روايات

رواية مملكة سفيد الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الفصل الحادي والثلاثون 31 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد البارت الحادي والثلاثون

رواية مملكة سفيد الجزء الحادي والثلاثون

مملكة سفير
مملكة سفير

رواية مملكة سفيد الحلقة الحادية والثلاثون

دارت عيون آزار بين الاثنين قبل أن يستقر بعيونه على ولد شقيقته العزيز، يربت على كتفه بهدوء شديد وقد ملئ نبرته بعض الإرهاق مما يمر به منذ ايام طويلة :
” لقد طلبت حضوري لأجل اخباري بخطتك أنت سالار، لذا قل ما أردت يا بني ”
ابتسم له سالار يقبل يده باحترام شديد :
” العفو خالي، أنت الكبير هنا والكلمة كلمتك ”
ابتسم له آزار بحب :
” وأنت الافقه هنا سالار، لذا ليس من الخطأ أن أتبع حديثك، ماذا تظن أنت إيفان ؟!”
هز إيفان رأسه وهو يشير للجميع بالتحرك صوب المقاعد يقول بصوت جاد :
” اوافقك الرأي ملك آزار، ثم سالار هو من طلب استدعائك على وجه السرعة وقد تطلب احضارك دون إثارة بلبلة الكثير ”
ابتسم آزار بسخرية وهو يتذكر صراخه في القصر بأن اخبار وصلته بما حدث في بلاده بفعل جنود سفيد، ثم حمل أسلحته وتحرك متوعدًا للجميع بالويل، وحين دخل سفيد ترك جنوده بأمر ملكي على ابواب القصر وجاء هو هنا .
جلس كلٌ من آزار وإيفان أمام بعضها البعض وفي مقدمة الطاولة وقف سالار يقول ببسمة واسعة :
” وصلت اخبار فرقتنا وعداوتنا لبافل وادخلنا السرور على قلبه بعداوتنا الوهمية، وبهذا خففنا من تجهيزاته للحرب وكسبنا لصالحنا عنصر المفاجأة، وايضًا اعطينا ذلك الخائن بطاقة خضراء ليكمل ما فعل معتقدًا أن لا أحد منتبه له وقد تراشقنا الاتهامات بيننا منذ سقوط مشكى .”
ختم حديثه ليهز آزار رأسه موافقًا حديث سالار وهو يقول بجدية :
” لقد جاء العريف لمملكتي منذ أيام واصل لي الكتاب الذي يحوي خطة الحرب، وايضًا أخبرني برغبتكم في مجيئ ”
صمت ثم نظر لعيون سالار والذي كان يفتخر به طوال الوقت، فهذا الشاب الذي تربى على يده ايام قبل أن يحضر هنا حيث بلاد والده ليحقق رغبة الاخير أن يكون ذو شأن عظيم .
” إذن ما الخطوة القادمة سالار ؟؟”
نظر له سالار، ثم تحرك بنظراته صوب إيفان الذي كان صامتًا يستمع لكل شيء وكأنه يخزن ما يحدث برأسه حتى يستخدمه لاحقًا بطريقته .
” الخطوة القادمة لن نتناقش بها هنا ”
نظر له الاثنان بعدم فهم وتحدث إيفان واخيرًا :
” ما الذي تقصده سالار ؟؟ أين سنفعل برأيك ؟؟ لقد أرسلنا للملك آزار ليأتي لنا لأجل مناقشة الخطوة القادمة ”
تنهد سالار بصوت قلق من ردة فعل إيفان:
” سوف نناقشها في …الكوخ الخاص بوالديّ ”
رمقه ازار بغموض وهو يدرك أن سالار يخفي شيئًا، فليس هو من يشارك ذلك المكان الخاص به مع أحدهم، إلا في الضرورة القصوى ..
وإيفان ينظر لملامح سالار والذي كان لمرته الاولى يحاول تجنب عيونه :
” سالار ما الذي يحدث من خلف ظهري ؟؟ لقد كنت أدرك أنك تخفي عني شيئًا بسبب خروجك في الآونة الأخيرة واختفائك بشكل غريب ودون كلمات، لم أرد التطفل عليك، لكن امنيتي أنك لم تفعل شيئًا دون العودة لي ”
ابتلع سالار ريقه وكل فكره تحرك إلى ردة فعل إيفان، هو لم يقصد إخفاء الأمر عنه، نعم في البداية أراد أن يعلمه درسًا لما فعل مثله مثل أرسلان، وانتظر كذلك أن يفيق أرسلان، وحين فعل دخلوا في دوامات كثيرة هنا ولم تُتاح له فرصة البوح بما يكن في صدره ..
” حسنًا سأخبرك، لكن ليس هنا إيفان، حينما نصل سوف أخبرك ”
نظر له إيفان بريبة ينهض عن مقعده يتحرك صوبه وهو يقول بانتباه شديد يتفحص ملامح سالار هامسًا :
” هل هذا السر خطير لدرجة أنك لا تريد النظر في عيوني سالار ؟؟”
رفع سالار عيونه وإيفان يقول بصوت منخفض :
” لا إيفان، لكنني أخشى فقط أن يُساء فهمي، لقد فعلت ما فعلت لاجلك صدقني ”
ضرب إيفان الطاولة بغضب من هذا الحديث الملتف حول نقطة وهمية :
” ما الذي تقصده أنت سالار، تحدث بكلمات واضحة رجاءً وتوقف عن الحديث بهذا الشكل الذي يشعرني أنك ارتكبت شيء لا يُغتفر ”
تنفس سالار بصوت مرتفع يقول :
” فقط لنتحرك صوب الكوخ وحينها اخبرك بما يحدث ”
نظر له إيفان وكاد يرفض بغضب شديد لإخفاء سالار شيئًا عنه، لكن سالار نظر له في عيونه برجاء :
” رجاءً إيفان..”
أبعد إيفان عيونه عن سالار يتنفس بصوت مرتفع :
” اقسم إن كان ذلك الشيء به أذى لك سالار فلن اسامحك، لن اسامحك، ليس هذه المرة أيضًا”
ختم حديثه مشيرًا للحرب الأخيرة التي خاضتها الممالك والتي وضع بها سالار خطة انتحارية له، حينها كاد القصر أن يُهدم فوق رؤوس من به بسبب صراخ إيفان وغضبه، الجميع أخفى عنه تلك الخطة بأمر من سالار والذي نجى بأعجوبة .
ابتسم له سالار يربت على كتفه :
” لا تقلق الأمر ليس متعلقًا بي، لكن قبل الذهاب نحتاج لمرافق آخر”
نظر له إيفان بفضول ليحرك سالار عيونه بعيدًا عنه خشية أن تلتمع بمشاعر يرفضها حين نطقه باسمها :
” الملكة تبارك، نحتاجها معنا فمهيار ليس هنا حسب اعتقادي و…”
صمت ثم قال بهدوء :
” وكذلك الأميرة كهرمان ..”
_____________________
” ابتعدي من أمامي تبارك والله لن اتركها تنجو من أسفل قبضتي، تلك الـ…كدتي تلقي بنفسك في كارثة أيتها الغبية بسبب لسانك السليط ”
دفعتها تبارك للخلف وهي تحاول الحديث بهدوء :
” اهدأي عزيزتي سوف تلقي بنفسك في التهلكة بسبب زمرد ؟؟”
هزت زمرد رأسها وهي تقف خلف تبارك كي لا تفلت كهرمان منها وتهجم عليها، وكل ذلك في غرفة برلنت المسكينة التي كانت لاتعي ما يحدث حولها وهم لم يراعوا ذلك حتى :
” نعم اخبريها لتلك الحمقاء، سوف تُجرد من لقبها كأميرة كما حدث مع تلك الحرباء شهرزاد فقط لأنها قتلت فتاة مثلي ”
تنفست كهرمان بصوت مرتفع تمسح وجهها وهي تقول بجدية :
” أوتعلمين أنتِ محقة، لا يعقل أن تتلوث يدي على آخر الزمان بدمائك زمرد ”
ابتسمت زمرد ولم تكد تضيف كلمة أخرى حتى انقضت عليها كهرمان صارخة بغضب :
“لذلك سوف اخنقك حتى الموت، هكذا دون دماء ”
اتسعت أعين تبارك ولم تستوعب ما حدث وهي تركض تجذب كهرمان تحاول أن تهدئها، صارخة بغضب شديد وقد كادت كهرمان تخلع ذراعيها وهي تقاوم تكبيلها :
” يا الله ما الذي ألقى بي في كل هذا ؟؟ أنا فقط كنت أريد النوم بسلام ورؤية برلنت قبل ذلك، ليتني ذهبت للنوم فقط ”
تحدثت زمرد بغضب شديد وهي تشير لكهرمان بحنق :
” كل هذا لأنني دافعت عنك أمام ذلك الملك الذي ينظر للجميع بشكل مخيف، اقسم أنني شعرته سيخرج نيران من عيونه ويحرقني حين تحدثت بكلمة، لا ادري ما هذه القوانين الغبية التي تمنع البشر من الحديث في وجوده لذلك الملك، ولا ادري ما الذي يدور في عقلك لتحـ ”
فجأة شعرت زمرد أنها تتحرك بلسانها في طريق بعيد وأمام تبارك التي التقطت تلك الكلمة الغير منطوقة، بينما كهرمان أغمضت عيونها بغضب شديد وخوف أن تكون تبارك انتبهت لحماقة زمرد .
وزمرد أبعدت عيونها بسرعة عنها تشعر أنها حقًا أفسدت الأجواء تتحرك صوب فراش برلنت بسرعة تقول بشفقة :
” برلنت الحبيبة، يا ويلي مما اصابك يا صغيرة، اقسم أنني سأذهب بنفسي وألقن هؤلاء الرجال درسًا لن ينسونه حبيبتي ”
ابتلعت تبارك ريقها وهي تبصر ملامح كهرمان المتغضنة وقبضتها المضمومة، هل ما شعرت به حقيقة ؟؟
هي الأخرى تحب الملك، ما هذه المتاهة التي يدور بها الجميع ؟؟
هي في الحقيقة لم تشعر بغيرة البتة، لم تشعر بشيء سوى الشفقة على حالتها وحالة كهرمان إن تم هذا الزواج، هي التي لا ترى الملك سوى شقيق لها، شخص لطيف وسيكون بمثابة شقيق حنون، لكن أبدًا لا تتخيل زوجًا لها سواه هو .
تأوهت تبارك دون وعي وهي تمسك جهة قلبها تخشى تلك اللحظة التي ستصبح زوجته للملك فقط لأجل أسطورة ورؤية حمقاء .
وكهرمان التي امتلئت عيونها دموعًا نظرت صوب تبارك بخوف أن تكرهها أو تنبذها، لذا ابتلعت ريقها تقول بصوت منخفض :
” تبارك عزيزتي، هذه زمرد فقط …”
” هل تحبينه للملك ؟؟”
نظرت لها كهرمان بعيون واسعة مصدومة وكأن تلك الحقيقة كانت مستبعدة عن عقلها، ابتلعت ريقها تقول بتوتر :
” تبارك ما الذي تـ ..”
اقتربت منها تبارك تهمس لها بجدية :
” هل تحبينه ؟!”
نظرت كهرمان في عيونها ورأت وجعًا فسرته أنه وجع خذلان منها أو ربما مشاعر كره لها، سقطت دموعها تقول كاذبة :
” لا، لا أفعل، أنا في الأساس لا احب حتى النظر لوجهه و…صدقيني لا أفعل تبارك، أنا لستُ حقيرة لهذه الدرجة، أنا لا …”
وقبل أن تكمل حديثها هتفت تبارك بصوت موجوع ونبرة خافتة وهي تربت على كتفها :
” اعتقد أنه هو أيضًا يبادلك هذه المشاعر كهرمان ”
وكهرمان المسكينة التي ألقتها كلمات تبارك في هوة سحيقة كانت تحاول التنفس بشكل طبيعي، هل ما فهمته صحيحًا، أم أن كلمات تبارك بخصوص مشاعر إيفان تقصد بها أنه هو كذلك لا يحب النظر لوجهها ؟؟
نظرت لوجه تبارك ولم تكد تطالبها باستفسار حتى قاطعهم صوت طرق على الباب جعل زمرد تنتفض عن مكانها مشفقة على الاثنتين مما يحدث .
فتحت الباب بهدوء لتجد أمامه تميم ودانيار الذي قال بهدوء متعجبًا ملامحها الغريبة :
” الملك يستدعي الملكة والأميرة كهرمان ”
شعرت كهرمان بقرب توقف قلبها وهي تحدق في تبارك بعدم فهم، بينما تبارك لم تفهم سبب استدعاء الملك لها مع كهرمان، ابتلعت ريقها وقد بدأ قلبها ينتفض وهو يفكر أنه ربما، ربما أدرك أن هذا الزواج سيكون سببًا لدمار الكثير .
خرجت الفتاتين مع تميم الذي ألقى نظرة على برلنت يطمئن أنها بخير، ثم تحرك معهما، بينما بقي دانيار يحدق في زمرد بشكل غريب ورحل تاركًا الأخيرة تجلس جوار برلنت تربت على رأسها بشرود وشعور قوي بالذنب :
” لو حدث شيء بين تبارك وكهرمان لن أسامح نفسي ما حييت …”
___________________
كانت أوامر سالار أن يرحل هو مع إيفان وآزار قبل الفتيات ليتخطى جزء صدمة إيفان بنجاة أرسلان، ومن ثم يحين دور كهرمان، وأحضر تبارك لتكون موجودة إن حدث أي مكروه لارسلان بعد معرفته انشغال مهيار في إحضار بعض الأعشاب ..
تنفس بصوت مرتفع وهو يقترب من الكوخ، يشعر بضربات قلبه ترتفع وهو ينظر صوب إيفان الذي كان ينظر حوله بفضول شديد ..
بينما آزار كان في عالم بعيد عنهم وهو يقترب من المكان الذي فقد به شقيقته الحبيبة، اغمض عيونه يحاول ألا يضعف، لكن صوتها وهي تناديه بلقبها الخاص يرن في أذنه، ضحكاتها وبسماتها، صغيرته الحبيبة التي عاش معها طفولتها كاملة وسلمها بيده لزوجها الذي اختارته وأصرت عليه دون غيره، عناقها له وركضها نحوه وهي تهتف بسعادة كبيرة حينما اقتحمت عليه ساحة التدريب :
” آزي العزيز خمن من سيصبح خال ؟؟”
سقط السيف من يد آزار بصدمة كبيرة وهو يستدير خلفه يرى عائشة تتقدم نحوه بوجه مشرق وسعادة طاغية جعلته يقول بعدم تصديق :
” خال ؟؟ أنا ؟!”
أطلقت عائشة ضحكات عالية وهي تلقي نفسها بين أحضان ازار الذي لم يستوعب بعد ما يحدث وهي تهتف بصوت يتراقص فرحًا :
” لقد علمت منذ يومين أنني احمل طفلًا آزي ولم أرد أخبارك مثل هذا الخبر السعيد في رسالة فجئتك من سفيد خصيصًا لأرى نظراتك تلك ”
وآزار كان فقط يحدق في عيونها بشحوب :
” ستصبحين أمًا ؟؟”
” تخيل، الصغيرة كبرت وستصبح أمًا قبلك آزي ”
هبطت دموع آزار بعدم تصديق وهو يحمل عائشة يدور بها بسعادة يصرخ بعدم تصديق :
” يا ويلي سيصبح لصغيرتي طفل؟؟ سيناديني بالخال آزار .. أنا لا اصدق، سوف اوزع على شعب المملكة بأكملها هدايا وغلال، سأشارك كل من في الممالك سعادتي عائش، سوف يفرح الجميع لميلاده، لن يكون هنالك شخصًا واحدًا في الممالك الأربعة إلا وقد نال هديته لمولد الصغير..”
” خالي …خالي، هل أنت بخير ؟! لقد وصلنا ”
استفاق آزار وهو ينظر حوله بأعين دامعة مسحها بسرعة قبل أن يبصرها أحدهم، لكن كان الأوان قد فات فتظاهر إيفان أنه يربط حصانه ولم ير ما يحدث، بينما سالار نظر له بحب يقول :
” كانت تحبك كثيرًا ”
حاول ازار ألا ينهار باكيًا كطفل صغير، ليس الآن وليس أمام أحد، هو ليس بطفل ليبكي فقدان شقيقته أمام الجميع .
تنفس بصوت مرتفع :
” وهي كانت لي الحياة بأكملها، رحمة الله عليها وعلى والدك بني ”
هز سالار رأسه ثم هبط عن فرسه وتبعه ازار، بينما إيفان يترقب ما يحدث في انتظار أي إشارة تدل على سبب وجودهم في هذا الكوخ، نظر لهما سالار ثم قال بصوت منخفض :
” لحظة لحين اعود لكما ”
تحرك بسرعة داخل الكوخ يتفقد أرسلان، فهو يدرك أنه إن جعل أحدهم يراه في صورة قد تظهر ولو بنسبة ضئيلة تعبه، سوف يحيل حياته لجحيم بصراخه .
وحين دخل وجد أرسلان يجلس على سجادة الصلاة الخاصة به رغم تهدل جسده، وجلوسه بشكل غير مستقيم .
ابتسم سالار يدرك أن لا صورة أكثر قوة مما يرى الآن له، خرج يشير لايفان وآزار بالتقدم .
دخل الاثنان والجهل يعلو وجوههم وسالار يقف على باب غرفة أرسلان يقول بصوت منخفض :
” هناك من ينتظر وصولك مولاي ”
نظر له إيفان بعدم فهم وشك، يتحرك صوب الغرفة التي يشير لها سالار، بينما الاخير سحب آزار ليجلس به بعيدًا حتى ينتهي هذا اللقاء العاصف بينهما .
تحرك إيفان داخل الغرفة يحدق بذلك الجسد الذي يصلي ارضًا، ورغم أنه يواجهه بظهره إلا أنه يعلمه، يا الله هو يعلمه، شعر إيفان بموجة كهرباء تمر بجسده.
قد سُحب الهواء فجأة من المكان، نظر خلفه بسرعة يبحث عن سالار ليؤكد له أنه لا يحلم، لكنه اكتشفت أنه وحده في هذه الغرفة مع …أرسلان ؟؟؟
انتهى أرسلان من صلاته وقد ارتفع صوته الاجش وهو يقول :
” السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم و رحمة الله”
وبهذه الكلمات ختم صلاته يهتف بصوت منخفض يحاول النهوض ليعتدل :
” جئت سالار ؟؟”
لكن ما كاد ينهض حتى شعر بوجع يضرب معدته ليتأوه وهو يستند على الفراش، لكن فجأة شعر بجسد يمسكه من الخلف بسرعة ولهفة كبيرة جعلته يبتسم :
” هل تظنني ضعيفًا يا هذا ؟؟ أنا فقط شعرت بـ ”
ولم يكمل كلمته حين أبصر وجه من ساعده، اتسعت أعين إيفان وشعر أنه يحلم، هو يحلم الآن لشدة يأسه، أرسلان حي ؟؟ الله سمع بكاءه ودعاءه ؟؟
وكتأكيد أخير همس بصوت خافت :
” أرسلان ؟؟”
ورغم صدمة أرسلان إلا أنه ابتسم شيئًا فشيء يلقي كامل ثقله على كتف إيفان يدرك جيدًا أنه سيتحمله رغم كل شيء :
” مرحبًا إيفان ”
ابتلع إيفان ريقه، ينظر حوله يحاول البحث عن ردود فعل مناسبة، عن كلمات يقولها، يحتاج لشيء يكسر هذا الصمت .
وقد تطوع أرسلان للتحدث قائلًا بصوت خافت وندم شديد وهو ينظر في وجه إيفان بحب اخوي كبير يطرق الحديد ساخنًا :
” أنا آسف إيفان، ليتني فقدت يدي في حربٍ من تلك الحروب التي خضتها بتهور كما تقول ولا لمست وجنتك بسوءٍ أخي ”
نظر له إيفان بصمت، بينما أرسلان ابتعد عنه يستقيم وحده وهو يقول بنبرة لينة :
” إيفان…”
وقطع كلمته صفعة عنيفة سقطت على وجهه جعلت عيونه تتسع بصدمة، وقبل أن يتخذ ردة فعل عليها جذب إيفان جسده لاحضانه بقوة يصرخ بلهفة :
” أيها الحقير أنت حي ؟؟ أنت حي أرسلان ؟؟ يا ويلي أنت حي ؟”
قال أرسلان بصوت ممازح حانق :
” نعم حي، لقد صفعتني للتو ”
سقطت دموع إيفان بقوة وهو يصرخ دون شعور :
” أنا …أنا لقد …يا الله كدت أموت كمدًا على رحيلك أرسلان، كيف استطعت البقاء كل ذلك الوقت بعيدًا دون اخباري أنك حي، يا الله الحمدلله، الحمدلله ”
شعر أرسلان بوجع قلبه وهو يسمع نبرة إيفان الباكية ليضمه له بشكل يحتمله بسبب جروحه :
” أخبرتك أنك لن تتخلص مني بسهولة إيفان، ليس قبل أن تغفر لي غباءي ”
ابتعد عنه إيفان ينظر لوجهه وهو يحرك عيونه عليه ولأول مرة لا يخجل من نزول دموعه أمام أحدهم، أو بالأحرى لا يهتم وهو يفحصه بدقة :
” أنت..كيف …كيف نجوت لقد …”
فجأة تركه إيفان وخر ساجدًا يشكر الله على نجاة صديقه، يشعر أن الدنيا لا تسع سعادته، قلبه يرتجف صدمة وسعادة، أرسلان حي، أعطاه الله فرصة ثانية .
كان أرسلان يتابع ما يفعل إيفان وقلبه يرتجف تأثرًا، جلس ببطء ارضًا يضم جسد إيفان الساجد :
” لم اعتقد أن حياتي ستسعدك بهذا الشكل إيفان ”
رفع إيفان جسده ينظر له بصدمة وهو يجذب ثيابه بعنف شديد صارخًا من أسفل أسنانه بشكل جعل أرسلان يُصدم، فهو من كان منذ ثواني يبكي ساجدًا لأجل نجاته .
” أيها الحقير، من تظنني ؟؟ هل تعتقد أنك لا تفرق معي؟ لقد بكيتك ليالٍ يا قذر، ظللت ابكي حتى كادت تفقأ عينايّ ”
ابتسم أرسلان له يضمه دون مقدمات :
” خفت أن أموت دون أن أعتذر منك إيفان، خفت الرحيل دون أن تقتص مني، خفت أن نقف أمام الله متخاصمين يا اخي، خفت أن نخون العهد ولا نكون متحابين في الله ”
ختم حديثه لينفجر في البكاء وقد ضمه إيفان هذه المرة وهو يحاول أن يهدأه ويهدأ نفسه، من قال أن الرجال لا يبكون، ما كان الله استعاذ من قهر الرجال، هم يبكون ويضعفون، لكن الفرق أنهم يكتمون بكاءهم وصرخاتهم داخل صدورهم حتى تحين لحظة الانفجار .
ظل الإثنان متعانقين قبل أن ينتبه إيفان لشيء مبعدًا عنه أرسلان بقوة جعلت الاخير يسقط ارضًا صارخًا بغضب شديد :
” أيها القذر انتبه، أنا مازلت مصابًا ”
وإيفان كان ينظر له بغضب شديد :
” أنت وسالار اخفيتم عني حقيقة أنك حي لكل تلك الأيام ؟؟ يا ويلي كيف فعلتم هذا بي أيها الحقيرين ؟؟”
صُدم أرسلان يقول بغضب :
” احفظ لسانك وأنت تتحدث معي إيفان، لا اسمح لك بسبي”
انتفض إيفان يركض للخارج صوب سالار صارخًا :
” سبك ؟؟ يا ليتها تتوقف على السب يا بني، سوف أحيل المتبقي من حياتكما لجحيم ….”
_____________
هي الآن وحيدة لا يوجد شيئًا تفعله عدا عملها الذي لا تقوم به في الأوقات العادية وحقًا لا تدري حتى الآن سبب احتفاظهم بها بعد كل ذلك الإهمال من ناحيتها، على كلٍ بما أن لا شيء لفعله _ كالمعتاد_ فهي الآن مضطرة لأخذ قصاص رفاقها.
منحت برلنت قبلة صغيرة لطيفة في جبهتها، ثم تحركت بعيدًا عن الفراش وهي تشعر بالوجع عليها، فهي لم تستيقظ منذ ما حدث وهذا يرعبها، ابتلعت ريقها تخرج من المكان لتبصر طبيبة القصر تتحرك صوب الغرفة الخاصة ببرلنت، اطمئنت أنها أصبحت معها، ثم تحركت هي لتحضر سلاحها وتتحرك لترى كيف ستتخطى الجميع وتذهب لأخذ قصاصها .
وها هي بعد دقائق قليلة تقف أمام السجون تراقب الجميع وما باليد حيلة للدخول جميع الجنود يقفون أمام السجن يشكلون عقبة لها :
” يا الله ما الذي يجب فعله الآن ؟”
نظرت حولها تبحث لها عن حل في المكان، فهي المرة السابقة كانت طعمًا لتبعدهم من أجل كهرمان، والآن ماذا ؟؟ لا يوجد لديها طعم لتفعل ما فعلت اخر مرة .
” ما الذي تفعلينه هنا أنتِ ؟؟”
انتفض جسد زمرد بفزع وهي تنظر خلفها صوب دانيار الذي كان يدرك أنها ستفعل شيئًا متهورًا وترقبه، وها هي ذا .
نظرت زمرد حولها تحاول افتعال حجة لمجيئها، وهو قطع عليها كافة السبل لذلك :
” هل تحاولين خرق القوانين وفعل شيء غبي ؟؟”
ابتسمت له زمرد بسمة صغيرة تبحث لها عن حجة في رأسها :
” هذا يعتمد على أسس تصنيفك لشيء بالغبي، فمثلًا أنا اصنف الشيء بالغبي حين لا يخضع لرغبتي ويتسبب في غضبي و..”
قاطعها دانيار ببسمة مخيفة :
” أوه ياللصدف، هذه نفس أسس تصنيفي للشيء بالغبي، ألا يخضع لرغبتي ويتسبب في إثارة غضبي، تمامًا كما تفعلين ”
اتسعت أعين زمرد بشكل ملحوظ تحرك عيونها في المحيط تتبين إن كان أحدهم يراقبهم قبل أن تهتف من أسفل أسنانها :
” هل وصفتني للتو بالغبية ؟؟”
” نعم فعلت ”
هذا كان مفاجئًا لها، هو لم ينكر أو يتهرب من السؤال واجابها بكل صراحة وهذا جعلها تقف عاجزة أمامه لا تدري ما يجب فعله، هي لم تحضر لتلك الإجابة .
رأى دانيار ردة فعلها وابتسم بسمة جانبية يقول من أسفل أسنانه :
” فقط اريدك أن تختفي من المكان والآن”
حدقت به زمرد باعتراض شديد، هي لم تأت هنا كي ترحل وبأمر منها، هي لا أحد يأمرها، بل لم يتجرأ أحدهم على فعلها حتى ..
فكرت في الرحيل من أمامه الآن، لكنها عادت وتوقفت تطيل النظر له قبل أن تقول بكل بساطة :
” حسنًا إليك ما سيحدث، أنا لي قصاص مع الأشخاص بالداخل ولن ارحل حتى آخذه، وإن رحلت الآن فسأعود لاحقًا حينما ترحل أنت، فإما أن تساعدني لافعل ما اريد وتتجنب أكبر قدر ممكن من المصائب، أو نتظاهر كلينا أنني رحلت بالفعل واعود لاتسبب في المزيد من الكوارث، ما رأيك ؟؟”
اشتد ذهول دانيار لحديثها وهو يتساءل عن مقدار جرئتها لعرض ذلك الحديث عليها، ابتسم يقول بعدم تصديق :
” هل تساومينني الآن ؟؟ ومن أخبرك أنني سأرضخ لكِ؟؟ ”
” رغبتك في تجنب أكبر قدر ممكن من مصائبي، أليس أنت من يقول أنك ستقفز في أي كارثة لتجرني منها جرًا؟؟ ها أنا امنحك خيار دخول الكارثة معي لسحبي حين انتهي ”
ختمت حديثها ببسمة واسعة وبراءة شديدة على ملامحه، وهو يتابع ملامحها بصدمة شديدة، هي محقة هو لن يراقبها وهي تفتعل الكوارث، بل سيسارع ليلتقطها منها .
ابتلع ريقه يميل بنصف جسده العلوي صوب الممر الذي ينتهي بالسجن، بلل شفتيه وهو يفكر في الأمر، إن رفض الأمر ستفعلها وحدها وقد تُعاقب، على الأقل يضمن أنها ستكون أسفل عينه .
عاد بنظره لها وهي ابتسمت في انتظار كلمته ليقول بعد تنهيدة مرتفعة :
” حسنًا .”
ابتسمت بانتصار لكن فجأة انمحت تلك البسمة حين قال هو بصرامة وجدية كبيرة :
” لكن كل ذلك سيتم وفق قوانيني الخاصة …..”
__________________
كانت نظرات تبارك تحلق حول تميم الذي يقودهم صوب الكوخ والذي تتذكره جيدًا، ولولا أن المرة التي أتت بها هنا كانت سرًا بينها وبين سالار ولا يفترض بأحدهم أن يعلم بها، لكان كفت تميم تعب تلك الرحلة وأخبرته أن يبقى جوار زوجته وهي ستقود الرحلة أو ربما لا فهي حقًا لا تتذكر سوى طرق قليلة فجميع الأشجار متشابهة هنا .
حركت عيونها صوب كهرمان التي كانت تتحرك دون فهم لما يحدث، ما سبب ارسال الملك لها ؟ ومع تبارك ؟! وفي هذه الغابة صوب وجهة لا تعلمها ؟؟ وتبارك أيضًا تتحرك بهدوء شديد ليس وكأنها تُقاد صوب مكان تجهله، أو أنها تفعل ؟؟
نظرت لها كهرمان تحاول أن تخترق عقل تبارك، بينما ملامح تبارك العادية لم تكن تشي بما تفكر به فقط تتحرك بهدوء خلف تميم متظاهرة أنها تجهل الطريق، بينما عقلها يسجل علامات واضحة للمكان كي تحفظه هذه المرة، والسبب ؟؟ لا تدري حقًا لكنها فقط تحب أن تعلم كيف تصل للمكان الذي ينأى به سالار بنفسه ..
” هل اقتربنا من وجهتنا ؟؟”
كان ذلك السؤال صادر من كهرمان والتي فقدت صبرها تود معرفة ما الذي يحدث هنا، وتميم الذي كان كمن انطفئ بعد ما حدث لبرلنت، أجابها بهزة صغيرة من رأسه وكلمات مقتضبة ووجه جامد :
” كدنا نصل مولاتي .”
هذا، ثم صمت لا يقطعه إلا صوت اصطدام حوافر الحصان بالارض اسفلهم حتى أبصرت تبارك الكوخ يقترب فابتسمت تلقائيًا وهي تتذكر المرة السابقة لها مع سالار هنا .
هزت رأسها على كلمات تميم الذي زاد من سرعته يضيف بجدية :
” وصلنا …”
نظرت كهرمان صوب الكوخ بعدم فهم وقد بدأت ضربات قلبها تضطرب بشكل غير مفهوم، يا الله تشعر بمشاعر غريبة، ربما الريبة من المجهول …
وداخل الكوخ .
تحرك إيفان خارج الغرفة بثورة صوب سالار وقبل أن ينطق الاخير بكلمة جذبه إيفان من ثيابه بقوة جعلت جسد آزار ينتفض ويهب لمساعدة ابن شقيقته لولا كف سالار الذي ارتفع بشكل غير ظاهر لايفان .
يبتسم بسمة صغيرة وهو يتحدث :
” حسبت أن مفاجأة كهذه ستسعدك مولاي ”
” بل ستؤلمني سالار، سيؤلمني معرفة أن رفيقي الأقرب ويدي اليمنى لا يثق بي، لم يشفق على حالتي طوال هذه الأيام، لم تهتم لوجعي سالار واستمررت في الاخفاء عني ”
كان سالار يستمع له بهدوء شديد تاركًا له حرية التعبير عن غضبه، يدرك ما يفكر به في هذه اللحظة ليجيب بعدما توقف إيفان عن الحديث بلهفة :
” إيفان، والله ما فعلت ذلك إلا مضطرًا، حين وصلت لارسلان كانت حالته سيئة بشكل مثير للشفقة …”
قاطعه أرسلان عن استكمال حديثه وهو يستند على إطار باب غرفته بغضب شديد وصوت جهوري :
” خسئت، ليس الملك أرسلان من يثير شفقة أحدهم، ما لي وشفقتك يا هذا ؟؟”
رمقه سالار بغضب شديد يخبره بعيونه أن يتنحى مع كبريائه جانبًا في هذه اللحظات حتى يهدأ من روع إيفان، لكن أرسلان لم يكن يقبل على نفسه أن يخبره أحدهم أنه مثير للشفقة، هو لا يحتاج شفقة أحدهم :
” لا تنظر لي بهذا الشكل، أنت تعلم أن إيفان لن يهدأ الآن إلا عندما يذهب لغرفته ويسجن نفسه ويعيد الشريط على عقله المجتهد ليحلله ويدرك من المخطئ من المصيب”
استدار له إيفان بغضب صارخًا :
” هل تمزح معي ؟؟ اخفيتم عني أمور تعنيني أكثر من أي شخص وتنتظرون مني تقبل عطفكم بإخباري بها في آخر لحظة والصمت ؟؟ ”
هز أرسلان كتفه مشيرًا صوب سالار الذي كان يغمض عيونه محاولًا الهدوء :
” أنا لا انتظر منك شيئًا، بل سالار هو من يفعل، ثم لا تصرخ في وجهي بهذا الشكل، أنا كنت مُلقى على الفراش في الداخل لشهور لا ادري عددها، واستيقظت منذ أيام قليلة ”
جذب سالار انتباه إيفان بسرعة وهو يمسك كتفيه يقول بهدوء :
” إيفان، انظر إليّ”
طالعه إيفان بقوة ليتحدث سالار بجدية :
” اقسم بالله أنني ما أخفيت الأمر عنك قصدًا، لكنني أدرك أن ما يحدث في المملكة هذه الأيام معقد، فرأيت أن ننتظر حتى يستيقظ أرسلان كي لا اشغلك بحالته فأنت يكفيك ما بك، أعلم أنك إن علمت بإصابته كنت ستترك كل شيء وترابط جواره ”
ابتسم أرسلان بسخرية :
” ذو مروءة هذا الإيفان، ليس مثلك تأتي يومًا وتختفي دهرًا ”
تنفس سالار بتعب يكمل مشيرًا لارسلان :
” وهذا القذر خلفك الذي لا يحفظ الجميل لم يستيقظ سوى منذ أيام قليلة حاولت خلالها تحين الفرص لاخبارك ولم استطع إلا الآن، صدقني لم اقصد أن أخفي عنك يا اخي ”
نظر له إيفان بلوم، وأبى أن يهدأ أو يرضخ في هذه اللحظة فابعد يد سالار عن كتفه واستدار نصف استدارة لارسلان الذي يراقبهم بهدوء في انتظار القادم .
لكن قاطع كل ذلك طرق على الباب وصوت تميم يأذن بالدخول، وعلى ذكر تميم تذكر إيفان فجأة كهرمان ..
ازدادت ضربات قلبه وهو يراقب الباب بأعين متلهفة ينتظر أن تطل عليهم، بينما جواره تراجع سالار للخلف يتوارى عن الأعين لا يود أن يراها الآن وأمام كل هذه الأعين خشية أن تظهر نظراته المهتمة بها لهم ..
وارسلان لم يكن يهتم لكل ذلك وهو يفكر بالعودة لفراشه كي يريح جسده الذي يأن وجعًا، لكن لحظة، هي لحظة التي استغرقها قلبه ليعود للخفقان مجددًا بعد توقفه لثواني .
تهدلت كتفيه وهو يراها تدخل للمكان بطلتها المميزة، ورغم اللثام الذي يخفي ملامحها إلا أنه ما كان له أن يخطأ ملامحها .
شعر أرسلان بالعالم بأكمله يظلم حوله ولم يتبقى سوى نقطة واحدة مضيئة وهذه النقطة تمثلت في ” كهرمان الحبيبة ” ..
شقيقته، وابنته الصغيرة حية ؟؟
تأوه أرسلان يهمس اسمها بعدم تصديق، يراقبها بأعين مشدوهة تتقدم داخل الكوخ بتأني وخجل، ولم يفكر في هذه اللحظة بكيف جاءت أو ماذا تفعل، بل ما فكر به هو أنها أمامه الآن..
” كهرمان ؟؟”
كانت همسة واحدة، لكنها لها كانت كرشفة من اكسير الحياة الذي جعل ضربات قلبها تتسارع كما لو كانت على وشك الموت وتم إنعاش قلبها في اللحظات الأخيرة .
توقفت اقدام كهرمان بصدمة تنظر حولها بحثًا عن صاحب الهمسة والذي تعلمه دون البحث عنه، لكن قلبها المسكين أبى أن يصدق أن أحلامه ودعواته صارت واقعًا .
وقعت عيونها عليه مستندًا على إطار الباب يناظرها بصدمة تماثل صدمتها، كانت كهرمان تراقبه وهي تتقدم منه بتأني وخوف أن يتلاشى حين تصل له كالسراب، مدت يدها ببطء وهو فقط يراقبها يخاف أن يتحرك فتختفي صورتها .
وحين وصلت له كهرمان استغرقت دقيقة كاملة لتأمله ولم تتجرأ على لمسة وكأنها تأبى أن تكتشف فجأة أنها تتخيله.
هبطت دموعها بقوة تقول بصوت هامس :
” أرسلان ؟!”
ابتسم لها وعيونه ملتمعة بالدموع يبادر بمد يده وإمساك وجهها بلطف شديد :
” مابكِ تزدادين جمالًا كل يوم صغيرتي؟؟”
شعرت كهرمان أن تنفسها أصبح صعبًا وهي تسمع جملته المعهودة، نظرت ليده تحاول التأكد أنه يلمسها بالفعل، حتى وفجأة غامت الدنيا حولها وهي تسقط ارضًا، لولا يد أرسلان الذي تلقفها بسرعة كبيرة يصرخ بهلع ورعب وكأنه خرج فجأة من الفقاعة التي كانت تحيطه وشقيقته :
” يا الله رحمتك، كهرمان حبيبتي ما بكِ ؟؟؟”
راقب سالار ما يحدث وهو يمسح وجهه بحنق، لم يكن هذا ما خطط لحدوثه، كان من المفترض أن يخبر أرسلان قبل مجيئها ويخرج هو لاستقبالها وتمهيد الأمر، لكن غضب إيفان أنساه كل شيء ..
وعلى ذكر إيفان، كانت ردة فعل الاخير هي أكثر ما أثار ريبته وهو يرى انتفاضة جسده الملحوظة وشحوب ملامحه وعيونه التي تعلقت بكهرمان، لتتردد في عقله جملة شهرزاد التي تحدثت بها حوله وحول كهرمان .
اتسعت عيونه يتشدق بذهول :
” أيُعقل ؟؟؟؟”
_______________________
” أي جزء من حديثي لم تفهمي ؟؟ أخبرتك أن تترقبي اشارتي ومن ثم تتحركين ”
كانت تلك كلمات دانيار الغاضبة لزمرد والتي تبعته في الممر المؤدي للسجن، إذ كان يتحرك بجدية صوب البوابة الخاصة بالسجون قبل أن يشعر بخطواتها خلفه .
توقف بسرعة وهو يستدير لها بشر كبير وهي توقفت بتفاجئ تهمس له :
” ماذا ؟؟”
مسح دانيار وجهه يستغفر ربه بصوت وصل لها واضحًا وهي تنظر له بترقب، بينما هو يحاول أن يتخطى كل تلك المشاعر السلبية التي تدفعه للشجار معها الآن..
” ما الذي أخبرتك به أنا ؟! قلت انتظريني حتى أجد لكِ مدخلًا يا امرأة”
التوى ثغر زمرد بحنق شديد لتلقيها تلك الأوامر التي ترفض كليًا، لكنها رغم ذلك تنفست بصوت مرتفع وهي ترفع وجهها له مبتسمة :
” حسنًا لا بأس، سوف اختبأ هناك في بداية الممر حتى تأذن لي بالمجئ، اتفقنا ؟؟ ”
رمقها بشر مشيرًا لها بعيونه أن تتحرك بعيدًا عن وجهه وهي ابتسمت له بسمة أوسع مخافة أن تظهر غضبها واستياءها فيرفض مساعدتها ..
تحرك دانيار يدرك جيدًا أنه يرتكب أكثر من خطأ في الوقت ذاته، قربه منها رغم رفضها الزواج منه أكثر من مرة صراحة، ومساعدتها في دخول السجون لهو أمر لا يجب أن يحدث، ها هو يرتكب العديد من الأخطاء لأجلها ..
تنفس بصوت مرتفع وهو يتوقف أمام أبواب السجن، ثم تحدث بضع كلمات مع الرجال لم يصلوا لها، وبعد ثواني أبصرت تحرك الجميع بعيدًا عن بوابة الشجن دون أن تدري ما قاله لهم .
ابتسم دانيار بسمة صغيرة، ثم استدار ينظر لها نظرة صغيرة مشيرًا لها بالاقتراب ..
تحركت هي بتردد صوبه وهو ابتسم بتشجيع لها حتى وصلت للباب وهي تنظر له بلهفة كبيرة :
” هل رحلوا تمامًا ؟؟ ”
” لا ليس تمامًا، نصف ساعة ويعودون، هيا لتنتهي مما جئنا لأجله ”
أشارت زمرد لنفسها تقول بصوت جاد وهي تضغط على حروفها :
” بل لانتهي مما جئت أنا لأجله، وليس ننتهي، لا تقحم نفسك في قصاصي ”
رمقها دانيار بشر كبير وهي لم تهتم تتحرك داخل المكان وهو يحدق في الفراغ الذي خلفته خلفها، يشعر بالغضب يساعدها وترفض أن تدعه يتدخل لأجل مصلحتها ؟؟
تنفس بصوت مرتفع يلحق بها داخل السجن وهي تسير بين الممرات ليس وكأنه منزلها الثاني، والغريب في الأمر أنها لم تتراجع من مرأى الرجال والمجرمين حولها، لم تهلع أو تفزع و…
سخر دانيار من نفسه وهو يردد داخله :
” تهلع ؟! لقد كانت تسرق الخناجر من الجنود مرتين يوميًا وتأتي لتهددك بها، هذه المرأة هي مشروع قاطع طرق غير مكتمل ”
فجأة توقفت زمرد بشكل جعله يتوقف واستدارت له تقول بتسائل :
” اين هم هؤلاء الرجال ؟؟”
أشار دانيار على أحد الأبواب في جانب الممر يقول :
” هم هناك خلف هذه البوابة و…”
لم يكد يكمل حديثه إذ تقدمت زمرد بسرعة لكن قبل أن تخطو خطوة إضافية أوقفها هو يقول :
” مهلًا، قبل فعل أي شيء عليكِ معرفة شروطي على مساعدتك تلك ”
توقفت زمرد وهي تنظر له يترقب وغضب بدأ ينتشر على ملامحه وشعور أنه يستغل حاجتها قد بدأ يسيطر عليها، لكن دانيار لم يهتم بكل تلك النظرات يقول بجدية :
” سوف تأخذين قصاصك بيدك وهذا حقك، لكن لن تتمادي أو تتسببي لأحدهم في إعاقة، فالملك لن يصمت إن حدث هذا وسيحضرك ويعاقبك، حين آمرك بالتوقف تتوقفين، فهمتي ؟؟”
نظرت له باعتراض لكنه أصر وهو ينظر لها بقوة فتنفست بقلة حيلة تقول بصوت منخفض :
” مفهوم، هل استطيع المواصلة الآن رجاءً ؟؟”
هز رأسه لها بهدوء وهي تحركت بسرعة صوب تلك الغرفة تتأكد من لثامها وهو لحق بها ليراقب ما يحدث تحسبًا لأي غدر من الرجال .
فتح لها دانيار الباب وهي وبمجرد أن حدث ذلك استغلت الظلمة لتهجم عليهم بغضب تأخذ قصاص برلنت وكهرمان ودانيار يراقبها في الخلف بترقب ..
وبعد مرور عشر دقائق فقط قال دانيار :
” هذا يكفي، توقفي ..”
تشنج جسد زمرد بقوة وهي تستدير له باعتراض ولم تتحدث بكلمة، لكنه فقط أشار للخارج دون إضافة أمر آخر، وهي عضت شفتيها بغضب شديد، ثم رفعت قدمها وضربت معدة أحدهم بغضب شديد تتحرك للخارج بعصبية ملحوظة، بينما دانيار نظر للرجال نظرات باردة ثم اغلق الباب وتحرك خلفها يقودها للخارج وهي تتمتم ببعض الكلمات الحانقة والغاضبة وهو فقط مبتسم بسمة مستفزة، يسعده أن يراها غاضبة بهذا الشكل .
كاد يطلق ضحكات على صوتها الذي بدأ يعلو لولا أن قاطع تلك الضحكات صوت أحد المساجين وهو يهتف بنبرة غريبة :
” يا ويلي انظروا يا رجال من هنا ؟؟ أوليست هذه هي العزيزة زمرد ؟؟”
توقفت اقدام زمرد بصدمة كبيرة وكذا دانيار الذي نقل أنظاره بين زمرد وهؤلاء الرجال الذي يدركهم جيدًا هم أنفسهم الاسرى الذين نجوا من قبضة سالار يوم الهجوم، هم نفسهم المنبوذون .
شعر دانيار بعدم الفهم يملئ عقله، وهو يبصر تجمد جسد زمرد وشحوب وجهها الذي ظهر له في ظلام السجن، بل ونظراتها الزائغة التي ظهرت بعد سقوط لثامها، كل هذا كان في كفة، وكلمات ذلك الرجل في كفة أخرى وهو يهتف بصوت خبيث :
” مرحبًا بابنة زعيمنا العزيزة، هل أحلم أم أنكِ جئتي لتنقذي أبناء شعبك من أسر هؤلاء القوم ؟؟ سيكون القائد بافل سعيدًا وفخورًا بكِ، بل وربما يغفر لكِ كامل ذلاتك القديمة إن اخرجتينا من هنا ”
شعر دانيار أنه انفصل عن محيطه وتلك الكلمات تدور حوله في محاولة منها لإيجاد مدخل إلى عقله، لا يعي ما يحدث هو فقط لا يعي ما يسمع، هل …هل ما فهمه صحيحًا، أم أن فهمه في هذه الآونة أضحى ضعيفًا .
نظر ببطء صوب زمرد التي كانت تحاول التنفس بصعوبة وقد امتلئت عيونها بالدموع، وهي تحدق بالرجال الذين لم يتوقفوا عن الحديث لها ..
نظر أحدهم لدانيار وهو يقول بغيظ وكره :
” أوليس هذا أحد جنود سفيد ؟؟ ما الذي تفعلينه معه؟! هل امسك بكِ أيضًا ؟؟”
تحدث آخر وهو يقبع في آخر السجن :
” لا تقلقي زمرد سيأتي الزعيم بافل وينقذنا هو أخبرنا بذلك، رغم أنه يكرهك، إلا أنكِ في النهاية شقيقته ونحن رجاله، لن يتخلى عنا، سمعت يا هذا الزعيم لن يتخلى عنا ”
كان يصرخ بصوت مرتفع وهو يوجه كلماته لدانيار الذي توقفت حدود استيعابه عند الكلمات التي خرجت منه ..
شقيقته ؟؟ شقيقته ؟؟ شقيقة بافل ؟؟ ابنة زعيمهم ؟؟ زمرد ؟؟
وزمرد في هذه اللحظة كانت دموعها تهبط بقوة، لقد تعرت حقيقتها أمام الشخص الوحيد الذي تمنت موتها على معرفته لها، الشخص الوحيد الذي دعت الله ألا يبصر حقيقتها .
شعرت بالانهيار وهي تنظر له تهمس بصوت مرتعش ونبرة خائفة تحاول الحديث :
” دانيار …”
” لم تكن مزحة ؟؟”
نظرت له من بين دموعها بعدم فهم وهو ابتسم يتذكر كلماتها التي ألقتها له ذات يوم :
” تلك الكلمات عن أنكِ واحدة من هذا الشعب القذر لم تكن مزحة ؟! لقد ..لقد خدعتني ؟!”
سقطت دموعها تقول بصوت خرج مذبوحًا تترجاه ألا يفعل هذا بها، ليس هو يا الله :
” لا دانيار، أنا ارجوك ليس ما …”
لكن دانيار لم يكن يسمع لها، بل فقط تقدم بسرعة منها لتتراجع هي بسرعة للخلف مطلقة صرخة مرتفعة وهي تخفي وجهها خلف يدها :
” لا لا ارجوك، لا ارجوك أنا آسفة، لم اقصد كل ذلك …”
توقف دانيار عن تقدمه حين أبصر ردة فعلها ونظر حوله وهو يشعر بالاختناق والعجز، يشعر أن التنفس أصبح رغبة بعيدة المنال، ابتلع ريقه، ثم نظر لها نظرة أخيرة ذبحت آخر عرق في جسدها ومن ثم غادر بسرعة تاركًا إياها في ظلمة السجن تنظر لاثره بملامح شاحبة وصدمة كبيرة ..
وبمجرد خروجه انهار جسد زمرد ارضًا بقوة وهي تطلق صرخات ونواح هز جدران السجن بقوة، لقد ضاع …ضاع منها دانيار، الشخص الوحيد الذي أحبته أبصر حقيقتها المخزية ……
_______________
النظرات المتراشقة بين الجميع كانت كافية ليحل الصمت عليهم، فها هم منذ سقطت كهرمان بين ذراعي شقيقها من صدمة ما رأت وهم ينظرون لبعضهم البعض دون كلمة واحدة، وارسلان يرابط بالداخل جوار كهرمان رافضًا التحرك خطوة واحدة بعيدًا عنها ..
إيفان كانت نظراته تصف للجميع مقدار الصراع الذي يتعايش معه في هذه اللحظة .
وآزار يراقب كل ذلك بنظرات غامضة، ثم تحرك بنظراته لسالار يميل عليه هامسًا بكلمات قليلة جعلت الاخير تتسع عيونه وهو يحرك نظراته بين الجميع، ثم هز رأسه..
وتبارك تجلس في أحد الأركان تضم يديها بكل هدوء خشية أن تتحدث دون وعي فتلفت انتباه الجميع لوجودها وتقطع حرب العيون تلك …
” إذن سالار هل لديك ما تخبرني به ؟؟ اعتذار مثلًا تبرير سخيف آخر ؟؟”
رفع سالار عيونه للملك يحاول الحديث، لكن فجأة وقعت عيونه على تبارك التي انتبهت لهما، ليبتسم هو بسمة صغيرة قائلًا :
” أنا آسف مولاي ”
ضحك إيفان ضحكة قصيرة مغتاظة :
” أوه نعم أنت آسف، لا سالار، لا يا عزيزي أنت أكثر من أسف، لقد را…..”
وقبل أن يكمل كلماته اندفعت قذيفة من الغرفة المجاورة لهما صوب سالار بقوة مخيفة تسببت في سقوط جسد سالار ارضًا وفوقه جسد أرسلان الذي كان يجذب تلابيبه بقوة صارخًا :
” كنت تعلم ؟؟ كنت تعلم أنها حية ولم تخبرني ؟؟ كيف فعلتها ؟؟ بالله عليك كيف استطعت رؤيتي أعاني بهذا الشكل وتتركني لأفكاري يا حقير ؟؟”
نظر له سالار وهو مسطح ارضًا يجيب عليه ببسمة صغيرة :
” نحن لن ننتهي من هذا بسرعة صحيح ؟؟”
رمقه أرسلان بشر وهو يجذبه لينهض، وقد اقترب منهما إيفان ليشعر سالار أنه سقط بين المطرقة والسندان يقول بجدية وهو يرفع ذراعيه يضعهما على اكتاف الاثنين :
” اسمعا كلاكما، لقد حدث ما حدث وانتهى، وأنا ما فعلت ذلك هباءً، بل كله بسبب وانتم تعلمون ذلك، لكن إن أردتم مني اعتذارًا …”
ربت على اكتافهما باستخفاف يكمل :
” ففي جنة الخلد بإذن الله، جمعنا الله بها يا رجال ”
ختم حديثه يبتعد عنهما تاركًا الإثنين ينظران لبعضها البعض بغيظ شديد، وقبل أن يتحرك أحدهما خطوة تحدث سالار :
” مولاتي …”
فجأة تحولت جميع الأنظار صوب تبارك التي انتفضت بقوة وكأنها لا تصدق أن أحدهم انتبه لها، تلقي بنظرات اللوم والعتاب لسالار أن لفت أنظار الجميع لها ..
ابتسم الاخير يقول بصوت عادي بعض الشيء :
” هلّا قمتي بفحص الملك أرسلان ؟؟”
نظر لها أرسلان بملامح رافضة وهي تراجعت لرؤية تلك الملامح فابتسم سالار يزجر أرسلان بنظرات غاضبة :
” لا تخافي مولاتي فالملك أرسلان لا يأكل الصغار ”
اعترض أرسلان على كل ذلك وهو يشير صوب الغرفة :
” بل الافضل أن تذهب لتفحص كهرمان وتطمئن قلبي عليها ”
نظرت لهما تبارك لا تدري ما يجب فعله وكلٌ يلقي بها للآخر، لكنها في النهاية قررت الركض والاحتماء بالغرفة التي تقبع بها كهرمان مغلقة الباب خلفها بقوة جعلت الجميع يبعدون أنظارهم عنه، ليقول آزار وهو يجذب انتباه الجميع له :
” إذن لنتحدث فيما جئنا لأجله ”
نظر له الثلاثة فابتسم وهو يردد بجدية :
” الحرب يا رجال …”
رفع أرسلان قبضته يضرب به كتف سالار في قوة وعيونه ترسل رسالات تحذير قبل أن يتحرك صوب الأريكة :
” لم ننتهي بعد ”
ومن ثم رفع إيفان قبضته هو الآخر يصيب بها كتف سالار بنفس القوة وبنفس النبرة قال :
” تمامًا كما قال هذا الثور، لم ننتهي بعد …”
تركه وتحرك صوب الأريكة هو الآخر يجاور أرسلان وكلاهما يعقدان ءراعيهما بشكل جعل سالار يطلق ضحكات صاخبة يضرب كف بالآخر، ثم تحرك وجلس أمامهما جوار آزار الذي ربت على كتفه بحنان :
” إذن هل نبدأ ؟؟”
تنفس سالار بصوت مرتفع وهو ينظر للجميع بعدما هدأت النفوس رغم أن الغضب ما يزال مُسطرًا فوق الوجوه، لكن ما هي إلا ثواني حتى جذب انتباههم بنطقه لكلمات صغيرة تعني الكثير لجميع الجالسين في المكان :
” غدًا العيد الوطني ….”
___________________
داخل طرقات مشكى ..
كان يتحرك بكل هدوء وقد انسلخ بين أفراد هذا الشعب يتحدث لهجتهم ويرتدي ثيابهم، لعب دوره باحتراف شديد حتى كاد يصدق أنه منهم .
ابتسم المعتصم وهو يتوقف أمام أحد المنازل المتواضعة يحمل فوق ظهره حقيبة قماشية ممتلئة باشياء مجهولة ..
طرق الباب وانتظر ردًا حتى سمع صوت رجولي يجيبه، ومن ثم فُتح الباب ونظر له الرجل بتعجب :
” تفضل ؟؟”
ابتسم له المعتصم ينزل الحقيبة من على ظهره مدعيًا الوجع والارهاق وهو يردد بصوت ضعيف بعض الشيء :
” مرحبًا أيها الشاب جئتكم بأفخم انواع القماش في المدينة، ما رأيك أن تلقي نظرة علّ أحد قطع قماشي نالت إعجابك واشتريتها مني ؟!”
تناقلت نظرات الشاب بين الحقيبة والمعتصم حتى لانت ملامحه بعض الشيء وهو يقول بتفكير :
” هل تحمل الكتان يا رجل ؟!’
” أفخم انواع الكتان في الممالك اجمع، ستجدها هنا في حقيبتي ”
ابتسم له الشاب يبتعد عن الباب قليلًا يشير له بالتقدم :
” إذن تفضل لأرى ما تحمل ”
ابتسم له المعتصم يتقدم للمنزل مخفضًا رأسه مصدرًا صوتًا مسموعًا للجميع، ثم تحرك صوب أحد الارائك يضع عليها الحقيبة، حين سمع صوت اغلاق الباب، استدار صوب الشاب الذي ابتسم له وهو يشير على باب يقبع في أحد أركان المنزل :
” من هنا ..”
تحرك الشاب وخلفه المعتصم والذي كان يخفضه نظره حتى شعر بالشاب يفتح أحد الأبواب والشمس تصطدم في وجهه مخبرة إياه أنه أصبح في مكانٍ مفتوح ..
رفع عيونه ليبصر باحة خلفية محاطة بأسوار عالية واسعة المساحة وممتلئة بالنخيل تحوي أجساد الكثير والكثير من رجال مشكى الأوفياء الذين لبوا نداءه .
ابتسم المعتصم يبعد غطاء وجهه عنه، ثم قال بصوت قوي وهو يحرك نظراته بينهم :
” مرحبًا برجال مشكى، سعيد أنكم لبيتم النداء ”
نطق أحد الرجال بصوت قوي لكن هادئ بعض الشيء لئلا يُكشف أمرهم :
” نحن جاهزون لكل ما تريده يا قائد، فقط ارنا كيف نبدأ وحينها نحن من سنقود تلك الحرب .”
ابتسم المعتصم بسمة واسعة يردد بفخر بمن أمامه :
” لكم ذلك وحوش مشكى ……”
________________
” أنت ما الذي تفعله هنا ؟؟”
كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي خرجت من فم تميم والذي تحرك صوب ذلك الجسد الذي يهيمن على زوجته صارخا به بعضب شديد :
” أنت ما الذي تفعله بزوجتي ؟؟ يدك عنها ؟! اتركها ما الذي تفعله ؟؟”
رمقه عبدالله بشر وهو ما يزال يحاول رفع جسد ابنته عن الفراش مصرًا على ما جاء لفعله :
” ابتعد عن طريقي أنا سآخذ ابنتي وارحل عن هذا المكان المقيت، ابتعد ”
وكاد يضع كلماته حيز التنفيذ حتى وجد تميم يمسك يده مبعدًا إياها عن جسد برلنت، ثم سارع وجذب جسد عبدالله الآخر بعيدًا صارخًا في وجهه بجنون :
” تأخذها إلى أين ايها المجنون ؟! ابنتك لا يجب أن تتحرك عن الفراش ؟؟ هل تنتوي قتلها أم ماذا ؟! هيا أخرج من هنا، من الأساس ما الذي اخرجك من سجنك ؟؟ ستجعلني اعض أناملي ندمًا لتنازلي عن حقي ”
نظر له عبدالله بشر وغضب وقد بدأ الشيطان يشعل ذلك الغضب بأحقاد قديمة وهو يدفع جسد تميم للخلف بقوة لم تحرك بالاخير شعرة واحدة وهو ما يزال يهيمن على عبدالله :
” هذه ابنتي منذ ارتبط اسمها باسمك وهي لم تر يومًا واحدًا سعيدًا، أحلت حياة صغيرتي للتعاسة بحجة ذلك الحب السخيف الذي تتغنى به، لكن أوتدري ؟؟ الخطأ ليس خطأك أنت، بل خطأي أنني وافقت من البداية على تزويجها لك أيها الحقير، أنت مثلك مثل والدك، تدعي فضيلة واخلاق ولكننكم من الداخل مجرد قذرين وأنا لن أترك ابنتي بين يديّ حقير مثلك ”
كان تميم يتابع تلك الكلمات مصدومًا من مقدرة عبدالله عن تخزين كل تلك الأحقاد والغضب داخل صدره، هذا الرجل أمامه وبدون مبالغة يمقته ويقت والده ..
استطاع عبدالله بكل ذلك الشر أن يصمت لسان تميم والذي عجز عن الرد على تلك الكلمات إلا ببعض الاحرف الهادئة التي يخفي خلفها صدمته :
” حسنًا، اعتذر بشأن اضطرارك للتعامل مع القذرين أمثالي وأبي، لكن تلك المرأة خلفك هي امرأتي أنا، زوجتي أنا، وبن تتحرك خطوة واحدة من شأنها أن أبعدها عني، والآن هل سترحل أم انادي الحراس ليسحبوك صوب سجنك المظلم مجددًا ؟؟”
وتلك الكلمات لم تساهم إلا في إشعال المزيد من احطاب غضب عبدالله والذي زين له الشيطان في تلك اللحظة قتل تميم، زين له قتله وأراه أنه السبيل الوحيد لتعود له صغيرته، هو العائق الوحيد في طريق حياته السعيدة مع عائلته الصغيرة .
لذا ودون تفكير بدأ يلتفت حوله بحثًا عما يعينه لتنفيذ جريمته النكراء تلك لولا صوت هامس ضعيف خرج من ذلك الجسد المسطح على الفراش :
” تميم ….”
ها هي همسة أخرى وسبب آخر يُضاف لقائمة طويلة عند عبدالله عن الأسباب التي قد تدفعه لقتل تميم، ابنته الصغيرة تذكرت ذلك النكرة قبله ونادت باسمه، وها هو الاخير يسارع صوب الفراش بلهفة مقززة يضم كف ابنته وهو يحدثها بكلمات أصابته بالغضب..
ولم يكد يخطو صوبهم ليأخذ أي ردة فعل حتى سمع الجميع قرع الباب يتبعه صوت الحارس وهو يقول بنبرة جامدة :
” هل انتهيت من الاطمئنان على ابنتك يا عم ؟؟”
نظر عبدالله صوب فراش برلنت والتي عادت لنومتها مجددًا بين احضان تميم، وكأنها ما استيقظت سوى لتنقذه من بين يديه، وتطمئن أنه جوارها ثم تعود لغفوتها، شعر بالوجع وهو يتحرك صوب الباب ببطء شديد يسلم نفسه للحارس الذي تناسى أنه يقف هناك في انتظاره .
تحرك معه بعيدًا تاركًا تميم يراقبه بأعين مفكرة، وهو يرى أن ذلك الرجل أصبح خطرًا عليه وعلى زوجته وعلى علاقتهما، الأمور تزداد سوءًا هنا والحرب تقترب وخوفه على زوجته يتضاعف ..
اغمض عيونه وهو يضم له جسد برلنت بشكل أقوى يقبل رأسها بحنان هامسًا :
” سيكون كل شيء بخير صغيرتي، اعدك لن ادع شيئًا يمسك بسوء ..”
_____________________
كانت تجلس جوار كهرمان وهي تربت على رأسها بحنان لا تدرك ما يحدث في الخارج حقًا بين الرجال وقد هدأت أصواتهم فجأة وبشكل غريب، شكل جعل أعينها تضيق وهي تفكر في استراق السمع، لكنها تراجعت بسرعة وهي تشعر بغباء ما تفكر به .
عادت مكانها تنظر لكهرمان بشفقة كبيرة تنتظر أن تفيق وهي تفكر في ذلك الذي يجلس في الخارج وتلك الجملة التي اخترقت مسامعها قبل أن يغرق الجميع في الصمت ..
غدًا العيد الوطني.
وهذا يعني أن موعد ذبحها اقترب وهي لن تسمح بذلك أن يحدث طالما هناك أنفاس في صدرها .
كلمات رددتها تبارك داخل صدرها بقوة وقد بدأت أعينها تشد وتنفسها يزداد، هي جاءت هنا رغمًا عنها، تعلمت أمورهم رغمًا عنها، عاشت حياة لم تتمناها في الحقيقة، كل شيء كان دون إرادتها، لكن القادم ….
سيتم وفق إرادتها هي ..وفقط .
في الخارج كان الجميع يتحدث عما سيحدث في العيد الوطني غدًا بأصوات منخفضة، سالار يوضح لهم خطته والباقون يستمعون باهتمام شديد .
” هذا ما فكرت به بالطبع بمساعدة إيفان، فهو من ساهم في وضع النقاط الأخيرة ”
ابتسم له إيفان بسمة صغيرة وهو يشرد في كل شيء سيحدث غدًا وقد بدأ عقله يعرض له صور كثيرة، ورأسه يتحرك في اتجاهات مختلفة .
وصوت أرسلان يصدح بينهما يضيف ببسمة مفتخرة:
” لطالما مثلتما فريقًا حربيًا لا يُستهان به يا رجال، أنتما الاثنان تكملان بعضكما البعض ”
هز سالار رأسه يقول بصدق :
” إيفان ملك بعقل فذ، يستطيع أن يقود البلاد للسلام في احلك الحروب، كما أنه يمكنه إشعال حرب وقتما شاء، هو باختصار ملك ولا يليق المُلك إلا به”
ارتسمت بسمة ساخرة على فم أرسلان وآزار الذي التوت تعابيره بغيظ ليطلق إيفان ضحكات مرتفعة يشير بيده محاولًا تصحيح ما قال سالار :
” هو لا يقصد ما وصل لكما، هو فقط يتحدث عن سفيد بالطبع، لكن مشكى وآبى بالطبع لا ملوك لهما عداكما ”
ابتسم سالار يهز رأسه وهو ينظر لهما :
” هذا صحيح، مشكى لم تحصل على مدى عصورها على ملك مثلك أرسلان والجميع رأى بعيونه كيف تحركت بها من عصور الظلام للنور، وكذلك مملكة آبى التي كانت من أكثر الممالك ضعفًا، الآن تنافس بقوتها أي مملكة وهذا بسبب قيادتك ملك آزار، باختصار الجميع وُجد حيث يجب أن يكون ”
اتسعت بسمة آزار بفخر وهو يرمق ولد شقيقته، قبل أن يربت ازار على اكتاف سالار باستحسان :
” أحسنت يا بني، عقلك هذا حربي بامتياز، تمامًا كخالك، هكذا هم رجال آبى ”
ابتسم سالار بسمة واسعة وهو يستمع لكلمات آزار، ولم يكد يجيبه، حتى أبصر إيفان يضع قدم فوق الأخرى يبدأ حربه المعروفة مع ازار :
” عفوًا ملك آزار، لكن اعتقد أنك نسيت ابن من هو سالار ؟؟ هذا الرجل تسير في أوردته دماء القائد السابق لجيوش سفيد القائد جوبان، لذا ما يحدث الآن هو ناتج تعب واجتهاد قائد جيوشنا، وسالار هو أحد رجال سفيد ابًا عن جد، من أين جئت أنت برجال آبى هذه ؟؟ ”
ابتسم أرسلان وهو يتابع ما يحدث باهتمام شديد هامسًا في أذن سالار :
” ها نحن بدأنا مجددًا ”
تنهد سالار بصوت مرتفع يقول قاطعًا لتلك الحرب قبل أن تبدأ مجددًا :
” نعم صحيح يا خالي أنا بالفعل ورثت عنك قوتك كما فعلت وورثت عن والدي نفس الشيء، أنا محظوظ أنني احمل جينات رائعة من كلا الجانبين، والدتي أميرة آبى ووالدي قائد لجيوش سفيد ”
قال حديثه ببسمة وهو يقمع أي محاولة للتحدث، قبل أن يقول إيفان بقوة ودون أي مزاح :
” وابن عم ملك سفيد السابق، والدك لم يكن مجرد قائد جيوش سالار، بل كان ابن عم والدي، وأحد أفراد الأسرة الحاكمة لسفيد، كان أحد الأمراء العظماء الذين سيخلد التاريخ اسماءهم وذكراهم بأحرف من ذهب يا اخي ”
ابتسم له سالار يهز رأسه هزة صغيرة وهو يحاول تلاشي تلك النقطة التي ستفتح عليه بحار من الذكريات والاوجاع القديمة، وآزار أبصر ذلك ليربت على كتفه قائلًا ببسمة مؤازرة وحنان شديد :
” والدك كان الرجل الوحيد الذي أجبرني على التخلي عن جوهرتي الثمينة وتزويجها له، الوحيد الذي واجهني وجابهني بكل شراسة مطالبًا بها دون اهتمام لشيء، بل ووقف في وجهي يخبرني أنه سيعلنها حربًا عليّ إن اقتضى الأمر فقط ليحصل على عائشة”
صمت يضحك ضحكة صغيرة وهو ينظر لايفان بسخرية :
” و ابن عمه العزيز الذي من المفترض أنه ملك حكيم، كل ما استطاع فعله أنه هز رأسه يقول بكل بساطة أنه سيعطيه كامل جيوش سفيد إن أراد فقط ليحصل ابن عمه على من يريد ”
ضحك سالار وهو يمسح وجهه يتذكر مدى صعوبة حصول والده على والدته، يتذكر كل الحكايات التي كان يقصها عليه ببسمة وهو يرمق والدته بطرف عيونه، يخبره أنه كان سيحارب العالم أجمع ليفوز بأميرته التي حازت قلبه، يومًا ما حينما يعشق هو الآخر عليه بسلب من يريد من فم القدر .
دار سالار بعيونه بين الجميع يراقب بسمات إيفان الحبيب، لازار واحاديثهم التي لم تكن تصل لاذنه البتة، يفكر هل يستطيع أن يفعل كوالده، أن يحارب الجميع لأجل المرأة التي يحب ؟؟
لكن …لكن هو لن يحارب الجميع، بل سيحارب ابن عمه وشقيقه وملكه .
هل سيحارب إيفان لأجل المرأة الوحيدة التي أحب ؟؟
أم هل سيتنازل عنها لأجله، كما تنازل قديمًا عن الحكم لأجله كذلك ؟؟؟
_____________________
هي خطوة… تجرأ وخذها .

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة باقي حلقات الرواية اضغط على : (رواية مملكة سفيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *