الأمر في رأسه، ثم مد يده يصافح شمس قائلًا بابتسامة صافية
” أنا همشي ولو احتجتِ أي حاجة كلميني علطول.. إحنا أخوات و مفيش بينا إحراج.. ماشي
أردفت و هي تصافحه
” حاضر.. المهم أنت فكر في اللي قولتهولك و ربنا يفرح قلبك.. سلملي على خالتو شهيرة
” يوصل إن شاء الله.. هي خالتي إخلاص هتفوق إمتى من الغيبوبة ”
تساءلت شمس بعفوية
” هي تبقى خالتك ؟ ”
” لأ.. بس صاحبة أمي من قبل ما اتولد فبقولها يا خالتي.. وهي تعز عليا جدًا علفكرة
“هي هتبقى كويسة متقلقش.. من أثر الخبطة بس دخلت غيبوبة.. كانت قوية على الراس و مقدرتش تتحملها.. بس بإذن الله مش هتغيب فيها.. أنتم لازم تعرفوا مين اللي عمل فيها كده.. عيب في حقك تبقى ضابط مباحث و مش عارف مين اللي هجم عليها و آذاها بالشكل ده”
قالت آخر جملة ضاحكة بخفة، فقال بضحك هو الآخر
” عندك حق.. أكيد مش هسيب اللي عمل كده يتهنى يوم واحد في حياته.. و في أقرب وقت هعرف هو مين ”
ودعها، ثم خرج ليدفع تكاليف عملية ” إخلاص” و بقائها لحين استرجاع وعيها.. آتاه اتصال هاتفي من قسم الشرطة يطلبونه لمهمة ما.. هاتف والدته ليخبرها بذهابه لعمله، فأخبرته أنها قادمة للمشفى مع الفتيات و عليه أن ينتظر أولًا ليصلها للبيت.
بعد أن هدأت عائشة و تقبلت الأمر، نهضت لتقول بهدوء
” يلا نمشي.. عاوزه أشوف تيته ”
نهضت معها روان و كذلك أم رحيم باتجاه المشفى..
انتاب روان الفضول حول وجودها دون عائلة الخياط في المشفى، مما دفعها فضولها أن تسألها
” هو مفيش حد معاكِ من عيلتك ؟.. أقصد هاجر و بدر.. ؟
نظرت لها عائشة بدهشة و بادلتها السؤال في تعجب
” أنتِ تعرفي هاجر و بدر منين ؟! ”
توترت روان و ندمت أنها سألت سؤالًا مثل هذا، فقالت هاربة بعينيها و بنبرة متوترة
” أصل.. أصل واحدة صاحبتي تعرف هاجر الخياط يعني.. أنا متعاملتش معاها قبل كده.. بس مجرد معرفة سطحية مش أكتر..
تأملتها عائشة للحظات في نظرات شك، لتقول
” تعرفي حد تاني من عيلة الخياط غير هاجر و بدر و أنا ؟
أومأت باستسلام لتقول بعد أن تنهدت بهدوء
” ايوه.. سيف..
توقفت عائشة في الطريق فجأة و قالت بدهشة
” أنتِ روان !.. البنت اللي بيحبها سيف !
هتفت الأخرى بلهفة
” هو قالك إنه بيحبني ؟؟
” كلمة بيحبك دي قليلة.. سيف كان عايزني أجيلك البيت عشان تسامحيه بس حصلت شوية ظروف كده خلتني ملهية عن أي حاجة”
أغمضت روان عينيها تحبس دموعها التي تجمعت بكثرة، ثم قالت بضعف و حُزن
” أنا مسمحاه والله.. هو عامل ايه دلوقت.. كويس؟ ”
أومأت عائشة وهي تربت على كتفها
” هو كويس.. و بقى أحسن من الأول كمان
“خف !”
” لأ.. بس قرب من ربنا و دي حاجة في حد ذاتها كويسة جدًا ”
” الحمدلله.. يارب يخف.. ربنا يشفيه عاجلًا غير آجلًا ”
قالتها وهي تمسح دمعة فرت من عينيها بانكسار، تشتاق له بشدة، و لكن ما باليد حيلة.
سارت الفتاتان نحو المشفى، و بداخل كل واحدة منهن همّ ثقيل كالجبال، و لكن بالصبر و القرب من الله تخف موازين الهمّ.. كانت أم رحيم تسبقهن في السير بخطوة تاركة مساحة كافية لهن لتبادل الحديث.
خرجت عائشة من صمتها فقد ارتاح قلبها روان، و أحست أنها تشبها كثيرًا فقالت قاصدة الفضفضة عما بداخلها
” أنا كنت زوجة بدر الخياط و انفصلنا قريب.. عشان كده جيت عشت مع جدتي.. و محدش منهم يعرف باللي حصل ليها.. فمفيش حد منهم معايا في المستشفى ”
رمقتها روان بغرابة متسائلة
” أنتِ بجد تبقي مرات بدر ؟ ”
” ايوه.. كُنت.. كُنت مراته.. و حبيبته على حسب كلامه.. بس حصلت شوية مشاكل و لخبطة في حياتنا.. فقررنا ننفصل.. الفراق كان الحل ”
قالتها وهي على وشك البكاء، و لكنها تماسكت؛ حتى لا تنال شفقة أحد ثانيةً.. ردت روان بمواساة
” عندك حق.. أحيانًا الفراق بيكون الحل.. بس أنتِ شكلك بتحبيه أوي.. ليه محاولتيش تصلحي أي مشكلة بينكم و تفضلي معاه ؟ ”
” عشان هو اللي اختار البُعد.. بس شوفي رغم إني اتعلقت بيه و حبيته من قلبي بجد.. لكن لو جه عشان يرجعني.. مستحيل أرجعله تاني.. هو اللي فارقني و كسر قلبي.. أنا اسامح في أي حاجة إلا كسرة القلب.. خصوصًا لو من شخص كان هو الأمان بالنسبة لك ”
” يمكن غصب عنه يا عائشة ”
هزت عائشة رأسها بنفي غاضبة بشدة، لتقول
” لا يا روان.. اللي بيحب بجد هيعمل المستحيل عشان يحافظ على علاقته مع حبيبه.. سيبك بقى من الظروف و الكلام الفارغ ده.. التمسك قرار مش نصيب ”
ردت الأخرى بهدوء و أسف
” عندك حق.. التمسك قرار فعلًا ”
دخلن المشفى، و قابل ” حافظ” ابنته عند المدخل ليقول بعجلة من أمرة
” عاوزينك في القسم يا روان.. عاوزين ياخدوا أقوالك قولتلهم أنا اللي ضربته قالوا الكاميرات بتاعت الشارع جابت كل حاجة ”
ردت روان في لا مبالاة
” طالما الكاميرات جابت كل حاجة هيعملوا إيه بأقوالي ! ”
” لازم تثبتي وجودك و تقفلي المحضر ”
قالها رحيم وهو يأتِ من خلف حافظ و يقترب من الفتيات.. أومأ حافظ بتأكيد على كلام رحيم ليقول
” ايوه يا بنتي.. حضرة الضابط رحيم فهمني كل حاجة ”
نظرت له روان ببرود و غمغمت
” ضابط ! أقطع دراعي إن مطلعش حرامي غسيل ”
سمعتها عائشة فضحكت في خفة، بينما رحيم قال بفتور
” سمعتك علفكرة ”
” سمعت الرعد ”
قالتها بدون اعتبار لوجوده، ثم انتقلت ببصرها لوالدها الذي كان خائف عليها بشدة، فقالت وهي تربت على كتفه
” بابا اطمن متخافش يا حبيبي.. شوية اجراءات في القسم و تخلص ونروح سوا.. هي ماما فين؟ ”
رد بتفهم للأمر
” ربك يجيب الخير.. أمك مصممة تفضل جنبه لحد ما يطلع.. عشان لما يفوق هيقبضوا عليه ”
” أحسن يغور في داهية ”
بعد لحظات جاء ضابط يرافقه اثنان من العساكر ليلقيان التحية على رحيم، ثم قال الضابط
” اتفضلي معانا يا آنسة عشان ناخد أقوالك ”
” أنا مش متهمة عشان أركب معاكم ”
قالتها بثقة و بدون خوف منهم، ثقتها الشديدة بنفسها أعجبت لها عائشة، و قررت أن تتقمص شخصيتها لتستطيع التكيف مع قساوة الحياة.
تدخل رحيم ليقول بغيظ منها
” و مين قالك إنك هتركبي معاهم.. روحي بعربية أبوكِ عادي قفلي المحضر و روحي ”
” أنت محدش وجهلك كلام ”
” لاحظِ أنك بتتكلمي مع ظابط ”
” طب اظبط نفسك و أنت بتتكلم معايا ”
لاحظ الواقفين احتداد الحديث بينهما، و يبدو أن لا أحد منهما يقبل كلمة للآخر.. قالت أم رحيم و هي تغمز لابنها ليلتزم الصمت
” وحدوا الله يا جماعة.. احنا في مستشفى مينفعش كده ”
و قال حافظ لابنته ليهدئ من حدتها
” روان.. و بعدين.. اهدي شوية ”
أما عائشة نظرت لرحيم نظرة توسل قائلة
” روان تكون في بيتها الليلة.. أنت قلت ياخدوا أقوالها و تروح.. صح ؟ ”
أومأ بابتسامة عذبة وهو يتأملها
” صح.. سيبك من روان و بتنجان.. خلينا في المهم.. أنتِ كويسة دلوقت ؟ ”
رفعت روان حاجب و أخفضت الآخر وهي ترمقه بحنق من استفزازه لها، لاحظت عائشة استيائها فردت بدلًا منها
” لاحظ إن اللي بتتكلم عنها دي تبقى صاحبتي.. و أنا مقبلش حد من صحابي يتهان ”
” يا ستي حقك على راس أمي أنتِ و حنان.. قصدي ايمان.. يوه نسيت.. اسمها ايه قُلتِ.. علوان ! ”
قالها وهو يطالع روان بنظرات غيظ و استفزاز، مما غلي الدم بعروق روان و بحثت بعينيها سريعًا عن أي شيء تلقيه في وجهه المستفز هذا، استقرت عيناها أخيرًا على كوب ماء من البلاستيك مُعلق في ثلاجة مياة للشُرب بالقرب منهم، فأخذت الكوب و الذي كان نصفه ممتلئ، ثم سكبته في وجهه بغيظ أمامهم و صاحت بغضب
” أنت شكلك بني آدم مش متربي أصلًا ”
لم تستطع عائشة منع نفسها من الضحك بصوت عالي لتصفق بتشجيع لروان قائلة
” عاش يا رورو.. اديله كمان.. هو يستاهل ”
كاد أن يرد عليها من شدة غضبه، فأمسكته أمه من يده و سحبته بعيدًا لتقوم بتوبيخه غاضبة منه
” أنت مش هتحترم نفسك بقى ! جايب لنفسك التهزيق دايمًا كده من المصغرة ؟ مش ناوي تعقل يابني خالص ! لا حول ولا قوة إلا بالله
” بنت الـ… طب والله منا سايبها..
تحرك من أمام والدته باستشاطة، فأوقفته هاتفة بتحذير
” والله العظيم إن ما احترمت نفسك و طلعت عائشة و صحبتها من دماغك لأكسر دماغك يا رحيم يا ابن بطني.. ايه قولك بقى..
وقف مكانه ينظر لوالدته بوجوم وهو يتنفس بغضب دون أن يعلق بشيء.
أما روان ذهبت مع والدها لقسم الشرطة لعمل الاجراءات اللازمة كما طُلب منها بعد أن اطمأنت على والدتها و ترجتها كثيرًا أن تترك زوجها و تأتِ معهما، و لكنها رفضت بحجة أولادها فتركتها روان تفعل ما تشاء.. و قبل أن تذهب عانقت عائشة مع ابتسامة طيبة و بادلتها عائشة العناق شاكرة إياها على مساندتها لها اليوم.. تبادلا أرقامهم سويًا، و لأن عائشة نست احضار هاتفها فقامت بتسجيل الرقم على ورقة ثم وضعتها في كُم الفستان لعدم وجود حقيبة معها.
اتجهت عائشة برفقة أم رحيم للاطمئنان على جدتها المغيبة عن الواقع، بينما رحيم اتجه لقسم الشُرطة.
_________________♡
لا تستسلم ليس هنالك عارٌ في السقوط، العار الحقيقي هو عدم الوقوف مرة أخرى.
*******
اجتمع رجال الخياط في ردهة بيت ” مُصطفى” يتسامرون قليلًا و يمزحون سويًا مزاح مصطنع، قصده كل واحد منهم للتخفيف عن الآخر، خاصة بدر؛ لئلا يشعر أنه ثقيل عليهم.. حرصوا على جعل الأمر في غاية البساطة، بل تعاملوا مع بدر أنه شخص طبيعي ليس لديه أي أمراض نفسية، واضعين في عين الاعتبار عدم الضغط عليه في أي شيء ثانية أو تحميله فوق طاقته.
جلس بدر بعيدًا عنهم قليلًا على الأرجوحة الخشبية العريضة، يميل برأسه للوراء يتأمل بروز قُرص القمر المنير، و يفكر في نفسه.. لأول مرة يفكر في نفسه بطريقة إيجابية، يود من صميم قلبه حقًا أن يتعافى و يواظب على الصلوات، و يكمل تعليمه، يتمنى لو يحقق كل أحلامه التي عجز عن تحقيقها سابقًا، أما بالنسبة لعائشة، فهي دائمًا تشغل باله و عقله، و لكن تلك المرة أراد رؤيتها و مواجهتها و اعلامها بمرضه، لقد جاء حديث زياد له بنتائج مرضية، فعزم على الذهاب لعائشة و اخبارها بكل شيء، ثم يترك قرار رجوعها لها، ولن يجبرها على شيء..
لاحظ أُبَيّ ذلك الكائن رقيق القلب بريء الملامح، جلوس بدر بمفرده.. فاتجه إليه ليؤنس وحدته..
جلس أُبَيّ بجانبه ليقول باسمًا
” ممكن أقعد معاك شوية ؟ ”
بادله بدر الابتسامة قائلًا
” أكيد يا أُبَيّ.. أنت أصلًا قعدتك حلوة..
ثم نظر لجبهته التي أخفت الضمادة نصفها ليقول بأسف
” متزعلش مني.. مكنتش شايف قدامي.. حقك عليا ”
هز أُبَيّ رأسه بخفة و قال بنفي
” أنا مش زعلان منك.. أنا عارف إنه غصب عنك ”
لحظات و أقبل عليهما قُصي و سيف ليجلسا معهما..
أشار قُصي ضاحكًا لجبهة أُبَيّ و بدر
” أنتم لازم تاخدوا صورة للذكرى.. بس والله البشلة مخلياك حلو يا أُبَيّ يا خويا.. أما بالنسبة لبدر.. فأنا من رأيي المتواضع إنك تقص شعرك شوية عشان تدي لبشلتك وضعها.. حد يبقى عنده بِشلة عريضة كده و يداريها.. ده يبقى عيب في حق المتبشلين والله
هتف أُبَيّ و بدر في صوت واحد بتعجب
” المتبشلين !!
” اللي واخدين بشل زيكم يعني.. هو أنا كمان هتكلم و اترجم.. ده ايه المرار الطافح ده
أشار بدر لشقيقه سيف قائلًا بنفاذ صبر
” سيف.. خد الواد العبيط ده و امشوا من قدامي دلوقت.. أنا محتاج أقعد لوحدي شوية
قال أُبَيّ باحراج
” تحب أقوم ؟
” لا أنت خليك.. عاوزك في موضوع ”
غمز قُصي لسيف قائلًا بمشاكسة
” واخد بالك أنت ياض يا سيف.. بيقولوا عاوزك في موضوع.. شكله هيعبرله عن اعجابه ببشلته و يقوله قدام الناس أنا و أنت بقينا ببشلة خلاص، أصل أنت يا قلبي بشلتك غير كل الناس.. و يا واخد روحي و….
فر هاربًا دون أن يكمل باقي الأغنية التي عبث بكلماتها؛ بسبب نهوض بدر من مكانه.. ضحك بدر بقلة حيلة عليه ثم جلس ثانيةً وهو يقول لسيف بهدوء
” معلش يا سيف سيبني مع أُبَيّ لوحدنا شوية ”
أومأ سيف قائلًا بلُطف وهو يقترب بكرسيه من أخيه
” عاوز أحضنك قبل ما أروح..
ابتسم بدر ابتسامة واسعة و نهض ليعانق سيف بقوة وحنان.. فبكى سيف رغمًا عنه بين ذراعي شقيقه و قال بهمس
” اوعدني تتعالج و متسيبش نفسك كده.. اوعدني تخف يا بدر ”
” وعد مني قدام ربنا إني اتعالج يا سيف و أرجع أحسن من الأول كمان..
قالها بدر من قلبه بصدق، ثم وضع قُبلة حنونة على جبين أخيه و دفع بالكرسي خاصته وهو يضحك هاتفًا
” يلا روح لتوأمك الأهبل.. حلوا عننا شوية ”
جلس بدر ليفاتح أُبَيّ في الأمر الذي يشغل باله منذ الفترة الأخيرة
” أنا عايزك تشوفلي حد من رجال الأعمال اللي ليك علاقة بيهم يقدر يسلفني مبلغ كبير أسفر بيه سيف يتعالج.. أنا عاوز ابني يرجع يمشي تاني.. عايزك تساعدني يا أُبَيّ.. بس الحوار ده بينا بس.. محدش غيرك يعرف بيه..
أومأ أُبَيّ بتفهم
” اعتبره حصل.. هرد عليك في خلال يومين بإذن الله.. و إن شاء الله خير ”
******
في تلك الشقة التي تجمع بها أصدقاء كارمن، منهم رودينا..
قالت رودينا بابتسامة ماكرة وهي تشعل سيجار من الماركة العالية
” المُغفل رياض الكُردي فاكر إني نازلة مصر مخصوص عشان أفرق بين ابنه و خطيبته مقابل شوية ملايين..
ضحكت بسخرية ثم نفثت دخان سيجارتها باستمتاع قائلة
” أنا الفلوس آخر حاجة أفكر فيها.. أنا عندي دولة كاملة من المافيا بتلعب بالمليارات لعب.. هو صحيح أنا هنفذ له رغبته و أبعد البت المنتقبة دي عن كريم.. عشان يثق فيا مش أكتر.. إنما هدفي الأساسي هو كريم.. كريم بالنسبة ليا و لدولتي كنز ثمين استحالة أفرط فيه.. أنا بس محتاجة وقت عشان أقدر اخد منه كل المعلومات اللي عاوزنها عن الجيش المصري.. لو قدرنا نسقط الرئاسة هننتهز فرصة إن الدولة و شعبها بتبقى ضعيفة في الفترة اللي مفيش رئيس يحكمها.. و نضم مصر لدولتنا.. هتبقى أعظم دولة في التاريخ.. و هنول ثقة عائلة ريتشارد للأبد..
قالت جملتها الأخيرة بنظرات حالمة، و هي ترتشف القليل من مشروب ” الويسكي “..
سألتها كارمن باستفسار
” طيب و مستنية إيه.. إحنا ممكن ندبر لخطف كريم ”
ردت بنفي
” لأ.. خطف كريم يعني تهيج الجيش و الشُرطة.. و احنا مش عاوزين ده يحصل دلوقت.. مش هنقدر نتابع شغلنا في مصر لو الجيش اتحرك لمكافحة الارهاب.. لازم كل حاجة تتم بهدوء و في أمان.. المعلومات اللي وصلتلي انهارده.. إن كريم مش مجرد ضابط مخابرات.. ده الدراع اليمين للرئيس.. يعنه مسه بأي أذى معناه إن مصر هتقوم حرب عظيمة و إحنا مش عاوزين ده يحصل خالص..
أومأت كارمن بتفهم، ثم قالت بخفوت بعد أن اطمأنت أن ” آراش ” لا يزال في المرحاض
” الكلام ده مينفعش آراش يسمعه خالص.. هو آه محل ثقة لكن حاليًا لازم نحذر منه بعد الشريحة اللي زفت قُصي ده ركبها ليه..
” طيب ما تتخلصي منه أحسن بدل الخوف اللي أنتِ فيه ده ”
لوت شفتيها بعجز قائلة
” للأسف مينفعش.. لأن من غير آراش خططي كلها هتفشل.. آراش هو المُفكر بتاع الفريق.. يعني اللي بيرسم الخطط اللي على أساسها هننول المراد.. و أنا نازلة مصر مخصوص عشان أخد تار بابا من أبوه..
” طيب وهو ماله.. ليه ما أجرتيش حد يقتل أبوه علطول بدل حيرتك دي ؟ ”
” عشان ببساطة.. ثروة مجاهد الخياط كلها اللي في مصر و الدول التانية مكتوبة بإسم قُصي.. دي معلومة بابا قالي عليها في آخر زيارة روحتها ليه في السجن.. اللي عرفته إن قُصي ميعرفش بإن أملاك أبوه بإسمه ولا أي حد من اخواته ولا عيلته يعرف.. حتى ميعرفوش إن مُجاهد مكنش مجرد رجل أعمال وخلاص..
صمتت للحظات تفكر بغِل في الانتقام، فتساءلت رودينا بفضول
” اومال كان إيه ؟ ”
زفرت بضيق قبل أن تقول
” عميل سري للإنتربول الدولي ”
____________
بداخل بيت مصطفى الواسع، صعدت هاجر شقتها دون اخبار أحد، فقد أرادت الجلوس وحدها قليلًا بعد أن انتابتها موجة من الأحزان، متذكرة يوم وفاة والدها، اليوم الذي ظهرت أعراض المرض لدى شقيقها..
رغمًا عنها بكت بحُرقة و هي تضم ركبتيها لصدرها، مُشبكة أصابعها عليها و تخفي وجهها بين ذراعيها.. لم تسمع باب شقتها وهو يُفتح.. دلف زياد مُناديًا عليها دون رد منها.. انتاب قلبه القلق عندما سمع صوت شهقاتها المتتالية.. هرع سريعًا باتجاه غرفتهما فوجدها على تلك الحالة المحزنة.. لم يتحدث و لم يتفوه بأي كلمة.. فقط جلس و حملها برفق على فخذيه، ليضمها إليه بحنان ثم قبْل جبينها برقة و مسح على شعرها مسحة حانية، فتعلقت هاجر في رقبته و قالت باكية
” أنا عاوز بدر يخف يا زياد.. عاوزه أبويا يرجع كويس…
رد زياد وهو يضمها إليه أكثر ليطمئنها
” هيخف والله يا حبيبتي.. كله هيبقى تمام يا وردة زياد.. و بدر هيرجع أحسن من الأول إن شاء الله.. ادعيله أنتِ بس”
أومأت في صمت، فأبعدها عنه قليلًا ليمسح دموعها قائلًا بنبرة مرحة
” ممكن أجمل مامي في الدنيا تبطل عياط.. و تفكر معايا هنسمي البيبي إيه ؟ ”
تبسمت من بين بكائها و قالت
” لو جات بنوتة هنسميها و تين و لو جه ولد هنسميه نِياط ”
” اشمعنا و تين و نياط ”
” عشان دول أقرب مكانين للقلب.. زي قُربنا من بعض بالضبط ”
عقب قولها بتقبيلها من باطن كفها قائلًا بسعادة
” و هنبقى أجمل أسرة بجد.. عشان ربنا رزقني بأحن و أطيب و أجمل زوجة و أم.. ”
” أنت حظي الحلو من الدنيا ”
قالتها وهي تعود لتتوسط صدره باطمئنان، ثم قالت بنبرة حنونة
” عاوزين نزور عائشة بُكره يا زياد و نطمن عليها
” أنا هاخد بدر و نروحلها.. لازم الاتنين يواجهوا بعض وكل واحد يعرف اللي ليه و اللي عليه.. الاتنين بيحبوا بعض جدًا بس بيكابروا.. عشان كده أنا هرجع عائشة لبدر برضاهم غصب عنهم هيرجعوا.. مينفعش قصة حبهم تنتهي بفراق ”
أومأت هاجر مؤكدة على كلامه
” عندك حق.. حبهم لبعض تخطى الوصف.. مينفعش الحكاية تخلص على كده ”
أذن مؤذنًا لصلاة العشاء، فنهض زياد وهو يجذب هاجر معه برفق ليقول
” يلا يا روحي انزلي اقعدي معاهم تحت شوية و أنا هروح أصلي ”
تجاهلت ما قاله أو أنها لم تسمعه من الأساس؛ بسبب شرودها في شيء.. لاحظ زياد ذلك و قبل أن يتساءل.. وجدها تتجه ناحية عُلب طلاء الأظافر، ثم فتحت علبة و بدأت تستنشق رائحتها بعمق.. قال زياد بدهشة
” ايه اللي بتعمليه ده يا حبيبتي ؟! ”
ردت ببساطة
” بشم مونكير ”
” و ده ليه ؟ ”
“مش عارفة بس جاي على بالي أوي ريحته.. يجنن..
استدارت له لتقول بتوسل
” زياد.. أنا عايز جاز ”
” جاز !
“ايوه جاز”
” ليه ؟ ”
” عشان اشمه ”
” طيب ما تشميني أنا يا حبيبتي.. أنا ريحتي أحلى من الجاز ”
قالها بقلة حيلة وهو ينظر لما تفعله، ثم ضحك رغمًا عنه و اتجه ليحتضنها من الخلف قائلًا
” أنا عارف إن دي بداية وحم و لازم استحملها.. بس وحمك غريب أوي.. يتسجل في غينيس ”
ظلا يضحكان سويًا للحظات على هذا الجنان العفوي منها، ثم أخذها بلين من يدها متجهين للأسفل..
****
بينما بدر و أُبَيّ يتحدثان عن بعض الأمور التي تخصهما.. تساءل بدر
” يعني أنت رافض الجواز أصلًا.. ولا رافض أبوك اللي يجوزك ؟ ”
تنفس أُبَيّ بعمق ليقول
” الاتنين.. كنت رافض فكرة الجواز فعلًا.. لحد ما جات هي ”
” هي مين ؟ ”
صمت للحظات ثم قال باسمًا
” نورا ”
” بنت عمنا ؟ ”
قالها بدر بدهشة، فهز أُبَيّ رأسه في سعادة و أردف
” أنا كنت رافض الحُب تمامًا لحد ما جات هي بعيونها اللي تخبل سحرتني و رجعتني مراهق شايف إن الحُب ده أعظم شعور ممكن الإنسان يعيشه في الوجود.”
تبسم بدر لسعادة أُبَيّ و ابتسامته الطفولية الجميلة، و قال
“طيب مستني ايه.. اتقدملها.. كلم عمي أو قول لزياد”
” أنا هعمل كده فعلًا.. بس لما أتاكد إنها عاوزاني بجد.. عاوزه أُبَيّ بعيوبه و تتقبلها زي ما هي.. عشان أنا بسبب التلعثم اللي عندي تعبت و انجرحت كتير في حياتي..خايف انجرح تاني لو رفضتني”
ربت بدر على كتفه، و قال بتشجيع
” استعن بالله و كلم عمك.. و اللي فيه الخير ربك يقدمه”
” يارب ”
سمعوا جميعًا آذان العشاء، فتوجهوا سويًا للمسجد..
ساروا باتجاه مسجد الحارة، فكانوا مثالًا للعائلة المثالية.. يمشي مُصطفى بجانبه أخيه مجاهد يتبادلان الحديث بابتسامة واسعة، و من خلفهم بدر و زياد و أُبَيّ يتحدثوا عن الطفل الجديد بسعادة و كل منهم يرجح أن يكون صبي أو فتاة.. أما الثنائي المرح فكانا قد سبقوا البقية للمسجد؛ بسبب ما فعله قُصي المجنون.. لقد دفع بالكرسي المتحرك الخاص بسيف بقوة وهو يرفع نفسه في الهواء مستخدمًا يد الكرسي المعدنية، فيجري الكرسي بهما، بينما سيف يضحك بشدة على ما يحدث ويقول من بين ضحكاته
” منك لله الناس بتضحك علينا ”
وصلوا جميعهم للمسجد، و اتجهوا للوضوء، ثم سلم معظم الجالسون على بدر؛ لأنه لم يروه منذ مدة.. و صمم الجميع على أن يأمهم في الصلاة.. فتقدم بدر ثم أغمض عينيه مستحضرًا النية و الخشوع بعد أن أخذ نفسًا عميقًا أخرجه بهدوء..
ليرفع يديه قائلًا بصوت انتشر في أركان المسجد
” اللـــه أكبــــر”
و بدأ يتلو الفاتحة بصوته العذب المميز.. صلى الجميع وراءه بخشوع من بينهم سيف و زياد، الذين كانا في قمة سعادتهما أن بدر عاد ليسطع كالبدر من جديد.
****
أما نساء الخياط بعد أن أدين الصلاة، بدأوا في اعداد العشاء..
كانوا يتحدثون حول مختلف الأمور، دون أن تشاركهم نورا الحديث.. كانت شاردة في اعتراف أُبَيّ لها..
” أنا بحبك ”
ظلت تلك الكلمة تتردد في رأسها وقلبها، فوجدت نفسها تتبسم لا إراديًا مما لاحظت هاجر ذلك و تساءلت بمشاكسة
” بتفكر في إيه يا جميل ”
ردت بتلقائية وهي ما تزال تبتسم
” أُبَيّ قالي بحبك ”
رفعت هاجر حاجبها بدهشة لتقول
” أُبَيّ مين ! أُبَيّ بتاعنا ؟ ده بيتكسف أكتر من كسوف الشمس.. قالهالك فين وامتى و ازاي. احكيلي ”
قالت هاجر آخر جملة، وهي تأكل الخيار الذي قطعته للرجال بشراهة دون أن تدري.
حكت لها نورا كل شيء حدث معها، منذ أن ذهبت لبيت عمها مجاهد لاعطاء زوجة عمها
” صينية الجُبن” حتى ما حدث وهي تضع له ضمادة على جرح جبينه.
اتسعت ابتسامة هاجر و قالت بغمزة مداعبة
“ايه العيلة اللي كل رجالها حبيبة دول.. شكلها هتحلو وفي قصة حُب جديد هتبدأ.. ده إذا مكنتش بدأت أساسًا”
تبسمت نورا برقة، ثم هتفت بدهشة وهي تنظر لطبق الخيار الفارغ
” ينهار أبيض.. الخيـار !! ”
وضعت هاجر يدها على بطنها ببراءة قائلة
” مش أنا.. ده البيبي ”
****
جاء الرجال من المسجد، و تم الانتهاء من اعداد العشاء.. وُضعت أمامهم مختلف الأطباق من
(البطاطس المقلية، و الجُبن، و الباذنجان المقلي، و الفول و البيض، و التونة، و الخضار مثل الجرجير، بالإضافة لشرائح البطيخ)
دلف زياد للمطبخ ليحمل الصينية، و في ذلك الوقت كان قُصي قادمًا لسرقة أي شيء من الثلاجة فقد كان يتضور جوعًا، تزامن مجيء قُصي مع مغازلة زياد لهاجر بعد أن أصبح المطبخ فارغًا عليهما، و قبل أن ينحني ليُقبل بطنها… هتف قُصي باستياء مصطنع مما فُزع هاجر و زياد
” ياعم إحنا قاعدين برا ميتين من الجوع و أنت هنا عاملي نفسك العندليب ! ”
ثم مال برأسه ناظرًا لهاجر ليقول
” ما تقولي حاجة يا شادية ؟
” و ربنا منا سايبك ”
قالها زياد ثم انطلق ركضًا وراء قُصي، الذي صرخ ضاحكًا و راح يتخفى وراء بدر، فشده بدر من خلفه بضحك ثم سلمه لزياد، فأوقعه زياد على الأرض وأخذ يدغدغه ليقول
” أنت هتموتني من الخضة و أنا هموتك من الضحك
ظل قصي يضحك بشدة و يستنجد بأي حد لينقذه، فأسرع أُبَيّ بانقاذ أخيه وهو يضحك عليه بعفوية.. سحبه من تحت زياد أخيرًا، بينما سيف يصفق هاتفًا
” تعيش نجلاء.. تعيش تعيش ”
قال قُصي وهو يلتقط أنفاسه
” هقطع علاقتي بيك لو قولت نجلاء تاني.. كوكي هو الأساس و الباقي شنط و أكياس ”
كانا مجاهد و مصطفى يشاهدان مزاح رجالهم وهما يضحكان، ليقول مجاهد
” والله و كبرنا يا مصطفى و جبنا انتاج يفتح النفس ”
رد مصطفى بسعادة
” عقبال ما نشوف عيالهم ”
وجد أُبَيّ أن أخوته منشغلون بالمزاح مع بعضهم، فدخل ليحضر هو صينية العشاء.. كانت هاجر قد خرجت من المطبخ واتجهت لتتناول الطعام في الصالة معهن، ولأن الصالة تفصل بينها وبين المطبخ و واجهة الباب ستارة كبيرة، لم يروا أُبَيّ وهو يدلف للداخل.. في ذلك الوقت نهضت نورا لتحضر زجاجة مياه و دخلت قبل أن تراه..
جاء أُبَيّ و وقف عند مدخل المطبخ عندما وجدها بالداخل وحدها..
تحمحم باحراج ليقول
” احم.. نورا.. ممكن.. ممكن تطلعي.. عشان.. عشان أدخل.. أجيب الصينية ؟ ”
شعرت نورا هي الأخرى بالاحراج و الخجل من وجوده، فهزت رأسها في صمت و أثناء خروجها.. أوقفها بجسده وهو يقف أمامها يتيه في وجهها و عينيها بالذات كلما رآها
” استني..
رفعت عينيها بنظرات مستفسرة.. تابع وهو لا يستطيع ابعاد بصره عنها
” أنا.. أنا عشقتك من أول ما شُفتك ”
ابتلعت ريقها بتوتر و خجل، وهي تخفض بصرها عنه.. تساءلت بعد لحظات من الصمت
” اشمعنا أنا ؟.. أنت بجد شايفني حلوة ؟ ”
لمعت زرقة عيناه بحُب و ابتسم ليقول بنبرة صوت بدت دافئة جدًا، دافِئة لدرجة أنها برّقة و دفء حِباله الصوتية إذا تحدث مع يتيم أشعره بأنه لم يفقد حنان والديه قطّ..
” ملامحك.. ملامحك.. اللي.. اللي مش عجباكِ دي.. خطفت..خطفت.. قلبي و.. و ضيعت صوابي.. أنا..أنا مفتون بعيونك و بسمارك يا نورا و الله ”
تنفست بعمق وهي تغمض عيناه بسعادة شعرت بها، ثم وضعت يدها على قلبها لتهدئ نفسها قائلة له
” أنا أول مرة حد يقولي كده.. أنا أول مرة أتحب”
” و مش آخر مرة.. لأني هفضل أحبك عمري كله”
قالها بابتسامة جميلة كملامحه الحنونة، فضحكت بخفة و لم تقل شيء.. خرجت من المطبخ و الفرح يغمر قلبها، و قبل أن تختفي من أمامه استدارت لتنظر له باسمة، فبادلها النظرات بابتسامة مشرقة، ثم حمل الصينية و خرج وهو لا زال يبتسم ملء شدقيه.
وضع أُبَيّ الصينية ولم يلاحظ أحد تأخره؛ لانشغالهم في الركض وراء بعضهم كالصغار.
التفوا جميعهم حول الصينية الواسعة، و ذكروا اسم الله و بدأ قُصي بالتهام البطيخ بشراهة
نظروا له باستياء، و نهره سيف من قلة احترامه لهم.. ليقول وهو يوكزه في كتفه
” براحة ياسطا أنت مش داخل سباق.. كل براحة
–ولاه ابعد عني دلوقت.. ده بطيخ
–هو عشان بطيخ تاكلوا بالمنظر المقرف ده !!
–سيف
رد سيف بملل وهو يتناول قطعة صغيرة من البطيخ بأدب
” اممم”
“بطل فشخرة كدابة.. جدنا كان بيقطع التورتة بالشنيور”
“هو جدك كان يعرف التورتة أصلًا !.. ده آخر معلوماته عنها.. إنها شبه السفنجة”
صاح بهما مجاهد
” لم نفسك ياض أنت وهو ”
أومأ الاثنان في صمت و تابع طعامهما بتلذذ..
بعد الانتهاء من الطعام.. قال زياد وهو يضع رأسه على فخذ بدر ممددًا قدميه بعيدًا عن والده وعمه
” ولا يا قُصي.. قوم دخل الصينية و خليهم يعملوا شاي ”
” أنا مالي.. اللي جابها يدخلها ”
قالها قُصي وهو يتمدد بنُعاس واضعًا رأسه على فخذ عمه مصطفى..
تدخل أُبَيّ منتهزًا الفرصة
” هدخلها أنا ”
نهض وهو يحمل الصينية للداخل، فكانت تلك المرة نورا و أمها في المطبخ..
قال أُبَيّ بأدب
” الصينية يا عمتو ”
ضحكت نورا رغمًا عنها من مناداة عمته بـ ” عمتو” بدلًا من ” عمتي” مثلما يقول باقي شباب العائلة؛ لأنه معروف أن “عمتو” لا يُنادي بها سوا الصغار أو الفتيات أم الرجال فلا.
تساءل أُبَيّ بفضول وهو يضحك على ضحكاتها
” بتضحكِ ليه ؟ ”
نظرت سارة لابنتها بغضب لتتوقف عن الضحك، فلم تستطع.. قالت
“من يوم ما اتولدت مسمعتش حد من الشباب بيقول يا عمتو غيرك.. كلهم بيقولوا عمتي.. و ياريتهم بيقولوها بأدب زيك كده.. دول زي ما يكونوا داخلين خناق
ضحكت سارة وهي تضرب نورا بخفة قائلة
” سيبك منها دي بت هبلة.. بس عمتو طالعة منك زي السُكر ”
تبسم ضاحكًا وكاد أن يذهب، لكنه تذكر الشاي فالتفت طالبًا باحترام
” عمتو.. ممكن تعمللنا شاي ؟ ”
التفتت لابنتها قبل أن تخرج
” علقي على الشاي يا نورا.. أنا رايحة أحط للبط أكل زمانه ميت من الجوع ”
التفتت نورا له متسائلة
” سُكرك إيه ؟ ”
” أنتِ ”
قالها وهو يبل أطراف أصابعه بالماء المقطر من الصنبور، و ينثرها على وجهها مازحًا.. هتفت وهي تضحك وتخفي وجهها
” اطلع برا يا بتاع عمتو أنت ”
ضحك من قولها، ثم تركها وخرج حتى لا ينتبه أحد لوجودهما وحدهما.
خرج أُبَيّ ليجدهم بدأوا يحكون حكايات خيالية عن الحارة منها المرعب و منها المضحك..
هتف قُصي يقطع حديثهم
” ايه رأيكم كل واحد يقول موقف مضحك حصل معاه وهو صغير ؟ ”
رفع سيف يده في مرح
” أنا موافق ”
و اندمج بدر معهم ضاحكًا
” و أنا موافق ”
و كذلك قال زياد، و شاركهما أُبَيّ اللعب..
قال قُصي وهو ينهض من على فخذ عمه ليجلس و يسرد مواقفه الطريفة
“مرة و أنا صغير بعت حمامه ميتة لبنت معايا في الحضانة بخمسة جنيه و قولتلها نايمة و العصر بتصحى”
صمت خيم عليهم لثوانِ يحاولون استيعاب ما قاله، ثم انفجروا جميعًا ضحكًا عليه.. ليقول سيف وهو يضحك بشدة
” أنت ملكش حل.. يخربيت جنانك ”
تابع سيف ضاحكًا..
” أنا بقى و أنا صغير كنت لما بدخل الحمام بقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبز و الخبائز و مكنتش فاهم هما بتوع أفران العيش عملوا إيه في حياتهم علشان نستعيذ منهم..
ظلوا يضحكون للحظات، حتى قال مجاهد
” مش فاكر مواقف قد كده بس هقولكم نكتة..
مرة واحد كان بيتفرج على مقطع ساخن اتلسع..
ضحك شقيقه مُصطفى بشدة، رغم أن تلك المزحة لم تعجبه، و لكنه تعمد الضحك حتى لا يحرج أخيه.. بينما الشباب ظلوا ينظرون لبعضهم البعض في صمت نظرات بدت مضحكة.. هتف قُصي بتأثر مزيف
” بصراحة أنا مذهول من هذا الخبر و أهلي جميعهم مذهولين و جيراني انذهلوا لأننا مذهولين ونحن أيضًا انذهلنا لأن جيراننا انذهلوا مثل ما نحن انذهلنا و بلغت أقاربي لكي ينذهلوا مثل ما انذهلنا و بلغت أصحابي لكي ينذهلوا مثل ما انذهلنا.. لأنه لا يجوز نحن ننذهل و أصحابي لا ينذهلون.. و أنا من موقعي هذا قُصي جونغكوك الخياط أناشدكم جميعًا أن تنذهلوا مثل ما نحن انذهلنا حتى يعم الذهل و الانذهال جميع ارجاء العالم..
بينما كان يقول ذلك العبث كانوا تقريبًا انفاسهم تكاد تنقطع من الضحك، إلا والده الذي ظل يطالعه بجمود.. حتى انتهى و خلع نعله ليلقي به في وجهه هاتفًا بغضب
” صدق أنك عيل قليل الأدب !
تفادى قُصي النعل وهو يسقط وراءه من كثرة الضحك، بينما قال سيف بوجه محمر من القهقهات
” معلش يا جماعة.. اعذروه.. أصل الفص اللي في مخه مسؤول عن التفكير فص توم..
كانت أمسية رائعة و ليلة أحداثها ما بين السيء و الجيد، انقضت في النهاية على الجميع بسلام.. زار النعاس جميع الجفون، فذهب كل منهم لبيته للنوم.. غدًا ينتظرهم بيوم حافل من الأحداث.
_______
أدلت روان بأقوالها في مكتب رئيس المباحث، ثم خرجت برفقة والدها متجهين للبيت..
كانت تشعر بالحزن حيال والدتها، و لكنها اختارت ذلك فلها ما تشاء.
أثناء سير السيارة بهدوء و بأمان، شعرت روان بألم حاد في رأسها، و اتسعت عيناها كأنها رأت شيئًا عجيب !
وضعت يدها على رأسها وهي تئن بألم، جعلت والدها يوقف السيارة في الحال و يتفحصها بخوف..
هتفت بعد أن زال الشعور بالألم فجأة
” بابا.. بسرعة.. سوق بسرعة..
تساءل والدها في قلق
” في إيه ؟؟ ”
هتفت بتوسل
” حرك العربية يا بابا.. بسرعة بالله عليك.. ماما إيناس وقعت من السلم و جالها نزيف ”
رمقها والدها بدهشة وهو يقود بأقصى سرعة، أما هي ظلت تدعو الله أن يصلوا في الوقت المناسب لانقاذ زوجة والدها، فما رأته هو مشهد تصوري لما سيحدث بعد لحظات أو ربما يكون قد حدث بالفعل !
_________
بعد أن ودعت عائشة جدتها، قام رحيم بتوصيلها للمنزل مع والدته التي صممت على المبيت مع عائشة و عدم مفارقتها حتى تفوق جدتها.
عاد رحيم بسيارته لمكان عمله..
دلف لمكتب اللواء الذي دعاه للمهمة المراد تنفيذها، ليلقي عليهم التحية ثم تبسم وهو يمد يده يصافح شخص عزيز على قلبه
” كريم باشا.. ليك وحشة يا جدع ”
صافحه كريم ضاحكًا
” لحقت وحشتك في اليومين دول.. اقعد.. اللواء صابر عزمي عاوزنا في مهمة سوا ”
رد مبتسمًا بغرور مصطنع
” يا زين ما اخترت يا عزمي باشا.. كريم و رحيم في فريق واحد معناه إن المهمة نجحت خلاص ”
______
صباح يوم جديد على الجميع، و شمس تشرق معلنة بداية أحداث جديدة في حياة البعض.
وقف بدر أمام خزانة ملابسه بعد أن أخذ حمامًا باردًا، ليختار أي القمصان أجمل للقاء حبيبته ” عائش ” بعد فراق دام قرابة الشهر.
اقترب سيف من أخيه يساعده في اختيار ثيابه، وقعت عيناه على قميص بلون زرقة السماء، فأشار عليه قائلًا باعجاب
” القميص ده هيبقى جامد عليك..
فكر بدر للحظات و قال
” أنا قلت كده برضو.. بنطلون جينز أزرق غامق هيليق عليه ؟
” بلاش جينز.. القماش الكحلي ده هيبقى أشيك
بدأ بدر في ارتداء ملابسه و ذهنه كله مع عائشة، يسأل نفسه ” تُرى هل اشتقتِ إليّ مُهجتي؟ ”
” هل ستقبلينني بمرضي؟ ”
ارتدى القميص ثم رفع أكمامه قليلًا ليبرز عروق ساعديه الجذابة، و أدخل القميص في البنطال ليرتدي حزام بلون الحذاء كُحلي أيضًا، ثم نثر عطرًا جذابًا للغاية و مشط شعره الطويل قائلًا لسيف
“ايه رأيك أقصه ؟ ”
” أنا شايف إن الشعر الطويل لايق عليك.. بس مفيش مانع لو جربت استايل جديد ”
تبسم وهو يرجع خصلاته الناعمة للوراء
” عائشة ممكن تسامحني على أي حاجة إلا إني أقص شعري.. معرفش عاجبها في ايه ”
ابتسم سيف لانعكاس شقيقه في المرآة ليقول
” ابقى سلملي عليها و متجيش غير وهي في ايدك”
” إن شاء الله ”
قبْل رأس أخيه، ثم قبْل يد والدته بعد أن دعت له كثيرًا، و خرج ليقابل زياد في الأسفل للذهاب سويًا لبيت جدتها.
قاد زياد السيارة وهو يختلس النظرات بين الحين و الآخر على بدر الذي لم تفارق الابتسامة وجهه، وهو يتخيلها زوجة له ثانية.
على الجهة الأخرى، تهيأت عائشة لزيارة جدتها في المشفى مع أم رحيم..
ارتدت ذلك الفستان الرقيق الذي ارتدته عندما ذهبت مع بدر لمرسى مطروح.. اصبح واسعًا عليها قليلًا لخسارتها وزنها بسبب الحزن و سوء التغذية.. رغم شحوب وجهها، و لكنها ظلت محافظة على ملامحها جميلة كما هيّ.
قبل أن ترتدي حذائها، رن جرس الباب فذهبت أم رحيم لتفتح..
تأملت هذان الشابان الوسيمين باستغراب متسائلة
” مين حضراتكم ؟ ”
” مين يا خالتو ؟ ”
تساءلت عائشة وهي تخرج من الغرفة، لتتسع عيناها بدهشة و صدمة من وجود أبناء عمها في بيت جدتها !
نظرت لزياد بعدم استيعاب لوجوده، ثم حولت بصرها لبدر و ظلت تنظر له دون أن تنطق بحرف واحد..
ظلت للحظات تنظر له بدهشة غير مصدقة وجوده أمامها، بينما هو بادلها النظرات بعشق وشوق و لهفة لجذبها و ادخالها في قلبه.. أخذ قلبها يهبط و يعلو بسرعة شديدة، و يدق بعنف دقات تكاد تكون مسموعة، عندما اقترب منها بشدة، وهو ما يزال يغوص في عيناها الغزالية بعشق جنوني من الممكن أن يجعله يفقد صوابه أمامهم الآن، و يفعل أي شيء مُحرم..
نطقت عائشة أخيرًا بعدم استيعاب
” بـدر !.. أنت هنا ؟! ”
” بدر هنا لأجل عيون عائش ”
قالها وهو يضع كفه بحنو و لين على خدها.

يُتبع ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *